الفصل الأول
المشهد الأول
روسيون — حجرة في قصر الكونتسة
(يدخل برترام والكونتسة روسيون، وهيلين، ولافيه. وهم جميعًا في ثياب الحدود.)
الكونتسة
:
إنني بانتزاع ولدي مني — أدفن زوجًا ثانيًا.
برترام
:
وأنا يا سيدتي بذهابي أبكي أبي مرة أخرى، ولكن يجب أن أمتثل لأمر جلالته؛
لأنني الآن تحت وصايته، بل أكثر من ذلك في خضوع لمشيئته.١
لافيه
:
ستجدين في الملك يا سيدتي زوجًا، وأنتَ يا سيدي واجدٌ فيه أبًا. فمن كان مثله
خيرًا مكرمًا للناس أبدًا، لا بد مُظهِر فضلَه نحوك، مُكرِم بالضرورة لك.
وكونُكَ العلا لهذا يدعو إلى تكريمك حتى مَن كان مِن الفضل خليًّا، فكيف وهو
كثير الأفضال مَوْفور المحامد والخلال.
الكونتسة
:
وهل من أمل في بُرء جلالته …
لافيه
:
لقد يئس أطباؤه يا سيدتي، بعد أن بَدَّد بالأمل الزمان، تحت علاجهم، ولم يجد
منه نفعًا، غير فقدان الأمل على الأيام.٢
الكونتسة
:
لقد «كان» لهذه السيدة أب — أواه، من كلمة «كان» هذه. ما أقسى ذلك الحادث،
وكانت براعة طبِّه تكاد في عظمتها تبلغ مبلغ صدقه ونزاهته، ولو امتد الأجل بها
إلى أيامنا، لجعلت الطبيعة البشرية متأبية على الفناء، ولذهب الموت يرتع ويلعب،
لتبطله من العمل وفراغه، ليته من أجل الملك كان حيًّا! ولو كان لكان في حياته
في أغلب ظني، موت مرض الملك وهلك علته.
لافيه
:
وماذا كان اسم الرجل الذي تتحدثين عنه يا سيدتي …
الكونتسة
:
لقد كان علمًا يا سيدي في مهنته، وله الحق كل الحق في أن ينال ما نال من
الشهرة، لقد كان يدعى «جيرار دي ناريون».
لافيه
:
لقد كان في الحق رجلًا ممتازًا، وقد ذكره الملك من عهد قريب بإعجاب به، وأسى
عليه، ولو استطاع العلم أن يغالب الموت، لكانت براعته كافية لأن يبقى حيًّا أبد
الدهر.
برترام
:
ومِمَّ يشكو الملك وتذوى صحته يا سيدي الكريم …
لافيه
:
وددت أنك لم تسمع به الآن أو تعرفه، هذه السيدة ابنة جيرار دي ناريون.
الكونتسة
:
وحيدته يا سيدي، وقد عهد بها إلى عنايتي، وإن تربيتها لَتُبشر بالخير الذي
أرجوه لها، إن الميول والمنازع التي ورثتها لَتجعل مواهبها الجميلة أكثر جمالًا
وبهاءً، وتُبدي السجايا الحسان أشد حسنًا ورواءً، وحيث يحمل العقل الخلي من
النقاء، فضائل وحسنَ خلال، تكنِ المدائح أسفًا لها ورثاءً، وهي في هذه الحقائق
تكون فضائل، وسجايا حسنة، وهي أيضًا غوادر وخونة، أما عندها، فإن بساطة
فضائلها، تزيدها فضلًا، لقد ورثتِ الوفاء، واكتسبتْ بنفسها الطيبة.
لافيه
:
إن مديحك يا سيدتي يسيل دموعها.
الكونتسة
:
إن الدموع لَهي خير مِلح «تتبل» به العذراء المديح الموجه إليها، إن ذكرى
أبيها لا تكاد تقترب من قلبها، حتى تستبد بها الأحزان فتنزع كل سمات الحياة من
خديها. حسبك يا هيلين وكفى دمعًا، لئلا يظن أنك تتصنعين الحزن تصنعًا، لا
أنك.
هيلين
:
إني، حقًّا، أُظهر الحزن ولكنني أُكِنُّه أيضًا.
لافيه
:
إن الحزن المعتدل حق للموتى، ولكن الأسى المفرط عدو للأحياء.
الكونتسة
:
وإذا كان الأحياء للحزن أعداءً، فإن الإفراط فيه لا يلبث أن يودي
بالحياة.
برترام
:
سيدتي، أتمنى دعواتك الطاهرة.
لافيه
:
كيف نفهم هذا.٣
الكونتسة
:
بُورِكت يا برترام، ولِتخلفْ أباك خلقًا وفضلًا، كما خلفته صورةً وشكلًا، إن
الدم الذي يجري في أعراقك، والفضيلة التي تزين أخلاقك، تتنازعان السلطان عليك،
وطيبتك تتفق مع ما ورثته بمولدك، أحببِ الجميع، ولا تَثِقْ إلا بالقليل، ولا
تظلم أحدًا … ولْتكن لك مثل قدرة عدوك، ولكن
اجعلْ قدرتك عليه بأسًا وسلطانًا، ولا تستخدمْها في إيذائه، وصُنْ صديقك واحرصْ
عليه، بقفل حياتك ومفتاحها، ولأنْ تُعاب على الصمت، خير لك من أن تُعاب على
الكلام، وليكن لك ما تشاء السماءُ من زيادة في الفضل، وما في دعواتي من قطوف
الأمل، وداعًا يا سيدي، إنه سيكون في بلاط الملك غير مجرب فكُنْ له
ناصحًا.
لافيه
:
لن يعوزه خير ما يسديه الحب من نصحٍ.
الكونتسة
:
ليباركْهُ الله … وداعًا يا برترام.
(تخرج الكونتسة.)
برترام
(لهيلين)
:
لتكن أطيب ما في خاطرك من أماني، سعاة في خدمتك أرعى أمي مولاتك، وزيديها منك
ولاءً.
لافيه
:
وداعًا أيتها الغادة الحسناء، وصوني لأبيك الفضل وحسن الثناء.
(يخرجان.)
هيلين
(وحدها)
:
لو كان هذا كل ما هنالك لما فكرت في أبي، وإن هذه العبرات الغزار لَتزيد
ذكراه جلالًا، أكثر مما ذرفت من قبل من عبرات، ترى كيف كان سمته؟ وكيف كانت
صورته، لست أدري فقد نسيته، ولم يعد في خيالي شيء من ملامحه، بل كل ما بقي فيه
هو صورة برترام … الويل ويلي، لا حياة لي، وبرترام بعيد عني، إن حبي إياه كحبي
نجمًا متلألِئًا، إن عليَّ أن أقنع بمشهد سنائه وخاطف ضيائه، دون المقام في
أفقه والعيش في نوره الساطع، إن ما في حبي من طموح لَهو سبب ما ألاقيه في هذا
الحب من بلاء، فالغَزالة التي تطمع أن تقترن بالليث، يقتلها حتمًا هذا الحب،
وكان جميلًا، وإن بدَا أليمًا، أنْ أشهده في كل ساعة، وأن أجلس فأنقش حاجبيه
المقوسينِ وعينه الحديدة، كعين الصقر، وغدائره، على صفحة الفكر، ولوح القلب،
ذلك القلب القدير على تصوير كل معالم محياه، ورسم كل فتنة من عذوبة حسنه، وها
هو ذا الآن قد ذهب، وعن العين احتجب، فلْيقدس خيالي الوثني العابد، وخاطري
الراكع الساجد، صُوَرَه وآثاره، أشد التقديس … من هذا القادم؟
(يدخل بارولس.)
(لنفسها) أحد الذين سيرافقونه، إنني أحبه لأجل خاطره، وإن كنت أعرفه كذابًا مشهورًا بكذبه، وأحسبه مِهذارًا إلى حد كبير، وجبانًا من كل نواحيه، وإن كانت هذه المساوئ هي جزء من كيانه، حتى لَتبدو طبيعية فيه، وعلى حين يبدو التَّزمتُ في الفضيلة رياءً ونفاقًا، وكثيرًا ما نشهد العاقل الرقيق الحال في خدمة الأحمق الظاهر الحماقة.
بارولس
:
سلام لك أيتها الملكة الحسناء.
هيلين
:
سلام عليك أيها الملك.٤
بارولس
:
لا …
هيلين
:
ولا مثلها.
بارولس
:
هل تعتزمين أن تبقي عذراء بلا زواج.
هيلين
:
أجل — إن فيك شيئًا من صبغة الجندي ولونه، فدعْني أسألك إن الرجل عدو للعذرة،
فكيف نحصنها من شره.
بارولس
:
بإبعاده.
هيلين
:
ولكنه أبدًا مهاجم. وعذرتنا على شجاعتها، ضعيفة في الدفاع عن ذاتها، فهلا
كشفت لنا عن شيء من وسائل المقاومة القوية.
بارولس
:
ليس ثمة وسائل، إن الرجل منا لَيُرابط قبالَتكنَّ، فيقوِّضُ كيانَكنَّ
ويَنْسِفْكُنَّ نسفًا.
هيلين
:
حمى الله عذرتنا المسكينة من المُقوِّضين والناسِفين، أليس ثمة سياسة حربية
مرسومة، تُمكِّن العذارى من نسف الرجال.
بارولس
:
لا تكاد العذرة تهوي حين ينسف الرجل حطامًا، إن الاحتفاظ بالعذرة ليس من
سياسة الطبيعة ولا صالحها، إن فقدانها رِبْحٌ معقول، وزيادة حكيمة، وما من
عذراء تُوَلَّد، إلا بعد أن تضيع العذرة أولًا وتفقدها، إنكن قد صُنِعتن من
معدِن يصنع بذاته العذارى، فإن فقدت العذرة مرة، فقد تسترد عشر مرات، والحرص
عليها مضيعة لها، إنها لرفيق بارد، فلنتخلَّ عنها.
هيلين
:
سأحرص «قليلًا» عليها، وإن مت عذراء.
بارولس
:
لا يكاد يوجد ما يقال في الدفاع عنها، إنها ضد ناموس الطبيعة وشريعتها، إن
امتداح العذرة هو اتهام منكن لأمهاتكن، وهو عُقوق لا ريب فيه، إن العذراء التي
تأبى الزواج هي كالرجل الذي يشنق نفسه، ذلك أن العذرة تقتل نفسها، وأولى بها أن
تُدفن في الطرق العامة بعيدة عن كل مكان مقدَّس٥ لأنها أجرمت إجرامًا شديدًا في حق الطبيعة، إن العذرة دود في
ذاتها، أشبه ما تكون بالجبن، وتأكل نفسها حتى القشرة، وهكذا تموت مالئة بطنها
من غذاء لحمها وطعام جسمها، والعذرة إلى جانب ذلك كله شرسة، متعجرفة، متبطلة،
صُنعتْ من الأثرة وهي أشد الذنوب في الشريعة تحريمًا، فلا تمسكيها عليك، لأنك
حتمًا بها خاسرة، اخرجي منها تجديها بعد سنة واحدة قد ضاعفت نفسها ضعفين، وهي
زيادة كريمة، ولن تكون يومئذ أسوأ حالًا مما هي … تخلي عنها.
هيلين
:
وكيف تفعل العذراء يا سيدي لكي تفقدها كما تحب؟
بارولس
:
دعيني أفكر، في الحق أن من الشر أن ترضى بمن لا تحب، إن العذرة سلعة تَفقد
بريق جدتها بطول البقاء، وكلما طال أمد الاحتفاظ بها، قلَّ قدرها، وبخس ثمنها،
هَلُمي تخلصي منها وهي لا تزال قابلة للبيع. أجيبي الطلب في وقته، ولي السؤال
في حينه، إن العذرة كرجل الحاشية المسن، ترتدي قبعة من طراز انتهى زمانه، وقدم
حينه، ولئن صُنعتْ من قماش جيد، فإنها مع ذلك غير مناسبة لزمانها، كمشبك الصدر
وفرشاة الأسنان٦ لم يعودَا يُلبسان الآن، إنه لأفضل أن تكون تمرة٧ في كعكتك وفطرك، منها على خدك، وإن عذرتك إذا طال عليها الدهر
لأشبه بالكمثرى الفرنسية الذابلة، تبدو في الشكل القبيح، وفي المذاق ممجوجة،
وهي في الحق كمثرى ذاوية عفنة، وكانت فيما مضى خيرًا مما هي، ولكنها في الحق
كمثرى ذاوية، فماذا تصنعين بها؟
هيلين
:
ولكن عذرتي لم تبلغ هذا الحد بعد، إنك لذاهب إلى بلاط٨ الملك حيث مولاك وأجد ألف حب، أمًّا، وخليلة، وصديقًا، وعنقاء،
وقبطانًا، وعدوًّا، ومرشدًا، وربة، وملكًا، ومشيرًا، وخائنة، وغالية عزيزة،
وطموحًا ذليلًا، وضعةً متكبرةً، ووفاقًا متنافرًا، وتنافرًا موافقًا، وإيمانًا،
ومرارةً حلوةً، وعالمًا من حسان غريرات، ذوات أسماء مختارة، وألقاب مصطفاة ينعم
بها عليهم كيوبيد الأعمى الذي يرعاهن ويتبناهن،٩ والآن فلستُ أدري ماذا سيفعل، فليحسن الله وفادَتَه، إن البلاط
معهد للتعلُّم، وهو …
بارولس
:
وهو ماذا بالله …؟
هيلين
:
من أتمنى له الخير للأسف …
بارولس
:
للأسف مِمَّ …
هيلين
:
إن أتمنى الخير لا شيء فيه يمكن أن يحس، وإننا معاشر المنحوسين من مولدنا،
تحتجرنا كواكب نحوسنا في خوالج نفوسنا وأمانينا١٠ وقد نتبع أصدقاءنا، من تأثير كواكبنا، ونبدي ما نحن وحدنا نفكر فيه
ونراه، فلا نجد شكرًا عليه ولا عرفانًا.
(يدخل غلام.)
الغلام
:
إن مولاي يدعوك يا سيد بارولس.
(ينصرف.)
بارولس
:
وداعًا يا هيلين الصغيرة، سأفكر فيك! إذا استطعت في البلاط أن أتذكرك.
هيلين
:
يا سيد بارولس، لقد وُلدت تحت كوكب سعد.
بارولس
:
أنا كوكبي المريخ.١١
هيلين
:
رأيي الخاص أنه كذلك.
بارولس
:
ولِمَ يكون المريخ كوكبي؟
هيلين
:
لأن الحروب شغلتك إلى حد لا مفر معه من القول إنك ولدت تحت كوكب
المريخ.
بارولس
:
وهو في أوجه.
هيلين
:
بل أظن في تراجعه.١٢
بارولس
:
ولماذا تظنين هذا؟
هيلين
:
لأنك تتراجع كثيرًا حين تحارب.
بارولس
:
هذا مقصود لغرض.
هيلين
:
وكذلك القرار حين يبشر الخوف بطلب السلامة، ولكن شجاعتك وجبانتك اتفقتا على
فضيلة خفة القدم، وسرعة الخطى، وإني ليروقني جدًّا هذا المظهر.١٣
بارولس
:
إن لدي من المشاغل ما يجعلني عاجزًا عن الرد عليك بما يفحمك، سأتخلق بأخلاق
حاشية الملوك، وسيساعد علمي على تغيير طبعك، فتصبحين قديرة على أن تأخذي بنصيحة
للبلاطي العتيد ومشورته وتدركي ماذا تفرضه المشورة عليك، وإلا مت في جحودك
ونكرانِك، وذهب بك جهلك، وداعًا، وإن وجدت فراغًا من العمل، فاعكفي على صلاتك،
وإن لم تجدي فراغًا فاذكري صحابك، واظفري لنفسك بزوج طيب وعامليه بمثل ما
يعاملك، والآن وداعًا.
(يخرج.)
هيلين
:
إن دوائنا كثيرًا ما يأتي من أنفسنا، وإن عزوناه إلى السماء أحيانًا، إن
السماء التي يقال إنها تتصرف في أقدارنا قد أتاحت لنا المجال واسعًا حرًّا، فلا
تردنا عما نبغي من خطط متراخية، إلى حين تجدنا فاترين، أيُّ قوة هذه التي
تجعلني أحب من هو شأنه أعلى من شأني، وأنظر ولا أمتع بمن يطالع ناظري، إن
الطبيعة، على بعد المسافة بين الحظوظ والأخطار، تجمع بين الأشباه والنظائر، حتى
ليتراءوا أندادًا، إن الفعال الجريئة لتبدو مستحيلة لمن يبالغون في الخوف من
جهدهم، ويغالون بأخيلتهم في حساب متاعب سعيهم، فلا يحاولون أمرًا لا يجدون
أمثلة له أمام أعينهم، ويظنون أن ما كان لا يمكن أن يكون، ومن تلك التي تجاهد
في إبراز مواهبها إذا كانت قد فشلت في الظفر بحبيبها، وقد يخدعني مشروعي بشأن
مرض الملك وعلته ولكن عزيمتي ثابتة وطيدة فلن تخذلني.
(تخرج.)
المشهد الثاني
دق طبول
(يدخل ملك فرنسا — مُمسِكًا برسائل في يده ومن خلفه رجال حاشيته.)
الملك
:
إن أهل فلورنسا، وشعب سيينا قد عادوا إلى الشقاق والقتال وتَماسكَا بالآذان
وكانت الحرب بينهما سجالًا، ولا يزالان في حرب عناد وتَحدٍّ.
الشريف الأول
:
بهذا وردت الأنباء يا مولاي.
الملك
:
أجل، إنها أنباء يرجح صدقها كل الرجحان، وقد أكدها لنا ملك النمسا ابن عمنا،
ونبهنا إلى أن صاحب فلورنسا سيطلب إلينا عونًا عاجلًا، ولقد سبقنا أعز أصدقائنا
برأيه في موقفنا ويبدو أنه يريد منا ألا نبعث مددًا.
الشريف الأول
:
إن حبه لجلالتك، وأصالة رأيه التي ثبتت لديك يدعوانِ إلى الثقة به.
الملك
:
لقد أيد ردنا، فضَننا بالعون قبل أن يطلب إلينا، ولكن من يريد من أشرافنا أن
يشهد الحرب الناشبة في تسكانيا فهو حُر في أن يذهب، للاشتراك مع أي جانب من
جانبيها.
الشريف الثاني
:
قد يكون ذلك بمثابة «معهد تدريب» لأشرافنا الذين يحنون إلى العمل وإتيان
الفعال الجسام.
الملك
:
من القادم علينا …
(يدخل برترام ولافيه وبارولس.)
الشريف الأول
:
هذا هو الكونت روسيون أيها المولى الكريم، الفتى برترام.
الملك
:
أيها الفتى، إن لك وجه أبيك، إن الطبيعة الصراح الصادقة بدقتها وأناتها، لا
تعجلها وسرعتها، قد أحسنت صورتك وأرجو أن تكون قد ورثت خلق أبيك مع حسن صورته،
مرحبًا بك في باريس.
برترام
:
لك شكري وطاعتي يا صاحب الجلالة.
الملك
:
ليتني الآن سليم البدن موفور العافية كما كنت أنا وأبوك، حين جمعتْ المودة
بيننا، نُجرب لأول مرة فنون الحرب، لقد خدم طويلًا في عهده وأبلى، وكان في
مصافِّ أشجع الشجعان وامتد به العمر، ولكن الشيخوخة تسللت إلينا، كالعجوز
الشمطاء في قبح صورتها، وتنكُّر هيئتها فأعجزتنا وأوهنت من بأسنا، وإنه ليروقني
كثيرًا الحديث عن أبيك الكريم، فقد كان له في شبابه هذه الفكاهة التي أراها
اليوم في معاشر الشباب من أشرافنا، ولكنهم يتفكهون الآن حتى لَترتد سخريتهم
إليهم وهم لا يشعرون، قبل أن يستطيعوا إخفاء خفتهم في شرف البسالة، أما هو فكان
مثال البلاطي الحسن فلم تكن السخرية ولا المُوجدة من شِيَمه، ولا الحدة من
خيمه، ولو بدرت يومًا منه، فلا يكون ظهورها إلا أن أنداده هم الذين استثاروها
فيه، وكان الشرف عنده كالساعة في دقتها، يعرف اللحظة التي يستوجب منه الغضب
الكلام، فتطلق فيها لسانه، وأما الذين هم دونه فقد كان يعاملهم كأنداده، فكان
ينحدر من عليائه إلى وهدتهم وينزل من أوجِهِ إلى حضيضهم، فيجعلهم فخورين
بتواضعه، مَزهُوِّين بانحناءته، وهو من مديحهم الذليل، يبدو المستحي، إن رجلًا
من هذا الطراز خليق بأن يكون قدوة لشباب اليوم وفتيانه، ولو اقتدوا به لأثبتوا
أنهم للسلف خير خلف.
برترام
:
إن طِيب ذكراه يا مولاي في خاطري، وحسن أثره في تقديرك لأغلى مما هو مكتوب
على قبره، وإن خير دليل على صفاته الطيبة لهو حديثك الملكي لا النقش الذي على
قبره.
الملك
:
ليتني كنت معه، لقد كان يقول على الدوام، وكأني الساعة أسمعه، لا ينثر كلماته
السديدة نثرًا في الأسماع، بل يغرسها، لتنمو حيث غرسها وتؤتي ثمارها، لا أود أن
تطول حياتي — كان يقولها بعد أن يستمتع ببعض اللهو ويكتئب لذهاب عهد عبثه، لا
أود أن تطول بي الحياة، بعد أن تخبو جذوة العمر، وينفذ الزيت من السراج، حتى
يسخر مني الشباب، ويأنف مني الفتيان، الذين يحتقرون كل شيء، إلا ما كان جديدًا،
والذين لا يقدرون على شيء إلا ابتداع الثياب، وابتكار المطارف، ويذهب الوفاء
عندهم قبل أن تتوارى الأزياء، هذا هو ما كان يتمناه، وهو ما أتمناه أيضًا بعد،
وما دمت متعطلًا لا أخرج شمعًا ولا شهدًا، فليتني من خليتي الراحل المُسرِع،
لأفسح مكانًا لبعض العاملين والمنتجين.
الشريف الأول
:
إنك محبوب يا مولاي، والذين هم أقل من سواهم حبًّا لك، سيكونون أول من
يفتقدونك، ويعزُّ عليهم ذهابك.
الملك
:
إنني أعرف أني أملأ مكانًا، نبئني يا كونت، متى قضى الطبيب الذي كان يقيم عند
أبيك، لقد كان ذائع الذِّكر.
برترام
:
منذ ستة أشهر أو قرابتها يا مولاي.
الملك
:
لو كان حيًّا لجرَّبت طِبَّه، مُدَّ لي يدك … لقد نَهَكَ الأطباء الآخرون
قواي بما جربه فيَّ من طبه كل واحد منهم، إن الطبيعة والمرض يتنازعان الغلبة
على مهلٍ، مرحبًا بك يا كونت إنك عزيز عليَّ كوَلدي.
برترام
:
شكرًا لك يا صاحب الجلالة.
(ينصرفون.)
المشهد الثالث
(تدخل الكونتسة ورئيس الخدم والمهرج.)
الكونتسة
:
سأسمع الآن ماذا أنت قائل عن هذه السيدة.١٤
رئيس الخدم
:
أرجو يا سيدتي أن يكون حرصي على إرضاء رغباتك تجدينه مذكورًا في جهودي
الماضية، ولو عملنا إلى نشر محامدنا، والإعلان عن حسناتنا، لأسأنا إلى حياتنا،
وأفسدْنا علينا جمال تلك المحامد والحسنات.
الكونتسة
:
ماذا يفعل هذا الخبيث هنا؟ … اذهب يا هذا عنا، إنني لا أصدق كل تلك الشكاوى
التي سمعتها عنك، وما ذلك إلا لأني في الحكم وحلمي، لأني أعرف أنك لا تفتقر إلى
الحماقة التي تدفعك إلى ارتكابها ولا تعوزك المقدرة على إتيانها.
المهرج
:
غير خافٍ عليك يا مولاتي أنني رجل فقير.
الكونتسة
:
حسن يا هذا ثم ماذا …
المهرج
:
كلا يا مولاتي، ليس حسنًا أنني رجل فقير، وإن شَقِيَ خلقٌ كثير من الأغنياء،
ولكن إذا رضيت يا مولاتي لي الزواج استطعنا أنا وإيزابل١٥ أن نعيش كما ينبغي.
الكونتسة
:
هل لا بد لك أن تصبح «سائلًا»؟
المهرج
:
إنني «أسألك» الرضى في هذا الأمر.
الكونتسة
:
في أي أمر.
المهرج
:
في أمر إيزابل وأمري، إن الخدم لا يتركون ميراثًا، وأحسبني لن أنال بركة
الله، حتى أُرزق البنين، لأنهم كما يقول الناس نِعَم وبركات.١٦
الكونتسة
:
قل لي ما سبب رغبتكم في الزواج.
المهرج
:
إن بدني يا مولاتي يتطلبه، ومن يدفعه الشيطان إلى أمر ما فهو حتمًا
مندفِع.
الكونتسة
:
أهذا هو كل ما لدى سيادتك مِن سببٍ لرغبتك في الزواج؟
المهرج
:
يمينًا يا مولاتي إن لدي أسبابًا مقدسة أخرى.
الكونتسة
:
هل للناس أن يعرفوها …
المهرج
:
لقد عشت يا مولاتي إلى اليوم شريرًا، كما أنت وكما هو شأن كل من هو من لحم
ودم، وإني أريد الزواج لكي أُكفر عن ذنوبي.
الكونتسة
:
ستكون على الزواج أسرع ندمًا مما ستكون على السيئات.
المهرج
:
ليس لي صاحب يا مولاتي، وأرجو أن يكون لي صحاب من أجل زوجتي.
الكونتسة
:
سيكون هؤلاء الصحاب أعداءً لك يا أحمق.
المهرج
:
أنت يا مولاتي قليلة الخبرة بالصحاب الكبار، إن أولئك الحمقى الذين سأصحبهم
سيأتون ليؤدوا عني ما قد تعبت منه، إن من يحرث لي أرضي، يوفر لي سائمتي،
ويُمكِّنني من أن أجمع حصادي، وإذا كنت أنا ديوثه، فهو الكادح من أجلي، ومن يرح
زوجتي يعزز لحمي ودمي، ومن يعزز لحمي ودمي يحبب لحمي ودمي، ومن يحبب لحمي ودمي
فهو صديقي، أو بعبارة أخرى، إن من يقبل زوجتي هو صديقي، ولو قنع الناس بما هم
فيه لما كان ثمة خوف من الزواج، إن الشاب المتزمت في دينه والبابوي الشيخ
المحافظ على صومه، مهما اختلف قلباهما في المذهب، وتباينا في العقيدة، فإن في
رأسيهما شيئًا واحدًا، وهو قرناهما، يتلاقيان فيه ويتماثلان، ككل الوعول في
القطيع.
الكونتسة
:
أتأبى إلا أن تكون سليط اللسان سافلًا هجَّاءً.
المهرج
:
نبي يا مولاتي، أقول الحق من أقرب طريق، وأردد كالشادي ما الناس واجدوه، الحق
لا ريب فيه، وهو أن الزواج من صنع القدر، وأن الوقواق يشدو بحكم
الطبيعة.
الكونتسة
:
اذهب يا هذا، سأواصل الحديث معك بعد لحظة وجيزة.
رئيس الخدم
:
هلا سمحت يا مولاتي بأن يدعو هيلين إلى الحضور لأنني أريد أن أتحدث
عنها.
الكونتسة
:
قل يا هذا لوصيفتي، أعني هيلين، أنني أريد أن أتحدث إليها.
المهرج
:
أكان هذا الوجه الجميل السبب الذي حمل الإغريق على تخريب طروادة، حماقة منهم،
ونزقًا وتباهيًا به واعتزازًا، وهل كان هذا سر اغتباط الملك بريام وابتهاجه،
قالت هذا ثم تنهدت وهي قائمة، وقالت هذه العبارة: لو أن واحدة صالحة بين تسع
طالحات، وبين تسع طالحات واحدة صالحة، لكفى أن تكون واحدة صالحة بين عشر طالحات.١٧
الكونتسة
:
ماذا تقول يا هذا، واحدة صالحة بين عشر، إنك تُشوه الأغنية.
المهرج
:
امرأة صالحة بين عشر نساء يا مولاتي، إن هذا تصحيح للأغنية ليت الله يحبو
العالم بهذا طيلة العام! ولو أنني كنت قسيسًا لما وجدت بأسًا في المرأة
العاشرة. يقول المرأة العاشرة ولو ظفرنا بمولد امرأة صالحة على مطلع كل كوكب
سَيَّار، أو هزة زلزال،١٨ لَتحسنت القسمة، وصلح النصيب،١٩ واستطاع الرجل منا أن ينتزع قلبه، قبل أن يقتطف واحدة.
الكونتسة
:
اغرب عنا أيها الشقي، وافعل ما أمرتُك به.
المهرج
:
إن خضوع الرجل لِأمر امرأة، لا بأس منه ولا ضَيْر ولئن لم يكن ثمة تَزمُّت في
الوقاء، فلن ينتج من هذا ضر ولا أذى بل إنها لترتدي الثوب البابوي المذل فوق
الثوب الأسود الذي يرمي إلى تفهم الغالبية.
(تضرب الكونتسة الأرض بقدمها.)
إنني منصرف، ومهمتي أن أدعو هيلين إلى الحضور.
الكونتسة
:
الآن هات ما عندك.
رئيس الخدم
:
أعرف يا مولاتي حق المعرفة حبك لوصيفتك.
الكونتسة
:
يمين الله إني حقًّا أحبها، فقد عهد أبوها إليَّ بها وهي إلى جانب مزاياها
الأخرى وحسناتها، جديرة بهذا الحب الذي هي عندي واجِدته، إن ما يُعطى إليها
قليل إلى جانب ما تستحقه، وستُعطَى أكثر مما تطلب.
رئيس الخدم
:
لقد كنت في الأيام الأخيرة يا مولاتي أقرب إليها مما كانت تود، فرأيتها وحدها
تناجي نفسها، وتتحدث بلسانها، إلى سمعها، وإني لَشهيد على أنها كانت تظن أن
كلامها، وحديث نجواها، لم يَسترقه سمعٌ، لقد كان أمرها أنها تحب ابنك، وكانت
تقول إن القدر ليس «إلهًا» رحيمًا، لأنه أقام فارقًا بين مقامها ومقامه، وإن
الحب ليس ربًّا ذا رحمة، لأنه لا يمد سلطانه إلا حين تتماثل السجايا، وتتشابه
الصفات، وإن ديانا ليست ملكة العذارى، لأنها تتخلى عن فوارسها وأبطالها، وتدعهن
بغير نصير، في الاقتحام الأول، أو في الفدية بعد ذلك، وكانت تقول هذا وهي في
أشد مرارة الأسى والعناء، وأحزن ما سمعت في حياتي من عذراء، فرأيت من واجبي أن
أبادر إلى إنهاء الأمر إليك، لأنه يهمك أن تكوني عليمة به، قبل أن يحدث ما لا
تُحمد عقباه.
الكونتسة
:
لقد أديتَ واجبك مخلصًا، فدع الأمر في أطواء نفسك ولا تبُحْ لأحد به، وقد
رأيت من قبل عليه شواهد، ولكنها بقيت مترنحة في كفة الميزان، بين الشك عندي
واليقين، والآن أرجو أن تنصرف عني، واكتم الأمر في أعماق صدرك، وإني لشاكرة لك
حرصك ووفاءك وسأتحدث إليك بعد قليل.
(يخرج رئيس الخدم وتدخل هيلين.)
كذلك كان أمري حين كنت في شبابي، إن أجرينا على سنن الطبيعة، فهذا ما يصيبنا، وما دام الدم يجري في عروقنا فلا بد أن يكون الحب في دمنا فهو مظهر الطبيعة وخاتمها، حين تنطبع قوة الحب على صفحة شبابنا، ونحن حين نذكر أيامنا الخالية، نتبين أغلاطنا هذه وهفواتنا، أو أننا لم نفكر يومئذ في أنها أغلاط، وإني أراها الآن قريحة العين من فرط ما بها.
هيلين
:
ماذا تشاءين يا مولاتي؟
الكونتسة
:
أنت تعرفين يا هيلين أنني أمٌّ لك.
هيلين
:
بل مولاتي المعظمة.
الكونتسة
:
كلا. بل أم. ولِمَ لا؟ … يُخيَّل إليَّ حين قلت أمٌّ كأنك شَهِدْتِ حيةً
تسعى، فماذا يُخِيفك من الأم؟ إني أقول لك إنني أمك وأضعك في مصاف مَن حملتُهم
في أحشائي، ولَكَمْ رأينا التبني٢٠ منافسًا للبنوة، والاصطفاء يؤتينا ثمارًا طبيعية نبتتْ من بذور
أجنبية، وأنت ما أتعبتيني يومًا كأمٍّ في أيام حملها، وأوجاع وَضْعِها، ولكني
أُبدي لك حُنُوَّها، وأحس لك رفقها وعطفها، لك الله يا فتاة. أيجمد الدم في
عروقك حينما أقول إنني أمك، ما خَطْبُك حتى أرى هذا الرسول النديَّ على محياك،
وهذا الطيف الشمسي حول عينيك. أذلك كله لأنك ابنتي٢١ …
هيلين
:
لأنني لَسْتُها.
الكونتسة
:
ولكني أقول إنني أمك.
هيلين
:
عفوًا يا مولاتي، لا يمكن أن يكون الكونت روسيون أخي، إنني من أصل وضيع، وهو
من منبت باذخ، وليس لأهلي ذِكْرٌ، وأهله الأشراف الأماجد، هو مولاي العزيز وأنا
خادمة أحيا وأموت تابعة له وموالية، فلا ينبغي أن يكون لمثلي أخًا.
الكونتسة
:
ولا أنا أمك؟٢٢ …
هيلين
:
أنت أمي يا مولاتي، ليتك كنت أمي حقًّا، حتى يكون مولاي ابنك أخي، حقًّا أنت
أمي، وليتك كنت لنا نحن الاثنين أمًّا، إن عنايتي بهذا الأمر لا تقل عن عنايتي
بأن يكون مثواي الجنة، على ألا أكون له أختًا، وإذا كنت أنا ابنتك ألا يستلزم
هذا أن يكون هو أخي؟
الكونتسة
:
أجل يا هيلين، قد تصبحين بنتي، حماك الله يا بنية، أنت لا تعنين هذا ولا
تقصدينه، ولكن اضطربت أعصابك ما بين الحب والخوف من اسم الابنة، والأم تجهد
خاطرك، ماذا أرى، أيعاودك الشحوب مرة أخرى، لقد عرف خوفي كيف يكشف حبك، والآن
قد أدركت سر وحدتك وانطوائك على نفسك، واهتديت إلى باعث مرير عبرتك، لقد برح
الخفاء، أنت تحبين ابني، وليس في وسعك أن تنكري حبك إياه، أمام ما أعلنتْ
عاطفتك، ونادت به مشاعرك، فلتنبئيني إذن بالحق، لتقولي إن الأمر كذلك، ألا ترين
إلى خديك، كيف يعترف أحدهما للآخر ويقر، وإلى عينيك كيف تَنُمَّان عليك، كما هو
ديدنهما، وتتحدثان بلغتهما عن حبك، وإن كان الحياء الأليم والعناد الأثيم،
يمسكان لسانك، تكلمي حتى لا تُتَّهم الحقيقة أو يُستراب بها، انطقي! أهو كذلك؟
… فإن كان كذلك، فقد أوجدت لي مشكلة خطيرة، وإن لم يكن كذلك، فأقسمي. ومهما
اتهمتك فليعاوني الله على خدمتك إذا نبأتني بالحق.
هيلين
:
أستميحك يا مولاتي الكريمة مغفرة.
الكونتسة
:
هل تحبين ابني؟
هيلين
:
مغفرة يا مولاتي النبيلة.
الكونتسة
:
هل تحبين ابني؟
هيلين
:
ألا تحبينه يا مولاتي؟
الكونتسة
:
دعك من اللف والدوران، إنني ملزمة بفطرتي أن أحبه، وهذا رباط معروف لكل
الناس، هلمي، هلمي، اكشفي عن حبك، فقد نمَّ عنك كل النَّم.
هيلين
:
إذن أعترف، وأنا جاثية أمام السموات العلى وأمامك، أنني أحب ابنك حبًّا يزيد
على حبي لنفسي ويقرَب من حبي لله، لقد كان قومي فقراء، ولكنهم إخوان صدق ووفاء،
وكذلك حبي، فلا يسوءنك هذا، لأنه لا أذاة منه لمن أحب، ولست متبعة حبي بمطلب
جريء، وليس لي من ورائه مأرب متبجح، وما أنا طامعة فيه، حتى أكون جديرة به،
ولئن كنت لا أعرف كيف تتحقق تلك الجدارة، ولكني أعلم أن حبي بلا جدوى، وأنه
مغالبة للأمل، وإن ظللت أسكب أمواه حبي في هذا الغربال الذي يتلقى كل شيء ولا
يمسك قط بشيء، ولن أضن على هذا الضياع أبدًا بمزيد. وما مثلي إلا كمثل الهندي —
أعبد — على خطأٍ في الدين — الشمس التي تنظر إلى عابدها، ولا تدري عنه شيئًا،
أي مولاتي العزيزة، حاشاك أن يكون حبي لمن تحبين سببًا في أن تقابلي هذا الحب
بالبغض، فأرثِ إذن لمن حالها مثل حالي، لا حول لها إلا أن تقرض وتعطي، وهي
واثقة من أنها الخاسرة، ولا تعمل في هذه الدنيا لأن تجد ما تسعى لنيله ولكنها
كاللغز الخفي تجد الحياة الهنيئة حيث تلقى الموت.
الكونتسة
:
ألم تكن في نفسك أخيرًا نية الذهاب إلى باريس، قولي الحق.
هيلين
:
بلى يا مولاتي.
الكونتسة
:
وما الغرض، نبئيني بالحق.
هيلين
:
سأقول الحق، وأقسم بالرحمن إني قائلته، أنت تعلمين أن أبي ترك لي من بعده
وصفات طبية نادرة محققة التأثير مما اهتدى إليه من قراءاته، وأثبتتها تجاربه،
وجمعها لتكون حاوية الدواء لكل علة، ووصاني أشد التوصية بألا أهبها إلا عند
الضرورة القصوى ولذوي المقام الكبير، وهي أقوى مفعولًا في سبيل البرء مما يعزى
إليها في الكتاب، ومن بين هذه المجموعة دواء مقرر مخصص لشفاء الأوجاع الميئوس
منها التي تذوى منها صحة الملك، ويوشك من أثرها أن يكون من الهالكين.
الكونتسة
:
أكان هذا هو الباعث لك على سفرك إلى باريس — تكلمي.
هيلين
:
إن مولاي ابنك هو الذي جعلني أفكر في هذا الأمر، وإلا فما كانت باريس ولا
الدواء ولا الملك لتدور يومًا في خاطري وما كان أسعدني بخلو خاطري من هذا
التفكير.
الكونتسة
:
ولكن هل تظنين يا هيلين أن الملك سيتقبل
الدواء المسعف الذي تزعمين أنك متقدمة به لمعونته، وهو وأطباؤه مجمعون على رأي
واحد، فأما هو فيرى أنهم لن يستطيعوا إبراءه، وأما هم فيرون أنهم عن علاجه
عاجزون، فكيف يصدقون عذراء فقيرة لم تصب علمًا، وهم قد أفرغوا كل ما في الطب من
علم، ثم تركوا الخطر يستفحل يائسين …
هيلين
:
إن في هذا الدواء شيئًا يوحي بأن فيه شيئًا غير براعة أبي، وإن كان في المهنة
أعظم الأساطين، وهو أن أسعد ما في السماء من الكواكب سوف تبارك تركة أبي من
علمه، وتراثه من فنون طبه، ولو أذنتِ لي يا مولاتي في السفر لمضيت أحاول علاج
جلالته وانطلقت أبذل حياتي المضيعة في تجربة برئه، في اليوم المحدود والساعة
المعينة.
الكونتسة
:
وهل أنت بذلك موقنة.
هيلين
:
حق اليقين يا مولاتي.
الكونتسة
:
لك يا هيلين الإذن والحب والوسائل والأساليب، والخدم والأتباع، فأقرئي السلام
لذوينا في البلاط، وسأقيم أنا هنا داعية الله أن يبارك جهدك، ويحقق طلبتك،
وليكن السفر غدًا، وثقي أنني لن أضن عليك بكل ما في وسعي من مدد وعون …
(تخرجان.)
١
كان كل «قاصر» من أبناء الأشراف يوضع تحت رعاية الملك، فهو الوصي
عليه وقد توفي الكونت روسيون من عهد قريب، فأصبح غلامه برترام تحت
وصاية الملك.
٢
أي أنه لم يعد يرجو عند الأطباء برءًا، بعد أن عذَّب نفسه بالأمل،
وجاء طول الانتظار مع الزمن فأفقده الأمل في الشفاء.
٣
يشير هذا إلى حديث هيلين ولعله كان أفضل أن يأتي بعده مباشرة.
٤
يذهب أحد الشراح إلى أن مناداتها له «بالملك» بعد قوله لها «أيتها
الملكة» هي إشارة إلى «موناركو» وهو إيطالي مخبول كان في حاشية الملكة
إليزابث ليسليها ويضحكها بجنون العظمة الذي كان مريضًا به.
٥
كانت العادة ألا يُدفن المنتحرون في المقابر العامة لأنهم اقترفوا
جرمًا في حق الحياة، وقد شرح المؤلف هذه النقطة في الحوار بين اللحاد
وزميله في الفصل الأول من رواية «هملت».
٦
كان الطراز السائد قبل أيام شكسبير أن يوضع المشبك وفرشاة الأسنان في
سلسلة فوق الصدر ثم انتهى هذا الطراز، ومن هنا يقول إن بقاء الفتاة
عذراء لا تريد الرجال هو طراز قديم انتهى عهده.
٧
التمرة هنا من التمر أو البلح الذي يُرشق فوق قطعة الفطير، ولكن كلمة
تمر في الإنجليزية لها معنى آخر: وهو التاريخ أو الوقت المحدد، وهنا
تورية، أي لا تَدَعي العذرة تفوت أوانها.
٨
المتن هنا مضطرب، وقد فقدت منه بعض سطور تعلق فيها هيلين على سفر
برترام إلى بلاط الملك حيث يجد أحباء جددًا.
٩
أي أنه سيجد ما يلهو به وكل هذه الأشياء التي عددتها هي نعوت الذين
سيختلط بهم، فقد ذكرت «أمًّا» أي امرأة في مثل سن أمه، كما ذكرت
«العنقاء» وهو في اليونانية «الفقنقس» أي العنقاء وهو طائر خرافي، ثم
جاءت بصفة أخرى على سبيل المقابلة في المبالغة وهي قولها طموح ذليل
وضعة متكبرة، وبالمثل ما بعدها «وفاقًا متنافرًا، وتنافرًا موافقًا،
وكيوبيد الأعمى» هو إله الحب، الأحاديث عن أهل الغرام في
البلاط.
١٠
أي لا تملك غير التمني.
١١
إله الحرب، يريد أن يقول إنه وُلد ليكون جنديًّا.
١٢
أراد بقوله «وهو في أوجه» إنه جندي عظيم، ولكنها أجابت بقولها «بل في
تراجعه» أي أنه ليس إلا جنديًّا مخفقًا، يتراجع في القتال ويتقهقر،
وحين علل تراجعه بقوله «هذا مقصود لغرض» كما يتراجع الجيش أحيانًا
ليتخذ مواقع محصنة، أو ليحرص على خط رجعته، ذهبت إلى تعليل آخر بديع
وهو الجبن وطلب الفرار فقالت إن شجاعته وجبانته اتفقتا على الجري وسرعة
الخطى.
١٣
يبدو أن بارولس من المتأنقين، فهي تضيف إلى قولها السابق مواسية
بارولس بالحديث عن تأنقه وهندامه.
١٤
هيلين.
١٥
إيزابل هي الوصيفة، وكل الوصيفات في العادة يُسمَين بهذا الاسم
وللزواج في الانجليزية تعبير جميل وهو «الذهاب إلى العالم» ولعله يماثل
تعبيرنا «الدخول إلى الدنيا».
١٦
كقول عامتنا عن الزواج إنه «استكمال لدينهم»، وقوله إن الأولاد نعم
وبركات اعتقاد ديني عام، وانظر في الحوار التالي كيف يعلل سبب رغبته في
الزواج، فهو مليء بالسخرية والتهكم المرير بالأزواج والحياة الزوجية.
١٧
هيلين اسم مأخوذ من الإلياذة التي وضعها «هوميروس» شاعر اليونان
القديمة لتخليد حرب طروادة، وهذه العبارة كلها مقتبسة من القصة
الإغريقية، وقد تخللتها كلمات اعتراضية كقوله: «كذلك قالت»، وهذه
العبارة بالذات مأخوذة من الشاعر مارللو الذي سبق شكسبير بقوله: «أهذا
هو الوجه الذي أنزل إلى البحر ألف جارية»، وهي جملة مشهورة تتردد على
الأفواه. وفي هذا القول الذي جاء على لسان المهرج سطر مكرر عن «الواحدة
الصالحة بين تسع طالحات»، وأصل القصة أنه كان للملك بريام عشرة أولاد
في حصار طروادة كلهم أحسن البلاء إلا «باريس» فقد هرب، ولكن المهرج عكس
الأمر وقلب الموضوع فجعله عن النساء، وهذا ما جعل الكونتسة تجيب بقولها
«لقد شوهتَ المقال وأفسدتَ المثال».
١٨
كانت النجوم المذنبة والزلازل تعد نذيرًا بسوء أو حدث خطير كموت عظيم
أو نحوه.
١٩
أي لتحسنت الفرص للكسب في «النصيب» وكانت نسبة الربح فيها على عهد
الملكة إليزابث واحدًا في الأربعين.
٢٠
التبني والبنوة متنافسان، تريد أن التبني لا يقل عن الأمومة، وقد
أرادت أن تبرر هذا فقالت: بل بالعكس إنك لم تتعبيني في الحمل
والوضع.
٢١
تعبير جميل عن الدموع قوله: «هذا الرسول الندي»، أي المبلل على وجهك
— وتعبيره عن العبرات الواكفة من عينيها «بالطيف الشمسي» أو قوس قزح،
وفي الأصل «إيريس» المتعددة الألوان. وكانت عند الإغريق ربة هذا الطيف
…
٢٢
كل هذا التردد من هيلين في قبول الكونتسة أمًّا لها، يرجع إلى تطلعها
نحو الاقتران بالشاب، فهي لا تريد أن تكون أختًا له، فإن ذلك يجعل
الزواج به مستحيلًا.