المنهج الأفلاطوني في المحاورة
(١) الرأي السائد عن منهج أفلاطون
من المسلَّم به بين دارسي أفلاطون أن هناك عَلاقة وثيقة بين طريقة الحوار، من حيث هي أسلوب لعرض الأفكار الفلسفية، وبين المنهج الديالكتيكي، الذي كان هو المنهج المُفضَّل لديه. ولست أودُّ في هذا الفصل الخاص بالمنهج أن أنكر هذا الرأي الشائع، ولكني أعتقد أننا لا نستطيع أن نقبله إلا بتحفظات هامة، وفي حدود معينة ينبغي أن نتبيَّنها بوضوح. وسأبدأ أولًا بعرضٍ مفصَّل لوجهة النظر الشائعة، حتى يتسنى لنا بعد ذلك اختبارها من أجل تحديد مدى صحتها.
وهكذا نستطيع أن نستخلص، من هذه النماذج الثلاثة لآراء باحثين أفلاطونيين مشهورين في العَلاقة بين أسلوب الحوار وبين المنهج الديالكتيكي، الأسباب الرئيسية التي يفترض أنها هي التي دعت أفلاطون إلى استخدام هذا الأسلوب وذاك المنهج:
-
(١)
فقد كان أفلاطون يعتقد أن الحقيقة لا يُتوصل إليها إلا بعملية تدريجية تسير خطوة فخطوة، على طريقة السؤال والجواب.
-
(٢)
وكان يؤمن بأن الذهن الذي يريد بلوغ الحقيقة يستطيع أن يستخلصها من ذاته، بأن ينتقل من حالة السلبية إلى الحالة الإيجابية إما عن طريق الاتصال بذهن آخر يساعده على إظهار الحقيقة الكامنة في داخله، وإما عن طريق إجراء حوار داخلي مع ذاته، يقوم فيها الذهن الواحد بدور السائل والمجيب معًا.
-
(٣)
وكان أفلاطون متأثرًا بالمنهج السقراطي، الذي يعمل على توليد الحقيقة من الذهن بعد تطهيره — عن طريق الحوار — من آرائه الفاسدة.
-
(٤)
وأخيرًا، فقد كان هذا المنهج خير ما يتلاءم مع ذهن مُفكِّر فنان مثل أفلاطون، يُعبِّر من خلال الحوار عن العمليات الذهنية والانفعالات المختلفة التي تدور في نفوس أنماط متباينة من البشر، شأنه شأن أي كاتب مسرحي أو روائي.
(٢) اختبار نقدي لهذا الرأي
هذه الأسباب، التي يعلل بها أنصار هذا الرأي تفضيل أفلاطون لطريقة الحوار على أساس أنها أقرب الطرق إلى منهجه الديالكتيكي، تفترض كلها أن الحوار عند أفلاطون حوار حقيقي، وأنه يُعبِّر عن حركة ديالكتيكية حقيقية بين ذهن وآخر، أو بين الذهن ونفسه، وأن ذهن القارئ سيتابع بالتالي هذه الحركة الديالكتيكية ويتدرج معها حتى يصل إلى الحقيقة في موضوع بحثه.
وعلى الرغم من أن هذا الرأي يكاد يلقى إجماعًا تامًّا بين شرَّاح أفلاطون، فإني أعتقد أن من الممكن توجيه اعتراضات أساسية إليه. فهل يُعَد عرض الأفكار بطريقة الحوار تعبيرًا عن المرونة الفكرية، في مقابل الجمود والقطعية التي تُمثِّلها طريقة السرد في الكتب؟ وهل يؤدى الحوار إلى إيقاظ ذهن القارئ بحق، ونقله من السلبية إلى الإيجابية، ومشاركته في تلك الحركة المتدرجة التي تُكتشف بها الحقيقة؟ في رأيي أن هناك، في هذا الصدد، فارقًا هائلًا بين الحوار الحي والحوار المكتوب أو المؤلف، أعني بين الحوار الذي يشارك فيه الذهن بالفعل، وذلك الذي يكتفي بمشاهدته أو قراءته.
ففي الحوار الحي يوجد ذهنان حقيقيان، يتصارعان من أجل بلوغ حقيقة لا يملكها — في البداية — أيٌّ منهما. مثل هذا الحوار هو الذي يتضمن حركة ديالكتيكية، بالمعنى الصحيح؛ لأن النتيجة التي يتم التوصل إليها لا تتولد إلا تدريجيًّا، من خلال عملية التصحيح والتقويم المتبادل بين الذهنَين المتحاورَين. ولو كان أفلاطون قد سجَّل في محاوراته محادثات حقيقية دارت بالفعل، لكان من الجائز أن يزداد، بهذه الطريقة، اقترابًا من روح المنهج الديالكتيكي. وبهذا المعنى نجد فارقًا هائلًا بين منهج سقراط ومنهج أفلاطون في المحاورات، على الرغم من أن من الشائع — كما رأينا في الأمثلة التي اقتبسناها من قبل — النظر إلى الأخير على أنه مجرد امتداد للأول. ذلك لأن سقراط لم يكن «يكتب» محاورات، وإنما كان يمارس الحوار الحي فحسب، وهو الفيلسوف الكبير الوحيد الذي لم يترك سطرًا واحدًا مكتوبًا، ولم يحاول أن يدون شيئًا من أفكاره أو من محاوراته الفعلية — وذلك اعتقادًا منه بأن هذه هي الطريقة الحقيقية للتفلسف.
ومع ذلك فإننا لو تناولنا هذه الطريقة نفسها، وحولناها إلى حوار مكتوب، لأصبحت شيئًا مختلفًا كل الاختلاف؛ ذلك لأن الحوار المكتوب، عند أفلاطون، ليس كما قلنا تسجيلًا طبق الأصل لحوار دار بالفعل، وإنما هو في بعض الأحيان حوار تخيَّله أفلاطون نفسه، بدليل أنه يدور بين شخصيات لا يمكن من الوجهة التاريخية أن تكون قد تقابلت بالفعل، وهو في أحيان أخرى يبدو توسيعًا لأفكار يجوز أنها دارت في حوار فعلي، ولكن صنعة الفنان وأفكار الفيلسوف تُضيف إليها أبعادًا جديدة كل الجِدَّة. ففي الحالتين إذَن لم يَكُن أفلاطون يسجل أفكار طرفين كانا يتحاوران فعلًا (سواء أكان هذان الطرفان شخصَين غيره، أو كان هو واحدًا منهما)، وإنما كان يسجل أفكاره الخاصة على صورة حوار. وبطبيعة الحال فإن صيغة الحوار قد أتاحت له أن يُعبِّر عن وجهات النظر المختلفة في صدر الموضوع الواحد، ومع ذلك فهو قد عبَّر عن وجهات النظر هذه كما يراها ويفهمها هو، لا كما يراها أصحابها الحقيقيون، وهذا فارق له أهميته القصوى.
فحين يقدم الذهن الواحد وجهة نظره الخاصة ووجهة النظر المضادة — كما يتخيلها هو — في صورة محاورة، يبدو الأمر في ظاهره كما لو كان تعبيرًا عن مرونة ديالكتيكية حقيقية، ويخيل إلى المرء — كما ظل شرَّاح أفلاطون يعتقدون حتى اليوم — أن هناك بالفعل حوارًا حقيقيًّا أقرب إلى روح التفلسف الحق (أو السقراطية) من أي سرد قطعي تتضمنه الكتب. ومع ذلك فإن مثل هذا الحوار المؤلف أو المكتوب يبدو في نظري تعبيرًا عن قطعية وعن روح توكيدية أشد بكثير مما نجده في الكتب التي لا تلجأ إلى أسلوب الحوار.
ذلك لأن الكتاب المدوَّن بالطريقة المألوفة ينطوي ضمنًا على نوع من الحوار؛ هو الحوار بين المؤلف وبين القارئ. فالمؤلف يعرض عليك رأيه، مهما كان قطعيًّا جازمًا، ويفترض منك — في مجال الفلسفة — أن تكون في حالة من اليقظة الذهنية تتيح لك أن تناقش هذا الرأي وتحاوره وتسير معه في حركة ديالكتيكية قد تنتهي بك إلى قَبول الرأي أو رفضه. أي إن هناك فرصة لقيام حوار حقيقي بين ذهن المؤلف والقارئ في الفلسفة، مهما كانت قطعية المؤلف فيما يعرضه من الآراء.
أما حين يقدم إلينا المؤلف حوارًا كاملًا، جاهزًا، تامًّا، ويتقمص هو ذاته شخصية الموافق والمعارض معًا، فإن فرصة الحوار الحقيقي بين المؤلف وبين قارئه تَضعُف إلى حدٍّ بعيد؛ ذلك لأن المؤلف نفسه هو الذي يُعفي القارئ من مشقة إيقاظ ذهنه لمواجهة أي رأي قد يرى فيه نقصًا أو تناقضًا، وهو الذي يتولى عنه هذه المهمة من خلال شخصيات المحاورة التي يحركها كما يشاء. ومعنى ذلك أن مسار الخط الديالكتيكي قد تحدد مقدمًا، وتحكم فيه المؤلف منذ البداية. مع أن أصول المنهج الديالكتيكي تقضي بأن يظل هذا المسار مفتوحًا على الدوام، وبأن تظل جميع الاحتمالات فيه ممكنة. وبعبارة أخرى، فإن طريقة الحوار التي يُفترض أنها تحرك ذهن القارئ إلى الإيجابية، تنقُله بالفعل إلى حالة سلبية. على حين أن قراءة موضوع فلسفي مدون بطريقة السرد المتصل قد تبعث في ذهن القارئ اعتراضات — وبالتالي تحركه نحو الإيجابية — على نحوٍ لا يتوافر في الحوار المكتوب.
ومن العوامل الأخرى المؤدية إلى سلبية القارئ في حالة الحوار، أن القارئ قد يتصور أن جميع إمكانات الاعتراض والنقد قد استُنفدت، ما دامت المحاورة تعرض عليه عدة وجهات نظر متعارضة، على حين أنه لو كان قد تُرك حرًّا منذ البداية لكان من الجائز أن يأتيَ بوجهة نظر لم يتوصل إليها مؤلف المحاورة، ولم تُعبِّر عنها شخصية من شخصياته. فالمحاورة تُضيِّق أفق المناقشة وتعوق حركتها الديالكتيكية؛ إذ تصور لنا عددًا محدودًا من الإمكانات في الموضوع الواحد، وتوهم القارئ بأن كل ما هنالك من وجهات النظر قد ورد حتمًا على لسان واحد من المتحدثين، بل إن القارئ نفسه قد يتقمص إحدى وجهات النظر هذه، فينتهي به الأمر إلى أن يظل مقيدًا بحدودها الخاصة، ولا يمتد تفكيره إلا إلى القدر الذي استطاع المؤلف أن يُعبِّر به عن هذه الشخصية.
وإذن، فهناك فارق أساسي بين الحوار الحي، الذي لا يدوم إلا خلال لحظة الحوار وحدها، وبين الحوار المكتوب، الذي يدون فيه حوار بصورة دائمة ثابتة. وهناك بالتالي فارق أساسي بين حوار الطرفين، بمعناه الصحيح، وحوار الطرف الواحد الذي يعرض فيه المؤلف رأيه ورأي الخصم معًا. ومن جهة أخرى، ففي النوع الثاني من الحوار، أعني المكتوب أو المؤلَّف، يقف القارئ نفسه على هامش العملية الديالكتيكية تمامًا. وإذا كان من الجائز أن المؤلف يصف في هذه الحالة بأمانة طريقة ظهور الأفكار بين ذهنَين متحاورَين، أو يتتبع مَنشأ هذه الأفكار وتطوُّرها وتقلُّبها داخل ذهنه الخاص، فإن هذه الحركة الديالكتيكية التي تحدث في ذهن المؤلف لا تنعكس على ذهن القارئ، بل إنها تكون على الأرجح عائقًا يقف في وجه الديالكتيك الأهم، الذي يفترض قيامه بين المؤلف والقارئ. وبذلك يمكن القول إن المنهج الديالكتيكی، أو طريقة أفلاطون الخاصة في تطبيق منهج الحوار السقراطي، يؤدي إلى عكس الغرض المقصود منه.
•••
هذه الاعتراضات على منهج أفلاطون تنطبق على طريقة الحوار في أحسن حالاتها، أعني حين يكون حوارًا بالمعنى الصحيح، تُعرَض فيه وجهات نظر متعارضة يتفنن المؤلف في تقمُّص الشخصيات المعبرة عنها، كما هي الحال في محاورة «المأدبة» مثلًا. ولكننا إذا تأملنا منهج أفلاطون مطبقًا على محاورة «الجمهورية» على التخصص، لوجدنا مجالًا لمزيد من الاعتراضات؛ إذ إن هناك عيوبًا كثيرة تشوب تطبيق هذا المنهج في محاورة الجمهورية.
ففي الكتاب الأول، وحتى ما يقرب من النصف الأول من الكتاب الثاني من المحاورة، نجد حوارًا فنيًّا بالمعنى الصحيح؛ إذ إن أطراف المحادثة يشتركون فيها إيجابيًّا، ويؤدي الحوار وظيفته الصحيحة، وهي زيادة تقريب الطرفَين تدريجًا من الحقيقة التي يسعيان إلى كشفها.
(وليذكر القارئ هنا أن كلامنا الآن ينصبُّ على «المنهج» والبناء الفني للحوار، لا على مضمونه؛ إذ إن من الجائز أن هذا الجزء الأول من المحاورة أضعف من غيره من حيث المضمون). ولكن هذه المرحلة تنتهي قبل منتصف الكتاب الثاني، حين يُتم جلوكون وأديمانتوس حديثهما الطويل في إطراء الظلم وتَعداد مضار العدل. ويبدو الأمر كما لو كانت هاتان الشخصيتان قد أفرغتا كل ما في جَعبتهما في هذا الحديث الطويل؛ إذ إنهما يظلان بعد ذلك طَوال المحاورة تقريبًا، مجرد شخصيتَين «صوريتَين» ليس لهما دور حقيقي في الحوار. وعلى حين أن جلوكون وأديمانتوس كانا في الجزء الأول شخصيتَين مستقلتَين بالمعنى الصحيح، لهما أفكارهما الخاصة، ودَورهما في تحليل المشكلات، فإن كل ذلك ينتهي منذ الكتاب الثاني، ويضيع استقلالهما تمامًا، ويتخذان دور الموافق على كل ما يقوله سقراط، وهو دور يمكن حذفه والاستغناء عنه دون أن تتأثر المحاورة — حتى في بنائها الفني — تأثرًا يُذكر.
ولنلاحظ أولًا أن هذا التحول في طبيعة هاتين الشخصيتَين يدل على ضعف وعدم اتساق في التركيب الفني للمحاورة؛ إذ إن هناك كما قلنا فارقًا واضحًا كل الوضوح بين القدرة العقلية لجلوكون وأديمانتوس في مطلع الكتاب الثاني، حين كانا أكثر من نِدَّين لسقراط، وبينهما في بقية المحاورة حين تواريا وأصبحا بجواره قَزمَين، بل ظهرت عليهما في كثير من المواضع أعراض البلاهة؛ إذ كانا يوجهان أسئلة مفرطة في السذاجة، أو يعجزان عن الرد على أسئلة غاية في البساطة، مما كان يثير سخرية سقراط الخفية منهما. ويزداد الفارق بين طريقتَي أفلاطون في تصوير الشخصيتَين وضوحًا إذا أدركنا أنهما كانا في مطلع الكتاب الثاني يعرضان رأيًا لا يؤمنان به. فهما قد ألقيا حديثهما الطويل، لا تعبيرًا عن رأيهما الخاص، وإنما عن رأي أولئك الذين يمتدحون الظلم ويذمون العدل؛ أي إن هذا الحديث الرائع كان مقصودًا منه إبقاء الجدل مُحتدِمًا فحسب. فهما في هذا الجزء يستعرضان قدرتهما الجدلية، وينجحان في ذلك إلى حدٍّ يدعو إلى الإعجاب، بحيث يكاد المرء يشك في أن هذين هما بعينهما جلوكون وأديمانتوس اللذان أكملا الكتب الثمانية الأخرى من المحاورة.
ولكن، لندع جانبًا هذا الضعف أو عدم الاتساق في البناء الفني للمحاورة، ولنتحدث عن دلالة هذا التحول في طبيعة الحوار بالنسبة إلى المنهج الديالكتيكي عند أفلاطون. فالحوار، في الجزء الأكبر من محاورة الجمهورية، ليس حوارًا حقيقيًّا، بل يتحول إلى عرض قد يكون ديالكتيكيًّا من حيث الشكل، ولكنه دُجماطيقيٌّ صِرف من حيث الموضوع. ويصبح سقراط هو الذي يُملي الآراء، بينما الكل مستمعون إليه، ينتظرون أية بادرة منه، ولا يستطيعون أن يسيروا إلى الأمام خطوة واحدة دون إرشاده. فالشخصيات الأخرى في المحاورة لا تُعبِّر عن حالة يمكن أن يتخذها أيُّ ذهن بالفعل، وإنما هي أدوات يتوصل بها سقراط نفسه إلى ما يريد، ويستغل بلاهتها في تأكيد انتصاره. وهنا نجد أن شرطًا أساسيًّا من شروط المنهج الديالكتيكي قد أصبح مفقودًا؛ إذ لا بدَّ في هذا المنهج من أن يُعبِّر كل متحدث عن موقف معين يمكن أن يتخذه ذهن المؤلف في مرحلة معينة من تفكيره في الموضوع، أو ذهن القارئ حين يتتبع وجهات نظر الأطراف المتباينة، على حين أن ذلك الذي يكتفي طَوال الوقت بأن يقول: نعم – كلا – تمامًا – أظن ذلك … إلخ، لا يمكن أن يُعَد مُعبِّرًا عن رأي أي قارئ لديه مسحة من التفلسف، أو عن أية لحظة معينة من لحظات تفكير المؤلف ذاته.
هذا التغيُّر في المنهج الديالكتيكی، من جدل حي بين أطراف متكافئة أو قريبة من التكافؤ عند سقراط، إلى جدلٍ مُتخيَّل مُؤلَّف ليس له، في كثير من الأحيان، طابَع الجدل ذاته؛ هذا التغيُّر قد أدى إلى اختلاف كبير مناظر في شخصية سقراط. وليس هنا موضع الكلام عن سقراط الحقيقي، وذلك لسببين: أولهما أننا لا نستطيع أن نجزم بأي شيء عن شخص اقتصر في حياته على ممارسة الحوار الحي وحده، إلا من خلال ما قاله الآخرون عنه. وثانيهما أن موضوع بحثنا هو أفلاطون نفسه، كما عبر عن آرائه في محاورة معينة. وعلى ذلك فسوف نركز كلامنا على سقراط كما صوَّره أفلاطون.
سقراط الأفلاطوني هذا لا بد، في رأيي، أن يكون مختلفًا عن سقراط الحقيقي اختلاف الحوار الحي عن الحوار المؤلف. وكلما حاول أفلاطون أن يصف سقراط — في محاوراته — بصفاته الحقيقية، أدى ذلك إلى مزيد من التشويه لصورته؛ ذلك لأن المفروض أن سقراط الحقيقي كان يستخدم منهج التهكم والتوليد، فكان يُفنِّد آراء خصمه بالجدل المنظم. ثم يسير معه متدرجًا نحو كشف حقيقة كاملة أو جزئية في الموضوع الذي يبحثه. هذا المنهج مرتبط ارتباطًا وثيقًا بطريقة الحوار الحي، وهو في اعتقادي لا يصلح — إذا كان يصلح على الإطلاق — إلا معها، أما حين يطبق على الحوار المؤلف، فإنه يؤدي إلى نتائج أقل ما توصف به أنها شاذة غريبة.
ذلك لأن المفروض في المنهج السقراطي الأصيل، أن يكون سقراط ذاته مجرد طرف في الحوار، يتسم بطريقة منظمة في التفكير، وبالقدرة على كشف المتناقضات وتحقيق الاتساق الفكري في الحديث. وبفضل تفكيره المنظم هذا، يستطيع أن يصل بالحوار إلى كشف حقيقة منشودة، أو إلى تفنيد خطأ شائع، أو ينتهي على الأقل إلى إدراك وجود أبعاد جديدة للمشكلة موضوع البحث، فينفض الحوار دون نتيجة إيجابية في الظاهر، وإن كان ذهن المتحاورين قد أصبح أكثر استنارة مما كان عليه من قبل بكثير. وإذن فسقراط — حسب منهجه الأصيل — يبدأ المناقشة بذهنٍ خالٍ، ويعترف هو ذاته بخلو ذهنه، وكل ما في متناول يده وما يمتاز به على غيره هو منهج سليم وطريقة منظمة في التفكير، يتخذ منهما مرشدًا يسير على هَدْيه في أي طريق تؤدي به المناقشة إليه.
غير أن سقراط الأفلاطوني يسلك على نحو مختلف كل الاختلاف: فهو يعرف مقدمًا اتجاه سيره، ويحدد النتيجة في ذهنه منذ البداية (لأن الحوار، كما قلنا، ليس حوارًا حيًّا أو تسجيلًا دقيقًا لحوار حي، وإنما هو حوار مؤلف). ومع ذلك فإن أفلاطون يُصر على أن ينسب إلى سقراطه هذا نفس صفات سقراط الحقيقي: وهو أنه متواضع لا يعلم شيئًا (سوى أنه لا يعلم)، وأن كل مجهوده إنما ينحصر في تطهير ذهن خصمه بطريقة التفنيد (أو التهكم)، ثم استخلاص الحقيقة الكامنة فيه بطريقة التوليد. ويترتب على هذا الإصرار نتائج خطيرة إلى أبعد حد، أقل ما يقال بشأنها هو أنها تؤدي إلى تكوين صورة مهتزة مخلخلة حافلة بالمتناقضات، لشخصية سقراط كما صوَّرها أفلاطون.
ذلك لأن سقراط الأفلاطوني يعلم كل شيء، وهو مع ذلك يدَّعي الجهل بكل شيء. وإن أبسط نظرة نلقيها على محاورة مثل «الجمهورية»، لكفيلة بإقناعنا بأن الزمام فيها لم يُفلت طَوال الوقت من يد سقراط، وأنه هو الذي يوجه المناقشة من البداية إلى النهاية. صحيح أنه لا يكف طوال الوقت عن إلقاء الأسئلة، ولكنها أسئلة تُلقى بطريقة منظمة، وتعمل على توجيه الطرف الآخر في الحوار نحو وجهة معينة، وتتضمن في داخلها — بكل وضوح — جميع عناصر الإجابة، بل إنها في واقع الأمر إجابات تتخذ شكل الأسئلة. فأشخاص المحاورة عاجزون تمامًا أمام سقراط، وهو يتحكم فيهم كما يشاء، وينتصر عليهم دائمًا في المجادلات، بل إنه ليشعرهم في كثير من المرات بالخجل من أنفسهم.
وقد لا يكون هناك بأس من استخدام هذا الأسلوب في الحوار لو كان أفلاطون قد حدد منذ البداية معالم هذا المنهج ورسم أبعاد شخصية سقراط في ضوء صفاتها التي تتبدى بالفعل في المحاورة. ولكن المشكلة كلها، كما قلنا من قبل، تنحصر في ذلك التناقض الشنيع بين ادعاء الجهل من جهة، وبين العلم الشامل الذي يكشف عنه سقراط خلال المحاورة من جهة أخرى؛ أعني بين اتباع أسلوب الحوار من جهة والتأكيد الفعلي للأفكار بطريقة قطعية من جهة أخرى، أو بين التزام سقراط جانب «التساؤل» من جهة وتقديمه الفعلي لجميع الإجابات في ثنايا أسئلته من جهة أخرى.
والحق أن المرء إذا فكر مليًّا في شخصية سقراط الأفلاطوني هذا، لا يملك إلا أن يصفه بقدْرٍ غيرِ قليل من النفاق، وربما برذائلَ أخرى غير النفاق؛ ذلك لأن ادعاء الجهل، بالنسبة إلى شخص تنم إجاباته عن أنه يعرف كل شيء يبدو كما لو كان زيادة في التنكيل بالخصم والتشفي فيه، وكأن سقراط هذا يقول: إنني لا أعلم شيئًا، ومع ذلك فإني أحطم كل آرائكم، وآتي إليكم بمعلومات جديدة لم تخطر من قبل ببالكم! ولنسأل أنفسنا في هذا الصدد: أيهما أكثر إذلالًا: أن يفند معلوماتنا ويأتي إلينا بجديد غيرها شخص يدَّعي أنه يعلم كل شيء، أم شخص يدَّعي أنه يجهل كل شيء؟
على أن سقراط الأفلاطوني لا يكتفي بإذلال خَصمه عن طريق الادعاء بأنه هو ذاته — الذي يوجهه ويعلمه — يجهل كل شيء، بل أنه يضيف إلى ذلك عنصرًا يزيد من فداحة هذا الإذلال: إذ يدعي أن كل ما هنالك من جديد قد أتى من الخصم ذاته، لا منه هو، مع أن أسئلة سقراط الإيحائية (أو إجاباته المقنعة) هي التي تقوم بكل شيء. وحين ينتهي الخصم إلى الموقف الذي يريده سقراط، والذي هو في الأغلب مضاد تمامًا لذلك الذي قال به الخصم نفسه في البداية، يكيل له سقراط الضربة القاضية، فيقول: ها أنت ذا قد وصلت بنفسك إلى الحقيقة، أو يقول له: وإذن فأنت ترى كذا … (كما لو كان ذلك هو رأي الخصم بالفعل). بل أنه يمعن أحيانًا في تمثيل دوره فيقول: إن كنت قد فهمتك، فأنت تعني كذا (انظر الجمهورية، ٣٩٦). وبذلك يدعي أنه يجاهد من أجل فهم رأي هو في الواقع رأيه الخاص بعد أن أوحى به إلى خصمه بطريقته الخاصة في التساؤل. وقد يكون الهدف من ذلك هو تعويض الخصم عن هزيمته، أو تخفيف وقْعها عليه، ولكن النتيجة الفعلية هي أنه يقضي على خصمه تمامًا بتواضعه (المزيف) هذا، ويصل تنكيله به إلى أقصى درجاته؛ إذ لا يقتصر على تفنيد الخصم وتصحيح معلوماته، بل يؤكد له أن هذه المعلومات قد أتت منه هو ذاته، وبذلك يصبح جهل الخصم مضاعفًا؛ لأنه يتوهم — لمجرد أنه كان يتكلم في صيغة الجواب وسقراط كان يتكلم في صيغة السؤال — أنه هو مصدر كل ما أسفرت عنه المناقشة من معلومات جديدة.
ولنحاول أن نبلور ما أسفر عنه تحليلنا هذا لطبيعة سقراط الأفلاطوني ومدى انطباق القواعد الصريحة لمنهجه على الطريقة الفعلية التي كان يتبعها في محاوراته:
-
(١)
فسقراط الأفلاطوني يدعي الجهل، ولكنه في حقيقته يعلم كل شيء، على الأقل بالنسبة إلى المجال الذي يدور فيه الحديث. وهو يزعم أنه يسأل طَوال الوقت على حين أنه في الحقيقة صاحب كل الإجابات.
-
(٢)
وسقراط هذا يمعن في إذلال خصمه إذ يوهمه بأنه مصدر كل جديد في المناقشة، خادعًا إياه بصيغة «الجواب» الظاهرية التي يستخدمها الخصم. وعلى ذلك، فعلى حين أن من الشائع وصف سقراط بأنه أعلم الجميع لأنه لا يعلم، ولكنه يعلم أنه لا يعلم، فمن الواجب أن يوصف أي خصم لسقراط بأنه أجهل الجميع لأنه لا يعلم، ولكنه لا يعلم أنه لا يعلم!
وربما ظن القارئ أن النتيجتين السابقتين مقصودتان؛ أي إن أفلاطون تعمَّد أن يستخلصهما ضمنيًّا، وإن لم يكن قد قال بهما صراحة. ولكن كل الدلائل تدل على أن هذه مسألة تناقض داخلي في المنهج الأفلاطوني ذاته.
-
(١)
ذلك لأن المفروض أن شخصية سقراط جامعة للفضائل الأخلاقية، أي إنه مُنزَّه عن النفاق والغرور. صحيح أنه يصحح معلومات الخَصم، ولكنه لا يتعمد إذلاله أو التنكيل به أو زيادة جهله، على حين أن سقراط كما نراه بالفعل يتواضع تواضعًا كاذبًا، ويعمل على زيادة إغراق خصمه في الجهل حين يوهمه بأنه مصدر كل جديد في المناقشة.
-
(٢)
وقد صرح أفلاطون نفسه بأن منهج سقراط هو التهكم والتوليد. والمقصود بالتوليد بطبيعة الحال هو استخلاص الحقيقة الكامنة في داخل الخصم ذاته، والتي ينطوي عليها عقله وإن كان يغشاها نوع من الضباب الذي يمكن تبديده بالتوجيه السليم. ولكننا إذا أدركنا أن الخصم في واقع الأمر سلبي تمامًا، وأن سقراط هو الذي يقوم بكل شيء، وهو الذي يتحمل عبء كشف الحقيقة كاملًا، لَتبيَّن لنا أن منهج سقراط الأفلاطوني لم يكن هو التهكم والتوليد، بل هو التهكم والمزيد من التهكم (وذلك حين يوهم خَصمه بأن ما أتى إليه من سقراط إنما تولد من داخله).
-
(٣)
والدليل القاطع على أن أفلاطون كان يأخذ هذا المنهج السقراطي الأصلي مأخذ الجِد، هو أنه بنى عليه نظرية من أكبر وأهم نظرياته، وهي نظرية «التذكر». ففي هذه النظرية تُعَد كل معرفة نوعًا من التذكر لحقيقة كانت كامنة في الذهن ولكنها نسيت بعد أن غلَّفها ظلام الاهتمام بالأمور الجزئية والمشاغل اليومية لهذه الحياة. وكل ما على الذهن في هذه الحالة هو أن يبدد الظلام المحيط بالحقيقة، لكي تتكشف هذه واضحة ناصعة. وقد ربط أفلاطون بين طريقة سقراط في «التوليد»، وبين كشف هذه الحقيقة الكامنة في كل ذهن. فإذا اتضح لنا أن التوليد السقراطي لم يكن في حقيقته توليدًا بأي معنًى من المعاني، وأن منهج سقراط الأفلاطوني كان يتضمن تلقينًا مباشرًا لمعلومات خارجية، أو إيحاء غير مباشر بمعلومات خارجية أيضًا، ألا يكون لنا الحق عندئذٍ في أن نشك في قيمة نظرية التذكر بأسرها؟ إن النظرية، بالطبع، قد نُقدت انتقادات حاسمة من وجهة نظر علم النفس ونظرية المعرفة بل والميتافيزيقا الحديثة أيضًا، ولكن الانتقاد الذي نوجهه إليها الآن مستمد من منطقها الداخلي ذاته، ومما تحمله في طياتها من تناقض: فهي تفترض صحة منهج التوليد، بحيث إنه إذا اتضح لنا بطلان هذا المنهج، أو عدم قدرته على تحقيق ما ينسبه لنفسه، وعجزه الواضح عن بلوغ أهدافه في المحاورات الأفلاطونية، لكان في ذلك هدم لأهم الأسس التي ترتكز عليها نظرية التذكر.
وعلى أية حال فقد كان هدفنا الرئيسي من الكلام عن نظرية التذكر، هو الإشارة إلى أن أفلاطون قد أخذ منهجه هذا مأخذ الجِد. بدليل بنائه هذه النظرية على أساسه. فهو لم يتصور على الإطلاق أن هذا المنهج يمكن أن يناقض نفسه، ويؤدي إلى عكس الأغراض المقصودة منه. إذا استخدم في محاورات مكتوبة أو مؤلفة، من ذلك النوع الذي تمثله محاورة «الجمهورية» تمثيلًا صادقًا.
(٣) المغالطات الأفلاطونية
من الواضح، في ضوء معالجتنا السابقة للمنهج الأفلاطوني، (أو السقراطي الأفلاطوني)، إن هذا المنهج لا يحقق الأغراض المقصودة منه، أو التي جرت العادة بين الشرَّاح على أن ينسبوها إليها، بل إنه في أحيان كثيرة يحقق أغراضًا مضادة لتلك التي تنسب إليه عادة.
والأمر الذي نود أن نشير إليه في هذا الجزء من بحثنا لهذا المنهج هو أن هناك غرضًا آخرَ، كان المنهج الأفلاطوني يهدف أساسًا إلى تحقيقه — وأعني به محاربة المنهج السفسطائي في الجدل — أخفق أفلاطون في تحقيقه على الصورة التي أراد إقناعنا بها.
فالسفسطائية، كما أرادنا أفلاطون أن نفهمها، هي طريقة في الجدل تتوصل إلى نتائج غريبة عن طريق المغالطة. والمغالطة استخدام غير مشروع للألفاظ والتركيبات اللغوية، يخرج بها عن حدود معانيها ووظائفها الأصلية ويؤدى — بالتالي — إلى جعل الاستدلال فاسدًا. وتبعًا للطريقة التي صور بها أفلاطون مختلف السفسطائيين، فقد كان هؤلاء مغالطين في كل الأحوال. على حين أن مهمة سقراط كانت إظهار عنصر المغالطة في جدلهم، والعودة بالجدل إلى طابَعه المنطقي السليم، الذي يكون فيه أداة لكشف الحقائق لا لإخفائها أو تشويهها.
ومع ذلك فإني أعتقد أن السفسطائية، بأوصافها هذه، لم تكن ظاهرة عارضة في التفكير اليوناني، قضى عليها سقراط أو أفلاطون بسهولة، وإنما كانت ظاهرة متغلغلة في صميم الفكر الفلسفي اليوناني، ومنه تسربت إلى الفكر الفلسفي بوجهٍ عام. ولا جدال في أن هذا تعميم شديد الخطورة. لا ينبغي أن يُساق بهذه البساطة دون تقديم الأدلة عليه. ومع ذلك فإن المقام لا يتسع هنا إلا للحديث عن العنصر السفسطائي في تفكير أفلاطون وحده. بل تفكيره من خلال محاورة واحدة هي «الجمهورية». وقد يرى القارئ أن النتائج التي نتوصل إليها بشأن هذه المحاورة لا تصلح للانطباق على فلسفة أفلاطون بوجهٍ عام، وبالتالي على الفلسفة بأسْرها. ومع ذلك ففي اعتقادي أن الأهمية الرئيسية لمحاورة «الجمهورية» في تفكير أفلاطون عملية التعميم الأولى هينة إلى حدٍّ ما، لا سيما وأن أوجه الشبه بين منهج هذه المحاورة ومنهج غيرها من المحاورات أمر لا يصعُب إثباته.
فلنحاول إذن أن نثبت قضيتنا السابقة بالنسبة إلى محاورة «الجمهورية» بضرب أمثلة للمغالطات الأفلاطونية فيها. وعلى الرغم من أن هذه الأمثلة لن تكون شاملة لكل ما في المحاورة من مغالطات، فسوف نتوسع فيها إلى الحد الذي يكفي لإقناع القارئ بهذه الفكرة التي قد تبدو له غريبة لأول وهلة، وهي أن في الأفلاطونية بالضرورة عنصرًا من السفسطائية.
-
(١)
فمنذ بداية المحاورة، تظهر المغالطات في تفنيد سقراط لتعريفات العدالة. فعندما يقترح أول تعريف للعدالة، وهو أنها الصدق في القول والوفاء بالدين، يكون التفنيد هو: لا ينبغي أن أوفي بديني — إذا كان سلاحًا — لشخص كان عاقلًا ثم أصابه الجنون، كما لا يمكنني أن أصدق شخصًا كهذا القول (٣٣١). ومع ذلك فقد كان في وسع محدثه أن يرد بقوله: إن معنى الدين ذاته ينتفي في حالةٍ كهذه، عندما يطرأ مثل هذا التغيير الأساسي على صاحب الدين.
ويلجأ سقراط إلى نفس الطريقة في تفنيد التعريف الثاني، وهو: العدالة إعطاء كل ذي حقٍّ حقه (٣٣١)، فيقول باستحالة رد وديعة السلاح إلى شخص أصبح مخبولًا، مع أن الوديعة حق لصاحبها. فقد كان من الممكن الرد عليه بأن هذا لم يَعُد صاحبها، وبأن ردها إليه لا يُعَد حقًّا له بعد كل ما لحِق به من التغيُّر، وبأن الطفل الوريث، وإن تكن ثروته حقًّا له، لا يتسلم ثروته بنفسه، إلخ. وبالاختصار، فهناك مغالطة في استخدام كلمة «حق» في هذا الصدد على الأقل، ومع ذلك فإن سقراط يمضي في هذه المغالطة، ويقبلها المستمعون إليه بسذاجة.
-
(٢)
وبعد المغالطة السابقة بقليل، يقول سقراط إن أقدر الناس على تسديد الضربات في الملاكمة هو أقدرهم على تجنبها، وأقدر القواد على سرقة خطط الأعداء هو أقدرهم على حماية جيشه. ومن ذلك يستنتج أن أقدر الناس على حفظ الشيء هو أقدرهم على سرقته (٣٣٣–٣٣٤). والمغالطة الواضحة هنا هي أن النتيجة تتعلق «بنفس الشيء». على حين أن الكلام في حالة القائد ينصبُّ على خُطط الأعداء من جهة وعلى حماية الجيش من جهة أخرى. وعلى ذلك يكون الاستنتاج النهائي، القائل إن العادل إذا كان قادرًا على حفظ المال، كان أيضًا قادرًا على سرقته، هو استنتاج واضح البطلان.
-
(٣)
وفي الكتاب الثاني (٣٧٦) يعرض أفلاطون رأيه القائل إن الحارس، في الدولة، ينبغي أن يجمع بين صفة الحكمة وصفة الحماسة الفياضة، ويرى أن الكلب يجمع بين هاتين الصفتين معًا؛ إذ إن «الكلب يثور كلما رأى شخصًا غريبًا، وإن لم ينله منه أي أذى، على حين أنه يرحب بمَن يعرفه، حتى لو لم يتلقَّ منه أي خير … ولا جدال في أن هذه صفة طيبة، بل هي صفة الفيلسوف الحق … لأنه لا يميز صديقه من عدوه إلا على أساس المعرفة أو عدم المعرفة وحدها. وأظنك ترى معي أن حيوانًا يميز ما يحبه مما يكرهه بمقياس المعرفة والجهل، ولا بدَّ أن يكون من محبي المعرفة والعلم … ولا شك أن محبة المعرفة ومحبة الحكمة، أي الفلسفة، شيء واحد.»
وواضح أن المغالطة هنا تنصب على معنى كلمة «المعرفة»؛ إذ إن القول بأن الكلب يسلك نحو أصدقائه وأعدائه على أساس المعرفة وعدم المعرفة، ينطوي على استخدام لكلمة «المعرفة» يختلف تمامًا عن ذلك الذي نقصده في مجال العلم البشري. فما يسمى بالمعرفة لدى الكلب هو سلوك آلي بحت، مبني على ارتباطات عضوية وحسية معينة، ولا عَلاقة له أبدًا بالمعرفة الأخرى.
ومن الجائز جدًّا أن يكون سقراط قصد الدعابة بهذا التشبيه؛ لأن من المحال أن يكون مقصده هو القول: إن الكلب فيلسوف. ومع ذلك فإن «أديمانتوس» لا يتنبه إلى المغالطة الموجودة — وهذا هو المهم في الأمر — وإنما يؤمن على استنتاج سقراط بطريقة لا تخلو من البلاهة، فيقول (ردًّا على القول بأن الكلب لا بدَّ أن يكون من محبي المعرفة والعلم) «إن الأمر لا يمكن أن يكون على خلاف ذلك!» (ولنلاحظ أن هذا هو نفسه أديمانتوس الذي قدَّم إلينا في بداية الكتاب الثاني خطابًا بليغًا حكيمًا تقمَّص فيه شخصية المدافعين عن الظلم وعبَّر عن آرائهم بكل اقتدار).
-
(٤)
ويضع سقراط في أواخر الكتاب الثاني قاعدة عامة تنص على أن «الأشياء حين تكون في أحسن أحوالها تكون هي الأقل تعرضًا للتغير أو التحول نتيجة لتأثير شيء خارجي، أعني مثلًا أن أصح الأجسام وأقواها هي أقلها تأثرًا بالرياح … إلخ.» (٣٨٠) وهنا مغالطة واضحة؛ لأن الحكم السابق قد يسري على أشياء معينة، ولكنه لا يمكن أن يكون حكمًا عامًّا على هذه الصورة؛ فمن الممكن جدًّا أن يكون أفضل الأشياء، في مجال معين هو أكثرها تأثرًا بما هو خارج عنه، وأشدها تعرضًا للتغير؛ إذ إن أفضل عين هي أشد العيون تأثرًا بالضوء وحساسية له، على حين أن العين غير المبصرة لا تتأثر به على الإطلاق، وأفضل أجهزة الاستقبال هو أكثرها تأثرًا بالموجات الصوتية … إلخ.
ومن الواضح، في حالة هذه المغالطة، أن أفلاطون يتأثر بمبدأ ميتافيزيقي أثير لديه، وهو المبدأ القائل إن الثبات خير والتغيُّر شر، ويحاول تطبيقه قسرًا على مجال الأمور الواقعية.
-
(٥)
وفي الكتاب الثالث يكرر أفلاطون مغالطةً مماثلةً للسابقة، فيقول: «في الموسيقى يؤدي التنوع إلى الفساد، وفي الجسم رأيناه يؤدي إلى المرض، أما البساطة فهي، على عكس ذلك، تؤدي في الموسيقى إلى غرس فضيلة الاعتدال في النفس، كما تؤدي بساطة الرياضة إلى بقاء الجسم صحيحًا» (٤٠٤). هذه المغالطة تطبيق للمبدأ السابق القائل إن التغيُّر والكثرة شرٌّ وفساد، والثبات والوحدة خير وصلاح، على مجال الموسيقى والرياضة البدنية. وقد يكون هذا المبدأ صحيحًا في حالة الرياضة البدنية؛ لأن الأنواع المعقدة من الأغذية (كما أشار أفلاطون قبل ذلك) تُلحق الضرر بالجسم. ولكن تشبيه بساطة التغذية أو طريقة تربية البدن ببساطة الموسيقى فيه مغالطة واضحة، نستطيع أن ندركها في عصورنا الحديثة بوضوح، حيث لا يرتبط جمال الموسيقى ببساطتها على الإطلاق؛ إذ قد يكون التعقد أحيانًا مقياسًا من مقاييس الجمال الفني في الموسيقى.
-
(٦)
وفي الكتاب الخامس «يقنع» سقراط سامعيه بأن على المحاربين أن يصطحبوا معهم أبناءهم إلى ميدان القتال، ويستعينوا بهم في أمور الحرب، حتى يتدرب هؤلاء الأبناء على فنون الحرب منذ حداثتهم ووسيلته إلى هذا «الإقناع» هي القول إن صانع الفَخَّار يجعل ابنه يشاهده ويراقبه ويساعده قبل أن يتعلم صنعة. فهل يكون المحارب أقل حرصًا على مستقبل ابنه من صانع الفَخَّار؟ (٤٦٦-٤٦٧) ومع ذلك فالتشبيه فاسد تمامًا؛ إذ إن صنعة الحرب — أعني صنعة القتل — شيء يختلف كل الاختلاف عن جميع الحرف الأخرى، ولا يمكن أن يعد اصطحاب المحارب لابنه معه «حرصًا» على مستقبله، بل قد يكون فيه قضاء عليه.
-
(٧)
وفي الكتاب العاشر (٦٠٨-٦٠٩)، يبرهن أفلاطون على خلود النفس، فيقول: إن عنصر الشر في الإنسان هو ما يدمره، والخير هو الذي يحفظه، وشر كل شيء هو الذي يهلكه (كالمرض في الجسم)، على حين أن خيره لا يمكن أن يهلكه. وعلى ذلك فإن النَّفْس، التي هي المبدأ الخير في الإنسان، لا تهلك أو تفنى.
وبغض النظر عما تحتشد به هذه الحُجة من مُسلَّمات غير مؤكدة، كالوجود الجوهري للنفس، وكون النفس هي المبدأ الخير في الإنسان، فإن فيها مغالطتين أخريين على الأقل: الأولى هي تأكيد أن خير أي شيء لا يهلكه، وهو تأكيد باطل؛ لأن الخير في المصباح، مثلًا، هو النور، واستمرار الإنارة يُهلك المصباح، وقل مثل هذا عن ألوف الأشياء الأخرى. والمغالطة الثانية هي الانتقال من الشر والدمار المعنوي، إلى الشر والدمار المادي (وهو المرض في الجسم)، دون أن يحس القارئ بهذا الانتقال؛ لأن الألفاظ المستخدمة في الحالتين واحدة.
•••
هذه الأمثلة — التي يمكن مضاعفتها مرات متعددة — تكفي لكي نستخلص المظاهر الرئيسية للمغالطة عند أفلاطون.
-
(أ)
فأفلاطون يلجأ إلى منهج الإهابة بالحالات الاستثنائية أو الشاذة، لكي يوقع خصومه في الخطأ. فإذا أورد الخَصم حُجة تسري على تسعة وتسعين في المائة من الحالات، فنَّدها سقراط بتركيز كلامه على الواحد في المائة الباقي؛ كالكلام عن العاقل الذي أصبح مجنونًا فلا يستحق أن ترد إليه وديعة السلاح. وقد أصبح «منهج الحالات الشاذة» هذا مألوفًا بين الفلاسفة منذ ذلك الحين، وهو يكون جزءًا أساسيًّا من ذلك الجهاز النقدي الذي يستخدمه الفلاسفة ضد خصومهم من أجل إلقاء ظِل من الشك على آراء قد تكون نسبة الصحة فيها طاغية. ومع ذلك فليست هذه بالطريقة السليمة في النقاش، بدليل أن العلم لا يلجأ إليها؛ ففي كثير من الأحيان يُعبِّر العالم عن قوانينه بقوله: «في الظروف العادية يكون كذا وكذا …» وهو تحفُّظ يقطع الطريق تمامًا على حُجة الاستثناء أو الحالات الشاذة.
-
(ب)
ويعتمد أفلاطون أيضًا على الاستخدام غير الكامل للمنهج الاستقرائي: فهو يذكر مجموعة من الأمثلة، ويصل منها إلى نتيجة عامة. وفي معظم الأحيان تكون هذه الأمثلة غير كافية على الإطلاق لتكوين استقراء سليم، أو للوصول إلى قاعدة عامة.
-
(جـ)
ومن أكثر وسائل المغالطة شيوعًا في تفكير أفلاطون، اتباع منهج التمثيل أو التشبيه؛ كتشبيه المحارب بصانع الفَخَّار في المثل رقم «٦» من قبل، أو تشبيه الحاكم بالطبيب، أو براعي الغَنم، وهي تشبيهات تتكرر مرارًا في محاورة الجمهورية. ففي حالات التشبيه هذه يكون من السهل دائمًا مغالطة الخصم الذي لا ينتبه إلى الاختلافات الدقيقة بين طرفَي التشبيه، وإلى أن الحُجة لا تعدو أن تكون «قياسًا مع الفارق». ولَمَّا كان أفلاطون كاتبًا ذا أسلوب أدبي حي، فقد حفلت كتاباته بهذا النوع من التشبيهات، الذي كان يلجأ إليه على الدوام في إثبات آرائه وإقناع قرَّائه أو مستمعيه بها. وأستطيع أن أقول — دون خوف من الزلل — إن نسبة الحالات الباطلة في طريقة التمثيل هذه تفوق بكثير نسبة الحالات الصحيحة.
-
(د)
ومن الوسائل الأخرى التي قد تكون أكثر خفاءً من السابقة، وإن لم تكن تقل عنها خطورة، القيام باستدلال طويل ذي مراحل متعددة، يتسرب الخطأ إليه بسيطًا في أول الأمر، ثم يستفحل تدريجيًّا حتى ينتهي الأمر إلى نتيجة باطلة تمامًا، يفاجأ القارئ بها في نهاية الاستدلال، ولا يدري كيف استطاع كاتب المحاورة أن يقوده إلى نتيجة كهذه دون أن يشعر. ومن أمثلة هذه الطريقة في المغالطة، تلك الحُجَّة الطويلة (٤٦٠–٤٦٢) التي أراد بها أفلاطون أن يثبت أن شيوعية النساء والأطفال هي أفضل القواعد التي يبنى عليها النظام الاجتماعي في الدولة. فهو يقدم سلسلة طويلة من الاستدلالات، تتسرب المغالطة إليها دون أن يشعر القارئ، ويتسع نطاقها بالتدريج حتى تؤدي في النهاية إلى النتيجة الممتنعة المعروفة.
فما هو موقف شرَّاح أفلاطون من هذه المغالطات؟ من الملاحظ أولًا أن معظم الشرَّاح يتنبهون إلى مغالطات الكتاب الأول من «الجمهورية» وحده، ويركزون اهتمامهم عليها، نظرًا إلى ما فيها من طابَعٍ واضحٍ صارخ، ويذهب البعض منهم إلى القول بأن الكتاب الأول قد أُلِّف في تاريخٍ سابق لتاريخ بقية المحاورة، نظرًا إلى ضعف تركيبه الاستدلالي. غير أن النماذج التي أوردناها من قبل للمغالطات كفيلة بإقناعنا بأن المغالطة لم تكن تقتصر على الكتاب الأول، بل إن لكل كتب المحاورة نصيبها من هذه المغالطات، مما يدل على أن الظاهرة تنتمي إلى طبيعة التفكير الأفلاطوني نفسه.
- (١)
أولها أنه ينطوي ضمنًا على الاعتقاد بأن معرفة قواعد الاستدلال الشكلي هي التي تعصم الفكر من الخطأ، مع أن القدرة على التفكير السليم بدون معرفة هذه القواعد أمر معروف لا يحتاج إلى أية إشارة خاصة.
- (٢)
وإذا كان صحيحًا أن الفكر يمكن أن يمارس بطريقة سليمة دون معرفة بقواعد الاستدلال الشكلي، فمن الصحيح أيضًا أنه، إذا شاء معرفة هذه القواعد، فلن يحتاج منها لتجنب المغالطة إلا لعدد ضئيل جدًّا من القواعد، التي تدور حول مبدأ التناقض ومجموعة قليلة من المبادئ الأساسية الأخرى.
- (٣)
ويستطيع المرء، إذا قرأ محاورة الجمهورية قراءة فاحصة، أن يدرك أن أفلاطون كان متنبهًا، عن وعي، إلى هذه المجموعة الرئيسية من المبادئ، التي ينبغي التزامها للحيلولة دون وقوع الفكر في الزَّلَل، بل إنه صرح بها تصريحًا واعيًا. فهو يُعبِّر عن قانون التناقض تعبيرًا دقيقًا إذ يقول: «من الجلي أن نفس الشيء لا يمكن أن يفعل أو ينفعل في جزء واحد منه بطريقتين متضادتين في آنٍ واحد، وبالنسبة إلى موضوع واحد» (٤٣٦). ولو كان أفلاطون قد التزم هذه القاعدة على الدوام لخلت محاوراته من الجزء الأكبر مما فيها من مغالطات. بل إنه ينبه محدِّثه، في موضع قريب من الموضع السابق، إلى ضرورة التحليل الدقيق لعناصر كل قضية، حتى يتبين إذا كانت متسقة مع ذاتها أم لا، فيقول: «الحق أن لممارسة الجدل … تأثيرًا فريدًا في الناس … لأنهم كثيرًا ما يدخلون دون وعي في مناقشات يتخيلون أنها مجادلات عقلية، مع أنها ليست إلا ثرثرة، وذلك لعجزهم عن أن يدرسوا موضوعهم بتقسيمه تبعًا لفروعه المختلفة، ولتعلقهم بالألفاظ في محاولتهم إيقاع محدثهم في التناقض» (٤٥٤). وفي هذه الحالة أيضًا يردد أفلاطون معيارًا لو كان قد طبَّقه لتجنَّب كثيرًا من المغالطات التي تميزت بها طريقته في الجدل.
فلنتأمل تلك اللحظة الدرامية البديعة التي شهِدَت تدخُّل ثراسيماخوس في المناقشة (في أواسط الكتاب الأول). فقد كان سقراط في الجزء السابق قد أورد في مناقشته مغالطات متعددة، ولكنه استطاع أن يقهر خَصمه على أية حال.
غير أن ثراسيماخوس، الذي ظل غضبه يتعاظم طَوال المناقشة السابقة، تدخل فجأة، بصورة بلغت من العنف حدًّا جعل لسان سقراط ينعقد رعبًا، وأخد يكيل الاتهامات لسقراط ومحدثه. في هذه اللحظة كان سقراط — كما يؤكد لنا هو ذاته في المحاورة — في حالة رعب حقيقي. وما دام الاتهام الرئيسي الذي وجَّهه إليه ثراسيماخوس هو التلاعب بالألفاظ، فالمفروض أن يكف — وهو في حالة الرعب — عن المغالطة اللفظية، وذلك حرصًا منه على حياته على الأقل. ومع ذلك فإن أول حُجة رد بها على ثراسيماخوس الشرس، الذي كان في ثورة غضبه، كانت فيها مغالطة! فسقراط يقول (وهو يرتعد) إنه، هو وبوليمارخوس، لا يجامل كل منهما الآخر؛ لأنهما لو كانا يبحثان عن قطعة من الذهب لما جامل أحدهما الآخر، بحيث يضيع على نفسه فرصة العثور عليها — فما بالك وهما يبحثان عن العدالة، التي هي أنفَس كثيرًا من الذهب؟ والمغالطة في هذه الحُجة واضحة؛ لأنه يشبه قيمة معنوية أو روحية — كالعدالة — بقيمة مادية كالذهب، ويتلاعب بلفظ «النفيس»، ولأن الذهب، كغيره من القيم المادية، ينقص قدره بالمشاركة، ومن هنا كان من الضروري أن يتنافس الناس عليه، أما العدالة فيزيد قدرها كلما شارك فيها عدد أكبر.
لا شك أن عودة سقراط إلى المغالطة في هذا الموقف العصيب دليل على أنها جزء من تكوينه، وعلى أنه لا يستطيع أن يخلص ذهنه منها. فحتى لو كانت جميع المغالطات السابقة في الكتاب الأول مقصودة، فإن هذه لا يمكن — بحكم الموقف الذي قيلت فيه — أن تكون متعمدة، وإنما هي علامة ضعف في القدرة الاستدلالية فحسب، ومن هنا نجد أن ثراسيماخوس كان على حق — إلى حدٍّ بعيد — حين اتهم سقراط، بعد قليل (٣٤١) بأنه مغالط.
وخلاصة هذا كله أن منهج أفلاطون كان يحمل في طياته — إلى جانب ما فيه من عناصر إيجابية — عنصر المغالطة، وأن هذا العنصر يظهر في محاورة الجمهورية، وإن لم يكن من السهل دائمًا كشفه وسط ذلك الحشد الهائل من الأفكار العميقة التي تحفل بها المحاورة. ويمكن القول إن أفلاطون قد ترك، في هذا الصدد، طابعه الدائم على الفلسفة، التي لم تستطع أن تتخلص منذ ذلك الحين من عنصر المغالطة، وإن كانت مع ذلك قد لقنت الإنسان مجموعة من أعمق أفكاره وأرفع مبادئه.
وانظر أيضًا للمؤلف نفسه:
The Theory of Education in Plato’s “Republic”, Oxford U.P., 1961, pp. 115-116; 135-136.