الكتاب العاشر
(٥٩٥) المحاكاة في الشعر والفن
فاستطردت قائلًا: إن في دولتنا سمات متعددة تجعلني أَعُدها قائمة على مبادئ سليمة تمامًا، ولا سيما تلك القاعدة الخاصة بالشعر.
– أية قاعدة؟
– ماذا تعني؟
– إنني أصرح برأيي هذا لكم سرًّا؛ إذ إنكم لن تشوا بي لدى شعراء التراجيديا (المأساة) وبقية الشعراء الذين تقوم أعمالهم على المحاكاة، فيبدو لي أن هذا النوع من الشعر يؤذي الأذهان التي تسمعه دون أن يكون لديها ترياق ضده؛ أعني معرفة الطبيعة الحقيقية لما يتحدث عنه هذا الشعر.
– ما أسباب قولك هذا؟
– فلنتحدث إذن.
– أصغ إليَّ إذن، أو على الأصح أجبني.
– سلني أنت.
– أتستطيع أن تنبئني ما المقصود بالمحاكاة عامة؛ إذ إنني لا أعرفه حق المعرفة؟
– فهل تتوقع مني إذن أن أعرف؟
– ولمَ لا؟ إن العين الحادة الإبصار ليست هي دائمًا التي ترى الأشياء قبل العين (٥٩٦) الضعيفة.
– هذا صحيح، ولكني في حضورك لا أشعر بالجرأة على الكلام، حتى لو كانت لدي فكرة واضحة عما أقول. فلتتحدث أنت إذن.
– حسن. أتود أن نبدأ هذه النقطة في بحثنا على طريقتنا المعتادة، وذلك بأن نفترض لكل مجموعة من الأفراد يجمعهم اسم مشترك، مثالًا أو صورة مناظرة؟ أتفهم ما أقول؟
– أجل.
– فلنتناول إذن أي مثل مألوف. فهناك مثلًا كثير من الأَسِرَّة والمناضد في العالم، أليس كذلك؟
– هذا صحيح.
– كما أننا اعتدنا القول إن الصانع عندما يصنع الأَسِرَّة أو المناضد التي نستخدمها يضع نُصب عينَيه صورة كلٍّ منهما. أما الصورة ذاتها، فليست من صنع أحد من الصنَّاع؛ إذ كيف يتسنَّى لها أن تكون كذلك؟
– هذا محال.
– والآن، هناك صانع آخر أود أن أعرف الاسم الذي ستطلقه عليه.
– أي صانع؟
– ذلك الذي يصنع كل الأشياء التي يصنعها غيره من الصناع معًا.
– لا بدَّ أن تكون لمثل هذا الشخص قوة خارقة!
– انتظر قليلًا، وسيكون لديك المزيد من أسباب الإعجاب به؛ ذلك لأن عمله لا يقتصر على إنتاج الأشياء المصنوعة فحسب، بل إنه يستطيع أن يخلق كل النباتات والحيوانات، وكل الأحياء، فضلًا عن ذاته أيضًا، وكذلك الأرض والسماء والآلهة والأجرام السماوية وكل ما في باطن الأرض في العالَم السفلي.
– إنه لفنان رائع حقًّا ذلك الذي تتحدث عنه!
– أتشك فيما أقول؟ ألا تظن أن هناك صانعًا كهذا، أو أن من الممكن أن يوجد صانع لهذه الأشياء كلها بمعنًى معين، ولكن ليس بمعنًى آخر؟ ألا ترى أنك أنت ذاتك تستطيع خلق هذا كله على نحوٍ ما؟
– أود أن أعرف على أي نحو.
– إنها طريقة ميسورة. بل إن هناك في الواقع طرقًا متعددة يمكن بها القيام بهذا العمل بسرعة ويسر. وأسرع الطرق لذلك هي أن تأخذ مرآة وتدور بها في كل الاتجاهات. وسرعان ما ترى نفسك وقد أتيت بالشمس والنجوم والأرض وذاتك وكل الحيوانات والنباتات الأخرى، وكل الأشياء التي تحدثنا عنها منذ قليل.
– هذا صحيح، ولكن هذه ستكون مظاهر فحسب، لا أشياء حقيقية.
– حسن جدًّا؛ إنك تقترب من النقطة التي أريدها. وأظن أن الرسام أيضًا واحد من هؤلاء الصناع، أليس كذلك؟
– بالتأكيد.
– ولكنك ستقول، على ما أعتقد، إن ما صنعه ليس حقيقيًّا، ولكن الرسام يصنع سريرًا بمعنًى معين، أليس كذلك؟
– بلى، سريرًا ظاهريًّا.
– وماذا عن النجار؟ ألم تقل منذ قليل إنه لا يصنع الفكرة التي لدينا عن السرير، أعني ماهية السرير، وإنما سريرًا خاصًّا؟
– لقد قلت ذلك فعلًا.
(٥٩٧) – فإن لم يكن يصنع ماهية السرير، فإن ما يصنعه ليس حقيقيًّا، وإنما هو شيء يشبهه. فإذا ما قال أحد إن ما يعمله النجار أو صانع آخر حقيقي بالمعنى الصحيح، لكان في ذلك مخطئًا.
– إن ذلك، على الأقل، ليس رأي أولئك الذين اعتادوا التفكير على هذا النحو.
– وعلى ذلك فليس لنا أن ندهش إذا كان هذا العمل ذاته باهتًا بالقياس إلى الحقيقة.
– هذا صحيح.
– فلنستخدم هذه الأمثلة إذن وسيلة لبحث مسألة طبيعة المحاكاة.
– لنفعل ذلك.
– إن هناك ثلاثة أنواع من الأَسِرَّة: أحدها يوجد في طبيعة الأشياء، وهو لا يوصف إلا بأنه من صنع الله، أليس كذلك؟
– بلى.
– وهناك نوع ثانٍ، من صنع النجار.
– أجل.
– أما النوع الثالث، فهو من صنع الرسام، أليس كذلك؟
– بلى.
– وإذن فللأَسِرَّة أنواع ثلاثة، وهناك ثلاثة فنانين يصنعونها: الله، والنجار، والرسام؟
– هذا صحيح.
– أما الله، فلم يخلق في طبيعة الأشياء إلا سريرًا واحدًا، وواحدًا فقط. وهو لم يصنع أبدًا، ولن يصنع أبدًا، سريرين أو أكثر.
– ولمَ لا؟
– لأنه لو صنع اثنين فقط، لظهر ثالث يكون صورة للاثنين الأولين، ويكون هذا الثالث هو الأساسي، لا الاثنان الآخران.
– هذا صحيح.
– ولمَّا كان الله يعلم ذلك، وأراد أن يكون الصانع الحقيقي لسرير حقيقي، لا الصانع الجزئي لسرير خاص، فقد خلق سريرًا هو السرير الواحد الأساسي.
– هذا ما يبدو لي.
– فهل تود إذن أن نُسميَه صانع الطبيعة الحقة للسرير، أو شيئًا من هذا القبيل؟
– إنه يستحق هذا الاسم، ما دام ما يخلقه يمثل الطبيعة الحقيقية للأشياء.
– أما النجار، فهلا نسميه صانع السرير؟
– بلى.
– ولكن هل تسمي الرسام صانع هذا الشيء ومنتجه؟
– فما هو إذن بالنسبة إلى السرير؟
– أعتقد أن الاسم الأكثر انطباقًا عليه هو اسم مقلد الشيء الذي صنعه الآخران.
– حسن. وإذن فأنت تطلق اسم المقلد على صانع شيء يحتل المرتبة الثالثة بالنسبة إلى الطبيعة الحقة للأشياء؟
– بالضبط.
– وإذن فهذا يصدق أيضًا على الشاعر التراجيدي، ما دام مقلدًا فهو إذن، ومعه كل المقلدين، يحتل المرتبة الثالثة بالقياس إلى عرش الحقيقة.
– هذا صحيح.
(٥٩٨) – ها نحن أولاء قد اتفقنا إذن على طبيعة المقلد. ولكن لدي سؤال آخر أود أن تجيبني عليه: فهل الموضوع الذي يحاكيه الرسام هو ذلك الموضوع الواحد الموجود في طبيعة الأشياء، أم ما ينتجه الصناع؟
– إنه يقلد ما ينتجه الصناع.
– وهل يقلده كما هو، أو كما يبدو؟ فلتحدد هذه المسألة.
– ماذا تعني؟
– أعني أنك تستطيع أن تنظر إلى السرير من زوايا مختلفة، أي أن ينظر إليه مواجهة، أو من جانبه، أو من زاوية أخرى. فهل يطرأ على السرير ذاته أي اختلاف، أم أنه يبدو مختلفًا فقط؟ ألا ينطبق هذا على كل الأشياء الأخرى؟
– أجل، إنها كلها تبدو مختلفة فحسب.
– والآن، لتبحث هذه المسألة: ما الهدف الذي يستهدفه الرسام بالنسبة إلى كل شيء؟ أهو محاكاة شيء حقيقي كما هو موجود أو شيء ظاهر كما يظهر؟ أهو يقلد المظهر أم الحقيقة؟
– إنه يحاكي شيئًا ظاهريًّا.
– وإذن فالفن القائم على المحاكاة بعيد كل البعد عن الحقيقة، وإذا كان يستطيع أن يتناول كل شيء، فما ذلك، على ما يبدو، إلا لأنه لا يلمس إلا جزءًا صغيرًا من كل شيء، وهذا الجزء ليس إلا شبحًا ففي وُسع الرسام مثلًا أن يرسُم لنا إسكافيًّا أو نجَّارًا أو أي صانع آخَر دون أن يعرف عن مهنتهم شيئًا. وقد يستطيع، إذا كان رسامًا بارعًا، أن يخدع الأطفال والجهال؛ إذ يرسم نجارًا ويريهم إياه عن بعد، فيظنونه نجارًا حقيقيًّا، وما هو إلا مظهر.
– بالتأكيد.
– هذا إذن هو الرأي الذي ينبغي القول به في هذه المسائل كلها؛ فإذا ما أتانا أحد يزعم أنه صادف رجلًا عارفًا بكل الحِرَف، يجيد تفاصيل كل فن خيرًا من أربابه، فينبغي أن تجيب على زعمه هذا بأنه ساذَج، وبأن ذلك الذي صادفه هو قطعًا دجَّال أو مقلد ذر الرماد في عيونه، وإنه إذا كان قد ظنه عالمًا بكل شيء، فما ذلك إلا عجزًا منه عن التمييز بين العلم والجهل والمحاكاة.
فقال: هذا صحيح كل الصحة.
– فلننظر الآن في شعراء التراجيديا وفى كبيرهم هوميروس. إن من الناس مَنْ يعتقدون أن هؤلاء الشعراء لهم في كل الفنون نصيب، وأنهم على علم بكل الأمور الإنسانية، من فضيلة ورذيلة، بل وبالأمور الإلهية؛ إذ إنه يتعين على الشاعر المجيد، إذا ما شاء أن يحسن تناول موضوعاته، أن يعرفها أولًا، وإلَّا لَما استطاع الكتابة عنها. فلنبحث إذن إن كان هؤلاء الناس قد صادفوا مقلدين (٥٩٩) خدعوهم، وإن كان قد فاتهم، عندما اطلعوا على أعمالهم، أن هذه الأعمال تنتمي إلى المرتبة الثالثة بالنسبة إلى الحقيقة، وإن من الممكن الإتيان بها بسهولة، حتى لو لم يكن المرء يعرف الحقيقة؛ إذ إنهم لا يخلقون إلا أوهامًا، لا أشياء حقيقية — أم أن الشعراء يقولون بالفعل أشياء حقيقية، ولديهم بالفعل معرفة حقيقية بالأمور التي يظن الناس أنهم يجيدون الحديث فيها؟
– هذه مسألة لا بدَّ لنا من بحثها.
– أتظن أنه لو كان في وُسع أحدٍ أن يُنتج الأصل وصورته معًا، فهل تراه يُكرس جهوده لصنع الصور ويتخذ منها غاية قصوى لحياته، وكأنه لا يملك ما هو أفضل منها؟
– لا أظن ذلك.
– فلا بدَّ إذن أن يهتم الفنان الحقيقي، الذي يعرف ما يقلده، بالحقائق لا بمحاكاتها، وأن يحرص على أن يُخلِّف من بعده آثارًا قوامها عدد كبير من الأعمال الرائعة، ويؤثر أن ينصبَّ عليه المديح، لا أن يُزجيَ هو المديح.
– أجل؛ لأن ذلك سيكون أدعى إلى تكريمه ونفعه.
فأجاب جلوكون: لا أظن ذلك. فأشد الناس إعجابًا بهوميروس لا يدعون ذلك.
(٦٠٠) – فهل سمع أحد عن حرب حدثت في وقته، ونجح هوميروس في قيادتها بنفسه، أو بنصائحه؟
– كلا.
– لا شيء من هذا على الإطلاق.
– ولكن، إذا لم يكن قد أدى أية خدمات عامة، فهل سمعنا عن هوميروس أنه كان، في حياته الخاصة، مرشدًا أو معلمًا لأحد؟ هل كان له أثناء حياته أصدقاء مخلصون له، نقلوا عنه إلى الأجيال القادمة طريقة هومرية في الحياة، كتلك التي ينادي بها الفيثاغوريون نقلًا عن معلمهم فيثاغورس، الذي طالما أحبوه، وهي طريقة لا تزال إلى يومنا هذا تميزهم عن بقية الناس؟
– أعتقد يا سقراط أن هذا عين الصواب.
(٦٠١) – وإذن فهلا يحق لنا أن نستدل من ذلك على أن كل أولئك الشعراء، منذ أيام هوميروس، إنما هم مقلدون فحسب؛ فهم يحاكون صور الفضيلة وما شابهها، أو الحقيقة ذاتها فلا يصلون إليها قط؟ إن الشاعر كالرسام الذي تحدثنا عنه منذ برهة، والذي يرسم إسكافيًّا دون أن يعرف شيئًا عن إصلاح الأحذية، ويقدم صورته إلى أناسٍ لا يعرفون عن الأمر أكثر منه، ولا يحكمون على الأمور إلا بمظاهرها وألوانها.
– هذا صحيح كل الصحة.
– وبالمثل فإن الشاعر يُضفي بكلماته وجمله على كل فن ألوانًا تلائمه، دون أن يفهم من طبيعة ذلك الفن إلا ما يكفي لمحاكاته، ويؤثر في أناس لا يقلون عنه جهلًا، ولا يحكمون إلا بصورة التعبير، فيدفعهم السحر الكامن في الوزن والإيقاع إلى الاعتقاد بأنه قد حدثهم حديثًا خلابًا عن القيادة الحربية أو صناعة الأحذية أو أي موضوع فني آخر. فإذا ما نزعت عن الشعر قالبه الشعري، فلا شك أنك تستطيع أن تراه على حقيقته عندما يتحول إلى نثر.
فقال: أجل.
– ألا يكون عندئذٍ أشبه بوجه لم يكن جميلًا في وقت من الأوقات، ولكنه كان نضرًا، ثم فقد بعد ذلك نضارة الشباب بدورها؟
– بالضبط.
– وإليك مسألة أخرى: إن المقلد، أو صانع الصور، لا يعلم عن الوجود الحق شيئًا، وإنما يعرف المظاهر وحدها، أليس كذلك؟
– وإذن فلتفهم الأمر كله، ولا نقنع بتفسير جزئي.
– لنفعل ذلك.
– لقد قلنا: إن الرسام يستطيع أن يرسُم لجامًا وحلقة اللجام.
– أجل.
– وقلنا: إن الحداد والسراج يمكنهما أن يصنعاهما؟
– بالتأكيد.
– ولكن هل الرسام هو الذي يعرف الصورة التي ينبغي أن يكون عليها اللجام والحلقة؟ بل هل هو صانعاهما ذاتهما، أعني الحداد والسراج؟ أليس ذلك هو الذي يعرف كيف يستخدمهما، أعني الفارس؟
– هذا صحيح كل الصحة.
– ألا يمكننا أن نقول بوجهٍ عام: إن هذا يَصدُق على كل الأمور الأخرى؟
– كيف؟
– إن هناك ثلاثة فنون فيما يتعلق بأي شيء: فن استخدامه، وفن صنعه، وفن محاكاته.
– أجل.
– أليس شرف أو جمال أية أداة أو كائن حي أو فعل مرتبطًا بالاستخدام الذي قصدت الطبيعة، أو قصد الصانع، أن يستخدم به هذا الشيء؟
– بلى.
– فلا بدَّ إذن أن يكون من يستخدم الأشياء أكثر الناس خبرة بها، وأن يكون في وسعه أن ينبئ الصانع بالنتائج النافعة أو الضارة التي تترتب على استخدام الأداة التي صنعها. فعازف الناي مثلًا يستطيع أن يُدليَ بمعلومات إلى صانعه عن الناي الذي يستخدمه، وهو الذي يحدد كيفية صنعه، وعلى الصانع أن يطيع إرشاداته.
– بالتأكيد.
– وإذن فأحدهما يعرف الناي ويصف بدقة محاسنه ومساوئه، بينما يتعين على الآخر أن يثق به ويطيع أوامره.
– هذا صحيح.
(٦٠٢) – وإذن ففيما يتعلق بالآلة نفسها، نجد أن الصانع لا يصل إلا إلى رأي صحيح بشأن كمالها أو رداءتها، وهو يستمد هذا الرأي ممن يعرف، عن طريق التحدث معه والاستماع إلى ما يقوله، على حين أن من يستخدمها هو العارف.
– هذا صحيح.
– ولكن ماذا نقول عن المقلد؟ هل يعرف من التجربة تلك الموضوعات التي يرسمها، ويدرك إن كانت تمثيلًا صادقًا أو غير صادق، وهل يتكون لديه رأي صحيح عن طريق اضطراره إلى الاستماع إلى شخص عارف يوضح له كيف ينبغي محاكاة هذا الموضوع؟
– لا هذا ولا ذاك.
– وإذن فلن يكون لديه رأي صحيح، ولا معرفة، بشأن صحة تقليداته أو بطلانها.
– لا أظن.
– وهكذا فإن الفنان المقلد سيكون في حالة رائعة من العلم بما يبدعه!
– أبدًا، إن العكس هو الصحيح.
– وعلى الرغم من ذلك فسيظل يواصل المحاكاة دون معرفة بما يجعل الشيء صحيحًا أو باطلًا، وبالتالي يمكننا أن نتوقع منه أن يقتصر على محاكاة ما يبدو خيرًا للكثرة الجاهلة من الناس.
– أجل، ماذا عساه أن يفعل غير ذلك؟
– وإذن فنحن حتى الآن متفقون إلى حدٍّ بعيد على أن المقلد يفتقر إلى أية معرفة تستحق الذكر بما يقلده. فما التقليد إلا نوع من اللهو أو اللعب، وما الشعراء التراجيديون، سواء أكتبوا شعرًا للملاحم أم مسرحيات، سوى مقلدين بكل معاني الكلمة.
– بالتأكيد.
– والآن، خبرني بحق زوس: أليست هذه المحاكاة بعيدة ثلاث مراتب عن الحقيقة؟
– أجل.
– وما هي الملكة التي تؤثر فيها المحاكاة في الإنسان؟
– ماذا تقصد؟
– سأضرب لك مثلًا يوضح ذلك: إن الشيء لا يبدو عن بُعد بنفس الحجم الذي يبدو به عن قرب. أليس كذلك؟
– بلى.
– كما أن نفس الشيء الذي يكون مستقيمًا خارج الماء، يبدو منكسرًا داخله. كذلك فإن الشيء يبدو مُحدَّبًا أو مُقعَّرًا، تبعًا للخداع البصري الذي تُحدِثه الألوان. وهكذا فإن كل خلط كهذا إنما يوجد في نفوسنا. وهذا الضعف في طبيعتنا هو الذي يستغله الرسم بالضوء والظل وغيره من أنواع الخداع البارعة التي يكون لها في نفسنا تأثير أشبه بتأثير السحر.
– هذا صحيح.
– ولكن ألم يُكتشف علاج لتبديد هذا الخداع، يتمثل في القياس والعد والوزن؟ ألا يؤدي هذا العلاج إلى تخليصنا من سيطرة فروق الظاهرية في الحجم والكم والوزن، بحيث تصبح السيطرة للملكة التي قامت بالعد والقياس والوزن؟
– بالتأكيد.
– وهذا العمل يقوم به العنصر الحاسب أو العاقل في نفسنا؟
– قطعًا.
– ولكن عندما تقوم هذه الملكة بالقياس وتعلن أن بعض الكميات أكبر من البعض الآخر أو أصغر منه أو مساوٍ له، فإنه يبدو أن في الأمر تناقضًا؟
– أجل.
– أجل، وكنا على حق في ذلك.
(٦٠٣) – وعلى ذلك، فإن الجزء الذي يحكم وفقًا للقياس في النفس ينبغي أن يكون مختلفًا عن ذلك الذي لا يحكم وفقًا له.
– أجل.
– غير أن الملكة التي تحكم وفقًا للقياس هي الجزء الأفضل في النفس.
– بالتأكيد.
– وإذن فما يخالف القياس لا بدَّ أن يكون جزءًا أخس.
– هذا ضروري.
– هذا هو الرأي الذي كنت أريد الوصول إليه عندما قلت إن الرسم وكل فن قائم على المحاكاة بوجهٍ عام يبعد في عمله عن الحقيقة. وإن الجزء الذي يرتبط به، في طبيعتنا، بعيد بدوره عن الحكمة. وأنه لا يستهدف غرضًا شريفًا أو صحيحًا.
– هذا صحيح كل الصحة.
– وعلى ذلك، فلما كان الفن القائم على المحاكاة خسيسًا مقترنًا بخسيسة، فلا بدَّ أن تكون الذرية بدورها خسيسة.
– هذا صحيح.
– وهل ينطبق هذا فقط على المحاكاة الموجهة إلى العين، أم يصدق أيضًا على المحاكاة الموجهة إلى الأذن، والتي نسميها بالشعر؟
– دعنا لا نقتصر إذن على تشبيه الشعر بالتصوير، ولننظر مباشرة في ذلك الجزء من الذهن الذي يهيب به شعر المحاكاة، ولنتأمل إن كان هذا الجزء شريفًا أم خسيسًا.
– لنفعل ذلك.
– فلنتأمل المسألة على هذا النحو: إن شعر المحاكاة يمثل الناس في أفعالهم الإرادية واللاإرادية، التي يظنون أنفسهم بفضلها سعداء أو أشقياء، ويستسلمون نتيجة لذلك للذة أو الألم. فهل فيه أكثر من هذا؟
– كلا، ليس فيه إلا هذا.
– وكنا على حق في ذلك.
– أجل، لقد كنا على حق، ولكن يبدو لي أن من واجبنا الآن إيضاح نقطة أغفلناها من قبل.
– وما هي؟
– أجل.
– ولكن هل ينعدم لديه الحزن، أم أنه لا يملك إلا أن يحزن. وإن كان يخفف من هذا الحزن؟
– إن الأمر الثاني هو الأقرب إلى الصواب.
(٦٠٤) – خَبِّرني إذن: هل الأرجح أن يقاوم حزنه ويكتمه عندما يكون بين أقرانه أم عندما يكون وحيدًا؟
– سيكون أكثر كتمانًا بكثير في حضور الآخرين.
– أما عندما يكون وحيدًا، فلن يضيره أن يقول أو يفعل أشياء كثيرة يخجل أن يراه غيره أو يسمعه وهو يفعلها.
– بالضبط.
– أليس ما يدفعه إلى المقاومة هو العقل ومبدأ القانون فيه، على حين أن ما يحمله على الحزن هو الشعور بالألم ذاته؟
– هذا صحيح.
– ولكن عندما تتجاذب الإنسان قوتان في اتجاهين متضادين بالنسبة إلى نفس الموضوع، فلا بد أن يكون هناك جزءان يعتملان في نفسه.
– بالتأكيد.
– وأحد هذين الجزأين على استعداد لإطاعة القانون في كل ما يأمر به.
– ماذا تعني؟
– أعني القانون القائل إنه ليس أفضل من تحمُّل المكاره بأكبر قدر من رباطة الجأش، وعدم الاستسلام للحزن؛ إذ إن المرء لا يعلم ما في هذه الأحداث من خير وشر، وهو لن يكسِب من الثورة شيئًا، والقائل إن الأمور الإنسانية كلها لا تستحق من المرء اهتمامًا، وأن حزننا يحول دون حدوث ما نحن في أشد الحاجة إليه في مثل هذه اللحظات.
– وما هو؟
– أعنى تدبُّر ما حدث، واستعادة قدرتنا على التحكم في النفس بعد أن يوجه القدر ضربته، كما في لعبة النرد، وترك العقل يحدد أفضل السبل أمامنا، والكف عن سلوك مسلك الأطفال الذين يصرخون عندما يصيبهم جرح ويضمون إليهم الجزء المجروح، وتعويد النفس أن تُهرَع دائمًا لنجدة المريض المحتاج إليها، وتسارع بإنهاضنا من كبوتنا، ومواساة الحزن بلمسة من دوائها الشافي.
– هذا قطعًا أفضل مسلك إزاء ضربات القدر.
– والجزء الأفضل منا هو الذي يسير وفقًا للعقل.
– بالتأكيد.
– أما الجزء الذي يذكرنا بشقائنا ويدفعنا إلى الحزن، ولا يشفي غليله منهما، فإنا نستطيع أن نسميه باللامعقول والعقيم والجبان.
– أجل، نستطيع ذلك.
– وهلا يمدنا هذا المبدأ الأخير، أعني المبدأ الغضبي، بمادة غزيرة متنوعة للمحاكاة، بينما المزاج الحكيم الهادئ لا يسهل محاكاته؛ لأنه يكاد يكون دائمًا مستقرًّا على حالٍ واحدة، وحتى إذا قلد فإنه لا يقدر بسهولة، لا سيما إذا كان ذلك أمام جمع صاخب في مسرح؛ إذ إن الشعور الذي يحاكى يكون أمرًا غير مألوف لهم؟
– بالتأكيد.
(٦٠٥) – ومن الواضح أيضًا أن الشاعر لا يميل بطبيعته إلى هذا المبدأ العاقل في النفس، ولا يستطيع إرضاءه بفنه، وذلك إذا أراد كسب شعبية بين الجماهير، وإنما يكون أميل إلى الطابَع المنفعل المتقلب الذي تسهل محاكاته.
– هذا واضح.
– وعلى ذلك، فإن من حقنا أن نهاجمه الآن ونضعه إلى جانب نظيره الرسام؛ ذلك لأنه يشبهه في افتقار إنتاجه إلى الحقيقة، وفي إهابته بذلك الجزء من النفس الذي هو خسيس بدوره، وابتعاده عن الجزء الفاضل منها. هذا هو السبب الأول الذي يبرر لنا حظر دخوله الدولة التي يحكمها قانون صالح؛ لأنه يثير هذا الجزء الخسيس في النفس ويغذيه، وبذلك يعرض العقل ذاته للدماء، وكما يحدث في الدولة عندما تسلم مقاليد أمورها وسلطاتها للأشرار ويُقضى فيها على الصالحين، فكذلك يبث الشاعر المقلد في نفس الفرد حُكمًا فاسدًا؛ إذ يتملق الجزء اللاعاقل، الذي لا يميز الفاضل من الرديء، ويعد الأشياء ذاتها أفضل تارة وأردأ تارة أخرى، ويخلق أشباحًا ويقف دائمًا بعيدًا كل البعد عن الحقيقة.
– بالضبط.
– ولكنا لم نذكر بعد أقوى انتقاداتنا؛ فأكبر عيوب الشعر قدرته على إيقاع الأذى بالأخيار ذاتهم، وهو أذًى لا يُفلِت منه أحد.
– إنه لَعَيبٌ فادح حقًّا، إذا كان للشعر مثل هذا التأثير.
– فلتصغ إليَّ، وتحكم بنفسك: إن أفضل الناس منا، عندما يستمعون إلى إحدى قصائد هوميروس أو أي شاعر تراجيدي آخر، وهو يصور بطلًا يروي أحزانه في قصيدة مطولة، أو يندب حظه بالعويل وضرب الصدر؛ أقول إن أفضل الناس منا يشعرون عندئذٍ باللذة وهم يتابعون العرض متعاطفين معه كل التعاطف، ويعجبون بعبقرية الشاعر الذي يُثير فينا على هذا النحو أقوى الأحاسيس.
– أجل، إني لأعلم ذلك بالتأكيد.
– أما عندما يصيبنا الحزن نحن أنفسنا، فإنك تلاحظ أننا نفخر بالصفة المضادة، أي نحاول أن نعتصم بالصبر والسكينة، واثقين من أن هذا هو المسلك اللائق بالرجال، وأن من الواجب أن نترك للنساء ذلك المسلك الذي قلنا منذ قليل إننا نسلكه في المسرح.
– هذا صحيح.
– ولكن هل يحق لنا أن نعجب ونتمتع بمرأى شخص يسلك على نحو نخجل منه، بدلًا من أن نشعر بالتقزز منه؟
– كلا، ليس هذا أمرًا معقولًا على الإطلاق.
(٦٠٦) – إنه لا يكون معقولًا بوجهٍ خاص، إذا نظرت إلى المسألة على النحو الآتي:
– على أي نحو؟
– هذا صحيح كل الصحة.
– ألا يَصدُق هذا أيضًا على الهَزْل، مثلما يَصدُق على الجِد؟ ألا يحدث لك عينُ ما حدَث في حالة الانفعالات الحزينة، عندما تستمع في تصوير مسرحي أو في محادثة خاصة إلى هزليات تخجل من أن تعيب عليها إباحيتها؟ إنك عندئذٍ تُطلق العِنان لرغبتك في إثارة الضحك، وهي الرغبة التي كان عقلك يقمعها بدورها؛ خوفًا من أن يُسمِّيَك الناس مهرجًا، وهكذا تقوى هذه الرغبة فيك عند مشاهدتك للمسرح، حتى تمارس في أحاديثك الخاصة، دون أن تشعر، مهنة الضحك.
– هذا أمر مؤكد.
– أليس للمحاكاة الشعرية نفس التأثير أيضًا فيما يتعلق بالحب والغضب وجميع الانفعالات السارة والأليمة للنفس، وهي الانفعالات التي يعترف بأنها ترتبك بكل فعل من أفعالنا؟ إن الشعر يغذي الانفعال بدلًا من أن يضعفه، ويجعل له الغلبة، مع أن من الواجب قهره إن شاء الناس أن يزدادوا سعادة وفضيلة.
– لا مفر لي من الموافقة على ما تقول.
– وهكذا، يا جلوكون، فإنك إذا صادفت واحدًا من المعجبين بهوميروس، وأعلن (٦٠٧) لك أنه كان معلم اليونان، وأنه ينفع في تعليم الناس وتنظيم شئونهم، وأن من الواجب الرجوع إليه ودراسته، وتنظيم السلوك وفقًا لنصائحه، فلا بأس من أن نُحييَ القائلين بهذه الأشياء ونستمع إليهم باحترام، فهم أناس لا يقصدون إلا الخير، على قدر أفهامهم، وعلينا أن نسلم معهم بأن هوميروس كان أول الشعراء التراجيديين وأعظمهم، ومع ذلك فلتكن على ثقة من أننا لا نستطيع أن نقبل في دولتنا من الشعر إلا ذلك الذي يشيد بفضائل الآلهة والأخيار من الناس. أما إذا لم تكتفِ بذلك وسمحت للربة المعسولة بالدخول، إما في شعر غنائي وإما في شعر ملاحم، فسوف تغتصب اللذة والألم والسيادة من القانون، ومن المبادئ التي انعقد إجماع الناس على أنها هي الأفضل.
– هذا صحيح كل الصحة.
– إنه ليسحرني حقًّا.
– وإذن فهل لي أن أقترح إعادة الشعر من المنفى، ولكن بشرط واحد، هو أن يقدم دفاعًا عن نفسه بالطريقة الغنائية أو بأي وزن آخر.
– بالتأكيد.
– كما أننا سنسمح لأنصاره الذين يحبون الشعر وإن لم يكونوا شعراء، بالدفاع عنه نثرًا، ليثبتوا لنا أنه لا يقتصر على بعث الشرور في النفوس، بل إنه من المفيد لنا أن يثبتوا أنه يجمع بين بعث السرور في النفوس، وبين الفائدة العملية.
– هذا أمر لا شك فيه، فنحن سنكون الرابحين.
(٦٠٨) – أما إذا لم يستطيعوا إثبات ذلك، أيها الصديق العزيز، فسوف نفعل كالمحبين الذين يعلمون أن حبهم لا فائدة منه، فيفترقون رغمًا عنهم، ولكنهم يفترقون على أية حال. فنحن بدورنا نحب الشعر على هذا النحو، وهو حب ولدته فينا النُّظم السائدة بيننا، ونحن على استعداد تام للاعتراف بفضله وباقترابه من الحقيقة، ولكنه ما دام عاجزًا عن تبرير نفسه أمامنا، فسوف نردد، كلما استمعنا إليه، تلك الحجج التي ذكرناها من قبل حتى نتخذها تعويذة ضد سحره، ونتجنب العودة إلى ذلك الانفعال الذي كان يخلب ألبابنا في صبانا، والذي يعجز معظم الناس عن التخلص منه، وهكذا سنردد أن مثل هذا الشعر لا يستحق أن يُعَد مقتربًا من الحقيقة، وليس جديرًا بحماستنا، وإنما ينبغي ونحن نستمع إليه أن نحذره، وأن نخشى على النظام المستتب في نفوسنا، وأن نتوخَّى أخيرًا مراعاة ما قلناه عن الشعر.
– إنني متفق معك كل الاتفاق.
– أجل يا صديقي جلوكون، فالأمر خطير حقًّا، وهو أخطر مما يتصوره معظم الناس. فعليه يتوقف تحوُّل الإنسان إلى الخير أو إلى الشر، ومن هنا فإن من واجبنا أن نقاوم إغراء الشعر، مثلما نقاوم إغراء المال أو الجاه أو الشهرة، إذا ما حضَّنا على إغفال العدالة والفضيلة.
– إنني مقتنع بحُجتك، وأظن أن أي شخص غيري سيقتنع بها بدوره.
خلود النفس
ومع ذلك، فإننا لم نتحدث حتى الآن عن أعظم مثوبة وأكبر مكافأة تنالها الفضيلة.
– إن كان ثمة مكافأة أو مثوبة أعظم مما ذكرت، فلا بدَّ أنها هائلة حقًّا.
– وما هو الشيء الهائل الذي يمكن أن يقع في فترة قصيرة كهذه؟ ذلك لأن عمرنا كله، بالقياس إلى مجموع الزمان، قصير جدًّا من الميلاد حتى الشيخوخة.
– أجل، إنه لا يكاد يكون شيئًا.
– ولكن، أليس الأجدر بالكائن الخالد أن يكرس من الاهتمام للزمان كله، أو الأزلية، أكثر مما يكرسه لهذا العمر القصير؟
– بالتأكيد، ولكن ما الذي تعنيه من هذا؟
– ألا تدرك أن نفسنا خالدة وأنها لا تفنى أبدًا؟
فقلت: ينبغي أن أكون قادرًا على ذلك، وكذلك أنت، فليس هذا بالأمر العسير.
– إنه لعسير بالنسبة إليَّ، ولكني أود أن أستمع إلى حجتك في هذا الموضوع الذي ذكرت أنه هين إلى هذا الحد.
– أصغ إليَّ إذَن.
– إنني مُصغٍ.
– ألا تعترف بأن هناك خيرًا وشرًّا؟
– بلى.
– ولكن، هل تتفق معي على أن العنصر الذي يفسد ويدمر هو الشر، وذلك الذي يحفظ ويقوم هو الخير؟
– أجل.
– ألا تعتقد أيضًا أن لكل شيء خيرًا وشرًّا، كالرمد مثلًا بالنسبة إلى العين، والمرض بالنسبة إلى الجسم عامة، والتسوس للقمح، والتآكل للخشب، والصدأ للحديد والنحاس، أي إن لكل شيء بالطبيعة شرَّه أو مرضه؟
– أجل.
(٦٠٩) – ألا تعترف أيضًا بأن أي شيء يُصاب بهذه الآفات يغدو شرًّا، ويدب فيه الانحلال والفساد آخر الأمر؟
– هذا صحيح.
– وعلى ذلك، فإن ما يفني كل كائن هو ذلك الشر الكامن فيه بالطبيعة، وهو العنصر الخسيس فيه. ولو لم يؤد هذا الشر إلى إفنائه لَما قدر على ذلك شيء غيره؛ إذ لا يخشى أحد من أن يفنى أي شيء بفعل الخير، أو بفعل ما ليس خيرًا ولا شرًّا.
– كلا بالتأكيد.
– فإذا ما وجدنا في الطبيعة كائنًا له شر يجعله سيئًا، دون أن يكون قادرًا على بعث الانحلال والفناء فيه، ألا يكون في ذلك ما يجعلنا على ثقة من أن مثل هذا الكائن لا يمكن أن يفنى؟
– يبدو أن الأمر كذلك.
– حسن. أليس هناك شر يفسد النفس؟
– ولكن، هل يؤدي واحد من هذه الشرور إلى القضاء عليها؟ لتحذر هنا الوقوع في خطأ الاعتقاد بأن ضبط الظالم والأحمق متلبسًا بجرمه يؤدي إلى فنائه نتيجةً لظلمه، الذي هو شر في نفسه. وإنما الأصح أن تنظر إلى المسألة على هذا النحو؛ فمن الصحيح، بالنسبة إلى الجسم، أن الشر المادي، أي المرض، يُتلفه ويدمره حتى لا يعود بعدُ جسمًا، كما أن جميع الأشياء الأخرى التي ضربنا لها أمثلة تفسد نتيجة للشر الكامن والمستقر فيها، والذي يقضي عليها. أليس هذا صحيحًا؟
– بلى.
– فلنتأمل النفس على النحو ذاته. أتعتقد أن الظلم، وغيره من الرذائل، عندما يستقر فيها، يبددها ويفسدها حتى يفصلها عن الجسم ويفضي بها إلى الموت؟
– كلا، بالتأكيد.
– ومع ذلك، فالعاقل لا يقبل القول إن الشر الخارجي يستطيع القضاء على شيء لا تستطيع طبيعته ذاتها القضاء عليه.
– هذا صحيح.
(٦١٠) – فلتلاحظ يا جلوكون أن صفة الفساد في الطعام، سواء كانت تعفنًا أم تحللًا أم شيئًا آخر، ليست هي ذاتها التي تؤدي في نظرنا إلى موت الجسم، وإنما ينبغي أن يكون الطعام قد أحدث حالة سيئة في الجسم ذاته حتى نستطيع أن نقول: إن الجسم قد قُضي عليه نتيجة لحالته المرضية الخاصة، التي سببها الطعام الفاسد. ولكنا لا نقول أبدًا إن الجسم، الذي له طبيعته الخاصة، يفنى نتيجة لفساد الأطعمة، التي لها طبيعة أخرى، ما لم يولد هذا الشر الخارجي فيه شرًّا داخليًّا خاصًّا به.
– هذا صحيح كل الصحة.
– ولهذا السبب عينه، فإن مرض الجسم إن لم يولد في النفس مرضًا للنفس، فلن يؤدي أبدًا إلى فناء النفس عن طريق شر خارج عنها، دون تدخُّل من الشر الخاص بها، أو إلى فناء أحدهما بالشر الموجود في الآخر.
– هذا كلام معقول.
– وعلى ذلك فعلينا إما أن نفند هذه الحُجة ونُثبِت بطلانها، وإما أن نحذر القول — ما دامت لم تُفنَّد — بأن الحُمَّى، أو أي مرض آخر، أو حتى قتل الجسم وتمزيقه إربًا إربًا، كفيل بإفناء النفس، إلا إذا ثبت أن الجسم قد جعل النفس أردأ وأخس. ومن واجبنا ألا نسمح لأحد بالقول إن النفس أو أي شيء آخر تفنى لمجرد إصابة شيء خارج عنها بالشر الخاص به.
فقال: من المؤكد أن أحدًا لن يستطيع أن يُثبت أن الموت يجعل نفوس الموتى أكثر شرًّا.
– ولكن إذا جرؤ أحد على تحدي حُجتنا، وحاول التهرب من النتيجة القائلة إن النفوس خالدة بالقول إن مَن يموت يغدو أظلم وأخس، فسوف نرد عليه قائلين إنه لو كان على صواب لكان الشر نوعًا من المرض الفتاك القادر على قتل من يصاب به، بسرعة أو ببطء تبعًا لمقدار ظلمه، مع أن الواقع هو أن الظلم مناسبة للموت، الذي تسببه بالفعل تلك العقوبة التي تنزل بالظالم جزاء على أفعاله.
فقال: أجل، فلو كان الأمر كما يزعمون، لما كان الشر شيئًا فظيعًا بحق؛ إذ إن موت الظالم يضع على الفور حدًّا لمتاعبه. ولكني أعتقد أن العكس هو الصحيح، وأن الظلم يؤدي إلى موت الآخرين، إذا ما استطاع ذلك، وبقاء الظالم نفسه حيًّا، بل مليئًا بالحيوية، وبهذا يكون الظلم بعيدًا كل البعد عن أن يكون علة للموت.
– إنك لعلى صواب؛ ذلك لأنه إذا كان الشر والانحطاط المتعلق بالنفس ذاتها عاجزًا عن القضاء عليها، أو إفنائها، فمن العسير أن يتمكن الشر الذي هو بطبيعته مهيأ للقضاء على جوهر آخر، من إفناء النفس، أو أي شيء آخر عدا ذلك الذي يرتبط به.
– أجل، هذا أمر عسير حقًّا.
(٦١١) – ولكن ما دامت النفس لا تموت بفعل الشر الخاص بها، ولا بفعل الشر الخارج عنها. فواضح أنها لا بدَّ أن تكون شيئًا موجودًا على الدوام، وبالتالي شيئًا خالدًا.
– هذا ضروري.
– هذا صحيح.
– وهو أمر ينبغي ألا نعترف به؛ لأن العقل يأباه. كذلك ينبغي ألا ننظر إلى النفس، في طبيعتها الحقة، على أنها حافلة بالتنوع والتغيُّر وفى شقاق مع ذاتها على الدوام.
– ماذا تعني؟
– أعني أن من العسير أن يكون الكائن خالدًا، إن كان مؤلفًا من أجزاء متباينة، ولم يكن التركيب الجامع بين هذه الأجزاء كاملًا، كما أوضحنا من قبل في صدد النفس.
– هذا محال قطعًا.
– ماذا إذن؟
– ينبغي أن نتأمل حب النفس للحكمة. فلنتأمل الموضوعات التي تؤثر فيها، وتلك التي تتصل بها، بفضل وجود عنصر أزلي خالد، قريب من الألوهية فيها. (٦١٢) ولنتأمل ماذا تغدو عليه عندما تنصرف بكليتها إلى هذا النوع من الموضوعات، وتدفعها حماستها إلى الخروج من ذلك البحر الذي تغوص فيه الآن، وتنفض عنها القواقع والقشور التي تراكمت عليها، والتي كونت حولها طبقة سميكة من الطين والحجارة؛ لأنها كانت تجد سعادتها في التمتع بغذاء الأرض، كما يسميه الناس. عندئذٍ نرى النفس في طبيعتها الحقة، ونعلم إن كانت بسيطة أم مركبة، وندرك ممَّ تتكوَّن وعلى أي نحو هي. أما الآن فحسبنا أننا قد أوضحنا بما فيه الكفاية، على ما أعتقد، ما يطرأ عليها في الحياة الراهنة من تأثيرات ومن أحوال.
– أجل، لقد أوضحنا هذا بجلاء.
– هذا صحيح كل الصحة.
– وإذن فلن يعترض علينا أحد إذا ما بدأنا نعدد، إلى جانب المزايا السابقة، المزايا التي تكتسبها النفس من الآلهة والناس بفضل العدالة والفضيلة بوجهٍ عام، سواء خلال الحياة وبعد الممات.
– لا يمكن بالطبع أن يوجه إلينا أي اعتراض.
– أتود أن تسدد لي الدَّين الذي أقرضتك إياه خلال المناقشة؟
– وما هو؟
– إنني أكون مخطئًا لو لم أتذكر.
– والآن وقد أتممنا البت في هذه المسألة، فإني أطلب إليك ثانية، باسم العدالة، أن تأخذ معي بالرأي السائد لدى الناس والآلهة، حتى تسترد العدالة ذلك التقدير الذي تستمده من سمعتها الطيبة، والذي تضيفه على أنصارها من الناس، بعد أن ثبت أنها تجلب لهم النفع المستمد من حقيقة الفضيلة، ولا تُخيِّب أبدًا ظنَّ أنصارها المخلصين.
– إن هذا المطلب عادل.
– وإذن فسوف تُسلِّم معي، أولًا، بالمسألة الآتية: إن الآلهة على الأقل لا ينخدعون فيما يكونه هذان النوعان من الناس.
– سأسلم لك بهذا.
– فإذا لم يكن الآلهة يخدعون في ذلك، فإنهم يحبون العادلين ويكرهون الظالمين، كما اتفقنا في البداية.
– هذا صحيح.
(٦١٣) – ألا ترى أن ذلك الذي تحبه الآلهة يحق له أن يتوقع من الآلهة أن يمنحوه كل ما لديهم، وبأوفر قدر ممكن، ألا ما قد يكون فيه من الشر الناجم عن أخطاء ارتكبت في حياة سابقة؟
– بالتأكيد.
– كلا، إنها قطعًا لن تتجاهل إنسانًا يتشبه بها.
– أليس لنا أن نفترض عكس هذا بالنسبة إلى الظالم؟
– بالتأكيد.
– هذه إذن هي المكاسب التي تعود على العادل من الآلهة.
– هذا ما أعتقد.
– فما الذي تتلقاه الآلهة من الناس؟ إذا نظرنا إلى الأمور في حقيقتها، لوجدنا أن الشرير الذكي أشبه بالعدَّاء الذي يجري سريعًا في النصف الأول من السباق، ولكنه يتخاذل قبل بلوغ الهدف؛ فهو سريع في البداية، ولكن الأمر ينتهي به إلى الخدلان، ويعود في النهاية بخفَّي حُنَين. أما الجائزة فلا ينالها إلا العدَّاء السليم الذي يثابر حتى النهاية. ألا يكون الأمر على هذا النحو في حالة العادل، الذي يحرز النصر قُرب نهاية السباق في أي فعل أو معاملة مع الناس، ويفوز بالسمعة الطيبة، وينال ما لدى الناس من الجوائز؟
– هذا صحيح.
– وإذن فسوف تعترف الآن بأن لي الحق في أن أصف العادلين بما سبق أن قلته أنت عن الظالمين. ففي اعتقادي أن العادلين، إذا ما بلغوا سن النضج، كان في وسعهم إذا شاءوا أن يبلغوا مركز التكريم في دولتهم، وأن يختاروا من النساء من يشاءون ويزوجوا أبناءهم ممن يشاءون، وغير ذلك مما قلته أنت عن الآخرين. أما الظالمون، فعلى الرغم من أنهم قد يظلون يخدعون الناس في شبابهم، فإن معظمهم يُكشفون ويُضبطون عند نهاية حياتهم، وتنزل عليهم اللعنات، في شيخوختهم، من مواطنيهم ومن الغرباء معًا، وينالون من الأذى ومن العذاب ما لا حصر له، وما لا حاجة بي إلى تكراره. أتُقرُّني على هذا كله؟
– أجل، إن ما تقول هو الصواب.
أسطورة «إر»
– هذه إذن هي المكاسب التي تمنحها الآلهة والناس للعادلين في حياتهم الراهنة، فضلًا عن المزايا الأخرى التي تجلبها العدالة بذاتها.
– إنها لمزايا رائعة مؤكدة حقًّا.
– غير أن هذه ليست شيئًا مذكورًا، لا من حيث الكم ولا من حيث الكيف، بالقياس إلى الجزاء الذي ينتظر العادل والظالم بعد الموت. وهذا أمر ينبغي الكلام عنه الآن، حتى نعطيَ كلًّا منهما ما تعطيه إياه المناقشة من حق.
– تكلم، فقليلة هي الأمور التي أتلهف على سماعها بقدر ما أتلهف على سماع رأيك في هذا الموضوع.
فلقاء كل ذنب ارتكبه أي إنسان كان المذنبون يدفعون عشرة أمثاله خلال الوقت المناسب، أي مرة كل مائة عام، وهي المدة التي لا يتعداها عمر الإنسان، حتى يكون العقاب على كل ذنب عشرة أمثال هذا الذنب. وهكذا فإن كل من أدينوا لقتلهم أو استرقاقهم الكثير عن طريق خيانة بلادهم أو رفاقهم في السلاح، أو كل من اشترك في أي نوع آخر من المظالم، يقاسون من العذاب عشرة أمثال كل ذنب. أما الأفعال الصالحة والمسلك العادل التقي، فتثاب بنفس المقدار. وأما الأطفال الذين يولدون أمواتًا أو لا يعيشون إلا فترة قصيرة، فقد قال عنهم أشياء أخرى لا داعي هنا لذكرها.
(٦١٨) وبعد أن ألقى الرسول هذه الكلمات، ألقى أوراق الحظ بينهم جميعًا دون تمييز، فأخد كل منهم الورقة التي سقطت تحت أقدامه، وأظهر الرقم الذي سحبه. وكان «إر» هو الوحيد الذي لم يسمح له بذلك. ثم وضع الرسول أمامهم على الأرض نماذج الحياة التي كان عددها يفوق كثيرًا عدد النفوس الحاضرة. وكانت هذه النماذج من أنواع شتى؛ فهي تشمل جميع الأحوال الممكنة للحياة الحيوانية والحياة البشرية. فكانت منها حياة الطغاة، الذين يظل بعضهم محتفظًا بجبروته حتى النهاية، بينما تدمر حياة البعض الآخر قبل أن ينتهيَ أجله، وتنتهي بالفقر والتشرد والاستجداء. وكانت منها أناس اشتهروا بجمال الصورة وبالقوة ومتانة البنيان، أو بكرم المولد وعراقة الأصل. كما كانت منها حياة ناس مجهولين، وحياة نساء متنوعة على نفس النحو. كل هذه الصفات كانت تتجمع سويًّا على نحوٍ متباين، ويضاف إليها الغنى أو الفقر، والصحة أو المرض، أو ما بين هذا وذاك. ولكن لم يكن في أية حياة من هذه أي شيء يحدد حالة النفس؛ إذ إن تغير حالتها باختيارها هذه الحياة أو تلك.
ومضى ذلك العائد من العالَم الآخر ذاكرًا أن الرسول قال بعد ذلك: «وحتى آخر القادمين يستطيع، إذا اختار بحكمة، أن ينال نصيبًا ملائمًا سعيدًا في الحياة، إذا ما التزم اختياره بدقة. فليكن الأول إذن حريصًا في اختياره، وليحذر الأخير اليأس.»
وعندما قال الرسول ذلك، بادر الأول في ترتيب الاختيار إلى انتقاء أشد ما وجده من طغيان؛ ذلك لأن جشعه الأهوج حال بينه وبين اختبار جميع أوجه الحياة التي اختارها، ولم يدرك الشرور العديدة التي حفلت بها، أو يعلم أنه قد قدر له أن يلتهم أولاده، فضلًا عن ارتكاب شرور أخرى. ولكن عندما أتى الوقت الذي فحص فيه الأمر عن كثب، أخذ يضرب صدره بيديه، ويندب حظه، ناسيًا تحذيرات الرسول. وبدلًا من أن يلوم نفسه على آثامه، أخذ يُنحي باللائمة على الحظ، وأوامر الآلهة وأي شيء ما عدا ذاته. ولقد كان هو واحدًا من أولئك الذين هبطوا من السماء، بعد أن قضى حياته السابقة في دولة منظمة، وكانت فضيلته ترجع إلى التعود، لا إلى التزام الحكمة. بل يمكن القول إن جزءًا غير قليل من أولئك الذين جيء بهم على هذا النحو كانوا من الفئة التي أتت من السماء؛ لأنهم لم يقاسوا الآلام، على حين أن معظم من صعدوا من الأرض وقاسَوا منها ورأوا غيرهم يقاسون، لم يتسرعوا إلى هذا الحد في اختيارهم. وترتب على ذلك، وكذلك على اختيار الأنصبة بالاقتراع، أن استبدلت كل النفوس ما لديها من الشر بالخير، وما لديها من الخير بالشر. ومع ذلك فلو سعى كل إنسان، في كل مرة يعود فيها إلى الحياة الأرضية، إلى الحكمة بكل جوارحه، ولو شاء حظه ألا يكون ممن يختارون أخيرًا، لكان ما قيل هنا عن العالَم الآخر كفيلًا بأن يضمن له فرصة طيبة في السعادة ها هنا، وبأن تتم رحلته في الذَّهاب إلى العالَم الآخر والإياب منه، لا بالطريق السفلي الوعر، وإنما بالطريق السماوي المُعبَّد.
وهكذا يا جلوكون نجت القصة من النسيان. ولو أمعنا التدبُّر فيها؛ لأنقذتنا نحن أنفسنا، ولعبرنا بطُمأنينة وسلام نهر لیثي (النسيان)، ولَما دنَّسنا نفوسنا. وإذن فلو آمنت معي بأن النفس خالدة، قادرة على تحصيل كل خير واقتراف كل شيء، لاستطعنا أن نلتزم دائمًا الطريق العلوي، ولتوخينا العدل والحكمة في كل شيء؛ عندئذٍ نسالم أنفسنا ونسالم الآلهة، لا في إقامتنا هنا فحسب، بل عندما نتلقى جائزة العدل، كالمنتصرين في المباريات يتلقون الهدايا من أصدقائهم. وبهذا تتحقق لنا السعادة، لا على هذه الأرض وحدها، بل أيضًا في تلك الرحلة التي تدوم ألف سنة، والتي قصصت عليك نبأها.