الأفكار السياسية
لا بدَّ لنا، قبل أن نشرع في بحث أفكار أفلاطون السياسية كما تكشف عنها محاورة الجمهورية، أن ننزع من أذهاننا تلك الصورة الشائعة لأفلاطون، التي يتمثل فيها مفكرًا نظريًّا بحتًا يزدري الأمور العملية ويترفع عنها، ويُحلِّق بفكره في عالم لا يُعَد عالَمُنا الواقعي هذا إلا ظلًّا أو انعكاسًا باهتًا له. ومن المؤكد أن أفلاطون ذاته قد أسهم بدور كبير في رسم هذه الصورة، أو في نسج هذه الصورة، أو في نسج هذه الأسطورة، إذ إنه كان على ما يبدو يفضل أن يتمثل للناس على هذا النحو. ومع ذلك فقد كان في حياته يسلك مسلكًا مختلفًا كل الاختلاف، بل إنه في كتاباته ذاتها كان يُعبِّر من آنٍ لآخر عن حقيقته (كما في الرسالة السابعة مثلًا) ويناقض بذلك تلك الصورة المجردة التي يرسُمها لنفسه من خلال معظم محاوراته.
ومن أهم عناصر هذه الصورة الشائعة — التي ينبغي كما قلنا أن نتخلى عنها إذا شئنا أن نفهم أفلاطون على حقيقته — القول إنه كان مفكرًا تأمليًّا يزدري عالم السياسة أو يجعل له المكانة الدنيا في مذهبه. فأفلاطون لم يكن مفكرًا نظريًّا خالصًا، ولم يكن ذا خبرة ضئيلة في ميدان السياسة العملية، وإنما كان اهتمامه بالسياسة يعادل على الأقل اهتمامه بالموضوعات النظرية المجردة. ومن المؤكد أنه، في محاورة كالجمهورية، كان أكثر اهتمامًا بالجانب العملي في عمومه (وهو الجانب الذي تُعد السياسة وجهًا من أوجهه) منه بالجانب النظري أو الميتافيزيقي البحت. ففي هذه المحاورة تنعكس بوضوح تلك الخبرات الواسعة التي اكتسبها أفلاطون خلال حياته، أو استمدها من أقاربه وأصدقائه السياسيين، أو من رحلاته العديدة. وقد استطاع، بفضل هذه الخبرات جميعًا، وبفضل قدرته الذهنية التركيبية، أن يجمع كل العناصر التي مرَّت به، أو التي بلغته عن طرق الرواية والسماع، في كل مرصد، ويُكوِّن منها «نظرية» بالمعنى الحديث لهذه الكلمة.
(١) النظرية السياسية عند أفلاطون
يتفق عدد كبير من شرَّاح أفلاطون على أن هذا الفيلسوف كان صاحب أول نظرية اجتماعية وتاريخية واضحة المعالم في تاريخ الفكر الغربي. فهو لم يقتصر على وصف وقائع تطور المجتمعات على أساس خبراته ومعلوماته الخاصة، وإنما حاول أن يتعمق من وراء الوقائع إلى القاعدة أو القانون العام، ومن وراء الوصف إلى التعليل والتفسير.
ومع ذلك، فهناك حقيقة هامة ينبغي أن نتنبه إليها ونحن ننسب إلى أفلاطون كل هذا الفضل؛ فهو لم يكن يصف قانون التغيُّر وأسبابه بمثل هذه الدقة لكي يساعد على تحقيق هذا التغيُّر، كما يميل المفكر التقدمي في العصر الحديث إلى أن يفعل، وإنما كان هدفه من كشف هذا القانون هو إيقاف هذا التغيُّر وتثبيت الأوضاع وتحقيق ما يسميه ﺑ «الاستقرار». فأفضل حالات المجتمع في نظره ليست تلك الحالة التي يكون المجتمع فيها متصفًا بالفاعلية والنشاط والرغبة في التجديد المستمر، وإنما هي تلك الحالة التي يكون فيها ثابتًا مستقرًّا، وتظل الأوضاع فيه على ما هي عليه. تلك هي الحالة المُثلى للمجتمع في رأي أفلاطون. ويمكن القول إن فلسفته بأسْرها — سواء في جوانبها العملية والنظرية — كانت ترتبط ارتباطًا وثيقًا بفكرة الثبات والاستقرار هذه، وكانت كلها تبريرًا عقليًّا لها. فطريقة التعليم في الدولة المُثلى، وطريقة الحُكم، ووضع طبقة الحراس فيها، والنظم الاجتماعية والسياسية التي تطبق على الحكام — كل هذه وسائل لتحقيق الثبات والاستقرار في المجتمع، والقضاء على كل تغيُّر. بل إن فلسفته النظرية بدَورها تتجه إلى نفس الهدف؛ ففي مجال الأخلاق ينظر إلى الخير على أنه «كل ما يحفظ»، وإلى الشر على أنه «كل ما يدمر أو يفسد» (٦٠٨) وفي مجال الميتافيزيقا، نجد أن الصفات التي نسبها إلى المثل هي صفات الثبات والوحدة والسكون، على حين أن الأشياء المتغيرة لا تمثل إلا الوجه الخداع للعالم، ولا توصل إلى أية معرفة حقيقية. وبالاختصار، فإن تفكير أفلاطون كان في جميع المجالات يتجه إلى إيقاف التحول وإلغاء التطور، ويبدو كأن هناك أوضاعًا أثيرة لديه كانت مهددة بأن تعصف بها رياح التغيُّر، وأنه أراد أن يوقف سَير الأحداث نحو غايات لا تتلاءم مع ما كان بطبيعته ميالًا إليه، فأتى بهذا البناء الضخم من الأفكار لكي يبرر به «الاستقرار» الذي كان يحلم به، ويحُول دون حدوث تلك النتائج غير المأمونة التي قد تسفر عنها حركة التطور.
ولقد كان المحور الذي دارت حوله أبحاث أفلاطون السياسية في محاورة الجمهورية هو فكرة «العدالة». فالنظريات السياسية المختلفة تعالج في إطار هذه الفكرة، والمواقف والاتجاهات المتباينة تُعرَض في صورة تعريفات مختلفة للفظ العدالة. والخيط الجامع بين الأجزاء المختلفة للمحاورة، هو هذا السعي المتدرج إلى إيجاد تعريف سليم للعدالة.
ومع ذلك، فلم تكن فكرة العدالة مجرد وسيلة ابتدعها أفلاطون لبعث الوحدة بين أجزاء المحاورة، أو نغمة درامية كرَّرها لكي يضمن التماسك بين أجزائها، بل إن مفهوم العدالة كان له من الأهمية ما يبرر اتخاذه محورًا حقيقيًّا للبحث السياسي في المحاورة. فكلمة العدالة كانت، في نظر اليوناني القديم، تضم في داخلها عددًا كبيرًا من المعاني، التي تكاد تشمل ميدانَي الأخلاق والسياسة بأسرهما. والعادل هو الذي يتصف بتلك المجموعة من الفضائل، التي يتسنى بها تنظيم الحياة البشرية، الخاصة والعامة، على أفضل نحو. وإذن، فقد كانت مواقف الفلاسفة تتحدد تبعًا لطريقة إجابتهم عن هذا السؤال الرئيسي المتعلق بطبيعة العدالة. فإذا كانوا من المحافظين، اتجهوا إلى الربط بين معنى العدالة ومعنى الأزلية والثبات والألوهية، وإذا كانوا ذوي نزعة ثورية ديمقراطية، اتجهوا إلى الدفاع عن المفهوم النسبي المتغير للعدالة. وعلى أساس هذا الازدواج في فهم هذه الفكرة الرئيسية، يتحدد الموقف الكامل للفيلسوف في سائر المجالات.
وليس من الصعب أن يدرك المرء أن الخصومة الأساسية بين سقراط والسفسطائيين، على النحو الذي عرضت به في كثير من محاورات أفلاطون، وضمنها محاورة الجمهورية، ترتد أساسًا إلى هذا الخلاف الأساسي حول طبيعة العدالة. فالسفسطائيون من أنصار التغيُّر والحركة والنسبية. وهم لا يؤمنون بما هو أزلي ثابت. أما سقراط فهو أشد أنصار الثبات والاستقرار تحمسًا. وإذا كان هذا الصراع الحاد بين السفسطائيين وسقراط (أو بينهم وبين أفلاطون) قد عرض في كثير من الأحيان في صورة صراع نظري حول «الحقيقة» وهل ينبغي أن تكون أزلية أم متغيرة، فمن اليسير أن يدرك المرء، من وراء هذا الخلاف النظري، خلافًا آخر عمليًّا، أو سياسيًّا، كان في حقيقة الأمر أعمق جذورًا منه — وأعني به: هل ينبغي أن ننظر إلى القوانين المتحكمة في المجتمع البشري على أنها قوانين ثابتة أم قوانين متغيرة؟ وهل النظام السائد في العَلاقات بين البشر أزلي لا يمكن تغييره، أم أن هذا النظام قابل للتغير؛ لأنه من صنع البشر أنفسهم، يرتبط بتاريخهم الفعلي. لا بأية سلطة تعلو على الطبيعة؟ لقد كان أفلاطون، دون شك، من أنصار الرأي الأول. بل إنه لم يقتصر على القول إن نظام العَلاقات الإنسانية لا يمكن تغييره، وإنما ذهب إلى أبعد من ذلك، فأكد أن هذا النظام «لا يصح» تغييره: فالثبات ليس أمرًا واقعًا فحسب، وإنما هو واجب أيضًا، وهو الحالة المُثلى التي ينبغي أن يتجه إلى تحقيقها كل مجتمع إنساني.
ولا جدال في أن أفلاطون، بوصفه خصمًا سياسيًّا للاتجاهات الداعية إلى التغيُّر، لم يعرض آراء أصحاب هذه الاتجاهات على النحو الذي كانوا هم أنفسهم خليقين بأن يعرضوها به. فهو يستخدم قدرته الفنية الهائلة في إعطاء القارئ صورة لخصومه كفيلة بأن تجعلهم بالفعل أناسًا بغيضين إلى نفس كل شخص محب للحقيقة وللعدالة. فالسفسطائي، في نظره، لا يدعو إلى التغيُّر فحسب، وإنما هو ينكر كل حقيقة ومعرفة. ودعوته ذاتها تصور بأنها دعوة إلى الانحلال وإلى القضاء على كل القيم؛ أي إلى تغليب الظلم على العدل، والدفاع عن حكم القوة الغاشمة، واحتقار سلطة العقل.
ففي الكتاب الأول من محاورة الجمهورية، ينجح أفلاطون في السخرية من التعريف الذي تقدم به ثراسيماخوس للعدالة، وفي تصوير هذا التعريف بأنه متهافت لا يصمد أمام النقد. ومع ذلك فإن قليلًا من التفكير كفيل بأن يثبت لنا أن هذا التعريف ليس ضعيفًا وليس متهافتًا إلى هذا الحد. فماذا يقول ثراسيماخوس؟ إنه يبدأ بأنه يقدم نظرية عامة هي أن «العدالة ليست إلا صالح الأقوى» (٣٣٨). ثم يفصل هذه النظرية فيقول: «في كل حالة تضع الحكومة القوانين لصالحها: فالديمقراطية تضع قوانين ديمقراطية، والملكية تجعلها ملكية، وهكذا الحال في الأنواع الأخرى. وبعد سَن هذه القوانين، تعلن الحكومات أن ما هو مشروع عادل بالنسبة إلى رعاياها إنما هو ما فيه صالحها هي ذاتها، وتُعاقب مَن يخالف ذلك على أنه خارج على القانون والعدالة. فهذا إذن ما أعنيه؛ فللعدالة في جميع الدول معنًى واحد، هو صالح الحكم القائم. ولمَّا كان المفروض ضرورة هو أن الحكومة هي الأقوى، فالنتيجة الوحيدة المعقولة هي أن مبدأ العدالة واحد في كل شيء وهو صالح الأقوى» (٣٣٩-٣٣٨).
وفي اعتقادي أن هناك حقيقتين أساسيتين ينبغي أن تستقرا في أذهاننا ونحن بصدد هذه النظرية السفسطائية السياسية، التي هي القطب المضاد لنظرية أفلاطون: الأولى هي أن هذه النظرية تقدم على أنها تعبير عما هو كائن، ولا عما ينبغي أن يكون. فهي نظرية تصف الأمر الواقع. وهو أن كل حكم قائم بالفعل إنما يُعبِّر عن صالح الفئة القوية في المجتمع. وليس هناك تعارض بين الاعتراف بهذا الأمر الواقع، وبين الدعوة إلى وجهة النظر المضادة في مجال ما ينبغي أن يكون. أعني أن في استطاعة المفكر أن يعترف بأن الحكومات القائمة فعلًا تُعبِّر عن مصالح الأقوياء، ويدعو في الوقت ذاته إلى وضع مخالف تكون فيه الحكومات تعبيرًا عن مبادئ أو قيم عامة، لا عن مصالح فئة معينة. فالنظرية في هذه الحالة وصف للأوضاع القائمة بالفعل، وهو وصف لا يستطيع المرء أن ينكر أنه دقيق حقًّا.
والحقيقة الثانية هي أن هذه النظرية، مهما قيل عنها، تفتح الباب على مصراعَيه لتغيير أية أوضاع قائمة. ففي ظل هذه النظرية وحدها يكون تغيير نظم الحكم أمرًا طبيعيًّا، من الوجهة النظرية، إذا لم تعد هذه النظم ملائمة لمن تطبق عليهم. أما النظرية المضادة، التي تجعل العدالة معنًى أزليًّا، لا مجرد عُرف أو اصطلاح تواضَع عليه الناس في مجتمع معين، ففيها يصبح تغيير الأوضاع أمرًا مستحيلًا. ومن هنا كان السفسطائيون في الغالب، من أنصار الحكم الديمقراطي الذي يعد التغيُّر حقيقةً أساسية، على حين أن أفلاطون كان عدوًّا لدودًا للديمقراطية وكان من الأنصار المتحمسين للأليجاركية، بما فيها من دعوة إلى استقرار الأوضاع القائمة والمحافظة عليها.
ولو أمعنا الفكر في التعريف الذي يقدمه أفلاطون للعدالة، لوجدناه يرتبط أوثق الارتباط بفكرة المحافظة على استقرار الأوضاع القائمة أو تجميدها. فهو في الكتاب الرابع من المحاورة يصل، بعد مناقشة طويلة، إلى الصيغة التي كانت أبحاثه السابقة كلها تمهيدًا لها، فيقول إن «أعظم أسباب كمال الدولة هو تلك الفضيلة التي تجعل كلًّا من الأطفال والنساء والعبيد والأحرار والصناع والحاكمين والمحكومين يؤدي عمله، دون أن يتدخل في عمل غيره» (٤٣٣). ومن جهة أخرى فإن «المبدأ الذي ينبغي أن يتمسكوا به (أي الحكام) في أحكامهم على الدوام، هو المبدأ القائل إن أحدًا لا ينبغي أن يعتديَ على ما يمتلكه الغير أو يُحرَم مما يمتلكه هو» (٤٣٣). وفي الموضع نفسه يقول إن «العدالة إنما هي أن يمتلك المرء ما ينتمي فعلًا إليه، ويؤدي الوظيفة الخاصة به». وبعد قليل يؤكد أن «التعدي على وظائف الغير، والخلط بين الطبقات الثلاث، يجر على الدولة أوخم العواقب، بحيث إن المرء لا يعدو الصواب إذا عدَّ ذلك جريمةً … فهذا إذن هو الظلم. أما إذا اقتصرت كل من الطوائف الثلاث: الصناع والمحاربين والحكام، على مجالها الخاص، وتولت كل منها العمل الذي يلائمها في الدولة، فهذا عكس ما قلناه الآن، أي هو العدل» (٤٣٤). ثم يزيد موقفه وضوحًا بعد قليل، فيقول: «لقد كانت تلك الصورة البسيطة للعدالة هي ذلك النظام البديع الذي ينبغي بمقتضاه لمن وُلد ليكون حذَّاء أن يقتصر على صناعة الأحذية ولمن ولد ليكون نجارًا أن يقتصر على النجارة، وبالمثل في بقية الصناعات» (٤٤٣). وهو يكرر هذه الفكرة ذاتها في موضع آخر فيقول: «لهذا كان من خصائص دولتنا وحدها أن الحذَّاء فيها حذَّاء فحسب، وليس ملاحًا في الوقت نفسه، وإن الزارع زارع فقط، وليس قاضيًا في الوقت ذاته، وأن الجندي جندي، وليس تاجرًا كذلك، وهكذا الأمر في الجميع» (٣٩٧).
هذه النصوص، التي لا تُعد — على كثرتها — إلا أنموذجًا لتلك الفكرة التي لم يمل أفلاطون تأكيدها في شتى مواضع هذه المحاورة، تشرح بوضوح قاطع مبدأ أفلاطون الرئيسي في ضرورة التزام كل من الطبقات الثلاث حدودها الخاصة. ولا يترك أفلاطون لنا مجالًا للشك في أن هذا المبدأ هو عنده قِوام العدالة، وهو بالتالي الأساس الأول في بناء الدولة. وليس المرء بحاجة إلى تفكير طويل لكي يقتنع بأن هذا المبدأ إنما هو دفاع عن الجمود والتحجر الطبقي، وللتقسيم القاطع بين الطبقات بحيث تلتزم كل طبقة حدودها الخاصة ولا تحاول التطلع إلى غيرها. ومن الواجب أن نتذكر أن الخطورة الكبرى، في نظر أفلاطون، لا تتمثل في تطلع شخص من طبقة معينة إلى أعمال أخرى تنتمي إلى نفس الطبقة، كأن يتطلع الفلاح إلى عمل راعي الغَنم، أو الحداد إلى عمل النجار، فهذا شيء، وإن لم يكن مرغوبًا فيه، لا يؤدي إلى إلحاق ضرر كبير ببناء الدولة. غير أن التوازن يختل، والاستقرار يضيع، إذا لم يلتزم الناس طبقاتهم، وحاول صانع الفَخَّار أن يقوم بعمل الجندي أو الحاكم (٣٤٣).
ومع ذلك فإن هناك اعتراضات عديدة تثار بسهولة في وجه هذا الدفاع. من أهم هذه الاعتراضات السؤال عن الوسيلة العملية التي يمكن أن تتحقق بها هذه الحركية الاجتماعية. فمراقبة الفرد باستمرار، من أجل معرفة مدى صلاحيته للانتقال إلى طبقة أعلى، يعني أن تتحول الدولة بأسرها إلى جهازٍ هائلٍ للرقابة، بل إن الرقابة ستصبح هي المهمة الرئيسية للدولة. ومع ذلك فلا يمكن أن يؤدى هذا العمل بأي قدر من الدقة لسببين؛ أولهما أن الرقباء أنفسهم ينبغي أن يراقَبوا، وثانيهما أن من يراقب ينبغي أن يكون لديه المعيار أو المقياس الذي يقيس على أساسه الأفراد ويحدد مدى جدارتهم بالترقي أو استحقاقهم للهبوط، ومثل هذا المعيار لا يمكن أن يملكه في الدولة إلا فئة محدودة جدًّا، ستعجز حتمًا عن إجراء كل عمليات الاختبار اللازمة على جميع المواطنين، وهي الاختبارات التي ينبغي أن تكون على أكبر قدر من الدقة لكي يكون حكمهم — الذي يتقرر تبعًا له مصير كل شخص — صحيحًا.
وعلى أية حال فهناك نصوص أخرى تُثبت أن أفلاطون، حين قال بإمكان انتقال الفرد من طبقة إلى طبقة أخرى، لم يكن يعني هذا الانتقال جديًّا، وإنما كان يؤمن بأن الصفات الشخصية تورث من الآباء إلى الأبناء؛ أي إن أبناء الطبقات الدنيا يظلون في الأغلب مثل آبائهم، وأبناء الملوك يظلون أيضًا ذوي طبيعة ملكية. وهناك نص واضح للدلالة في هذا الصدد — وإن لم يكن مستمدًّا من محاورة الجمهورية — هو ذلك الذي يقول فيه: «كثيرًا ما يكون الملك ابن ملك، أو الشخص الصالح أو النبيل ابنًا لسيد صالح أو نبيل، وكذلك الحال في ذرية كل نوع، حسب المجرى المنتظم للطبيعة» (كراتيلوس، ٣٩٤أ). ولو نظرنا إلى أمثال هذه النصوص في السياق العام لحياة أفلاطون وتفكيره، لوجدنا أنها هي التي تُعبِّر — على الأرجح — عن اتجاهه الحقيقي؛ ذلك لأن أفلاطون كان أرستقراطي الأسرة والنشأة والتفكير. والاعتقاد بوراثة الصفات الشخصية شائع عند معظم أصحاب النزعة الأرستقراطية، على حين أن غير الأرستقراطيين يتجهون إلى محاربة هذا الاعتقاد؛ لأنه لو صح لكان معناه أنهم سوف يرثون من الصفات ما يتناسب مع وضعهم غير المميز، ولأنه يسد أمامهم طريق الارتقاء.
وعلى أية حال، فهذه هي «العدالة» عند أفلاطون؛ أن يلتزم كل فرد حدود الطبقة التي ينتمي إليها تبعًا لطبيعته أو تكوينه، ولا يحاول أن يتعدى نطاقها الخاص، أو يتطلع إلى غيرها من الطبقات. ولا جدال في أن مثل هذا التحديد لمفهوم العدالة يصطدم بقوة مع معظم التعريفات الحديثة لفكرة العدالة؛ ذلك لأن الإنسان الحديث يتجه إلى الربط بقوة بين العدالة والمساواة، على حين أن العدالة عند أفلاطون لا ترتبط بالمساواة أدنى ارتباط، بل هي في الواقع تأكيد اللامساواة. فالدولة في رأيه تكون عادلة إذا رضي الصانع والزارع بوضعه، ولم يحاول أن يمارس عملًا «أرفع» من ذلك الذي تؤهله له طبيعته؛ أي إذا اقتنع باللامساواة الطبيعية بينه وبين الآخرين. وبعبارة أخرى، فالعدالة هي المحافظة على الفوارق بين الناس، وليست هي السعي إلى إلغاء هذه الفوارق، كما يميل الإنسان الحديث إلى تفسيرها.
وبفكرة العدالة الهندسية، أو عدالة اللامساواة هذه، تكتمل عناصر النظرية السياسية عند أفلاطون، كما عرضها في محاورة الجمهورية، ويتحدد الإطار النظري العام الذي يمكن أن ترد إليه كل أفكاره التطبيقية أو الجزئية في مجال السياسة. وسوف يتضح لنا، من دراستنا التالية لبعض الأفكار التطبيقية الرئيسية، أن هذه الأفكار كلها ترتد إلى نفس هذا المبدأ الواحد، وأنها تهدف قبل كل شيء إلى تحقيق «الاستقرار» و«العدالة» بالمعنى الذي أوضحناه من قبل عند أفلاطون.
(٢) أفلاطون ونظام الرق
من المؤكد أن إصرار أفلاطون على فكرة التزام كل فرد للعمل الذي تؤهله له طبيعته، وربطه بين العدالة وبين التميز الطبقي على النحو الذي أشرنا إليه من قبل، وتمسكه بعدم تداخل الطبقات — كل هذه أفكار تنمُّ عن عقلية متأهبة لقَبول نظام الرق على أنه ظاهرة طبيعية لا بدَّ منها (وليس مجرد نظام اجتماعي قائم بالفعل). فالمقدمات الفلسفية النظرية التي أوردناها في القسم السابق مباشرة من هذا البحث تؤدي إلى نتيجة ضرورية؛ هي أن هناك أناسًا وُلدوا ليكونوا أرقَّاء، وأن الرقيق يستحق مصيره لأنه لا يصلح إلا له.
وإذا صحَّت القصة التي يرجحها كثير من الكتاب، من أن أفلاطون قد أُسِر بعد طرد ديونیزوس الأول له في رحلته الأولى إلى صقلية، وبيع في سوق العبيد، ثم حرَّره بعضُ أصدقائه من الفيثاغوريين المقيمين في جنوب إيطاليا، إذا صحت هذه الرواية فإنها تكون في واقع الأمر ردًّا بليغًا على آراء أفلاطون هذه، وهو رد لم يستطع هو ذاته، لسوء الحظ، أن يدرك دلالته؛ ذلك لأنه كان من الممكن أن يصبح أفلاطون ذاته، بكل ما لديه من عقلٍ وفلسفة وحكمة، عبدًا، وأن يعامله أسياده على أنه شخص يحتاج على الدوام إلى التوجيه من عقل أرفع منه. وإذن فأصل الخطأ إنما هو الخلط بين الوضع الاجتماعي وبين الوضع الطبيعي، أي الاعتقاد بأن الناس جميعًا قادرون — إذا توافرت لهم الظروف الملائمة — على توجيه أنفسهم بأنفسهم، أو بأن التفاوت الاجتماعي بينهم أمرٌ عارض لا يرجع إلى طبائعهم ذاتها.
ومع ذلك فإن محاولة التخفيف هذه تبدو في نظرنا غير مقنعة بدورها؛ ذلك لأن فكرة الرق، بمفهومها الصارم، لم تكن عنده مجرد انحراف «متواضع» عن موقف عام يسير في طريق مضاد، وإنما كانت — كما رأينا من قبل، وكما سنرى أيضًا بعد قليل — مرتبطةً أوثقَ الارتباط بالأسس والدعائم الأولى لفلسفة أفلاطون في شتى المجالات. ومن غير المعقول أن يكون أفلاطون قد «انحرف» في هذه الفكرة وأتى بآراء غير إنسانية، بينما قال في بقية أجزاء فلسفته بآراء عكسية؛ إذ إن شخصية المفكر وحدة لا تتجزأ، وليس من الممكن الفصل بين جوانبها بطريقة مُصطنَعة عن طريق الالتجاء إلى تعبيرات مضللة «كالخطيئة المتواضعة» أو «الانحراف».
ولا شك أن كل مَن يحاول تبرير موقف أفلاطون والدفاع عنه على أساس أن نظام الرق كان نظامًا موجودًا بالفعل، وكان متغلغلًا في حياة المجتمع، وبالتالي كان من الصعب أن ينقده أفلاطون؛ أقول إن كل من يحاول الإتيان بمثل هذا التبرير يُغفل حقيقتين على أعظم جانبٍ من الأهمية:
- الحقيقة الأولى: هي أن أفلاطون قد هاجم بالفعل قيمًا أخلاقية واجتماعية واقتصادية وسياسية ودينية، ربما كانت أكثرَ تأصُّلًا وأعمقَ جذورًا في المجتمع من نظام الرق ذاته. انظر إليه في محاورة الجمهورية وهو يناقش أكثرَ النُّظم الاجتماعية رسوخًا، كنظام الأسرة والزواج وانتساب كل طفل إلى أبيه، وكل زوجة إلى زوجها، وتأمَّل جرأته وهو يدعو إلى هدم هذا النظام من أساسه ويدعو إلى إلغائه، مع أنه يدرك عن وعيٍ مدى تأصُّل هذا النظام في النفوس، ويُعبِّر عن وعيه هذا في صورة تردُّد طويل من جانب سقراط قبل أن يعرض آراءه في شيوعية النساء والأطفال وإلغاء نظام الأسرة. ثم انظر إلى الجرأة التي نادى بها بالمساواة بين المرأة والرجل، حتى دعا إلى أداء النساء للتدريبات الرياضية وهن عارياتُ الأجساد أمام الرجال، وهو بدوره أمرٌ يصدم بقوة تقاليدَ مُتأصِّلةً في نفوس الناس، في أثينا على الأقل. كل هذه الأمثلة تدل بوضوحٍ كامل على أن تأصل أي نظام اجتماعي وشيوعه وانتشاره وقِدَمه لم يكن يحُول أبدًا بين أفلاطون وبين مناقشة هذا النظام وهدمه من أساسه إذا وجَد أن هذا الهدم هو الذي يتمشَّى مع القيم التي يدعو إليها. وإذن، فليس لأحدٍ أن يتذرَّع بالحُجة القائلة إن تأصُّل نظام الرق في المجتمع اليوناني هو الذي جعل أفلاطون يدافع عنه، ولا بدَّ أن أفلاطون — بأرستقراطيته المعهودة — كان يميل بالفعل إلى هذا النظام، فلم يكتفِ بالدعوة إلى المحافظة عليه وإنما دعا إلى التزامه بمزيدٍ من الصرامة.
- والحقيقة الثانية: التي ترتبط بالأولى ارتباطًا وثيقًا — هي أن عصر أفلاطون وأرسطو قد شهِد أناسًا هاجموا نظام الرق ودعَوا إلى إلغائه أو الحد من شدته؛ أي إن هؤلاء المهاجمين قد أعطَوا أفلاطون وأرسطو إشارةَ تنبيهٍ كافية، لو كانا في حاجة إلى تنبيه، إلى مساوئ هذا النظام وافتقاره إلى الإنسانية. وقد ورد في مستهل كتاب السياسة لأرسطو نصٌّ يشهد بوجود معارضة لنظام الرق في ذلك العصر، وفيه يقول: «إن البعض يرون أن حُكم السيد علم … وإن السيطرة على العبيد والحكم السياسي والملكي، كما قلت في البداية، كلها شيء واحد. وغير هؤلاء يؤكدون أن حكم السيد على العبيد مضادٌّ للطبيعة، وإن التمييز بين العبد والحر لا وجود له إلا بالقانون، لا بالطبيعة. ولمَّا كان تدخلًا في مجرى الطبيعة، فإن فيه ظلمًا».١٥ ويكرس أرسطو الفصول من ٤ إلى ٧ في هذا الباب ذاته للرد على هؤلاء المعترضين، أي للبرهنة على أن الرق عدل، وأنه متفق مع الطبيعة، وليس مجرد نظام فرضه القانون فحسب.
ولا شك أن حديث أرسطو هنا عن التقابل أو الصراع بين النظرة إلى الرق على أنه ظاهرة طبيعية، والنظرة إليه على أنه ظاهرة ترجع إلى العرف أو الإصلاح الاجتماعي فحسب، يذكرنا على الفور بالتقابل المشهور بين الطبيعة أو العُرف أو القانون، وهو التقابل الذي دار حوله الصراع بين سقراط وأفلاطون من جهة، وبين السفسطائيين من جهة أخرى. فهناك إذن احتمال كبير في أن يكون هؤلاء المعارضون الذين يشير إليهم أرسطو. ويبذل جهده من أجل تفنيد آرائهم، هم من السفسطائيين الذين كانوا يؤمنون بأن الفوارق بين البشر ترجع إلى نظم اصطلح عليها المجتمع، ولا ترجع إلى طبيعة الأشياء، وفي هذه الحالة يكون دفاع أفلاطون وأرسطو عن فكرة الأزلية، والتقسيم الطبيعي للبشر، تبريرًا فلسفيًّا نظريًّا لوضعٍ اجتماعيٍّ مُجحِف، ومحاولة — قد تكون لا شعورية — لسد كل طريق في وجه من يدعو إلى تغيير هذا الموضع.
وإذن فقد كانت هناك بالفعل حركةٌ إنسانية تُعارض نظام الرق في عصر أفلاطون وأرسطو، وكان لدى هذين الفيلسوفين الكبيرين كلُّ الفرص التي تتيح لهما مراجعة هذا النظام من أساسه. ومن هنا فليس أمامنا مفرٌّ من الاعتراف بأن دفاعهما عن هذا النظام لم يكن مجرد مسايرةٍ لتيارٍ سائد يعجز المرء — من فرط تأصله — عن التنبُّه إلى مساوئه، أو مجرد «رواسب خلَّفها جوٌّ أخلاقي سائد في نفس نبيلة»، وإنما كان دفاعًا واعيًا من مفكرَين كانت لديهما كلُّ وسائل انتقاد هذا النظام، ولكنهما آثرا الإبقاء عليه، وتبريره عن عمد وسبْق إصرار.
فإن كان هذا هو اتجاه أفلاطون الحقيقي في هذه المسألة، ألا يعني هذا الاتجاه إلقاء ظِل من الشك على كل ما قاله أفلاطون عن الكرامة الإنسانية وعن قيم الشرف والنُّبل والأخلاق الرفيعة؟ أيكون من حقنا أن نقبل هذه التصريحات الأخلاقية من مفكر تجاهل الكرامة الإنسانية في أول وأهم مقوماتها، وأكَّد أن هناك أشخاصًا هم من الأسياد «بطبيعتهم»، وغيرهم من العبيد «بطبيعتهم» أيضًا؟ أليس لنا أن نشكَّ في قيمة وجِديَّة كل مذهب أخلاقي يكون الرق عنصرًا أساسيًّا فيه، ومبدأ يبرره المذهب عن وعي؟
•••
ولعل بعض القراء قد يتساءلون عن الدافع إلى إبداء كل هذا الاهتمام بظاهرة الرق، وهي على أية حال ظاهرة اجتماعية لا فلسفية. وردُّنا على هذا التساؤل أن ظاهرة الرق تستحق بالفعل كلَّ هذا الاهتمام؛ لأنها لم تقتصر على المجال الاجتماعي وحده، وإنما كان لها تأثيرها العميق في صميم الفلسفة النظرية ذاتها.
فهناك وجهة نظر لا يصح تجاهلها، تؤكد أن الفلسفة اليونانية بأسْرها ترتبط بظاهرة الرق ارتباطًا أساسيًّا، أو على الأصح أن الطابَع الذي اتخذته هذه الفلسفة عند كبار ممثليها، مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو، لم يكن ليغدو ممكنًا لولا نظام الرق؛ ذلك لأن هذا النظام، تبعًا لوجهة النظر هذه، هو الذي يُتيح للأحرار من الفراغ ما يمكنهم من تشييد مذاهبَ فكريةٍ كاملة مبنية على التفكير النظري الخالص. فهذا التفكير النظري، من حيث إمكان ممارسته، لا يكون ممكنًا إلا في مجتمع يحمل فيه الأرقَّاء عبءَ الأعمال اليدوية المرهقة عن الأحرار، ويُتيحون لهؤلاء الأخيرين من الراحة والوقت والاكتفاء المادي ما يمكنهم من التفرغ للتفلسف النظري الخالص. ومن ناحية أخرى، فإن مضمون هذه الفلسفات ذاتَه، أعني اتجاهها إلى إعلاء قيم التفكير الخالص على حساب أي نشاطٍ له صلة بالعمل المادي، ووضع التفلسف النظري في قمة الأهداف التي ينبغي أن تسعى الشخصية الإنسانية إلى تحقيقها، كان هو ذاته انعكاسًا لنظام اجتماعي يقوم فيه الرق بدورٍ أساسي، وتبريرًا لهذا النظام في الوقت نفسه. تلك إذن وجهةُ نظرٍ تجعل لنظام الرق دورًا أساسيًّا في ظهور الفلسفة اليونانية على النحو الذي ظهرت عليه. وفي اعتقادي أن هناك أمرين يجعلان وجهة النظر هذه تستحق مكانًا في أية دراسة للفلسفة اليونانية (ولا يعني ذلك قَبولها بالضرورة، وإنما يعنى وجوبَ عدم تجاهلها)؛ أولهما أن تمجيد الفلسفة اليونانية، عند أقطابها الكبار، للفكر النظري كان مُفرِطًا، واحتقارها للعمل المادي بكل أنواعه كان مفرطًا أيضًا، وثانيهما أن الرق كان بالفعل ظاهرةً أساسية في حياة اليونانيين، بدليل ما أشرنا إليه من قبل، من وجود أربعة أرقاء، في المتوسط، لكل شخصٍ حُر واحدٍ من الأحرار في المجتمع الأثيني خلال الفترة التي تهمنا في هذا البحث.
وإذا كنا قد تحدثنا عن وجهة النظر التي تسجل وجود ارتباط بين الطابَع العام للفلسفة اليونانية، عند أقطابها الكبار، وبين نظام الرق، فإن هناك وجهة نظر أخرى مكملة لها، تؤكد وثوق الصلة بين دفاع أفلاطون — على وجه التخصيص — عن نظام الرق، وبين العناصر الأساسية لفلسفته النظرية. والرأي الذي يدافع عنه أصحاب وجهة النظر هذه، هو أن نمط العَلاقة بين السيد والعبد يمثل أنموذجًا يتكرر مِرارًا في معظم مجالات التفلسف النظري الصِّرف عند أفلاطون.
وبالاختصار، فإن أنموذج العَلاقة بين السيد والعبد يتكرر على جميع مستويات فلسفة أفلاطون النظرية. وليس معنى ذلك، بطبيعة الحال، أن فكرة الرق قادرة على تفسير كل جوانب الفلسفة الأفلاطونية، ولكن من الواضح — تبعًا لما قلناه — أنها تقدم إلينا مِفتاحًا مفيدًا للربط بين جوانب هذه الفلسفة، وتُلقي على بعض عناصرها ضوءًا وضاحًا. ولا شكَّ في أن إدراك مدى تغلغل العَلاقة بين السيد والعبد في جوانب من تفكير أفلاطون النظري تبدو بعيدةً عن مجالها كلَّ البعد، إنما هو مَثَل يوضح مدى تغلغل الأفكار الاجتماعية في التفكير النظري بطريقة قد لا يكون المفكر ذاته شاعرًا بها في أغلب الأحيان. ومن المؤكد أن للمرء كلَّ الحق في معارضة هذه الطريقة في التفسير. وفي التمسك بالاستقلال الذاتي للفكر النظري البحت، واستحالة إرجاعه إلى أي مجال آخر، ولكني أعتقد أن هذه، على الأقل، وجهةُ نظرٍ ينبغي على كل مَن يحترم الفكر ويجعل له في نفسه مكانةً رفيعة أن يعمل لها حسابًا، وألا يبادر إلى استبعادها، حتى لو لم يكن يؤمن بها، بل يجب أن يضيفها إلى وجهات النظر الأخرى التي طالما ردَّدتها على مسامعنا الكتب الشائعة في تاريخ الفلسفة، والتي تقتصر على تفسير الفكر النظري بمنطقه الداخلي فحسب.
•••
بقيَت كلمةٌ أخيرة لا أود أن أترك الحديث عن موضوع الرق في فلسفة أفلاطون دون أن أنبه إليها. فمن المؤكد أن الصورة التي يكوِّنها القارئ عن أفلاطون — من خلال آرائه في الرق كما عرضت في هذا الفصل — هي صورة تفتقر إلى الكثير من المبادئ الإنسانية، وهي قطعًا تتعارض مع صورة «أفلاطون الإلهي»، كما اعتادت الكتب أن تسمي هذا الفيلسوف الذي يَعُده كثيرٌ من المفسرين أشبهَ بقديس معصوم من الخطأ. وعلى الرغم من أنني أفضل النظر إلى أفلاطون بطريقة واقعية — أي من خلال جميع عيوبه ومزاياه — فإنني أود ألا يسرف القارئ في إدانته على هذه العيوب. وحسبنا أن نتأمل المجتمع البشرى في صورته الراهنة لندرك أن كثيرًا من الأخطاء التي نعيبها على أفلاطون ما زالت متفشيةً بيننا. فهو حين يحمل على الصنعة اليدوية ويزدريها، يبدو كأنه ارتكب وزرًا جسيمًا. ولكن لنسأل أنفسنا صراحة: كم منَّا — حتى المتحمسين لكل المبادئ والآراء التقدُّمية — يقبل في القرن العشرين، وفي صميم المجتمع الصناعي الذي نعيش فيه، أن يصاهر عاملًا يدويًّا، حتى لو كان إيراده المادي كبيرًا؟ وكم منَّا يحث أبناءه أو إخوته — بصدقٍ وإخلاص — على ممارسة المهن اليدوية؟ ولنسأل أنفسنا، في صدد نظام الرق، أهناك اختلاف كبير بينه وبين نظام الخدم، كما كان شائعًا حتى سنوات قليلة، وكما لا يزال يُطبَّق في بعض الحالات؟ أليس الخدم بدورهم أدوات بشرية يتعطل نموها الذهني في سبيل تحقيق الفراغ والراحة اللازمين للنمو الذهني والنفسي للمخدومين؟ وأخيرًا فلنسأل أنفسنا: أهناك اختلاف كبير بين الدفاع عن الرق وتبريره وبين مظاهر التفرقة العنصرية كما تُمارَس بصورة ظاهرة في أمريكا وأفريقيا الجنوبية، وبصورة غير ظاهرة في أنحاءٍ شتى من العالم؟
إننا نعترف قَطعًا بأن أفلاطون، بوصفه فيلسوفًا متعمقًا في دراسة عيوب المجتمع، وناقدًا للقيم، قد ارتكب خطأً كبيرًا حين سكت على نظام الرق. ومع ذلك فمن الواجب ألا نُسرف في نقده؛ لأن الإنسان ما زال في القرن العشرين، وفي قلب الحضارة الصناعية الحديثة، يرتكب كثيرًا من الأخطاء التي يعيبها عليه، بل يدافع عنها ويسعى إلى تبريرها في كثير من الأحيان.
(٣) الشيوعية في التملك ونظام الأسرة
من الظواهر التي تبدو غريبةً في تفكير أفلاطون، أنه يجمع بين آراءٍ محافِظة إلى أقصى حد، كالتمييز الطبقي الحاد والرق، وآراء متطرفة في ثوريتها، كشيوعية التملك، وشيوعية النساء والأطفال؛ ذلك لأن هاتين الفئتين من الآراء تتناقضان تناقضًا حادًّا في نظر الإنسان الحديث. ولا بدَّ أن أفلاطون كان يقول بنوع من الآراء الشيوعية يختلف أساسًا عن النوع الحديث منها، بدليل تمكُّنه من الجمع بينها وبين بقية العناصر المحافظة في فلسفته.
وبالفعل يتضح لنا عند اختيار آراء أفلاطون الشيوعية أنها تختلف تمامًا، من حيث دوافعها ووسائلها وغاياتها، عن كل فكرة حديثة تتعلق بهذا الموضوع. فمن الملاحظ أولًا أن شيوعية أفلاطون هي نظام يَسْري على طبقة واحدة في المجتمع، هي طبقة الحكَّام والحرَّاس، وهي أقلية، أما عامة الناس، من تجار وصنَّاع وأرباب مهن، فلا يقول عنهم أفلاطون شيئًا كثيرًا في هذا الصدد، ويدل القليل الذي يقوله على أنه يترك هذه الطبقة تواصل حياتها المألوفة دون أن يطرأ عليها تغيير يذكر.
وإذن، فآراء أفلاطون الشيوعية لا تسري على عامة الشعب، وهذا بلا شكٍّ فارق أساسي بينهما وبين الشيوعية الحديثة التي تستهدف الطبقات الدنيا قبل غيرها. بل إن مفهوم الطبقة ذاته كان عنده غير محدد؛ إذ يمكن القول إن ما نسميه في عصرنا الحديث بالرأسماليين وكبار التجار والإقطاعيين، يندرج عند أفلاطون ضمن الطبقة الثالثة، مع العمال والفلاحين وغيرهم من الأُجراء. هؤلاء يظلون محتفظين بوسائل الإنتاج، دون أن يؤمم منها شيء على الإطلاق. وليس ذلك راجعًا إلى إيمانه بقيمة الملكية الفردية عند هذه الطبقة، بل هو مجرد إهمال لها واحتقار لشأنها. فهو يتركها تتصرف كما تشاء. بل يترك لها رأسمالها دون أن يمسه، وكل ما يريده منها ألا تتعدى على غيرها من الطبقات، أي أن تحرص على التزام مكانتها الاجتماعية، ولا تتطلع إلى حياة الحراس أو الحكام. وبعبارة أخرى، فإن النظام الذي يسعى أفلاطون إلى إقراره في دولته المُثلى لا شأن له بأفراد هذه الطبقة، التي تضم العمال وأصحاب الأعمال والمهنيين معًا، وإنما هو نظام مُوجَّه إلى القلَّة التي تحكم الدولة وتحرسها.
وهكذا يبدو أن هناك بالفعل استحالة عملية في تطبيق هذا النظام الشيوعي الذي يسري على جزء من المجتمع ويترك الجزء الآخر محتفظًا بملكيته الخاصة كما يشاء. ويبدو أن مثل هذا النظام، الذي أراد به أفلاطون أن يحقق الوَحْدة والاستقرار في المجتمع، يؤدي إلى عكس الغرض المقصود منه. وعلى ذلك، فإن الشيوعية الجزئية تُثير من المشكلات أكثرَ مما تحل. فإذا حاولنا أن نجد حلًّا لهذا الإشكال، فلن يمكننا أن نهتديَ إليه في محاورة الجمهورية ذاتها، بل قد يكون الحل في ذلك النص في محاورة القوانين الذي يقول فيه أفلاطون:
«إن المدينة التي ينبغي أن تحتل المكانة الأولى، وكذلك الحياة المدنية والقوانين والسنن التي ينبغي أن تُعد هي الأفضل، هي تلك التي تحقق في المدينة بأسْرها، على أكمل وجه ممكن، المثل القديم القائل: إن كل شيء مشاع بحق بين الأصدقاء. أجل، فحيثما يحدث اليوم أو في أي يوم آخر، أن تكون النساء مشاعًا، والأطفال مشاعًا، وكل الأشياء المفيدة مشاعًا، ويحاول المرء أن يُلغي من الحياة كل ما يُسمى خاصًّا، بحيث إن نفس ما يعد خاصًّا بكل شخص معين، كالعينين والأذنين واليدين، يغدو مشاعًا قدر الإمكان، ويصبح الكل كأنهم يرون ويسمعون ويسلكون على نحو واحد مشترك، ويستحسنون ويستهجنون نفس الأشياء، ويشعرون في الوقت الواحد بنفس الأفراح ونفس الآلام، وحيثما يتسنى، بفضل القوانين أو العرف، أن تكون المدينة كاملة الوحدة — هناك تبلغ الفضيلة المدنية أعلى ما يمكنها بلوغه من القمم، ولا يمكن أن يعلو عليها شيء. فإذا ما عاش آلهة وأبناء آلهة في مكان ما، في مدينة كهذه، فإنهم قطعًا بعيشهم هذا راضون. ومن ثم كان من الواجب عدمُ البحث عن أنموذج آخر للحياة المدنية، والسعي قدر الطاقة إلى الاقتراب من هذا الأنموذج.»
هذا النص يمثل فكرة لم يتابعها أفلاطون. لا في محاورة القوانين ولا في الجمهورية، ولكنها ربما كانت هي المخرج الوحيد من المأزق السابق؛ مأزق وجود نظامَين اقتصاديَّين متناقضَين داخل الدولة الواحدة. فهو هنا يتحدث عن نوعٍ مُطلَق من الشيوعية، يكون أنموذجًا للمدينة بأسرها، بل للحياة المدنية بوجهٍ عام، لا لطبقة واحدة فيها. وهو يحلل فكرة المشاع في ذاتها، لا في تطبيقها على فئة معينة في ذاتها. ومع ذلك فهذا النص، كما قلنا، يمثل عنده فكرةً منعزلة، تصطدم ببقية الأفكار التي عرضها في محاوراته بالفعل، ولا يمكن أن تُعَد تعبيرًا نهائيًّا عن آرائه في هذا الموضوع.
في مثل هذا الجو دعا أفلاطون إلى مساواة المرأة بالرجل في جميع الأعمال، حتى العسكرية والسياسية منها، مع اختلاف في درجة اشتراكها بطبيعة الحال. فهل كانت دعوته هذه إلى اشتراك المرأة مع الرجل في كل الأعمال تعبيرًا عن رغبته في تحرير المرأة ورفع مستواها؟ من المسلَّم به أن أفلاطون كان يعترف بأن دعوته إلى المساواة بين الجنسين تصطدم بعقبات أساسية في النظم السائدة، بدليل أنه جعل من الدعوة «موجةً» من الموجات الثلاث التي كان يتردد في التصريح بها لعلمه بمدى ما ستلقاه من معارضة. ومع ذلك فليس لنا أن نستنتج من ذلك أنه كان يدعو إلى هذا النوع من المساواة تأكيدًا منه لحقوق المرأة، أو بدافع الشعور الإنساني نحوها، بل إن السياق العام لتفكيره يدل على أنه كان في هذه الدعوة يرمي، بطريق غير مباشر، إلى القضاء على كل ما هو مميز للمرأة من الرجل.
ذلك لأن جميع الأوصاف التي أراد أفلاطون أن تكتسبها المرأة بعد تحررها هي أوصاف «رجولية» — كالقدرة على الحرب وممارسة الرياضة البدنية وهي عارية أمام الرجل. إنه يريد أن يُلغيَ وجود المرأة بوصفها امرأة، ويود أن يراها تختلط بالرجال وكأنها واحد منهم، دون فارق بين الجنسين. وهو لا يودُّ أن تكون العَلاقة بين الرجل والمرأة مبنيةً على المشاعر الفردية، بل إنه يريدها عَلاقة لا شخصية، تتم في مواسمَ معينة، بين الأشخاص الذين تختار الدولة كلًّا منهم للآخر، دون أن يكون للاختبار الشخصي أي دور في اتصالهم. وهو يذهب في إنكاره للطابع الشخصي في عَلاقة الرجل بالمرأة إلى حد القول إن أيَّ طفلٍ ينجبه رجل وامرأة لم تجمع بينهما الدولة، أو في غير المواسم التي تحددها الدولة، ينبغي أن يُعدَّ لقيطًا (٤٦١). فالعَلاقة بين الرجل والمرأة هي عنده أشبه ما تكون بعَلاقة الحيوانات التي يريد مُربِّي الماشية تحسينَ نسلها، ويجمع بينها تبعًا لهذه الغاية وحدها. وهو يصل في ازدرائه للمشاعر الطبيعية للمرأة، وفي امتهانه لكرامتها، إلى حد القول إن المحارب الشجاع ينبغي أن يُكافأ على بسالته بمزيد من النساء أو من «حقوق التناسل» (٤٦٨). وعلى المرأة أن تقبل عن طيب خاطر ذلك الوضع الذي تكون فيه مجرد وسيلة لمكافأة الشجعان من المحاربين!
يبدو أن الاحتمال المرجح هو أن أفلاطون كان بمحض اختياره، يحمل للمرأة مشاعر غير ودية، وأن هذه المشاعر كان لها تأثيرها في نظرته إلى الأسرة بأكملها. ومن المؤكد أنه كان يستخف بمشاعر الرجل نحو المرأة أو العكس؛ بدليل ذلك الطابَع الشاذ الذي أضفاه على هذه المشاعر بحيث جعلها تقتصر على الظهور في المواسم التي تحددها الدولة، ومع أشخاص لا شأن للفرد باختيارهم.
وعلى أية حال، فإني أعتقد أن نفس الهدف الذي كان يرمي إليه أفلاطون من كل هذه النظم الشاذة كان هدفًا متناقضًا مع الوسائل التي اقترحت لتحقيقه. فهو يود إلغاء الأسرة الصغيرة من أجل تكوين الأسرة الكبيرة، أو على الأصح لكي تصبح الدولة كلها أسرة واحدة؛ أي إن اتجاهه الحقيقي كان ضد «الانقسام» و«التنافر» في المشاعر العائلية. أما الشعور العائلي ذاته فهو يريد الاحتفاظ به، ولكن دون تنافس أو أنانية بين الأسر بعضها وبعض. ووسيلة تحقيق هذا الهدف هي أن تمتد المشاعر العائلية بحيث تشمل الدولة كلها، أي إلغاء الحد الفاصل بين المجتمع العائلي والمجتمع المدني أو السياسي الكبير. ولكن كيف يمكن أن تظل المشاعر العائلية موجودة بعد هذا التغيير؟ وهل يظل لمشاعر الأخوة أو البنوة أو الأبوة نفس قيمتها، ونفس معناها، ونفس قوتها، إذا توزعت على نطاق الدولة بأسْرها؟ ألا يؤدى تشتتها على هذا النحو إلى ضياعها بعد جيلين أو ثلاثة؟ من المؤكد أن نقل هذه المشاعر وتوسيعها على هذا النحو لا بدَّ أن يؤديَ إلى تغيير أساسي في طبيعتها، وربما إلى اختفائها تمامًا؛ لأن الذي يُصبح «أخًا» للجميع لن يعود أخًا لأحد، وكذلك الحال بالنسبة إلى ابن الجميع أو والد الجميع. ألا يظل كثير من الناس في عصرنا الحالي يعتقدون أنهم جميعًا أبناء «آدم وحواء»، دون أن يحول ذلك بينهم وبين الاقتتال؟
الواقع أن أفلاطون ألغى نظام الأسرة، مع الاحتفاظ بالمشاعر المرتبطة بهذا النظام. وهو قد تصور أن هذه المشاعر ستظل على ما هي عليه عندما تصبح الأسرة شاملة للدولة. فهو إذن يحتفظ بعناصر من نظام الأسرة الحالي (وهي المشاعر) ويطبقها على نظام جديد كل الجِدَّة قد تختفي فيه العناصر القديمة تمامًا، أو تحل محلها عناصرُ مختلفة، بل لقد كان أفلاطون حريصًا على منع زواج المحارم؛ فهو يمنع زواج الشبَّان والشابات في فترة معينة خشيةَ أن يكونوا أُخْوةً أو أبناء. وهذا التحريم بدوره مُستمَد من نظام الأسرة الحالي ومرتبط به. وبالاختصار، فإن أفلاطون لم يستطع أن يكون متسقًا مع نفسه في دعوته إلى إلغاء نظام الأسرة، بل إنه وضع عناصر من النظام الحالي مع عناصر من نظامه المقترح جنبًا إلى جنب. وكون منهما مركبًا ينفر منه العقل والعاطفة معًا.
(٤) فكرة الملك الفيلسوف
تمثل هذه الفكرة أعتى «الموجات» الثلاث التي يعلم أفلاطون أنه يصدم بها الذهن العادي، وأبعدها عن التحقيق. ولكنها مع ذلك أخطر الأفكار التي يتضمنها عرضه لمعالم مدينته الفاضلة؛ إذ إنها هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذه المدينة ذاتها بالصورة التي أرادها أفلاطون؛ ذلك لأن شرور العالم — كما أعلن أفلاطون في نصٍّ يمكن أن يُعَد قمة وتتويجًا للجزء السياسي من المحاورة، وربما للمحاورة كلها — لن تنتهي، ولن يعرف العالم استقرارًا، ما لم يصبح الفلاسفة حكامًا، أو يتحول الحكام إلى فلاسفة.
فمَنْ هو الملك الفيلسوف عند أفلاطون؟ لعل أول تفسير يطرأ على الذهن في صدد هذه الفكرة، هو أن أفلاطون كان يهدف منها إلى تأكيد أهمية المعرفة والعلم في تدبير شئون الحكم؛ وتبعًا لهذا التفسير، يكون المقصود من هذه الفكرة هو أن حكم الدولة لن ينصلح ما دام مبنيًّا على الثروة أو القوة المادية الغاشمة، وإن أصلح أنواع الحكم هو ذلك الذي يرتكز على العقل وعلى المعرفة. ولا شك أنه لو كان هذا هو هدف أفلاطون، فإنه يكون بذلك قد أشار إلى حقيقة خالدة ما زال لها في القرن العشرين من الضرورة ما كان لها أيام أفلاطون. فالعلم، والمعرفة، والحكمة، بأوسع معانيها — لا بمعنى الفلسفة المتخصصة فحسب — ما زالت شروطًا أساسية لكل حُكم سليم، وما أحسب أن مُضيَّ الأيام يمكن أن يغير من هذه الحقيقة شيئًا.
ولكن هل كان ما يعنيه أفلاطون من فكرة الملك الفيلسوف هو التنبيه إلى ضرورة إعطاء أهمية أساسية للعلم والمعرفة في عملية الحكم فحسب؟ الحق أن تحليل هذه الفكرة في ضوء السياق العام لتفكير أفلاطون، ولا سيما في الميدان السياسي، كفيل بإقناعنا بأنه كان يرمي إلى هدف مختلف إلى حد بعيد. صحيح أنه كان من الجهة السلبية، يحمل على حكم الثروة أو القوة المادية، بل لقد فرض على حكامه نظامًا صارمًا لا يتمتعون فيه بأية ملكية خاصة، وتكفل لهم فيه الدولة مطالبهم الضرورية مقابل قيامهم بإدارة شئونها، وهذا يعني أنه لا يريد حكامًا يرتكزون على قوة المال أو السلاح؛ وصحيح أيضًا أن الفلاسفة الملوك ليسوا حكامًا وراثيين، وإن من الممكن — نظريًّا — أن يكونوا في الأصل منتمين إلى أية طبقة اجتماعية. ومع ذلك كله فالأمر المؤكد أن الفيلسوف الملك عند أفلاطون حاكم مطلق، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ.
فالحاكم عند أفلاطون وصي على المحكومين، بل هو راعٍ لهم. والحق أن من أكثر التشبيهات تَكرارًا في محاورة الجمهورية، تشبيه المحكومين بالقطيع والحاكم بالراعي، وهو تشبيه لم يصدر عن أفلاطون اعتباطًا، بل كانت له دلالته بالنسبة إلى نظرة أفلاطون إلى طبيعة عملية الحكم وما يفعله الحاكم للمحكومين، فالحكم عنده مطلق، والحاكم يوجه المحكومين ويحميهم من الأخطار الخارجية والداخلية، بل هو يحميهم من أنفسهم؛ لأن المحكومين لو تُركوا لأنفسهم لما عرَفوا ما يفيدهم وما يضرهم، ولأوردوا أنفسهم موارد التهلكة. فالحكم إذن توجيه وإرشاد مستمر، قد يمتد حتى التفاصيل الدقيقة لحياة الناس. أما المحكومون أنفسهم فعليهم أن يطيعوا فحسب؛ إذ إنهم لا يعلمون من أمرهم شيئًا، وهم في حاجة دائمة إلى مَن يأخذ بيدهم وينير لهم طريقهم. وبعبارة أخرى، فليست العَلاقة بين الحاكم والمحكوم عَلاقةَ مشاركة أو تبادل، وإنما هي عَلاقةُ توجيهٍ من جانب وطاعة وامتثال من الجانب الآخر فحسب.
هذا النوع من أساليب الحكم قد يكون من الممكن تصوُّره في حالة الحكام العاديين، ولكن هل يمكن أن ينطبق على حكم الفلاسفة؟ أو بعبارة أدق، هل تتمشى هذه الطريقة في الحكم من طبيعة الفيلسوف إذا أصبح حاكمًا؟ لا بدَّ للإجابة عن هذا السؤال من أن نُذِّكر أنفسنا بطبيعة الفيلسوف كما حدَّدها أفلاطون ذاته، ثم نفكر في مدى انطباق هذه الطبيعة على الطريقة التي أراد أن يجعل الفيلسوف يدير بها شئون الدولة.
إن الفيلسوف عند أفلاطون هو قبل كل شيء مفكر باحث عن الحقيقة، وليس شخصًا «يملك الحقيقة». إنه في حالة سعي مستمر، وبحث لا ينقطع. والمثل الأعلى للفيلسوف هو سقراط، الذي كان يؤكد دائمًا أنه لا يعلم شيئًا، وأنه يستخلص الحقيقة من أذهان الآخرين. فالفيلسوف الحق ليس هو ذلك الذي يفرض آراءه على الآخرين، ويدعي أنه أعلم الجميع، أو أن نصيبه من معرفة الحقيقة يفوق نصيبهم، وإنما هو ذلك الذي يعرف كيف يشارك الآخرين في ذلك السعي الدائب الذي لا تبلغ الحقيقة إلا به.
فهل يمكن أن يكون مثل هذا الفيلسوف حاكمًا بالمعنى الذي حدَّده أفلاطون للفظ الحكم؟ هل يقبل أن يكون راعيًا للقطيع، وموجهًا لأناس لا يملكون إلا أن يطيعوه؟ هل يرضى أن يُعطيَ من جانب واحد، دون أن يأخذ شيئًا من الآخرين؟ من الواضح أن صفات الحاكم وصفات الفيلسوف، كما حددها أفلاطون في كلتا الحالتين، لا تنسجمان. فالحاكم عنده لا بدَّ أن يكون دكتاتورًا، أو حاكمًا مطلقًا. على أن دكتاتورية الفيلسوف مستحيلة؛ لأن الفيلسوف بطبيعته أبعدُ الناس عن الاستبداد برأيه وفرضه على الآخرين. وفي اللحظة التي يكتسب فيها الفيلسوف هذا الطبع، أي يصبح حاكمًا مطلقًا، لا يعود فيلسوفًا بالمعنى الصحيح. وإذن فمن الممكن أن يكون المرء فيلسوفًا بمعنًى، وحاكمًا بمعنًى آخر، ولكنه لا يمكن أن يكون هذا وذاك في آنٍ واحد، وبمعنًى واحد؛ إذ إن الفيلسوف الذي يحكم حكمًا مطلقًا لا بدَّ أن يكون شخصًا متناقضًا مع نفسه.
وكما قلنا من قبل، فإن أفلاطون لم يتصور الحكم إلا على أنه حكم مطلق. فهو يوجه أعنف الحملات إلى الديمقراطية، التي تصل الحرية فيها إلى حد الفوضى، بل تكاد الحيوانات فيها تشق عصا الطاعة على أصحابها وتسير في الطرقات بلا ضابط. وهو لا يقبل نظامًا للحكم يقوم على أساس تبادل الرأي بين الحاكم والمحكوم؛ إذ إن هذا النظام ديمقراطي؛ أي مرادف للفوضى في نظره. ولقد رأينا من قبل أن أساس العدالة عند أفلاطون هو أن يؤديَ كلٌّ وظيفته، دون أن يتدخل في عمل غيره، وأوضحنا كيف أن أفلاطون دعا إلى تأكيد هذا المعنى في أذهان الناس عن طريق أسطورة و«أكذوبة» يقال فيها للتابعين والمحكومين إنهم من معدِن أخس، أي من أصل أكثر وضاعة، حتى لا يتطلعوا إلى مَن هم أعلى منهم في السُّلم الاجتماعي. ولكن، ألا يتعارض كله مع رسالة الفيلسوف كما يحددها أفلاطون؟ أمِن اللائق بالفيلسوف أن يرى الجزء الأكبر من المجتمع وقد انحط إلى مرتبة القطيع، وحُرم من كل فرصة لممارسة التفكير في أي موضوع سوى ما يتعلق بحرفته أو مهنته المباشرة؟ وهل يقبل الفيلسوف أن يكون هو المصدر الوحيد للحكمة، وأن يكون معظم أفراد المجتمع مفتقرين إلى فرص اكتساب الحكمة؟ وهل يرضى الفيلسوف أن يقنع الناس بهذا الوضع الغريب عن طريق «أكذوبة»، وأن يفرضه عليهم بقوة السلاح؛ أي بمساعدة الحراس إذا ما بدرت منهم أية بادرة من التمرد؟
لا شك في أن النظرة النزيهة إلى الأمور تؤكد لنا أن أفلاطون لو كان متسقًا مع نفسه لدعا إلى أن يكون الحكم ديمقراطيًّا؛ ذلك أن الأسلوب الديمقراطي هو أقرب أساليب الحكم إلى طبيعة الفيلسوف، ففيه مساواة بين الأذهان، وفيه تبادل وتشاور بين شركاء يسعون إلى تحقيق غاية واحدة، وفيه تكافؤ بين الحاكم والمحكوم. وإذن فالطبيعة الفلسفية الحق، على نحو ما حددها أفلاطون، تجد في نظام الحكم الديمقراطي أفضل تعبير عنها. ولو كان لزامًا على الفيلسوف، كما عرفه أفلاطون، أن يختار نظامًا يحكم بمقتضاه، لوجب عليه أن يختار النظام الديمقراطي.
ومع ذلك، فهناك اعتبارات عملية أخرى كان من الضروري أن تصطدم بها محاولة التقريب بين الفلسفة ونظام الحكم الديمقراطي. فمن أين يكتسب الفيلسوف الفراغ الذي يُتيح له الانصراف إلى التأمل، لو كانت الديمقراطية — التي تستتبع تحرير العبيد أو تخفيف قيودهم — هي النظام السائد؟ وإذا كانت هناك مجموعتان من الناس، إحداهما تميل بحكم أوضاعها الاجتماعية إلى الديمقراطية، والأخرى إلى الأليجاركية أو الأرستقراطية، فأيهما ستكون أقدر على ممارسة التفلسف النظري؟ يبدو أن هذه الأسئلة تُعبِّر عن مأزق وقعت فيه الفلسفة اليونانية؛ فهي في روحها أكثر تمشيًا مع الديمقراطية، ولكنها من الوجهة العملية لا تزدهر إلا في داخل الطبقة الأرستقراطية. وبالفعل نجد أن العدد الأكبر من تلاميذ سقراط كانوا من هذه الطبقة؛ لأنهم هم وحدهم الذين كان لديهم من الفراغ، ومن الأمان المادي، ما يُتيح لهم أن يستمعوا إلى المناقشات النظرية لأستاذهم، ويأخذوها مأخذ الجِد.
ولقد أدَّى تطور الأحداث إلى زيادة الهُوَّة بين الديمقراطية وبين الفلسفة اتساعًا؛ ذلك لأن الديمقراطية الأثينية أدانت سقراط بتهمة إفساد عقول الشباب؛ أي ظهور عدد كبير من الطغاة والخونة من بين تلاميذه — وهي حقيقة تاريخية مؤكدة — وكان إعدام سقراط في واقع الأمر رمزًا للتباعد التام بين الديمقراطية وبين الفكر الفلسفي النظري. ومنذ ذلك الحين أصبحت الفلسفة اليونانية عدوًّا للديمقراطية، وداعية إلى الأرستقراطية.
وبالاختصار، فإن الفيلسوف إذا شاء أن يكون حاكمًا يطبق في حُكمه مبادئ الفلسفة الحق، فلا بدَّ له أن يحكم بطريقة مخالفة لتلك التي دعا إليها أفلاطون؛ أعني طريقة الراعي الذي يُرشد القطيع ويوجِّهه، فأقرب الطرق إلى طبيعته هي طريقة الحكم الديمقراطي، حيث تكون عملية الحكم قريبةَ الشبه من عملية الحوار الديالكتيكي التي يكون فيها قوام الفلسفة. ومع ذلك فقد كانت هناك ظروف عملية وتاريخية تجعل ذلك التقارب بين الفلسفة والديمقراطية مستحيلًا. ومن هنا فقد ظلت فكرة الملك الفيلسوف عند أفلاطون تمزقها تناقضاتها الداخلية.
(٥) الطابَع العام لتفكير أفلاطون السياسي
يضم التفكير السياسي عند أفلاطون عناصر تبدو في نظر الإنسان الحديث متناقضةً فيما بينها. فمن المستحيل إدراج مدينته الفاضلة ضمن أي تصنيف من التصنيفات المألوفة في عصرنا الحالي. ولو تأمَّلنا المقومات الرئيسية لتلك الدولة لوجدنا أن منها ما يمكن أن يوصف بأنه يتمشَّى مع أحدث الاتجاهات التقدمية؛ ففيها نوع ساذَج من التخطيط، وفيها إلغاء للملكية الخاصة بالنسبة إلى أعلى طبقات الدولة، وفيها إقلال من قيمة الثروة بالنسبة إلى قيمة العقل. ومع ذلك فإن من هذه المقومات ما يمكن أن يوصف بأنه رجعي متطرف: كالاحتفاظ بالتقسيم الطبقي وتأكيده، واحتقار العمل اليدوي، وتأكيد التفاوت الطبيعي بين البشر تحت اسم «أداء كل لوظيفته الطبيعية»، والاتجاه المحافظ، المتمسك بالتقاليد الأقدم عهدًا، وكراهية الديمقراطية والدفاع المتحمس عن الأرستقراطية. فدولة أفلاطون المُثلى إذن تتجاوز نطاق التصنيفات الحالية لأنظمة الحكم، وفيها عناصر تبدو متنافرةً إلى حدٍّ بعيد.
والأمر الذي لا شكَّ فيه أن أفلاطون قد جمع في هذه المحاورة، على نحوٍ فريد، بين المشروعات البعيدة كل البعد عن الواقع الموجود بالفعل — كإلغاء الأُسر وشيوعية المال والنساء — وبين الأوصاف التشريحية الدقيقة لظواهر موجودة بالفعل. فهو لم يكن على الإطلاق مفكرًا مثاليًّا حالمًا طَوال محاورته، وإنما كان في بعض الأحيان يغوص في أعماق الواقع إلى حدٍّ يبعث على الدهشة والإعجاب.
ولنتأمل في هذا الصدد وصفه الرائع للطاغية — وهو وصف يصلح أنموذجًا لهذا النوع من الحكام في كل عصر؛ فالطاغية في رأيه يبدأ بداية شعبية؛ إذ يختاره الشعب على أنه نصيره وحاميه. وهو في البداية يبذل الوعود للناس، ويوزع عليهم الابتسامات والمنح. ولكنه حين يخفق في إرضاء مطالبهم، يتجه إلى إشعال الحروب واحدة تلو الأخرى «حتى يشعر الشعب بحاجته إلى قائد» (٥٦٦). وهو يجند الشعراء لخدمة أغراضه، ويجعلهم «يطوفون البلاد واحدة تلو الأخرى فيجمعون الجماهير، ويستأجرون أصحاب الأصوات الرخيمة المقنعة» (٥٦٨)؛ أي إن أفلاطون يؤكد حاجة الطاغية إلى تجنيد أجهزة الدعاية لخدمة أغراضه، وإن لم يكن لفظ الدعاية قد أظهر في ذلك العصر بطبيعة الحال. ويبدع أفلاطون في وصف حالة الرعب التي يعيش فيها الطاغية، وخوفه من أن ينقضَّ عبيده عليه (٥٧٧–٥٧٩). وهو يجمل الوصف بقوله إن ذلك الذي يظن نفسه أكثر الناس حرية، هو في الواقع أكثرهم عبودية: فهو مضطر إلى تملق الناس، وهو عاجز عن تحقيق أبسط رغباته، وهو يقضي حياته في خوف دائم (٥٧٩). فهل يمكن أن يقال عمن يقدم مثل هذا التحليل النابض بالحياة لحالة الطاغية أنه لم يكن يستمد أفكاره من واقع العالم السياسي، وإنما من «مثال» الدولة كما صوره له خياله فحسب؟
ولعل أوضح سمات هذه المجتمعات القبلية التي كان أفلاطون يحن إليها، هي انعدام الفردية، أي تلاشي الفرد في الكل الأكبر الذي يكوِّنه المجتمع الكامل. فهل كان أفلاطون يُنكر الفردية إلى هذا الحد؟ لا جدال في أن من الصعب — لأول وهلة — أن نُجيب عن هذا السؤال بالإيجاب؛ ذلك لأن فلسفة أفلاطون تبدو في ظاهرها دفاعًا مجيدًا عن الفرد، ودعوة متحمسة إلى تأكيد القيم الفردية. ألم يفسر بعض الشرَّاح محاورة الجمهورية بأسرها — كما أوضحنا من قبل — بأنها تستهدف تربية النفس الفردية وتهذيبها؟ ألم يكن أفلاطون أبا المثالية؛ والمثالية هي المذهب الذي يرفع لواء الفردية؟ ألم يوصف أفلاطون بأنه «فيلسوف إلهي»، يدعو إلى العلو بالنفس الفردية إلى مرتبة القداسة؟ كل هذه تفسيرات شائعة لاتجاهات أفلاطون، وهي تمثل دون شكٍّ عقبات لا يسهل التغلب عليها، في وجه الرأي القائل إن فلسفة أفلاطون السياسية تدعو إلى إنكار الفردية.
ومع ذلك، فهناك شواهد أكثر يقينًا على أن أفلاطون كان يستهدف مثل هذه الغاية بالفعل؛ أي إنه كان في صميمه فيلسوفًا معاديًا للفردية، فالمبدأ الرئيسي للعدالة — وهو أداء كلٍّ لوظيفته — يعني تغليب المصالح العامة للمجتمع على مصالح الفرد؛ إذ إنه يؤدي إلى القول بأن الفرد لا يستطيع أن يحقق ذاته إلا بالقدر الذي تقتضيه الخُطة العامة المرسومة للمجتمع. صحيح أن هذا التحقيق الذاتي متوقف على ما يسميه أفلاطون ﺑ «طبيعة الفرد»، بحيث إن الفرد ذا الطبيعة المتعددة الجوانب يستطيع أن يحقق ذاته بقدر تعدُّد جوانب طبيعته. ومع ذلك فإن من المشكوك فيه أن يكون من الممكن في كل الأحوال الاهتداء إلى الحدود الحقيقية لما يُسمى بالطبيعة الفردية؛ إذ إن هذه الطبيعة قد تكون محدودة الجوانب أو ضيقة النطاق نتيجةً لظروف اجتماعية أو عوامل مكتسبة، لا نتيجة لتركيب متأصل فيها. وفي هذه الحالة يكون المعنى الحقيقي للمبدأ الأفلاطوني هو أن يؤديَ كلُّ فرد الدَّور الذي يلائم الوضع المحدد له في المجتمع.
ولعل الدليل القاطع على أن فلسفة أفلاطون السياسة كانت مضادةً تمامًا للنزعة الفردية، هو دعوته الصريحة إلى ترك الضعفاء والمرضى يموتون، بل إلى قتلهم إذا اقتضى الأمر. فهو يقول — بلهجة لا يستطيع أي مفكر فاشي أن يجاريَها في قسوتها — إن من الواجب أن «يُعنى الأطباء والقضاة بالمواطنين من ذوي الطبائع الجسمية أو النفسية السليمة، أمَّا مَن عداهم، فسندع منهم أولئك الذين اعتلَّ جسمهم يموتون، وسيقضي المواطنون ذاتهم على أولئك الذين اعوجَّت نفوسهم وانحرفت طبائعهم» (٤١٠). ومعنى ذلك، بعبارة أخرى، أن حق الحياة — وهو أول الحقوق وأبسطها — ليس حقًّا طبيعيًّا للفرد، وإنما يكون للفرد هذا الحق بقدر ما يكون سليمًا وصالحًا لخدمة المجتمع وأداء وظيفته فيه فحسب.
ومن جهة أخرى، فلا جدال في أن نقد أفلاطون للديمقراطية، وتحامله الشديد عليها، يدل على نزوع قوي إلى ما يُطلق عليه في المصطلح السياسي الحديث اسم الفاشية. فالجماهير في رأيه في حاجة دائمة إلى من يوجهها ويرشدها، وهي «قطيع» لا بدَّ له من راعٍ، وتفتقر إلى الذكاء أو التجربة التي تتيح لها إدراك مصالحها الخاصة ذاتها. والمساواة في الديمقراطية شرٌّ مؤكد، وكذلك الحال في الحرية، التي تصل فيها إلى حد أن يتساوى العبيد بأسيادهم، وتهيم الحيوانات ذاتها على وجوهها في الطرقات دون ضابط. وفي الديمقراطية تترك الفنون حرة، ويكون للشعراء مطلق الحرية في أن يقولوا ما يشاءون، بالأسلوب الذي يفضلون، وهي كلها في نظر أفلاطون مظاهر للجموح والفوضى ينبغي التخلُّص منها في المدينة المُثلى.
ولا شكَّ في أنه، إذا صح أن مذهب أفلاطون السياسي يستحق اسم الفاشية بناء على الأسباب السابقة، فمن الواجب أن نذكر أن هذا الوصف لا ينطبق عليه بكل عناصره. فمن الإنصاف لأفلاطون أن نقول إن تفكيره لم يكن يتصف بعنصر أساسي من عناصر الفاشية، ألا وهو الغوغائية أو الديماجوجية؛ أي استغلال غرائز الجماهير وانفعالاتها السطحية من أجل تحقيق أهداف الحاكم. فهو بالفعل يدعو إلى أرستقراطية العقل والحكمة والفكر، وهي عناصر تتنكر لها الفاشية ولا تقيم لها وزنًا. أما العنصر الذي يستحق أفلاطون بالفعل أن يُسمى من أجله فاشيًّا، فهو فُقدانه الثقةَ في الإنسان العادي، واعتقاده الراسخ بأن هذا الإنسان لو تُرك وشأنه لضلَّ الطريق، وبأنه في حاجة دائمًا إلى توجيه من حاكم مطلق أعقل منه وأحكم. هذا الاعتقاد بضرورة فرض وصاية على الإنسان العادي ربما كان أهم العناصر المميزة لكل مذهب فاشي، وعلى الرغم من أن هذه الوصاية عند أفلاطون هي وصاية العقلاء والحكماء، وليست وصاية الديماجوجيين أو من يستغلون الدِّعاية الرخيصة في تخدير حواس الجماهير، فإن آراءه السياسية تظل مع ذلك تستحق اسم الفاشية.
صورة رهيبة هذه ولا شك، ومع ذلك فقد تَغنَّى بها الكُتاب، ومجَّدها المفكرون، وأشادوا بمبدعها ووصفوه بالفيلسوف الإلهي. ولست أدري أكان ذلك نفاقًا منهم، أم تحيزًا لجانب معين إلى الحد الذي يُعمي البصيرة عن كل الجوانب الأخرى؟ قد يكون في الأمر قدر من هذا وقدر من ذاك، ولكن الأهم من ذلك كله هو أنَّ تضارُب التفسيرات دليل على عظمة العمل الذي يُفسَّر. ومن المؤكد أن جمهورية أفلاطون تقدم إلينا مثلًا آخر للعمل الفلسفي الرابع الذي يجد فيه كل قارئ ما يريد. وإذا كان ما وجدناه في مبادئها السياسية شيئًا يدعو إلى النفور، فلنعترف مع ذلك بأنها علم عظيم، بدليل أنها على الرغم من كل عناصرها المنفرة هذه، استطاعت أن تكون جزءًا لا يتجزأ من تراث الفكر الغربي، وربما الإنساني، بل كانت من المؤلفات الفردية القليلة التي أسهمت في تشكيل ذلك التراث وصبغته المميزة.
انظر: E. Bréhier: Etudes de philosophie antique, Paris (P.U.F.), 1955, pp. 54-55.
Farrington: Science and Politics …, p. 29.
وكذلك:
P. M. Schuhl: Essai sur la formation …, p. 376.
مقتبس من مقال: «الرق في العالم القديم» بقلم جونس A. H. M. Jones في كتاب:
Slavery in Classical Antiquity, Edited by M. J. Finley, Cambridge, 1960, p. 3.
Lachièze-Rey: Les idées morales., pp. 130-131.
وانظر أيضًا:
Nettleship: Lectures on the “Republic” of Plato, p. 170.