موضوع المحاورة
(١) تعقد تركيب محاورة الجمهورية
هذه الآراء ترتكز على بعض الشواهد، التي يتعلق بعضها بطريقة تفسير الشرَّاح لمضمون المحاورة ذاتها، ويتعلق بعضها الآخر بالإشارات التي وردت عن «الجمهورية» في محاورات أخرى، ولا سيما في «طيماوس»، حيث يعيد أفلاطون تلخيص آرائه في الكتب الأربعة الأولى وجزء من الكتاب الخامس، دون أن يشير إلى نهاية الكتاب الخامس أو الكتابين السادس والسابع.
ومن المؤكد أن أي شارح يقول بافتقار المحاورة إلى الوحدة، له بعض العذر في رأيه هذا؛ إذ إن المحاورة تعالج بالفعل عددًا كبيرًا من الموضوعات التي يصعب الربط بينها. بل إنها تعالج الموضوع الواحد في مواضع متباينة على نحو يبدو معه لأول وهلة أن هناك نوعًا من التشتت والتباين في وجهة النظر إلى هذا الموضوع. ومع ذلك فإن النظرة الفاحصة تثبت لنا أن هذا التباين الظاهري إنما هو تعبير عن طريقة أفلاطون الخاصة في تناول المسائل بطريقة متدرجة كل في سياقها الخاص، بحيث لا يتكشف تفكيره كاملًا إلا بعد انتهاء المحاورة كلها.
ومن المتفق عليه، بوجهٍ عام، أن الموضوعات الرئيسية التي تعالجها المحاورة في كتبها المختلفة هي
-
(١)
الكتاب الأول: مقدمة في الآراء الشائعة عن العدالة.
-
(٢)
الكتاب الثاني والثالث والرابع: العدالة في الدولة والفرد.
-
(٣)
الكتاب الخامس والسادس والسابع: نظم الدولة المُثلى وحكم الفلاسفة.
-
(٤)
الكتاب الثامن والتاسع: تدهور المجتمع والفرد.
-
(٥)
الكتاب العاشر (حتى ٦٠٨): الصراع بين الفلسفة والشعر.
-
(٦)
الكتاب العاشر (٦٠٨ إلى النهاية): مصير الإنسان وخلود النفس.
على أنه إذا كان هناك اتفاق عام حول هذه الخطوط العريضة أو الموضوعات العامة للمحاورة، فإن السؤال الأساسي يظل قائمًا، وأعني به: ما هو الموضوع العام للمحاورة كلها، أو ما هو الموضوع الرئيسي فيها؟ وما الغاية التي استهدفها أفلاطون من كتابة المحاورة؟ هذا السؤال كان مثارًا لخلافات شديدة بين شرَّاح أفلاطون، ولا جدال في أن تشعُّب الأبحاث التي تناولتها المحاورة قد ساعد على تقوية هذه الخلافات؛ إذ إن كلًّا يستطيع أن يجد في المحاورة ما يريد. وسوف يتضح لنا، بعد بحثنا المفصل لهذا الموضوع، أن كل شارح قد وجد بالفعل في المحاورة ما أراد، وأنها أتاحت لأذهان المفسرين فرصةً رائعة للقيام بعملية «إسقاط» فكري، يطبع فيه كل منهم على المحاورة ما يتجه إليه ميلُه الطبيعي، أو ما يود هو ذاته أن يكون موضوعًا رئيسيًّا، لا لفلسفة أفلاطون وحدها، بل للفلسفة بوجهٍ عام.
(٢) صعوبة تصنيف المحاورة
من المؤكد أن أية محاولة لتحديد الاتجاه العام لأفلاطون في محاورة الجمهورية من خلال أفكارنا الحالية، تصادف صعوبات لا يكاد يكون في وسع المرء أن يتغلب عليها. فإذا قلنا عن أفلاطون إنه كان قبل كل شيء فيلسوفًا يرمي إلى تأكيد فكرة الثبات والحملة على التغيُّر، نظرًا إلى ميوله الأليجاركية المحافظة، صادفتنا في هذا الصدد مسألة هامة لا تتمشى مع هذا التصنيف، وهي دعوة أفلاطون الصريحة القاطعة إلى زهد الحكام في المال، وتأكيده على نحو يفوق أي مفكر آخر، للمبدأ القائل: إن الحكم ينبغي أن يكون خدمةً لا انتفاعًا. وإذا قلنا إنه كان فيلسوفًا يدعو إلى الزهد، قابلتنا صعوبة أساسية، هي دعوته إلى شيوعية النساء بين أعلى طبقات الدولة، أعني طبقة الحراس والفلاسفة. أي إن أفلاطون يطبق هذا المبدأ على أفضل أنموذج للإنسان في نظره، ويجعل للجنس عند هذه الطبقة أهمية تصل إلى حد استخدامه حافزًا لهم على مزيد من العمل في أوقات السلم وفي أوقات الحرب بوجه خاص، فأين هذا من فكرة الزهد، ومن القول إن الجسم مقبرة النفس؟ وإذا قلنا إن أفلاطون يدعو إلى نظام عسكري صارم كنظام اسبرطة — وهو بالفعل قد اقترب من هذه الدعوة إلى حدٍّ بعيد — صادفتنا عقبة رئيسية هي تأكيده عنصر «الموسيقى»، أي التربية الأدبية والفنية في التعليم، ووضعه أنموذجًا للإنسان المثالي يكون جنسًا خشنًا صارمًا لا يتقن إلا فنون القتال، وإنما استهدف الجمع بين العناية بتدريب البدن والعناية بتهذيب النفس، أي بين قوة الجسد من جهة، ولطف الحس ورهافة الشعور وقوة العقل من ناحية أخرى.
هكذا يكاد يبدو من المستحيل تحديد موضوع معين تندرج تحته تلك الفلسفة التي عرضها أفلاطون في محاورة الجمهورية، في ضوء التقسيمات الحالية المعروفة للأنماط الفلسفية. ولا جدال في أن هذه الصعوبة تنعكس بوضوح على التفسيرات التي تقدم لمحاورة الجمهورية، والتي تبلغ قدرًا من التضاد يندر أن نجد له نظيرًا في حالة أي نص فلسفي آخر.
على أن مثل هذا التفسير النظري البحت إذا كان ممكنًا في محاورات مثل «بارمنيدس» و«طيماوس»، فإنه يبدو غير مقبول في محاورة ﮐ «الجمهورية» يظهر فيها الطابَع العملي بوضوح كامل. فمن الإسراف الشديد القول إن كل ما تضمَّنته هذه المحاورة من أبحاث في موضوع الدولة المُثلى والنظم الاجتماعية والتربية بمراحلها المختلفة إنما كان مجرد استطراد خارج عن الموضوع الرئيسي، أو تطبيق للأفكار النظرية في مجال فرعي ذي أهمية ثانوية، بل إن العكس هو الذي يبدو صحيحًا، أي إن الأفكار النظرية في المحاورة لم تكن إلا تبريرات لمواقف عملية كان أفلاطون يؤمن بها ويدعو إليها ويكرس حياته من أجل تحقيقها. وعلى أية حال فإن البحث المفصل لهذه المسألة إنما هو استباق لأمور ستتكشف تدريجيًّا خلال هذا الفصل. وحسبنا الآن أن نقول إن التفسير النظري البحت للمحاورة لا يلقى قَبولًا إلا من أقلية من شرَّاح أفلاطون، وأن أغلبية هؤلاء الشرَّاح تؤمن بأن هدف المحاورة كان في أساسه عمليًّا.
على أن القول إن للمحاورة هدفًا عمليًّا يثير بدوره إشكالًا جديدًا: فهل كان هذا الهدف العملي فرديًّا أم اجتماعيًّا؟ أو بعبارة أخرى، هل كان أفلاطون يتجه بمحاورته هذه إلى نشر مبادئ معينة تتعلق بالأخلاق أو التربية الفردية، أم أنه كان يرمي إلى التعبير عن آرائه السياسية والبحث فيما ينبغي أن تكون عليه شئون الدولة؟ الواقع أن الخلاف الرئيسي بين شرَّاح أفلاطون إنما ينحصر في هذه المسألة بعينها، لا في المسألة السابقة، أعني مسألة كون المحاورة بحثًا نظريًّا ميتافيزيقيًّا أم بحثًا ذا طابع عملي. فمع اعتراف أغلبية شرَّاح أفلاطون بأن المحاورة عملية في أساسها، نراهم يفترقون بوضوح في تحديد ماهية هذا الطابَع العملي، وهل هو التربية الفردية أم الإصلاح السياسي للدولة. وسوف نعرض كلًّا من هذين الرأيين باستفاضة؛ لكي نتوصل من خلال المقارنة بينهما إلى ما يمكن أن يقال عن الهدف الحقيقي لهذه المحاورة الرئيسية.
(٣) النفس البشرية بوصفها موضوعًا لمحاورة الجمهورية
في الكتاب الثاني من المحاورة، يبدأ أفلاطون بحثه في الدولة، أي في السياسة، بقوله: «هب أن شخصًا قصير النظر طلب إليه أن يقرأ حروفًا صغيرة عن بُعد، ثم أنبأه شخص آخر بأن من الممكن الاهتداء إلى نفس هذه الحروف في مكان آخر بحجم أكبر، فلا شك في أنها تكون فرصة رائعة له لكي يبدأ بقراءة الحروف الكبيرة وينتقل منها إلى الصغيرة؛ ليرى إن كانت مماثلة للأولى أم لا … والعدالة التي هي موضوع بحثنا، إن كانت توجد في الفرد بوصفها فضيلة له، فإنها توجد أيضًا في الدولة … وإذن ففي الصورة الكبيرة للعدالة يكون من الأسهل علينا إدراكها. لذا اقترح أن نبحث في طبيعة العدالة أولًا كما تتبدى في الدولة، ثم نبحثها بعد ذلك في الفرد، فننتقل بذلك من الأكبر إلى الأصغر، ونقارن بين الاثنين» (٣٦٨).
وفي نهاية الكتاب التاسع، أي عند انتهاء حديث أفلاطون الطويل في السياسة، يدور بين سقراط وجلوكون الحوار الآتي، عن الإنسان الحكيم الذي يعرف كيف ينظم حياته وفقًا للخير:
وإذن، فبعد المقدمة التي استغرقت الكتاب الأول وجزءًا من الكتاب الثاني، استهل أفلاطون بحثه الحقيقي في المحاورة بتشبيه يتضح منه أن هدفه الحقيقي هو النفس الفردية. وعند انتهاء هذا البحث، وقبل الاستطراد الأخير والخاتمة التي يمثلها الكتاب العاشر، يختم أفلاطون بحثه الرئيسي بعبارات تكشف بوضوح عن اهتمامه الأساسي بالنفس الفردية. وفي الحالتين، أي في الاستهلال وفي الختام، يبدو واضحًا أن السياسة لم تكن إلا وسيلة لغايةٍ أهم، هي الوصول بالفرد أو بالنفس البشرية إلى ما يريده لهما من كمال.
ففي البَدء يبدو كل شيء غامضًا مختلطًا: نفس بشرية معقدة غاية التعقيد، تبدو تصرفاتها على السطح الخارجي بسيطة واضحة المعالم، ولكن من وراء هذا الوضوح الظاهر دوافع متضاربة واتجاهات ونزعات متعارضة، ونسيج معقد من العَلاقات المتداخلة المتشابكة — كل ذلك في فرد واحد أو في نفس واحدة. فهل يتسنى لنا التعمُّق في أغوار هذه النفس، واستخلاص هذه العَلاقات المتشابكة والنزعات المتعارضة واحدة بعد الأخرى؟ إن المهمة تبدو عسيرة، بل مستحيلة، إذا حاولنا القيام بها على مستوى الكائن البشري الواحد؛ إذ إن هذا الكائن أعقد وأصغر من أن يُتيح لنا دراسة هذه العناصر المركبة الداخلة في تكوينه دراسة واضحة. وإذن فلنتأمل صورته المكبرة، أي المجتمع، حيث نجد هذه العناصر التي تزدحم بها النفس البشرية وقد ظهرت بمزيد من الوضوح والتميز على نطاق أوسع بكثير، وحيث يتسنى لنا دراستها وتحليلها بطريقة موضوعية؛ لأنها ماثلة أمامنا وبادية في كل لحظة لأعيننا.
وفي نهاية البحث نكون قد رسمنا النماذج المكبرة، وأوضحنا الصورة المُثلى والصور المشوهة للدولة، وكل ما علينا هو أن نضع هذه النماذج أمام الفرد ليختار منها ما يشاء، وفي يقيننا أن الحكيم هو الذي سيختار أنموذج الدولة المُثلى، ويحاول أن يرسم خطوط «دولته الباطنة» على أساس هذا الأنموذج وحده، الذي هو قائم «في السماء لمن شاء أن يطالعه، ويبعث مثيله في نفسه بعد تأمله». وإذن، فلم يكن المقصود من كل ما قيل عن الدولة، إصلاح دولة موجودة بالفعل، أو حتى رسم خطوط دولة مثالية ينبغي أن تقتدي بها الدول القائمة، وإنما كان المقصود من كل ذلك عملية التكبير التي أشار إليها أفلاطون في البداية، بحيث يجد الفرد أمامه صورة موضوعية موسعة مكبرة لنفسه وقد انطبعت على العالم الخارجي. ومن هنا فلا أهمية لتحقق هذه الدولة أو حكامها أو مشرعيها. إنها، بالاختصار، دستور للنفس البشرية الفردية، لا للدولة.
ليس من المستغرب إذن، إذا كان أفلاطون قد بدأ بحثه الطويل في السياسة وختمه بمثل هذه الأقوال التي يؤكد فيها أن السياسة لم تكن عنده إلا وسيلة لغاية تتجاوزها، وهي تربية النفس البشرية، أن نجد مجموعة من أكبر شرَّاح أفلاطون يؤكد أفرادها أن محاورة الجمهورية لم تكن سياسية، وإنما كانت في أساسها محاورة أخلاقية أو تربوية.
وعلى الرغم من أننا لا نود — في المرحلة الحالية من بحثنا لهذا الموضوع — أن ندخل في تفصيلات نقدية، فلا مفر في هذا الصدد من إبداء ملاحظة تثيرها الفكرة القائلة إن الهدف الرئيسي للمحاورة هدف تربوي؛ ذلك لأن المُثل العليا التربوية تتجه بطبيعتها إلى الشمول، ولن تكون لها قيمة إذا كانت بطبيعتها تقتصر على فئة محددة؛ لأن هذا الاقتصار يعني ترك بقية المواطنين في حالة من الجهل والافتقار الكامل إلى التهذيب. فالمُثل العليا للثقافة، وقيم التهذيب والكمال الأخلاقي، تتعارض مع النزوع إلى الخصوصية. ومع ذلك فقد كان برنامج أفلاطون بطبيعته موجهًا إلى المواطنين الأحرار فحسب، بل إلى الفئة العليا منهم، على حين أنه لم يذكر شيئًا عن المجموع الكبير من الناس. وهذا السكوت يعني أن هؤلاء سيظلون على جهلهم وغفلتهم وافتقارهم إلى التهذيب. فكيف إذن تكون لقيم التربية والثقافة المكانة العليا في محاورة الجمهورية، في الوقت الذي كانت فيه هذه القيم موجهة أساسًا نحو فئة خاصة لا تشمل إلا قلة مختارة من المجتمع؟
(٤) السياسة بوصفها الموضوع الرئيسي للمحاورة
إذا كان التفسير السابق، الذي يجعل من النفس الفردية، ومن المُثل العليا التربوية التي تساعد على تحقيق كمالها، يرتكز على تصريحات مباشرة قال بها أفلاطون ذاته، فإن التفسير السياسي، الذي نعرضه في هذا القسم، يرتكز على حقيقة أخرى لا يمكن إنكارها، وهي أن الموضوعات السياسية كانت لها المكانة العليا في المحاورة، وأن هذه الموضوعات تحتل — من الناحية الكمية الخالصة على الأقل، أي من حيث مقدار الصفحات التي خصصت لمعالجتها — الأهمية الرئيسية في المحاورة.
(٥) ماذا يمكن أن يكون موضوع المحاورة؟
لا جدال في أن مناقشة الرأيَين السابقَين تكشف لنا عن موقف غريب كل الغرابة: فأمامنا عمل فلسفي واحد، يقف الشرَّاح إزاءه موقفَين متناقضَين تمامًا؛ إذ يراه فريق منهم عملًا يستهدف إصلاح النفس الفردية وتربيتها ويتخذ من ذلك موضوعًا وحيدًا، على حين أن الفريق الآخر يعده عملًا سياسيًّا لا مكان للفرد فيه إلا من حيث وسيلة تُعين المجتمع الكامل على تحقيق الأهداف التي رسمها له الفيلسوف. ويؤكد الفريق الأول أن ما تضمنته المحاورة من إشارات سياسية إنما هو أنموذج خيالي لا يمكن أن يتحقق، ولم يكن أفلاطون يقصد منه أن يتحقق، على حين أن الفريق الثاني يُصر على أن المحاورة تتضمن برنامجًا سياسيًّا أريد تحقيقه، وتعكس تجارب فعلية مَرَّ بها أفلاطون، ومرت بها المجتمعات المعاصرة له، وترسُم طريق الإصلاح الذي كان الفيلسوف يؤمن به ويكرس حياته للدعوة إليه.
ومن الطبيعي، والأمر على هذا النحو، أن يحاول المرء اتخاذ موقف معين من هذه التفسيرات التي وصلت — كما قلنا — إلى حد التناقض الكامل. ولسنا ندَّعي أننا سوف نحسم هذا الخلاف الحاد؛ إذ إن هذا الخلاف يرجع — كما سيتضح لنا فيما بعد — إلى جذور عميقة لا يمكن اقتلاعها. على أنه لن يكون من الصواب — من جهة أخرى — أن نقف مكتوفي الأيدي ونقتصر على مشاهدة صراع الشرَّاح عن بُعد، ونتصور أن هذه الثنائية الحادة ينبغي أن تُقبَل على عِلَّاتها دون مناقشة. بل إن المجال يسمح — في رأيي — بإلقاء بعض الضوء على طبيعة هذا الخلاف الأساسي، وإرجاع التناقضات إلى أصولها العميقة، ومحاولة تحديد العَلاقة الحقيقية — لا العَلاقة الظاهرية — بين الفريقَين المتنازعَين.
(٥-١) الفرد والمجتمع
لا جدال في أن للقول بأن النفس الفردية وتربيتها هي الموضوع الرئيسي لمحاورة الجمهورية، أساسًا ثابتًا من نصوص المحاورة نفسها، كما قلنا من قبل؛ ذلك لأن الجزء الرئيسي من المحاورة يبدأ بنصٍّ يؤكد فيه أفلاطون أنه يهدف إلى بحث النفس البشرية من خلال صورتها المكبرة، وهي المجتمع. ومع ذلك، فهل يصح أن يكتفي التحليل العلمي بنص أقوال أفلاطون، ويحملها على معانيها الظاهرة؟ أليس من الجائز أن يؤدي هذا التحليل إلى نتيجة مضادة لما قال به أفلاطون ذاته؟
إن أفلاطون، حين بدأ حديثه الطويل بتشبيه الفرد والمجتمع بالحروف الصغيرة والحروف الكبيرة، وأكد أن دراستنا للمجتمع لن تكون إلا دراسة للفرد، ولكن على نطاق أوسع يعيننا على إدراك دخائل النفس البشرية والسَّير في دروبها الملتوية المعقدة بسهولة أكبر، حيث بدأ أفلاطون على هذا النحو؛ جعل المحاورة كلها متوقفة على صحة هذا التشبيه، بحيث لا يكون لنا مفر من إعادة النظر في موضوع المحاورة وهدفها لو اتضح لنا أن هذا التشبيه باطل. فهل يصمد هذا التشبيه بالفعل للاختيار الدقيق؟
-
(أ)
في اعتقادي أن هذا التشبيه ينطوي بدَوره على نوع من المغالطة — على النحو الذي نبهنا إليه في الفصل السابق — وإن كانت هذه مغالطة تبلغ من الدقة والخفاء حدًّا لا يسهل معه كشفها. ففي حالة الحروف، تكون الحروف الكبيرة بالفعل أسهل قراءة من الحروف الصغيرة. ولكن هل العدالة في الدولة أو في المجتمع الكبير أوضح مما هي في الفرد الواحد؟ ألا يجوز القول إن تشابك العَلاقات في الدولة، وتعقُّدها الشديد، وتضارب المصالح والاتجاهات فيها، كفيل بأن يجعل عملية «التكبير» هذه مؤدية إلى التعقيد، لا إلى التبسيط؟
-
(ب)
ومن جهة أخرى، فقد كان من الواجب، قبل أن يقدم أفلاطون هذا التشبيه ويجعل له مثل هذه الأهمية، أن يثبت لنا أن هناك توازنًا حقيقيًّا بين الفرد والدولة، أي إن الفارق بينهما ليس إلا فارقًا في المقدار أو الكَم فحسب، وأن الدولة ليست إلا فردًا مكبرًا. ومع ذلك فإن هذه الموازاة فكرة باطلة؛ لأن من مبادئ البحث الاجتماعي أن المجتمع كيان «فريد في نوعه Sui-generis» وأنه ليس مجرد تكبير للفرد، وليس مساويًا لمجموع من فيه من الأفراد، وإنما هو حقيقة مستقلة لها كِيانها الخاص. ولنقل — بتعبيرٍ حديث — إن أفلاطون يُنكر هنا أصالة الظاهرة الاجتماعية، ويخلط بين مجالَي السياسة الاجتماعية والأخلاق الفردية، إذ يجعل الأولى مجرد امتداد يوازي الثانية.
-
(جـ)
وفضلًا على ذلك، فلو كانت محاورة الجمهورية بحثًا في العدالة الفردية، ولو لم يكن الجزء السياسي فيها سوى «تكبير» لمنظور العدالة في الفرد فحسب، لكان من الواجب أن ينتهيَ البحث بنهاية الكتاب الرابع (٤٣٤)؛ لأنه توصل عندئذٍ إلى معرفة ماهية العدالة الفردية وطبيعتها، على أساس تطبيق المبدأ القائل إن العدالة هي «أداء كلٍّ لوظيفته» على الفرد والمجتمع معًا. فهذه النتيجة كانت إذن كافيةً لتحقيق الغرض الذي حدَّده أفلاطون عندما بدأ هذا البحث. ومع ذلك فإن الكتاب الخامس يبدأ باستطراد عن نظام الأسرة في المجتمع، ونظام إنجاب الأطفال وعَلاقتهم بآبائهم؛ أي موضوع شيوعية النساء والأطفال. وهذا موضوع سياسي واجتماعي بحت؛ أي إنه ليس موضوعًا يبحث على مستوى المجتمع لكي يطبق بعد ذلك على مستوى الفرد. وبعبارة أخرى فإن أفلاطون لا يعالج هذا الموضوع الأخير إلا استكمالًا لصورة المجتمع المثالي الذي سبق له أن رسم بعض خطوطه الرئيسية، لا لأنه سيقدم فيه مبدأ يمكن تطبيقه فيما بعد على الفرد، أو يساعد على فهمنا لطبيعة النفس الفردية. وإذن، فلو كان من الجائز القول إن بحث العدالة في المجتمع كان حتى الكتاب الرابع وسيلةً لمعرفة العدالة الفردية، فإن هذا البحث يتخذ بعد ذلك صورة دراسة سياسية مقصودة لذاتها. صحيح أن أفلاطون يعود بعد مرحلة طويلة (في الكتابين الثامن والتاسع) إلى فكرة الموازاة بين الفرد والدولة، حين يعرض للأنواع الصالحة والفاسدة من الحكومات، وما يقابلها من أنواع الأفراد، ولكن الاهتمام الذي يُبديه عندئذٍ بالحكومات والمجتمعات، والتفصيلات التي يأتي بها في هذا الصدد، يقنعنا بأن الكلام عن الفرد هو الذي يحتل أهمية ثانوية، وهو الذي يقال على سبيل التشبيه أو التمثيل بما يحدث في الدولة، لا العكس؛ أي إن الدولة في هذه الحالة هي أساس البحث، وليس البحث في الفرد إلا نتيجة ثانوية مستخلصة منها.
-
(د)
في ضوء الحقائق السابقة، نستطيع أن نقدم فرضًا نعتقد أن له درجةً عاليةً من الاحتمال — وهو أن حديثه عن الدولة بوصفها منظورًا مكبرًا للفرد إنما كان وسيلة درامية اتبعها أفلاطون لكي يمهد للبحث في السياسة، وهو البحث الذي كان مقصودًا لذاته. وليس هذا بالأمر المستبعد على كاتب له مقدرة أفلاطون الدرامية: إذ إن من الممكن جدًّا أن يقدم إلينا موضوعه الرئيسي في صورة استطراد، وأن يعود مِن آنٍ لآخر إلى تذكيرنا بأن الفرد هو المقصود آخر الأمر، على حين أن الأبحاث السياسية — التي تقدم إلينا في صورة استطراد، أو وسيلة تخدم الغاية الأساسية وهي الفرد — تكون هي في واقع الأمر الهدف الحقيقي من بحثه.
(٥-٢) الواقع والمثال
ومع ذلك، فإن من الممكن أن نهتديَ في المحاورة إلى نصوص أخرى تؤيد الرأي المضاد، القائل إن أفلاطون كان يتحدث وفي ذهنه إمكان التحقيق الفعلي لجمهوريته، وإنه وضع أنموذجها على أساس أنماط معينة مرَّت به في تجربته الفعلية. فهو مثلًا يعدد أنواع الحكومات التي تحدث عنها فيقول: «إن أولها هي الحكومة المشهورة في كريت واسبرطة، وهي الحكومة التي يشيع الإعجاب بها. والثانية في الترتيب وفي المكانة تسمى بالأليجاركية، وهي حكومة فيها عيوب عديدة. وتليها حكومة هي عكس السابقة، وأعني بها الديمقراطية. وأخيرًا حكومة الطغيان …» (٥٤٤). ويكاد يكون من المؤكد أن أفلاطون كان يعني بالديمقراطية الحكومية الأثينية، وبالطغيان حكومة ديونیزوس في صقلية، مثلما أنه تحدث صراحةً عن حكومة كريت واسبرطة. فهو هنا يشير إلى تجربة واقعية مرَّت به، وتشهد عليها وقائع حياته ذاتها. ومحاولاته المستمرة تحقيق حكومته في صقلية، وجهوده الدائبة في سبيل غرس مبادئه في نفس حاكمها، كما يشهد على ذلك نشاط أفراد الأكاديمية في ميدان السياسة، واشتراكهم في أنواعٍ شتى من الانقلابات والثورات.
ولكن الأهم من ذلك كله، هو ذلك النص الذي يتحدث فيه أفلاطون عن حكم الملك الفيلسوف. فهو يمهد لهذا النص بمقدمة طويلة تشوق القارئ وتشعره بأن شيئًا عظيم الأهمية يوشك أن يقال. بل إن المرء ليشعر بأن المحاورة ستبلغ ذروة عليا بعد قليل. وبالفعل يتحدث سقراط عن حكم الفلاسفة كما لو كان هو النهاية الحاسمة لشرور البشر، والبداية الحقيقية للعصر الذهبي للإنسان، ويعلن مبدأه الرئيسي هذا بلهجة تنبؤية جادة إلى أبعد حد: «ما لم يصبح الفلاسفة ملوكًا في بلادهم، أو يصبح أولئك الذين نسميهم الآن ملوكًا وحكامًا فلاسفة جادين متعمقين، وما لم تتجمع السلطة السياسية والفلسفة في فرد واحد، وما لم يحدث من جهة أخرى، إن قانونًا صارمًا يصدر باستبعاد أولئك الذين تؤهلهم مقدرتهم لأحد هذين الأمرين دون الآخر من إدارة شئون الدولة — ما لم يحدث ذلك كله، فلن تهدأ، يا عزيزي جلوكون، حدة الشرور التي تصيب الدولة، بل ولا تلك التي تصيب الجنس البشري بأكمله. وما لم يتحقق ذلك، فلن يتسنى لهذه الدولة التي رسمنا هنا خطوطها العامة أن تولد، وأن يكتمل نموها — ذلك ما كنت أتردد في إعلانه منذ وقت طويل، إدراكًا مني لمدى مخالفته للآراء الشائعة. ومع ذلك فمن الصعب أن يتصور المرء كيف يمكن أن يتحقق الخير للدولة أو للفرد على أي نحو آخر» (٤٧٣).
فهنا إذن حديث صريح عن تحقق تلك الدولة التي رسم خطوطها العامة، ولم تكن فكرة الحاكم الفيلسوف إلا الوسيلة التي اعتقد أفلاطون أنها هي الكفيلة بنقل أنموذجه إلى مجال الواقع، كما لم تكن محاولاته الدائبة في صقلية إلا تطبيقًا منه لهذا المبدأ في ميدان السياسة الفعلية. وعلى ذلك، فقد كان أفلاطون، على الرغم من كل ما قاله عن أنموذجه الذي يوجد «في السماء»، أو في باطن النفس البشرية، يؤمن بأن أنموذجه هذا يمكن أن يتحقق، ويرسم الخطط الكفيلة بتحقيقه، ويسعى إلى تنفيذها بالفعل.
(٥-٣) الفلسفة الظاهرة وعواملها الخفية
ومع ذلك، فحتى لو فرضنا أن أفلاطون لم يتحدث علنًا إلا عن استحالة تحقيق مدينته المُثلى، فهل يعني ذلك أن ملامح مدينته هذه مستمدة من خياله أو من تفكيره النظري وحده؟ الواقع أن الفيلسوف، حتى حين يظن أنه يستخدم عقله المحض في تشييد بناء فكري معين، لا بدَّ أن يكون قد استخلص عناصر هذا البناء من تجربة فعلية مرت به. صحيح أنه يعرض علينا أفكاره كما لو كانت مستمدة من تجاويف ذهنه وحدها، بل يظن أن مما يشرفه أن تكون كذلك، وأن مما يحط من قدره أن يكون قد تأثر بعوامل خارجية. ومع ذلك فإن كشف العَلاقات والعوامل الخفية التي لا بدَّ أنها قد أثرت فيه دون أن يشعر، وتدخلت في تحديد طابع ذلك الفكر الذي يظنه «تلقائيًّا». هي بعينها مهمة البحث والتحليل العلمي، على حين أن الاقتصار على ترديد ما يصرح به الفيلسوف لشرحه وتوسيعه، ينبغي أن يُعَد نقصًا في القدرة التحليلية.
ولنضرب مثلًا يوضح ما نعنيه بتفسير آراء الفيلسوف من خلال تصريحاته الظاهرة، وتفسيرها من خلال العوالم الخفية المتحكمة فيها. فمن المعروف أن أفلاطون يقدم تقسيمًا ثلاثيًّا للنفس، مناظرًا لتقسيم سياسي للدولة إلى ثلاث طبقات … وهناك من الشرَّاح مَن يرون أن التقسيم الثلاثي للنفس هو الأصل، وهو الذي تولَّد عنه التقسيم الثلاثي للدولة عندما طبق على مجال السياسة، على حين أن شرَّاحًا آخرين يرون عكس ذلك، أي إن التقسيم الثلاثي للطبقات هو الأصل، وهو الذي أثر في نظرته إلى النفس البشرية وأقسامها.
هذا المثل واضح الدلالة بالنسبة إلى ما نقصده؛ فالتفسير الميتافيزيقي، الذي يرجع السياسة ذاتها إلى أفكار نظرية خالصة، يبدو أقرب إلى تعاليم الفيلسوف نفسه؛ إذ إن كل فيلسوف، ولا سيما أفلاطون، يود أن تبدو تعاليمه مجرد آراء نظرية ابتدعها ذهنه وحده، وليس لها من أصل سوى قدرته الخلاقة الخاصة. ومن هنا فإن هؤلاء الشرَّاح عندما يسايرونه، ويجعلون للأفكار الميتافيزيقية المكانة الأولى في المذهب، يصورون الأمر كما لو كان كل شيء قد انبثق من ذهن الفيلسوف دون أية مقدمات، ولا يقومون بأية محاولة للتعليل. صحيح أن تفسيرهم قد يبدو «أرفع» و«أنبل»، وهو قطعًا أقرب إلى ما يميل إليه الفيلسوف ذاته. ومع ذلك فهو — على الرغم من كل ما يبدو عليه من مظاهر العمق — أقرب إلى السطحية من أي تفسير آخر يحاول أن يَنفُذ إلى ما وراء المظهر الخارجي للأمور.
وفي اعتقادي أن أي تعليل خير من عدم التعليل. فإذا كان هذا التعليل يستند إلى أساس معقول، كان دون شك أفضل من تلك التفسيرات التي تكتفي بقَبول ظواهر الأمور. وحين يكتفي مؤرخ الفلسفة بالنظر إلى أفكار فيلسوف معين على أنها خلق من العدم، أو على أنها تفكير نظري مُحلِّق في الهواء، بلا مقدمات أو ارتباطات، ودون «بيئة» اجتماعية أو حتى عقلية يعيش فيها الفيلسوف ويتبادل التأثير معها، وحين يرى في مذهبه نتاجًا نظريًّا صِرفًا لا عَلاقة له بالعالَم العَينيِّ الذي يعيش فيه، فإنه يقدم إلينا دون شك صورةً ناقصة، وربما مُشوَّهة، لهذه الأفكار، ويبتعد بتفسيره تمامًا عن الرُّوح العلمية كما ينبغي أن تكون.
ولا جدال في أن محاولة التعليل والتحليل العلمي تصطدم برغبة الفيلسوف في أن يقدم إلينا مذهبه في صورة بناءٍ نظريٍّ صِرف. ومع ذلك فإن هذا التحليل العلمي يصل إلى العوامل الخفية التي تحكمت في تفكير الفيلسوف دون أن يكون قد شعَر بها — في كثير من الأحيان — عن وعي. ففي حالة أفلاطون مثلًا، نجد أن ارتباطاته العائلية والشخصية التي جعلته يتصل اتصالًا وثيقًا بعدد من أكبر ساسة أثينا في عصره، وكذلك حياته الشخصية، وأسفاره وتجاربه في صقلية وجنوب إيطاليا — هذه العوامل كلها لا بدَّ قد أثَّرت في تفكيره. فإذا وجدنا في ذلك التفكير ذاته عناصر يمكن إرجاعها — بمجهود تحليلي بسيط — إلى تلك العوامل، فعندئذٍ يصبح مثل هذا التعليل أمرًا تفرضه الرُّوح العلمية على الباحث، على حين أن الاكتفاء بتصريحاته ومواقفه المُعلَنة وحدها يُعد قصورًا لا شك فيه. مثال ذلك أن أفلاطون يؤكد، على المستوى الميتافيزيقي، فكرة الثبات والأزلية، ويذهب، على المستوى الأخلاقي، إلى أن التغيُّر والكثرة شر وفساد. ومن جهة أخرى فإن لديه، على المستوى السياسي، ميلًا واضحًا إلى النزعة المحافظة، وإلى تأكيد الارتباط بين ارتفاع مكانة الدولة وبين درجة احتفاظها بقوانينها ونُظمها ثابتة لا تتغير. بل إنه ليذهب إلى أن تغير الأساليب والأوزان الشعرية والمقامات الموسيقية يؤدي إلى فساد الدولة ذاتها. أليس لنا الحق، في هذه الحالة، في القول بوجود ارتباط بين الجانبين العملي والنظري في تفكير الفيلسوف؟ ألا يكون الأقرب إلى الرُّوح العلمية — التي تنزِع إلى جمع أكبر عدد من الظواهر تحت قانون واحد أو تفسير واحد — أن نقول إن تأكيد الثبات والأزلية والواحدية على المستوى النظري يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالرغبة في المحافظة على ثبات القوانين ووحدتها، والحيلولة دون حدوث تغير على المستوى السياسي والعملي؟ أو لنتساءل بعبارة أخرى: أيهما أقرب إلى الرُّوح العلمية الصحيحة: ذلك الشارح الذي يرى كلًّا من هذه الظواهر منفصلة عن الأخرى، أم ذلك الذي يحاول الربط بينها، فيرجع الأفكار النظرية إلى الاتجاهات العملية الواضحة لدى الفيلسوف، أليس الغرض الأخير، على الأقل، وجهة نظر اجتهادية تستحق البحث والاحترام، واحتمالًا مرجحًا ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار؟
ونستطيع أن نمضيَ أبعد من ذلك في إيضاح ما نرمي إليه، فنقول: إن أفلاطون ذاته، وإن كان — مثل معظم الفلاسفة — يفضل التفسير النظري البحت لآرائه الفلسفية، قد قدم إلينا، ربما دون أن يشعر، مثلًا رائعًا يمكن الاستشهاد به للتدليل على الفكرة السابقة. فهو في نهاية الكتاب الخامس وبداية السادس من المحاورة يعرف الفلسفة بأنها البحث في الوجود الثابت الذي لا يتغير، وبأنها معرفة الحقائق الأزلية لا الصور المتغيرة للأشياء. وهذا، بطبيعة الحال، هو التعريف الكلاسيكي الذي يستند إليه جميع أنصار الاتجاه النظري البحت في الفلسفة. ومع ذلك فإن السياق الذي يرد فيه هذا التعريف لا يدع مجالًا للشك في أن الاعتبارات العملية هي أساس تعريفه هذا؛ ذلك لأنه كان في صدد شرح رأيه القائل إن الفلاسفة هم أصلح الناس للحكم، وكان تعريفه السابق للفلسفة مرتبطًا بهذه الفكرة ارتباطًا وثيقًا. ولكنه لم يقتصر على التبرير النظري البحت لهذا التعريف، وإنما أوضح مبرراته العملية على نحوٍ قاطع بعد تقديمه مباشرة؛ فهو في مستهل الكتاب السادس يقول إن من الواجب اختيار حراس الدولة «من بين أولئك الذين يتبين أنهم قادرون على حفظ القوانين والنظم في المجتمع» (٤٨٤). وبذلك يكون الاتجاه الحقيقي لتسلسل تفكيره هو: أن المجتمع الذي أدعو إليه مجتمع محافظ يثبت نظمه ويتجنب تغيير قوانينه. وإذن فمن الواجب أن يحكم هذا المجتمع فيلسوف؛ لأن الفلسفة تهتم بالوجه الأزلي الثابت للأشياء؛ أي إن الفلسفة تأبى التغيُّر مثلما أن المجتمع الذي أدعو إليه ينبغي ألا يكون متغيرًا، وهكذا يظهر بوضوح أن اهتمام الفلسفة بما هو أزلي وثابت، وبالحقيقة اللامتغيرة، إنما يرتبط في ذهن أفلاطون ذاته بالنظرة المحافظة التي ترمي إلى الإبقاء على ثبات قوانين المجتمع وحمايتها من التغيُّر. ومن الجائز أن يحاول البعض إنكار وجود هذا الارتباط في ذهن أفلاطون. ولكن التعاقب المباشر للمطلبَين، النظري والعملي، في النص الذي أشرنا إليه الآن، هو في ذاته رد حاسم على دعاة الفصل بين الوجه العملي والوجه النظري في تفكير الفيلسوف.
(٥-٤) الاستنتاج
تكشف لنا المناقشات السابقة عن حقيقة على جانب كبير من الأهمية؛ ذلك لأن التقابل بين التفسير الفردي والاجتماعي، أو التفسير النظري والعملي. إنما هو في حقيقته اختلاف في «مستويات» التفسير؛ أعني اختلافًا بين المستوى الظاهر لأقوال الفيلسوف الصريحة، كما يود أن تعرض على قرائه، وبين المستوى الأكثر خفاءً للعوامل المتحكمة في تفكير الفيلسوف، والتي قد يكون الفيلسوف شاعرًا بها، أو ببعضها، وقد لا يكون. والمستوى الأخير أقرب إلى الطابَع العلمي، دون شك، من الأول. صحيح أن التفسيرات فيه قد تخطئ، وقد لا تكون منطبقة كل الانطباق، أو قد تكون مبالغًا فيها، ولكن هذا راجع إلى أن المهمة التي يأخذها أصحاب هذا النوع من التفسير على عاتقهم أشق من مهمة أصحاب النوع الأول، الذين يكتفون بموقف الفيلسوف ذاته وبتصريحاته الظاهرة.
والحق أن النتيجة التي توصلنا إليها من مناقشاتنا السابقة بأسْرها هي أن من المستحيل أن نفصل، في محاورة كالجمهورية، بين الجانب النظري والجانب العملي في تفكير الفيلسوف، أو أن نصور أفكار الفيلسوف على أنها نبات شيطاني لا جذور له إلا في التربية الذهنية الخاصة للفيلسوف نفسه. ففي المحاورة نجد تعاقبًا رائعًا بين أشد الأبحاث النظرية تجريدًا، وبين أقرب المناقشات إلى الطابَع العملي. وفيها يمتزج التفكير الخيالي المسرف بالوصف الواقعي الدقيق امتزاجًا لا نظير له. وفيها تعالج الميتافيزيقا والأخلاق والسياسة والفن جنبًا إلى جنب، دون أن يشعر المرء بأية صعوبة في الانتقال من أحد هذه الموضوعات إلى الآخر.
إن الأمر المؤكد هو أن المحاورة تتجاوز التصنيفات المألوفة إلى أخلاق أو اجتماع أو سياسة أو ميتافيزيقا. فأفلاطون يرفع فيها كل حد فاصل بين البحث النظري البحت والبحث العملي والاجتماعي والسياسي. وإذا كان تصنيف المحاورة أو تحديد موضوعها يُعَد اليوم مشكلةً، فما ذلك إلا لأن هذه التقسيمات المصطنعة قد أصبحت جزءًا من كِياننا الذهني. أمَّا أفلاطون فيقدم إليها في هذه المحاورة درسًا بليغًا، هو أن الإنسان وحدة لا تنفصم، وأن الفصل بين الأوجه النظرية والأوجه العملية للفلسفة هو على الدوام فصل مُصطنَع. ولا جدال في أن هذا الدرس مُوجَّه، أساسًا، إلى أصحاب الاتجاهات المثالية في الفلسفة. الذين يُصرون على النظر إلى الفكر على أنه مملكة قائمة بذاتها، لها قوانينها الخاصة التي لا تخضع إلا لمنطقها الداخلي — مملكة يمكن أن تؤثر في الجانب العملي عن بُعد، ولكنها لا يمكن أن تتأثر به. إلى هؤلاء يعطي أفلاطون — ربما دون أن يشعر — درسًا بليغًا في محاورة الجمهورية. وأقول إن الدرس بليغ لأن أفلاطون ذاته هو أبو المثالية، وهو رائد المثاليين ومُلهِمهم في كل عصر. ومع ذلك فقد كان هو ذاته الذي قدَّم إلينا في محاورته الكبرى هذه عملًا متكاملًا يتجاوز الفواصل بين الميدان النظري والعملي. ولعل محاورته كانت مثلًا مبكرًا، سحيق القدم، من أمثلة «وحدة المعرفة» التي أصبحت في عصرنا هذا هدفًا بعيد المنال. وهي على أية حال تُمثِّل نمطًا من التفكير الفلسفي المتعدد الجوانب، قد يكون بحق هو النمط الجدير باهتمام العقل الإنساني.
E. J. Urwick: The Message of Plato, A Reinterpretation of the “Republic”, London (Methuen), 1920.