الميتافيزيقا
إذا نظرنا إلى محاورة «الجمهورية» من خلال تصنيفاتنا المألوفة لفروع البحث الفلسفي، فسوف نجدها محاورة لا تحتل فيها الأبحاث الميتافيزيقية مكانة رئيسية؛ إذ إن هذه الأبحاث تكاد تقتصر على مواضع متفرقة، نجدها في أواخر الكتاب الخامس، وفي الكتابَين السادس والسابع بخاصة. وفضلًا عن ذلك فإن الأبحاث الميتافيزيقية تختلط في معظم الأحيان بآراء أخلاقية وتربوية وسياسية، وتظهر في سياق يستنتج منه المرء بسهولة أن هذه الأبحاث ليست مقصودة لذاتها. ومع ذلك فإن الانفصال القاطع بين المجالات المختلفة للبحث الفلسفي لم يكن — كما أشرنا من قبل — أمرًا معترفًا به عند أفلاطون؛ إذ كانت الأبحاث النظرية الخالصة تمتزج بالأبحاث العملية بحيث تتعاقب الأفكار المنتمية إلى كلا المجالَين دون أن يشعر القارئ بأي تعارض بين هذا وذاك. ومعنى ذلك أننا إذا تأملنا المسألة من وجهة نظر أفلاطون ذاته، أمكن القول إن كل أفكاره في ميدان الأخلاق والتربية والسياسة تدعم آراءه الميتافيزيقية، وإن آراءه الميتافيزيقية بدورها تساند أفكاره في تلك المجالات العملية، بحيث يمكن، من وجهة نظرٍ معينة، أن يتسع نطاق الأبحاث الميتافيزيقية في المحاورة باندماجها مع سائر الأبحاث المرتبطة بها، وعندئذٍ لا تعود للميتافيزيقا مكانة ثانوية على الإطلاق. ومع ذلك فسوف نكتفي ها هنا بالتنبيه إلى إمكان التوسع في فَهْم الميتافيزيقا على هذا النحو، ما دمنا قد أفردنا فصولًا سابقة لبحث كل موضوع عالجه أفلاطون في المحاورة على حِدة. وسنتناول آراء أفلاطون الميتافيزيقية على نفس النحو الذي تناولنا به بقية موضوعات بحثه، أعني من حيث هي مبحث منفصل.
(١) نظرية الصور أو المُثل
يرتبط الحديث عن الصور أو المُثُل في محاورة الجمهورية بالحديث عن العلم أو المعرفة ارتباطًا وثيقًا. فعندما يأتي ذِكر المُثُل لأول مرة بصورة واضحة في المحاورة، في أواخر الكتاب السادس، نرى أفلاطون يصفها بأنها الماهية الحقيقية للأشياء، أي هي «الجميل في ذاته، والخير في ذاته …» (٥٠٧) ثم يوضح الطابَع العقلي للمثل، ويبين أن العقل هو وحده الذي يستطيع إدراكها، ويقارن مثالَ الخير، وهو أرفع المُثُل، بالشمس في العالَم المنظور، ويَخلُص من ذلك إلى النتيجة الآتية: «وعلى ذلك فإن ما يضفي الحقيقة على موضوعات المعرفة، وما يضفي ملكة المعرفة على العارف، هو مثال الخير، فهو علة العلم والحقيقة» (٥٠٨).
ولكن، أي علم هذا الذي تُعَد المُثُل أصلًا أو علةً له؟ هذا — في رأينا — هو السؤال الأكبر الذي يواجه الباحث في فكرة المُثُل عند أفلاطون؛ ذلك لأن أفلاطون لا يدع لنا مجالًا للشك في أن كل علم إنما يتم من خلال إدراك العقل للمُثُل أو معاينته لها. فالجميل في ذاته هو أساس معرفة الجمال، والخير في ذاته هو أساس معرفة الخير، أي أساس العلم الأخلاقي، والعلم الرياضي بدوره يفترض إدراكًا لأنواع من الصور، بل إن معرفتنا بأي مجال من مجالات العلوم البحتة هي قبل كل شيء معرفة بصور أو مُثل. ومع ذلك، فهل يعد ذلك العلم الذي يقصده أفلاطون مماثلًا لما نعنيه نحن بكلمة العلم، أم أنه معرفة من نوع خاص؟ وهل يُعَد هذا النوع الخاص من المعرفة، إن كان هو المقصود، مكملًا للعلم أم مضادًّا له؟
وإذن ففي نظرية الصور يعرض أفلاطون الشروط الضرورية لقيام كل معرفة، ولكنه يعرضها بالطريقة الأسطورية الحيوية التي كانت شائعةً لدى اليونانيين عامةً، وأثيرةً لدى أفلاطون بوجه خاص.
هذا الرأي في تفسير نظرية المُثل الأفلاطونية يجعل من هذه النظرية تعبيرًا مبكرًا عن طبيعة المفاهيم العلمية، وعن تلك العملية التي تتم بها المعرفة في الذهن، وأن يكون ذلك تعبيرًا اكتسب طابَع التطرف، شأنه شأن كل تعبير رائد عن حقيقة لم تألفها الأذهان بعد. فإذا صح هذا التفسير، كان معناه أن أفلاطون لا يختلف كثيرًا عن المثاليين المُحدَثين في تأكيدهم للعنصر العقلي الكامن في طبيعة الكون ذاته، وفي محاولتهم تفسير العالم من خلال مقولات ذهنية معينة. ولكن هل يحق لنا بالفعل أن نُضفيَ على آراء أفلاطون هذا الطابَع المثالي الحديث؟
إن المثالية الحديثة، حين ترفض المحسوسات بوصفها «مظاهر»، ترد هذه المحسوسات إلى معطيات للوعي، لا وجود لها خارج الذهن، فهي إذَن ترفض ما تتصف به هذه المحسوسات من حقيقة خارجية «مزعومة»، وتؤكد دور الذهن في تكوينها. أمَّا أفلاطون فإنه يسلب المحسوسات كل عنصر ذهني. وهو لا يأبه كثيرًا بنفي صفة «الخارجية» عن الظواهر المحسوسة كما تفعل المثالية الحديثة — لأن كل ما يهمه هو أن يسلبها صفة الوجود الحقيقي، ويؤكد أنها لا تكون موضوعًا للمعرفة. ومن المؤكد أنه لو كان قد طاف بذهنه احتمال أن تكون المحسوسات تركيبات ذهنية ذاتية يُنسب إليها — باطلًا — وجود موضوعي، لَرفض هذا الاحتمال على الفور، لحرصه الشديد على حرمان المحسوسات من أي عنصر ذهني.
وإذن فهناك عقبات أساسية تعترض طريقة التفسير التي أوردناها من قبل، والتي تحاول أن تجعل من المُثل الأفلاطونية تعبيرًا عن المعقولية الكامنة في العالم، وإن كان ذلك تعبيرًا اتخذ في ظاهره صبغةً أسطورية متطرفة. ومن المؤكد أن هذا التفسير، الذي تعترضه كل هذه العقبات، يبدو أكثر إرضاء للعقل؛ لأنه على الأقل يجعل نظرية المُثل أقرب إلى عقولنا، وينفي عنها ذلك الطابَع الأسطوري الذي يرتبط بالتأكيد الحرفي لوجود «عالم المُثل»، ويجعل هذا العالم كامنًا في عالمنا الفعلي، أو في أذهاننا من حيث إنها هي التي تُضفي النظام والمعقولية على العالم الفعلي، ومع ذلك فإن إرضاء العقل ينبغي ألا يتم على حساب الشواهد العديدة التي تثبت أن المُثل الأفلاطونية كانت مقصودةً بمعناها الحرفي الذي ينفر منه العقل الحديث. والحق أنه لو كان قصد أفلاطون الحقيقي هو التعبير بطريقة أسطورية عن الطبيعة المجردة للتصورات العقلية، لَما كان في ذلك مختلفًا عن أرسطو إلا في طريقة التعبير فحسب، ومع ذلك فمن المعروف أن ثورة أرسطو على فكرة المُثل الأفلاطونية لم تَكُن تهدف إلَّا إلى تفسير المُثل على أساس أنها هي التصورات المجردة عن كل عنصر محسوس. فلم يكن لهذه الثورة معنًى إذَن لو كان هذا الهدف هو الذي اتجه إليه أفلاطون منذ بداية الأمر.
والواقع أن الفارق بين الموقفَين فارق حاسم؛ فحين تكون المُثل تعبيرًا عن المبادئ المعقولة الكامنة في العالم ذاته، يكون تفسيرها على هذا النحو غير متعارض مع التفسير العلمي للظواهر على الإطلاق. أما حين تكون المُثل منتميةً إلى عالمٍ خاص بها، وحين نؤكد استقلالها التام عن هذا العالم وعلوها عليه، وحين تكون معرفتنا بظواهر هذا العالم «تذكرًا» للمُثُل بالمعنى الحرفي للكلمة، فإن هذا المعنى يغدو حائلًا دون التقدم العلمي، ويصبح التخلص منه أمرًا ضروريًّا لتحقيق سيطرة العقل في مجال المعرفة. ولو أننا نظرنا إلى الفكرة في ضوء السياق العام لآراء أفلاطون عن العلم كما عرضناها في الفصل السابق — لأصبح التفكير الأخير مرجحًا إلى حدٍّ بعيد. فأفلاطون لم يَكُن يعترف بكل ما نسميه الآن «علومًا»، وإنما كان يدرجها في باب المعرفة الظنية. والعلم الوحيد الذي كان يحمل له الاحترام هو الرياضيات، والفلك بدرجة أقل. ومع ذلك فقد كان احترامه لهذين العِلمَين يختفي بمجرد أن يقترب أولهما من العالم المحسوس لاستخلاص نماذج منه تُعِين على فَهْمه، وبمجرد أن يعتمد ثانيهما على عنصر المشاهدة والملاحظة. ومثل هذا الفصل القاطع بين عالم العقل وعالم الأشياء يوحي بأن أفلاطون لم يَكُن ليقبل الرأي القائل إن المُثل ليست إلا تعبيرًا عن عنصر المعقولية في العالم الذي نعيش فيه.
وإذا شئنا أن نزيد الفكرة السابقة إيضاحًا، لَقلنا إن المعقولية عند أفلاطون ليست هي القانون الكامن في حركة التغيُّر ذاتها، وإنما هي قانون يُفرض على هذه الحركة من الخارج، ويقضي على عنصر التحول والصيرورة فيها. وعلى حين أننا ننظر اليوم إلى القانون العلمي على أنه هو التعبير المنظم عن مبدأ التغيُّر ونظامه في الظواهر ذاتها، فإن أفلاطون كان يريد من العقل أن يتجاوز هذا المبدأ، الذي هو في رأيه مبدأ «عرَضي»، ليصل إلى ما يوجد وراءه من ثبات ودوام. صحيح أننا اليوم لا نذكر وجود نوع من الثبات في القانون العلمي — وهو الثبات الذي لا بدَّ منه لضمان موضوعية ذلك القانون واتفاق الأذهان عليه، بل لمجرد إمكان معرفته — غير أننا نستمد ذلك الثبات من صميم العَلاقات التي تُعبِّر عن إيقاع الحركة والتغيُّر في الظواهر. ومن جهة أخرى فنحن لا نربط هذا الثبات «بالأزلية»؛ إذ نؤمن بأن معرفتنا بدورها خاضعة لمنطق التغيُّر، وبأن من أسس الرُّوح العلمية أن نترك المجال مفتوحًا لأي تطور يطرأ على فَهْمنا للعالم، وهو تطور لا ينبعث في أذهاننا تلقائيًّا، وإنما ينشأ عن ذلك الرجوع الدائم إلى الظواهر، والاتصال المستمر بين الذهن العارف وبين الواقع، ومحاولة زيادة فهمنا له دقة على الدوام. وإذن، فما زال العقل البشري يربط بين إمكان المعرفة وبين وجود نوع من الثبات في القوانين التي يتعامل بها عقله مع العالم، غير أن هذا الثبات كامن في قلب الواقع المتغير نفسه ومستمد منه، وهو ليس على الإطلاق نظامًا أزليًّا يفرضه عليه عقل مترفع عن عالم الأشياء ومنفصل عنه انفصالًا قاطعًا. وبالاختصار، فإن أفلاطون إذا كان قد أراد من نظرية المُثل أن تُعبِّر عن طبيعة النظرة العقلية إلى العالم، من حيث إنها تتخلى عن الطابَع العرَضي للظواهر المتغيرة، وتعلو على التقلبات العشوائية للأذهان الفردية أو للأحوال المتغيرة في الذهن الواحد، فإنه قد تطرَّف في تأكيده هذا إلى الحد الذي يجعل من المُثل عنده عائقًا في وجه المعرفة العلمية لا تعبيرًا أصيلًا عنها.
(٢) تشبيه الكهف
في مطلع الكتاب السابع من محاورة الجمهورية يعرض أفلاطون تشبيهًا مشهورًا نستطيع أن نَعُده قمة للمحاورة بأسرها، بل لمذهب أفلاطون بوجهٍ عام، وربما كان تلخيصًا لتراثٍ فلسفي كامل؛ ذلك لأن فلسفة أفلاطون تبلغ قمتها في مثال الخير، الذي هو حد أعلى تقف هذه الفلسفة إزاءه في تعجُّب وحَيرة، ويخوض أفلاطون بحثه في مثال الخير بحذرٍ شديد، وكأنه موضوع مقدس لا ينبغي — ولا يمكن — الاقتراب منه إلا في حدود مُعيَّنة لا يستطيع العقل البشري تجاوزها. فما أشبه لهجته حين يتحدث عن الخير باللاهوت السلبي الذي يكتفي بالصفات السلبية للألوهية تأكيدًا لعلو الفكرة على الأفهام، أو يستدل على صفات الخالق من مخلوقاته، تعبيرًا عن استحالة الوصول إلى هذه الصفات بطريق مباشر.
على أن التشبيه ينطوي — في رأينا — على عنصر آخر لا يقل أهمية عن العناصر السابقة، هو المقارنة بين مستويات الواقع، وهي مقارنة تنتمي إلى صميم الميتافيزيقا، بل إنها ربما كانت أوضح تلخيص لنمط كامل في التفكير الميتافيزيقي كان له أكبر الأثر في تحديد مجرى التفكير الفلسفي التقليدي بأسْره. فلنحاول إذن كشف هذا الوجه من أوجه تشبيه الكهف، واستخلاص ما له من دلالة ميتافيزيقية كبرى.
تلك إذَن صورة نستطيع أن نقول إنها كامنة — بمعنًى ما — في اللاشعور الجماعي للإنسانية، وهي تتجسد من آنٍ لآخر في شكل أسطورة أو قصة أو قصيدة أو لوحة أو تمثال.
ويرجع انتشار الفكرة التي تُعبِّر عنها هذه الأسطورة إلى سهولة الرموز المستخدمة فيها، بحيث كان كل مفكر يجد فيها ما يريد، وكانت الأسطورة ذاتها تقبل أشد التفسيرات تنوعًا ومرونة. ففي كل عصر يستشعر الإنسان فيه القلق من موقفه، ويحس فيه بعدم الرضا عن الأوضاع التي يعيش فيها، كان يلجأ مرة أخرى إلى الكهف، فيلتمس في أسطورته تعبيرًا عن اتجاهه إلى الرفض. وبالفعل كانت الأسطورة ترتبط — في معظم الأحيان — بمعنى الرفض، وتزدهر في كل وقت يصطدم فيه الإنسان بعقبات لا يدري كيف يتغلب عليها، ويحس فيه باختلال التوازن بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي المحيط به. ولكن تصوير أفلاطون لهذه الأسطورة ربما كان أروع الأمثلة التي تجسدت فيها صورة الكهف؛ إذ إنه استطاع، بقدرته على الجمع بين النزعة الشعرية والمزاج الفلسفي، أن يلتقط هذه الصورة، ويرتفع بها إلى مستوى الموقف الفلسفي العميق.
على أن هذه الميتافيزيقا التي خلقت العالم فوق المحسوس ليست، كما أوضحنا، سوى تعبير عن كراهية الإنسان للعالم المحسوس ورفضه له. وهذا العالم الذي خلقه الإنسان وأضفى عليه كل صفات الكمال؛ هذا العالم الثابت، المثالي الذي جمع كل صفات الخير، لم ينشأ إلا بوصفه النقيض الفكري لعالم واقعي يعيش فيه الإنسان فعلًا ويتصف بعكس هذه الصفات. وهكذا يبدو أن أكثر المواقف الفلسفية إغراقًا في المثالية لم ينشأ إلا في ظل أكثر أحوال الحياة ابتعادًا عن المثالية، بل يبدو أنه كلما أمعن الإنسان في الابتعاد بفكره وفلسفته عن الواقع والعلو عليه، وكلما ازدادت المذاهب العقلية التي يشيدها بعدًا عن المحسوس وسموًّا عنه، كان الواقع الذي يعيش فيه أبعد عن أحلامه عن الصورة التي ترسمها مُخيِّلته للعالم، وكان التوازن بين الإنسان وبين عالمه أشد اختلالًا.
وعلى حين أن هذا العالَم الفكري المثالي الذي يُبدعه عقل الفيلسوف هو من خَلْق الرُّوح البشرية وحدها؛ أي إنه هو الأحق بأن يُعَد عالَمًا وهميًّا، فإن العَلاقة بينه وبين العالم الواقعي المحسوس تنقلب في الأسطورة: فيصبح هذا العالم المحسوس هو الوهمي؛ لأنه كما قلنا حافل بالألم، ويصبح العالم المعقول هو الحقيقي؛ لأن آمال الإنسان وجميع نزعاته التعويضية قد تركزت فيه. وإذا كانت الميتافيزيقا الغربية قد أسهمت بشيء طَوال تاريخها الذي دام خمسة وعشرين قرنًا منذ أفلاطون، فإن إسهامها هذا قد تركز في دعم تلك العَلاقة المعكوسة، أي تأكيد حقيقة عالم العقل الذي تخترعه الرُّوح، ووهمية عالم الواقع والحس الذي يجد الإنسان نفسه فيه بالفعل. وإذا كان فلاسفة الغرب قد قنعوا بذلك واكتفَوا به، فليس أوضح من ذلك دليلًا على انتصار أفلاطون.
على أن هناك تفسيرًا آخر لصورة الكهف نستطيع أن نسميَه بالتفسير غير المباشر، لم تَكُن فكرته المركزية هي احتقار العالم المحسوس كما في التفسير السابق، أي إنه لم يَكُن سلبيًّا مثله، وإنما كان له طابَع وهدف إيجابي؛ هو استخدام الأسطورة وسيلة لإثبات الطبيعية الحقيقية للعلم. ونستطيع أن نقول إن هذا الهدف كان بدوره في ذهن أفلاطون حين استخدام الأسطورة، ولكن لم تكن له أهمية الهدف السابق، ولا يمكن أن ينسب إليه إلا بطريق غير مباشر.
ففي الأسطورة إشارة هامة إلى طبيعة المعرفة، التي لا تحصل إذا اكتفى المرء بما يراه فحسب، بل ينبغي أن تتجاوز مجال المحسوسات المباشرة، وأن يفترق العالم في نظرته إلى الأمور عن الرجل العادي في اكتفائه بالسطح الظاهري للعالم فحسب. لقد كان اكتفاء الناس بما يرونه فعلًا، في مجال العلم، هو الذي جعلهم يعتقدون مثلًا أن الشمس هي التي تدور حول الأرض، ويحاربون الرأي الصحيح فترة طويلة، على حين أن مكتشفي النظرة الجديدة إلى العَلاقة بين الأرض والشمس كانوا يتبعون تعاليم أفلاطون في الأسطورة حين لم يكتفوا بالمظهر الذي يرونه فعلًا للعالم. فمن طبيعة المنهج العلمي أنه يقتضي نوعًا من التحرر مما تأتي به الحواس. ولسنا نعني بذلك أن العالم ينبغي عليه أن ينكر على الدوام شهادة الحواس، وإنما نعني أن عليه أن يقارن بين مختلف إدراكاته الحسية، وأن يحكم عقله فيها، وألا يكون خاضعًا للمظهر الذي تتبدى عليه في كل الأحوال. وهكذا يمكن القول إن أفلاطون قد عبَّر عن شرط ضروري من شروط الرُّوح العلمية في هذه الأسطورة، وإن كان قد تطرَّف في تأكيد التضاد بين عالم الأفكار العلمية وبين العالم المحسوس إلى حدٍّ تأباه الرُّوح العلمية السليمة. فهذه الرُّوح العلمية توافق على رأي أفلاطون القائل إن الفكرة التي يكوِّنها الذهن عن الظواهر، وليس المظهر الذي تتبدَّى عليه هذه الظواهر للحواس، هي الموضوع الحقيقي للعلم، ولكنها لا توافق على رأيه القائل إن الفكرة وحدها في الحقيقة، بينما العالم المحسوس وهم. كذلك تقبل الرُّوح العلمية رأي أفلاطون القائل إن الأشياء الفردية، بما تتميز به من تنوُّع وتغيُّر دائمَين، لا يمكن أن تخلق أيَّ علم، بل ينشأ العلم بالتعامل مع أفكار هذه الأشياء، وهي أفكار عامة تلخص القيم الثابتة للأشياء المتغيرة. ولكن العلم لا يقبل رأي أفلاطون القائل إن الأفكار توجد خارج العالم المحسوس، وإنها هي سبب وجوده، وبالاختصار، فالرُّوح العلمية لا تجد نفسها مضطرة، لكي تثبت وجود الحقيقة، إلى أن تقول إن هذه الحقيقة تكون عالَمًا قائمًا بذاته، سابقًا لهذا العالم ومستقلًّا تمامًا عنه، كما قال أفلاطون، بل هي تعترف بأن لهذه الحقيقة طبيعة فكرية، وبأن ما فيها من أفكار قد استُخلصت من هذا العالم الواقعي بجهد متدرج.
وما دمنا قد تحدثنا عن الجهد الذي يحتاج إليه استخلاص الأفكار، فمن واجبنا أن نلاحظ أن أفلاطون قد أشار فعلًا إلى هذا الجهد في الأسطورة، حين تحدث عن الصعوبة التي يلاقيها سجين الكهف عندما يخرج إلى العالم الحقيقي، وعن المقاومة التي يبديها أول الأمر لعملية التنوير التي يمر بها، وفي هذا إدراك صحيح للمجهود الذي يقتضيه العلم من الباحث. وهو مجهود يشهد به كل كشف علمي له قيمة.
•••
فإذا انتقلنا الآن إلى نقد تشبيه الكهف كما صاغه أفلاطون، لَوجدنا أن هناك ضعفًا أساسيًّا في بناء هذا التشبيه؛ فالمفروض أن هناك توازيًا كاملًا بين الصورة التي يرسمها وبين الانتقال من العالم المحسوس إلى العالم المعقول. ولكن الواقع أن هذا التوازي غير دقيق؛ فالسجين الذي يغادر الكهف إلى عالم النور الحقيقي، ينتقل من مكان إلى مكان آخر لا فرق بينه وبين الأول إلا في الدرجة فقط؛ أي إن كل ما يحتاج إليه السجين في هذا الانتقال هو تعويد حواسه على الضوء الزائد في العالم الحقيقي، وهو لا يختلف عن الضوء الخافت في عالم الظلال إلا في الشدة فحسب، ونفس الحواس التي كانت كفيلة بأن ترشده في عالم الظلال تستطيع أيضًا، بشيء من التدريب، أن ترشده في العالم الحقيقي. أما الوجه الآخر من الصورة التي أراد أفلاطون أن يرسُمها، وهو الانتقال من العالم المحسوس إلى عالم المُثل، فيختلف عن ذلك كل الاختلاف؛ فهو انتقال إلى عالم لا تنفعنا فيه حواسنا على الإطلاق، ويوجد بينه وبين العالم الأول فارق أساسي في الكيف ويحتاج إلى تغيير كامل لكل أداة يستخدمها الإنسان في المعرفة. وعلى حين أن الحواس في حالة أسطورة الكهف سرعان ما تتأكد من أن العالم الجديد الذي انتقلت إليه هو الأكثر حقيقة، فإن الانتقال في الحالة الثانية إلى العالم المعقول يكون انتقالًا إلى عالم من الأفكار التي لا تمثل شيئًا إلا نفسها. وإذا كان الصعود إلى رؤية الأشياء الحقيقية يزيد السجين المتحرر التصاقًا بالواقع وإدراكًا لحقيقته، فإن الصعود إلى عالم الصور أو المُثل الأفلاطونية يبعد الذهن عن الواقع ويفقده صلته به، ويفصله في عزلة زاهدة عن عالم الناس وعالم الأشياء.
ومع ذلك فقد تصوَّر أفلاطون أن التوازي تام بين الحالتَين، وبالتالي أن عالمه المثالي أكثر حقيقة بدوره، وتبعه في ذلك الفكر الغربي في أساسه، فنجم عن ذلك انقلاب أساسي في الأوضاع، تصوَّر فيه المفكرون أن الحقيقة وَهْم وأن الوهم هو الحقيقة، وأن المعقول المجرد الذي يفكر فيه الإنسان أكثر حقيقة من المحسوس العَيني الذي يراه ويلمسه، وبالاختصار، إن الماهية أكثر حقيقة من الوجود. وعلى أساس هذه الأوضاع المقلوبة شيدت مذاهب فلسفية بأسرها في الفكر الغربي، وبذلك يمكن القول، بمعنًى مُعيَّن، إن السجين الذي لم يكتفِ بظلاله وبعالمه الضيق، قد انتقل بالفعل إلى عالم أضيق وأقل حقيقة منه، وخلق لنفسه أصنامًا عبدَها بمحض إرادته واختياره.
وانظر أيضًا:
Caird: The Evolution of Theology in the Greek Philosophers, 1904, Vol. 1, p. 93.