المذهب الأخلاقي
(١) دلالة فكرة «الانسجام»
يجوز للمرء أن ينظر إلى محاورة الجمهورية — من زاوية معينة — على أنها محاورة أخلاقية فحسب. فمن الباحثين مَن يؤكدون أن الآراء التي تضمنتها المحاورة حول نظام الدولة ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي أنموذج مكبر للمجال الفردي؛ أي إن السياسة مجرد مثل يوضح ما ينبغي أن تكون عليه الأخلاق. وقد عرضنا من قبل لهذا الرأي وأوضحنا الأسباب التي تدعونا إلى عدم الاقتناع به. وعلى أية حال فقد كان من الممكن أن تناقش جميع الموضوعات التي أدرجناها من قبل تحت باب السياسة، ضمن موضوع الأخلاق، لو كنا ممن يؤمنون بأن الأبحاث السياسية عند أفلاطون وسيلة لا غاية. ولعل أبرز هذه الموضوعات، موضوع العدالة. ففكرة العدالة تبدو منتمية إلى مجال الأخلاق بقدر ما تنتمي إلى مجال السياسة. وأفلاطون ذاته يدرجها ضمن «الفضائل» الرئيسية الأربع. ومع ذلك فقد ناقشنا هذه الفكرة في مجال السياسة أولًا لاعتقادنا بأن النغمة السياسية هي الغالبة على تفكير أفلاطون في هذا الموضوع، وبأن آراءه الأخلاقية في العدالة قد تكون متأثرة — بطريقة لا شعورية على الأقل — بمواقفه السياسية.
وعلى أية حال، فمن الممكن اتخاذ رأي أفلاطون في العدالة — على المستوى الفردي — نقطة بداية لبحث مذهبه الأخلاقي. عندئذٍ سنجده يطبق على الفرد نفس المبدأ الذي طبَّقه على الدولة. وهو مبدأ أداء كلٍّ لوظيفته الطبيعية. فالفرد — كالدولة — ليس وحدة متجانسة، وإنما هو مركب معقَّد ينطوي على «أجزاء» مثلما تنطوي الدولة على طبقات. وهو يحرص على الفصل بين أجزاء النفس مثلما يحرص على الفصل بين طبقات الدولة. فهو يبرهن في الكتاب الرابع (٤٣٩–٤٤١) على أن النفس كثرة لا وحدة، وعلى أن لهذه النفس ثلاث مبادئ ينفصل كل منها عن الآخر. ولا شك أن هذه النظرة تؤدي إلى تفتيت وحدة النفس وفُقدان تكاملها. وبالفعل كان من نتيجة سيادة هذا الاتجاه التجزيئي طويلًا في تاريخ الفكر الفلسفي أن وقع الباحثون في علوم الإنسان — ولا سيما علم النفس — في أخطاء عديدة، لم ينتبهوا إليها إلا منذ عهد قريب؛ إذ إن علم نفس الملكات والقدرات المنفصلة ظلَّ سائدًا حتى فترة متأخرة من القرن التاسع عشر، بل إن هذه العلوم ما زالت حتى اليوم تعاني من آثار الاتجاه الانفصالي في دراسة الإنسان، وتُبذَل أضخم الجهود من أجل الوصول إلى نظرة متكاملة إلى النفس البشرية.
كذلك كان لهذا الاتجاه التجزيئي تأثيره الواضح في الأخلاق، حيث نظر إلى ملكة الرغبة أو الشهوة على أنها مبدأ غريب عن الإنسان، وإلى العقل على أنه هو وحده الحاكم، وبين الاثنين حرب لا هوادة فيها. مثل هذا التفتيت للشخصية الإنسانية انعكس على الأخلاق التقليدية بأسْرها، وما زال من الممكن أن نجد حتى اليوم آثارًا لهذا الافتقار إلى التكامل الأخلاقي في الإنسان، نتيجةً لاستمرار الاعتقاد بأن الشخصية الإنسانية تتألف من قوًى وملكات متعارضة، يسير كل منها في اتجاه مخالف لاتجاهات الأخريات.
ولقد كان من الطبيعي أن يحاول أفلاطون عبور هذه الهوة التي استحدثها بين أجزاء النفس الثلاثة، وكانت وسيلته إلى ذلك هي فكرة «الانسجام». ومع ذلك فقد كان الانسجام الذي يدعو إليه أفلاطون بين أجزاء النفس انسجامًا بين عناصرَ متنافرة، لا يتم إلا بنوع من القوة والإرغام، والدليل على ذلك أن القوة العاقلة التي ينبغي أن تكون لها الغلبة، تستعين بالقوة الغضبية — أي مبدأ الاندفاع والنشاط والتحمس في الإنسان — من أجل إخضاع القوة الشهوية وقهر رغباتها، مثلما يستعين حكام الدولة من الفلاسفة بالجند — أو الحراس — في إخضاع عامة الشعب وإرغامها على التزام حدودها.
والواقع أن فكرة الانسجام — من حيث هي أساس هام من أسس المذهب الأخلاقي عند أفلاطون — فكرة غامضة إلى حدٍّ بعيد، ويبدو أن أفلاطون ذاته لم يبذل جهدًا كبيرًا من أجل تبديد هذا الغموض، بل إن كتاباته في هذا الصدد تنطوي على مواقف معقدة مختلطة. فهو لم يوضح أبدًا إن كان ما يعنيه بالانسجام هو تحقيق كل ملكات النفس بصورة متآلفة، أم تحقيق الأرفع منها على حساب الأدنى. في الحالتَين يمكن أن يكون هناك انسجام، ولكن شتان ما بين الموقفَين! إن الانسجام في الحالة الأولى هو اعتراف بطبيعة الإنسان في عناصرها الكاملة، وبأن الشخصية الإنسانية لا تكتمل إلا إذا حققت كل هذه العناصر معًا، دون أن يطغى واحد منها على الآخر. وفي هذه الحالة تكون فكرة الانسجام تعبيرًا عن حالة التحقق الكامل لكل جوانب الطبيعة البشرية؛ أي إنها تكون اعترافًا صحيحًا بجميع عناصر طبيعة الإنسان. أما في الحالة الثانية فإنها تكون تعبيرًا عن اتجاه إلى الزهد، وإلى كبت عناصر معينة من الطبيعة البشرية في سبيل إعلاء عناصر أخرى؛ ويتمثل الانسجام في هذه الحالة في حفظ النسبة بين العناصر المتباينة، أي في إعطاء كل منها القدر الذي تستحقه من الاهتمام.
ولقد كان هذا الازدواج واضحًا كل الوضوح في كتابات أفلاطون، فمن الملاحظ أولًا أن الاتجاه إلى الزهد لا يحتاج لديه إلى دليل. فما أظن أن أحدًا قد دعا إلى الزهد بنفس القوة التي دعا إليها أفلاطون، عندما قال في محاورة فيدون إن «الجسم مقبرة النفس». ولا تخلو محاورة الجمهورية بدورها من هذه النغمة الزاهدة الواضحة، التي تبلغ قمتها في عبارة يقولها قرب نهاية المحاورة: «إن الأمور الإنسانية كلها لا تستحق من المرء اهتمامًا» (٦٠٤). ولنضف إلى ذلك بطبيعة الحال تلك القرائن غير المباشرة على الاتجاه إلى الزهد، مثل إعلاء المعقولات فوق المحسوسات واحتقار العالَم المادي، وتمجيد المعرفة النظرية الخالصة بالقياس إلى كل معرفة ترتبط أدنى ارتباط بعالم الأشياء. هذا العنصر الزاهد هو العنصر الفيثاغوري في تفكير أفلاطون، وهو بالتالي عنصر مستمد — على الأرجح — من تأثره بتلك العقائد الشرقية القديمة التي لخصتها الفيثاغورية وزرعتها في تربية كانت في البَدء غير صالحة لها، وهي البيئة اليونانية. ولسنا في حاجة إلى الإفاضة في الحديث عن الاتجاه الزاهد عند أفلاطون؛ إذ إن هذا الاتجاه هو على الأرجح، العامل الأكبر في دوام شهرة أفلاطون في العالم الغربي، وفي تحقيق اندماج سريع بين تعاليمه وبين تعاليم التراث المسيحي الذي كان بدوره زاهدًا، والذي ينبع بدوره من أصول شرقية قريبة الشبه بتلك التي استمد منها المذهب الفيثاغوري تعاليمه.
على أن الأمر الذي ينبغي أن نتنبه إليه، هو أن هذا الزهد لم يكن هو العنصر الأخلاقي الوحيد في تفكير أفلاطون، بل كان يوازيه عنصر آخر يكاد يكون من الصعب تصوره وهو يقف مع العنصر الزاهد جنبًا إلى جنب. ففي الأخلاق الأفلاطونية اتجاه واضح إلى عدم إغفال المتع الدنيوية. بل إن الصورة المُثلى التي يرسُمها لحياة أرفع فئات الناس كما ينبغي أن تكون، هي صورة أناس لا يزهدون على الإطلاق في المتع الجسمية، وكل ما في الأمر أنهم ينظمونها لمصلحة الدولة. ومن الجائز أن هذا النوع من تنظيم الحياة الجسمية بحيث تلائم أغراضًا أعلى وأشمل، هو المقصود بإخضاع القوة الشهوية للقوة العاقلة. ومع ذلك فالذي يهمنا في الأمر هو أن ذلك الذي وصف الجسم بأنه «مقبرة للنفس» وأكد أن الحياة الأرضية رحلة عابرة، كلما كانت قصيرة كان ذلك أفضل، وهو ذاته الذي دعا إلى أن تنظم الدولة احتفالات تجمع فيها بين الشبان والشابات من الحراس في مواسم معينة، وإلى مكافأة المحارب الشجاع بمزيد من فرص الاتصال الجنسي، حتى يكون في ذلك حافز له على إبدائه المزيد من الشجاعة في القتال (٤٦٨).
والواقع أن الجو العام الذي ترسُمه محاورة مثل «الجمهورية» — وكذلك مثل «المأدبة» على وجه الخصوص — أبعد ما يكون عن ذلك الزهد القاتم الذي يوحي به احتقار أفلاطون، على المستوى النظري، لكل ما له صلة بعالم الأجسام المحسوسة. فالبيئة التي ترسُمها المحاورة هي بيئة مجموعة من الشبَّان المترفين، الذي توافر لهم من الفراغ ما يسمح لهم بأن يكرسوا وقتهم لمتابعة مناقشات سقراط. وفي خلال المحاورة تظهر علامات واضحة على أن هؤلاء الشبان كانوا يمارسون متعًا جسمية بطريقة «متميزة» عن تلك التي كان يمارسها بها العامة من الناس؛ أعني أن «الجنسية المثلية» كانت متفشيةً بينهم، وعلى أن أفلاطون كان ينظر إلى أمثال هذه المتع على أنها مشروعة، بل يشجع عليها ويستحسنها، في الوقت الذي أدانتها فيه المذاهب الأخلاقية المثالية. حتى تلك التي لم تكن تتميز باتجاه واضح إلى الزهد وبالاختصار، فهناك اتجاه أقوى إلى الاعتراف بمطالب الجسم، مع إخضاع هذه المطالب لتنظيم دقيق يتمشى مع الحياة العسكرية الصارمة التي تحياها أرفع الطبقات في مدينته الفاضلة.
وإذن، ففي محاورة الجمهورية، وفي غيرها من محاورات أفلاطون، تتخذ فكرة الانسجام — بوصفها واحدًا من المفاهيم الأساسية في الأخلاق — طابعًا مزدوِجًا؛ فهي من جهةٍ انسجامُ الطاعة والخضوع، أي طاعة القوى الدنيا في الإنسان لتوجيهات القوى العليا وخضوعها لأوامرها، وهي من جهة أخرى انسجام التكامل، أي تحقيق القوى المختلفة في النفس الإنسانية على أكمل نحو ممكن، مع محاولة الوصول إلى التأليف بينها. وبذلك تنطوي الأخلاق الأفلاطونية على معاني الكبت ومعاني الانطلاق في آنٍ واحد، وإن كان المعنى الأول هو الذي كُتب له البقاء فيما بعد، وذلك لسببين: أولهما أن البيئة اللاحقة التي عاشت فيها الأفلاطونية كانت بيئةً زاهدة، وثانيهما أن السياق العام لفلسفة أفلاطون النظرية كان مؤديًا إلى ترجيح جانب الزهد، واحتقار العالم المحسوس.
ما هو «الخير»؟
من المعترف به أن أفلاطون كان أعظم المدافعين، في العالم القديم، عن فكرة موضوعية القيم، أي عن الرأي القائل إن أحكام الناس عما هو خير أو شر، وصواب أو خطأ، وجميل أو قبيح، ينبغي ألا تخضع لمقاييس متغيرة مثل أذواقهم الفردية أو تجاربهم الذاتية أو آرائهم الشخصية، وإنما الواجب أن تكون المقاييس التي تخضع لها هذه الأحكام ذات طابع أشمل، لا يخضع للتغير أو التطور، ولا يعترف بالكثرة أو الاختلاف. ولعل الأمر الذي حال بين أفلاطون وبين وضع مذهب أخلاقي مطلق بالمعنى الكامل لهذه الكلمة، مثل مذهب «كانْت» في العصر الحديث، هو أن أفلاطون كان متأثرًا بذلك الاتجاه العام في الأخلاق اليونانية إلى تأكيد فكرة «السعادة» بوصفها غايةً لسلوك الإنسان، وإلى تجاهل فكرة «الواجب» بوصفها قطبًا آخر يمكن أن تنجذب إليه أفعال البشر. ومع ذلك، فعلى الرغم من أن الأخلاق عند أفلاطون كانت بدورها أخلاقًا غائيَّة، شأنها شأن كل أخلاق يونانية، فإن بوادر الأخلاق المطلقة تظهر لديه من آنٍ لآخر. ففي مطلع الكتاب الثاني من الجمهورية مثلًا، نراه يصنف الأشياء الخيرة إلى أشياء تُطلب لذاتها، بغض النظر عن نتائجها، وأخرى تُطلب لذاتها ولنتائجها معًا، وثالثة تطلب لنتائجها فقط (٣٥٧). ولو كان مثل هذا التقسيم قد عرض على فيلسوف مثل «كانْت» لجعل الفئة الأولى هي الأرفع؛ إذ إن فلسفته قد استبعدت فكرة الغائية إلى حد عدم إدخال النتائج في الحسبان عند تقويم أي سلوك أخلاقي. أما أفلاطون فقد اقترب إلى حدٍّ ما من هذا الرأي، حين فضَّل الفئة الأولى على الثالثة، ولكنه مع ذلك كان متمشيًا مع الاتجاه العام للتفكير الأخلاقي اليوناني، فجعل الفئة الثانية أرفع الجميع.
وعلى أية حال فقد كان أفلاطون، كما قلنا، حامل لواء النظرة المطلقة إلى القيم في العالم القديم. وكان أبلغ تعبير عن اتجاهه إلى صبغ القيم بالصبغة المطلقة، هو توحيده بين الخير — أي الرمز الأعلى للقيم — وبين الألوهية، وجعله إياه مبدأ أسمى للكون. ولقد كان أفلاطون في هذا الصدد أكثرَ اتساقًا مع نفسه من كثير من المذاهب اللاهوتية التالية، وذلك حين أكد أن الصفة الوحيدة للألوهية هي الخير، وأن الألوهية لا يمكن أن تكون عِلَّةً للشر. «ومعنى ذلك أن ما هو خير ليس علَّة كل شيء، وإنما هو علَّة الأشياء الخيرة، لا الشريرة … (فهو) ليس علة معظم ما يحدث للناس؛ إذ إن الخير في حياة البشر قليل والشر فيها كثير. فالخير ليس له من مصدر سوى الله، أما الشر فلنبحث له عن مصدر غيره» (٣٧٩). وقد يكون من التقصير — من وجهة النظر اللاهوتية الخالصة — أن يقول أفلاطون بألوهية محدودة القدرة، تستطيع أن تكون عِلَّة للخير ولا تستطيع أن تكون علَّة للشر، ولكن من المؤكد أن هذه الطريقة في التفكير أكثرُ منطقية — من وجهة النظر الأخلاقية — من طريقة التفكير الأخرى التي تجعل المبدأ الكوني علةً للخير والشر معًا، وتصر في الوقت ذاته على جعله القيمة العليا في الكون.
ولقد كان من الطبيعي أن يختلف الشرَّاح في تحديد ماهية ذلك «الخير» الذي جعله أفلاطون قمة لمذهبه الأخلاقي والميتافيزيقي في آنٍ واحد. فهل هو القيمة العليا فحسب، أم أنه المبدأ الميتافيزيقي الأعلى؟ وهل الخير «خالق» بالمعنى الحرفي أم بالمعنى المجازي؟ وهل يمكن المُضيُّ إلى النهاية في تشبيه عَلاقة الخير بالكون بعَلاقة الشمس بعالَمنا الأرضي (وهو التشبيه المشهور في «أسطورة الكهف»)، فنقول إنه لا يزيد من وضوح رؤيتنا للأشياء فحسب، وإنما هو سبب وجود هذه الأشياء أيضًا، مثلما أن الشمس سبب وجود كل ما في العالم الأرضي؟ إن أوصاف الخير، في الكتاب السادس من «الجمهورية» تكاد تقطع بأنه جعل منه مبدأ كونيًّا، إلى جانب كونه قيمة، ونظر إليه على أنه أرفع موضوعات المعرفة والعلم، لا الأخلاق فحسب (٥٠٩). ومع ذلك فإننا نصادف هنا نفس المشكلة التي نصادفها إزاء فكرة المُثُل الأفلاطونية بوجهٍ عام. فسوف نجد على الدوام شرَّاحًا يأخذون أوصاف أفلاطون بمعناها الميتافيزيقي الحرفي، وشرَّاحًا آخرين يحاولون أن يُضفوا عليها صبغةً أقربَ إلى ذهن الإنسان الحديث، ويرون فيها تعبيرًا رمزيًّا عن حقائقَ ما زلنا نقول بها إلى اليوم.
وعلى هذا الأساس الأخير، يكون من الممكن أن يُفهَم حديث أفلاطون عن «الخير»، وعلوه على كل أنواع الخير الجزئية التي يسعى إليها الإنسان في هذا العالم، على أنه تأكيد الموضوعية الخير وعلوه على المقاييس الفردية الجزئية فحسب. فحين يؤكد أفلاطون أن المرء يعجز عن فهم الطبيعة الحقة للفضائل ما لم يعرف «الخير»، وأن عَلاقة الفضائل بالخير هي التي تُضفي عليها قيمتها، وتجعلها فضائل بالمعنى الصحيح — فمن الممكن أن يعني ذلك، بلغتنا الفلسفية الحديثة، أن علم الأخلاق لا يكتسب من دراسة أمثلة جزئية للسلوك الأخلاقي، أو من استقراء للفضائل كما تمارس بالفعل، بل ينبغي أن تكون هناك غاية عليا تتحدد من خلالها قيمة السلوك الفاضل، بحيث تكون نقطة البداية في أية دراسة علمية للأخلاق هي تحديد هذه الغاية القصوى. صحيح أن عامة الناس يكتفون في سلوكهم بالرأي الشائع عما هو خير وشر؛ أي إنهم يقتصرون على رؤية الأمثلة الجزئية للفضيلة، ولا يمتدُّون بأنظارهم إلى المبدأ العام الكامن من ورائها، ولكن الفيلسوف لا يستطيع أن يفهم الخير من خلال ما يفضله الناس بالفعل، بل هو يبحث في كل شيء عن علَّته، وعن الأسباب التي تجعله على ما هو عليه. وعندئذٍ يكون لزامًا عليه أن ينتقل من كل خير جزئي إلى «صورة الخير»، لكي تكون معرفته بالأخلاق مبنيةً على «العلم» بمعناه الصحيح، لا على الظن أو التجربة أو الممارسة وحدها.
وبهذا المعنى يكون أفلاطون أول الباحثين الأخلاقيين الذين حاولوا أن يتجاوزوا نطاق الغايات المباشرة، كاللذة والشرف والتكريم والمال، ليصلوا إلى المبدأ الكامن من ورائها — وهو مبدأ عقلي يعلو على كل الأمثلة الجزئية للخير. وإذا كانت كل الغايات المباشرة تستمد قيمتها من هذا المبدأ الواحد، فإنه لا يستمد قيمته إلا من ذاته. وبعبارة أخرى، فإن أفلاطون كان أول من أدرك أن فلسفة الأخلاق، في صورتها النهائية، ينبغي أن تتجاوز ذاتها لكي تتخذ لنفسها أساسًا من مثل أعلى نهائي، تستمد منه الغايات الأخلاقية قيمتها، بل تستمد منه المفاهيم الأخلاقية معناها. ولا جدال في أن مبدأ كهذا لا يفهم إلا بعد تدريب طويل للعقل على التفكير المجرد، وعلى ممارسة ملكاته الاستدلالية. ومن هنا كان تأييد أفلاطون لصعوبة هذا التحول من عالم الجزئيات إلى عالم المبدأ الواحد، واستحالة معاينة «شمس العقل» دفعة واحدة، وضرورة الانتقال نحو النور تدريجًا، بعد مران شاق وتدريب طويل، يستغرق كل المراحل التعليمية التي عرض أفلاطون تفاصيلها في محاورة الجمهورية.
ومع ذلك، فلو أخذنا نصوص أفلاطون بمعناها الحرفي، ولا سيما في الجزء الأخير من الكتاب السادس، لكان هذا التفسير غير كافٍ. فالخير يبدو عندئذٍ مبدأً أنطولوجيًّا خالقًا، لا مجرد قانون أسمى أو قيمة عُليا تكتسب بها الفضائل العملية طابعًا عقليًّا أو علميًّا، وتتجاوز بفضلها مجال الشعور الذاتي أو التفضيل الشخصي. وهو يبدو، بعبارة أخرى، مبدأ ينتمي إلى مجال الميتافيزيقا أكثر مما ينتمي إلى مجال الأخلاق. على أن إبداء رأيٍ نهائيٍّ في هذا الموضوع يتوقف — كما أشرنا من قبل — على التفسير الذي يقول به المرء لنظرية المثُل في صورتها العامة؛ أعني: هل تفهم المثل بمعناها الحرفي، من حيث هي موجودات لها عالمها الخاص، أم بالمعنى المجازي، من حيث إن استقلالها هذا تعبير متطرف عن استقلال المبادئ العقلية عن الجزئيات التي تتجسد هذه المبادئ فيها.
وليس هذا هو موضع البحث في هذه المشكلة الميتافيزيقية، بل يكفينا الآن أن نشير إلى مسألة نعتقد أن من الواجب التنبيه إليها في هذا الصدد؛ فحين يصبح الخير مبدأ أنطولوجيًّا، يكون معنى ذلك أن مسار الكون بأسره يتجه بالضرورة نحو الخير. وفكرة الضرورة هذه — حتى ولو كانت ضرورة تحقيق الخير — تتنافى مع حرية الإرادة البشرية؛ إذ لو كان في العالم مبدأ يعمل على توجيه مسار الحوادث نحو الخير، فلن يكون للإرادة عندئذٍ دورٌ في توجيه الإنسان إلى اتباع الخير ومقاومة الشر، ما دام المبدأ الكوني هو الذي يتكفل بتحقيق هذه الغاية. ومع ذلك فقد تضمنت محاورة الجمهورية دفاعًا رائعًا عن الحرية الإنسانية، ونفيًا قاطعًا لتدخل الضرورة الكونية في أمور البشر. وما أظن أن أحدًا قد أكد حرية إرادة الإنسان بالقوة التي أكدها قائل هذه الكلمات: «أما الفضيلة فلا تعرف سيدًا؛ فالمرء يحصل منها المزيد أو الأقل على قدر ما يكرمها أو يزدريها. واللوم إنما يقع على مَن يختار، أما السماء فلا لوم عليها» (٦١٧). ولو تأملنا موقع هذه الكلمات الحاسم في نهاية محاورة الجمهورية، والإطار الأسطوري الضخم الذي أحاطها به أفلاطون — وهو إطار لم يكن يهدف آخر الأمر إلا إلى تأكيد فكرة حرية الفرد في اختيار مصيره، وضرورة إبداء قدر من الاهتمام بالدراسة التي تُعيننا على القيام بهذا الاختيار يفوق اهتمامنا بدراسة أي موضوع آخر — لو تأملنا ذلك كله، لجازَ لنا أن نقول: إن أفلاطون قد تعمَّد أن يجعل من فكرة حرية الإرادة البشرية نهايةً حاسمة لمحاورته الكبرى، وأن يقدم إلينا وصيته الفكرية في هذه الكلمات الحافلة بالمعنى، التي لا تقلُّ عمقًا في عصرنا الحالي عما كانت عليه في عصر أفلاطون، والتي يدهش المرء بالفعل إذ يجد أحدث الفلسفات تتجه إلى المناداة بها: «اللوم إنما يقع على من يختار. أما السماء فلا لوم عليها.»
لقد توج أفلاطون مذهبه الأخلاقي — في لمحة رائعة — بالفكرة القائلة إن الإنسان صانع مصيره. وصاحب هذه الفكرة ليس في حاجة إلى القول بمبدأ كوني يفرض الخير على مجرى الأحداث. ومع ذلك، فمن سخرية الأقدار أن أفلاطون لم يتوسع في فكرته هذه عن حرية الإنسان في اختيار مصيره، وإنما قدَّمها إلينا في صورة خاطفة وسط أسطورة أخروية، على حين أن أفكاره الأخرى عن المكانة الأنطولوجية لمثال الخير قد شغلت صفحات طويلة من محاوراته، ولكن ما كان في استطاعة فيلسوف قديم، عاش في عصر أفلاطون وظروفه، أن يقلب الآية، ويغلِّب حرية الإرادة الإنسانية على الضرورة الكونية العاقلة، ويكفي أفلاطون فخرًا أن الفكرة لمحت في محاوراته كشهاب بارق، أما اتخاذ هذه الفكرة شعارًا للحياة، فهو أمر ما زال الإنسان الحديث ذاته يناضل من أجل تحقيقه.