الفصل الثاني
المشهد الأول
(يدخل الملك وفي رفقته عدة أشراف من الشباب للاستئذان في السفر
ليشتركوا في الحرب الفلورنسية — برترام — بارولس وبعض الحاشية — دق طبول.)
الملك
:
وداعًا أيها الأشراف الشباب،١ ولا تنسوا تلك المبادئ العسكرية التي تحدثتُ إليكم عن وجوب
مراعاتها، وأنتم أيها الأمراء وداعًا، وتقاسموا نصيحتي بينكم، فإن خرج الفريقان
غانمين، سَهِّمَا الغنم جميعًا، وهو كافٍ لهما معًا.
الشريف الأول
:
نرجو يا مولاي حين نعود عودة الأجناد المدربين أن نجد جلالتكم بخير
وعافية.
الملك
:
كلا، كلا، هيهات، وإن كان قلبي يأبى أن يعترف بأنه يعاني العلة التي تهدد
حياتي، وداعًا أيها الأشراف الشباب. وسواء حييت أو مت فكونوا أبناء الفرنسيين
الأمجاد، ولتشهدوا إيطاليا العليا، خلا الذين يفيدون من سقوط الملك السابق
وذهابه، ولتظهروا أنكم ما جئتم لتخطبوا المحامد، بل جئتم لتبنوا بها، وحين
ينزوي أشجع الشجعان عن طلب المجد ومناله، تقدموا لنيله وطِلابه، حتى تكسبوا حمد
الشرف وهتافه العالي، أهيب بكم وداعًا.
الشريف الأول
:
لتستجيب الصحة يا مولاي لأمرك، ولتكن في خدمة جلالتك.
الملك
:
وأحذركم من بنات إيطاليا، إنهن يقلن إننا نحن الفرنسيين تنقصنا كلمة لا إذا
طُلبننا، واحذروا أن تكونوا «أسرى» قبل أن تدخلوا المعركة.
الشريفان
:
إن قلوبنا لتعي تحذيركم يا مولاي.
الملك
:
وداعًا، تعالوا هنا إليَّ.
(يذهب الملك إلى أريكة.)
الشريف الأول
:
واحًا لك أيها الشريف المحبب، إنك ستتخلف عنا.
بارولس
:
ليس ذنب الفتى المتأنق أن يتخلف.
الشريف الثاني
:
هذه حرب ضروس.
بارولس
:
وأبدع ما تكون، وقد شاهدتها.
برترام
:
وقد أمرت بالبقاء هنا لأكون موضوع القيل والقال، سيقولون إنه لا يزال فتى
حدثًا، وسيقول آخرون، دعوه إلى العام القادم، فلا يزال الوقت باكرًا
دونه.
بارولس
:
إذا كنت مصرًّا على الذهاب يا غلام، فاخرج إلى الميدان خُضْه وكن
شجاعًا.
برترام
:
أنا هنا ماكث تحت أمر الغواني، وهدفٌ لعبث الغيد٢ أنفض نعلي على أديم القصر، حتى ينفذ الشرف، ولا يبقى مع المجد ذماء
فلا يحمه من السيوف إلا سيف الرقص مع «الراقصات»، قسمًا لأتسللن إلى الحومة
«مسترق» الخطوات.
الشريف الأول
:
إن في هذا الاستراق شرفًا لمقترفه.
بارولس
:
ارتكبه يا كونت.
الشريف الأول
:
أنا ملازم لك وقطعة منك، الآن وداعًا.
برترام
:
لقد نشأنا معًا، فالانفصال أليم، كتقطيع الأوصال.
الشريف الأول
:
إلى اللقاء أيها الرئيس.
برترام
:
إلى اللقاء يا عزيزي بارولس.
بارولس
:
أيها البطلان النبيلان، إن سيفي وسيفكما صنوان، حدة ومضاء، وبريقًا وسناءً،
وتماثلًا في المعدن الكريم والماء، وإنكما لواجدان في فرقة الإسبناي ضابطًا
يدعى «سبوريو» وعلى وجهه القبيح شارة حرب، ندبة من جرح إثر طعنة كان حسامي هو
طاعنها، فإذا لقيتماه فقولا له إنني لا أزال حيًّا، واحفظا ما هو عني
قائل.
الشريف الثاني
:
سنفعل أيها الضابط الكريم.
(يخرج الشريفان.)
بارولس
:
ليرعاكما إله الحرب وليتخذكما تلميذيْه المدلليْن، والآن ماذا أنت صانع
…
(هنا يرتفع ستار فيبدو الملك في مقعده ويتقدم رجال الحاشية به
محمولًا عليه.)
برترام
:
مكانك … الملك قادم …
بارولس
:
كن أكثر احتفالًا بالأشراف النبلاء، فقد رأيتك متحفظًا معهم باردًا في توديعك
لهم، ألا زدهم قولًا، وبيانًا، لأنهم قوم يحرصون على أن يظهروا في أحسن طراز
العصر، فامش مشية الجند المعلمين مثلهم، وكُل واشرب وتكلم، واخط على هدي أكثرهم
حظوة وأحسنهم قبولًا، واتبعهم واقْفُ على آثارهم، وإن كان الشيطان في الرقص
رائدهم، وكن في وداعهم أكثر تبسطًا وإسهابًا.
برترام
:
وإني لفاعل.
بارولس
:
إنهم أمجاد وأكبر الظن أنهم سيثبتون بحسن البلاء، وأنهم من المجالدين
الأشداء.
(يخرجان.)
(ينزل خدم الملك المقعد — ويدخل لافيه.)
لافيه
:
اغفر لي يا مولاي ولما أحمله من أنباء.
(يجثو أمام الملك.)
الملك
:
انهض وارفع التكليف.
لافيه
:
هاأنذا أنهض بعد أن نلت المغفرة، وددت لو أن مولاي جثا ليسألني المرحمة، ونهض
بأمري من جثوته.
الملك
:
وددت لو أني فعلت، لأكسر رأسك ثم أسألك المرحمة، ثم استطعت أن تقف حين آمرك
في الوقوف.
لافيه
:
في الحق أنك ضربت ولكن لم تصب،٣ إن الأمر وما فيه يا مولاي هو هل تريد البرء من علتك؟
الملك
:
كلا.
لافيه
:
يا عجبًا، ألا تأكل عنبًا أيها الثعلب الملكي٤ … بل والله إنك لآكل من الأعناب الطيبة لو أن الثعلب العظيم استطاع
الوصول إليها، لقد اهتديت إلى طبيبة تقدر على أن تنفخ الحياة في الصخر، وتجعلك
ترقص رقصة الكروان وتملأك روحًا وحرارة وحركة، وتكفي لمسة واحدة منها لتنهض من
قبر الملك «بيان»، وتضع القلم في يد شارلمان ليكتب لها رسالة حب وهيام.٥
الملك
:
ومن تكون هذه؟
لافيه
:
هي طبيبة قدمت إلينا يا مولاي وليتك تراها، وأقسم بأيماني وشرفي، لو أنني
أردت الجد في التعبير، بدون الهزل في قولي، لقلت إنني تحدثت إلى امرأة أجارتني
بأنوثتها وسنها، وقدرتها، وحكمتها، وصدق عزيمتها، حتى استولت عليَّ دهشة لا
أستطيع أن أعزوها إلى ضعفي فهلا أذنت في مثولها بين يديك، (لأن لقاءك هو
طُلْبتها) لتعرف ما تريد؟ بأن تعجب كيف استولى عليك هذا العجب.
الملك
:
هات إذن يا لافيه موضع إعجابك، حتى نقاسمك العجب، أو نزيله عنك، وبأن نعجب لك
كيف أعجبك.
لافيه
:
وأنا سأصدع بأمرك، ولن يستغرق ذلك شيئًا.
(يخرج مسرعًا.)
الملك
:
من يكثر من المقدمات لا يأتِ بشيء.
لافيه
:
والآن أقبلي.
(يعود ويفتح الباب لهيلين فتدخل.)
الملك
:
إن لهذه العجلة جناحين حقًّا.٦
لافيه
:
أقبلي … ها هو ذا جلالته، تحدثي إليه عما يجول في خاطرك، إنك لتلُوحِين
دجالة، ولكن جلالته قلَّما يخشى هذا النوع من الدجالين، وأنا عم كريسيدا٧ لا أحجم عن أن أترك الاثنين في خلوة معًا … إلى الملتقى.
(يخرج.)
الملك
:
إيه أيتها الحسناء، هل لعملك صلة بنا.
هيلين
:
أجل يا مولاي الكريم، لقد كان جيرار دي نارمون أبي الذي عُرفت في المهنة
براعته.
الملك
:
إني كنت أعرفه.
هيلين
:
حسبي معرفتك له فهي تغنيني عن إزجاء المديح إليه، وقد أعطاني وهو على فراش
الموت عدة وَصْفات، أَخصها وصفة جاءت أعز ثمرات عمله وأغلى نتائج تجاريبه،
وأمرني أن أحتفظ بها، وأحرص عليها كأنها عين ثالثة، بل أوفر أمانًا من عينيْ
الاثنتين، فصدعت بأمره، وقد سمعت بما مس جلالتكم من علة قاسية، تعد عطية أبي
فعالة الأثر في البرء منها، فجئت لأقدمها وأستخدمها بكل خضوع وخشوع.
الملك
:
نشكرك أيتها العذراء، وإن كنا لا نصدق أنها الكفيلة لنا بالشفاء، بعد أن
تركنا أكبر أساتذتنا علمًا، وأجمع معاشر الأطباء، على أن «الفن» مهما بذل لا
يستطيع أن ينقذنا مما جرت به سنن الطبيعة ومن تلك الحال التي ليس منها شفاء —
أقول إنه لا ينبغي أن نسيء إلى حكمنا وتقديرنا، أو نفسد أمنيتنا وأملنا، بتعريض
دائنا العضال، للتجارب التي لا تقوم على أساس من العلم الصحيح، ولا نرضى
لأنفسنا وكرامتنا أن نتعلل بدجل تافه سخيف، بعد أن عجزت كل معونة.
هيلين
:
حسبي أنني أديت واجبي، فلا أحاول أن أرغمك على قبول خدمتي إرغامًا، ولكني بكل
خشوع ألتمس من خواطرك يا مولاي خاطرًا متواضعًا أعود به من حيث أتيت.
الملك
:
لن أهبك أقل من شكري وعرفاني، فقد خطر لك أن تمدي إليَّ يد العون، وأني لشاكر
لك شكر الميت للذين يرجون له الحياة، ولكني أعلم حق العلم ما لا تعلمين شيئًا
منه، أنا أعرف كل ما بي من سقم، وأنت لا تعرفين «فنًّا».
هيلين
:
لا بأس أن أحاول ما أستطيع، ما دمت مصممًا على رفض العلاج، إن من يؤدي أخطر
الفعال، ويتم أعظم الأعمال، كثيرًا ما يستعين عليها بأضعف الأعوان، وقد رأينا
في الكتاب المقدس الولدان قضاة أهل سداد ورجحان، وشهدنا القضاة في حكمهم كالولدان،٨ وإن أعظم الفيضانات قد ينبعث من أقل الموارد، وأصغر النبعات، وإن
البحار نضبت حين أنكرت المعجزات وكذبت،٩وكثيرًا ما يخيب الذي كان متوقعًا وأكثر ما يكون ذلك حيث يصبح الأمل
أعظم ما يكون قوة، وغالبًا ما يتحقق ما كان الأمل فيه واهيًا واليأس منه
قويًّا.
الملك
:
لا ينبغي لي أن أستمع إليك، وداعًا أيتها العذراء الحنون الكريمة، وستجزي
نفسك بنفسك على جهودك التي لم تُستثمر، ولئن لم أتقبل ما عرضته، ولم أستجب لما
سألته، فليكن شكري لك هو الجزاء.
هيلين
:
يا للكفاية المهملة حين تذار بالقول عن مرادها … ليس هذا شأن العليم الخبير
بكل شيء، ولكنه شأننا نحن ودأبنا نعتمد على المظاهر وحدها في كل حِسِّنا
وتفكيرنا، وندعي ما ليس من صنعنا، ونزعم أن ما فعله الله هو من فعلنا، أيها
العزيز تقبل محاولتي، ومن السماء، لا مني، فلتجرب تجربتي، ما أنا بدجالة، ولا
مدعية ما ليس لي، ولا بزاعمة شيئًا أنا عنه عاجزة، ولكني أعرف ما أعتقد، وأعتقد
يقينًا أنني أعرف، إن فني ليس عاجزًا، وإن مرضك ليس لحدود البرء
متجاوزًا.
الملك
:
أأنت واثقة إلى هذا الحد، وفي أي فترة تؤملين لي البرء.
هيلين
:
بعون الله، قبل أن تتم جياد الشمس التي تحمل مشعلها المتقد دورتها مرتين،
وقبل أن تطفئ في بحر المغرب الأعظم مصباحها الناعس الخافت إطفاءتين، أو تنبئ
ساعة الربان دقائقها المختلسة كيف تمضي أربعًا وعشرين مرة، يزول كل ما بجسمك
السليم من سقام، وتحيا الصحة فيه خلية من كل دواء، ويموت المرض موتًا، وتفنى
العلة فناء.١٠
الملك
:
وما الذي به تغامرين، إزاء هذه الثقة، وهذا اليقين؟
هيلين
:
إذا لم يتحقق يقيني، فاعددني عديمة الحياء، جريئة جرأة العاهرات، معلنة
العار، في أهجى القصائد والأشعار، وليبدل اسمي «العذراء»، بنقيضه في الصفات
والأسماء، ولتنته حياتي بعذاب الهوان، وهو ما لا يمكن أن يكون أسوأ من ذلك
السوء.
الملك
:
يخيل إليَّ أن في كلامك روحًا مباركة تتحدث، وفي ضعفك صوتًا قويًّا ينبعث،
وأن ما يبدو مستحيلًا أن أنظر إليه في ضوء العقل العادي قد يكون مستطاعًا أن
أنظر إليه من نواحٍ أخرى، إن حياتك غالية، لأنها استوفت فيك كل ما يتطلبه
معناها، ويعز قدرها من قيم، الشباب، والجمال، والحكمة، والشجاعة، وكل ما في
إمكان السعادة ونضرة الشباب، أن تسمياه سعادة، وأن تغامري بذلك كله ليدل على
أنك حتمًا ذات مهارة بالغة، وحذقًا متناهيًا، أو يوحي بتهور شنيع، أيتها
المتطببة الحسناء، سأجرب دواءك، فإن مت منه، فسيؤدي هذا إلى موتك.
هيلين
:
إذا تجاوزت الوقت المحدد، أو أخفقت في أي جزء صغير مما وعدتك به، فدعني أمت
بغير رحمة أو رثاء، لأنني للموت عندئذ مستأهلة، وهو لي في الحق جزاء، وليكن
الموت على العجز أجري، ولكن بم أنت واعدي، إذا كان النجاح حليفي!
الملك
:
اطلبي، توهبي.
هيلين
:
أحقًّا أنت منجز ما تعد؟
الملك
:
أجل، بسلطان صولجاني، وأملي في الله.
هيلين
:
أتهبني عندئذ بيدك الملكية، أي زوج في مملكتك أشاء على أنني لن تبلغ بي
الغطرسة أن أختاره من بيت الملك في فرنسا أو أن أقرن اسمي المتواضع الصغير،
باسم أي فرع منه، أو من يمثله، بل إن هذا الذي أتحدث عنه من أتباعك، وأنا أعرف
ألا ضير عليَّ في أن أطلبه ولا يعز عليك أن تجيبني إلى طلبي.
الملك
:
هذه يدي، موثق موعدي، وسيكون لك عندي، ما تشاءين، فعيني الزمن الذي تطلبين،
لأني أنا مريضك الذي عقد نيته، سيضع ثقته فيك على الدوام، إنني سأسألك فوق ما
سألت، ولا بد لي من ذلك السؤال، وإن كان الازدياد من طلب المعرفة لا يدل على
زيادة في الثقة من أين أتيت، وكيف نشأت — ولكني مُرَحِّبٌ بك بدون سؤال ومكرمك
بدون أن تداخلني في أمرك ريبة — وإذا مضى عونك كعهدك، لم يكن ما أعمله لك أقل
من عملك.
(طبول — ينصرفان.)
المشهد الثاني
(تدخل الكونتسة والمهرج.)
الكونتسة
:
أقبِل يا هذا فإني ممتحنتك لأرى إلى أي مدى تبلغ آدابك، وإلى أي حد يمكن أن
يكون في المجتمع الرفيع مسلكك.
المهرج
:
سوف أتراءى حسن التغذية، رديء التربية،١١ وأنا أعرف أن المهمة التي سأُمتحن بها لن تتعدى الذهاب إلى
البلاط.
الكونتسة
:
لا تتعدى الذهاب إلى البلاط! أي مكانة خاصة تتبوأ، حتى تقول إلى البلاط بهذه
السخرية؟
المهرج
:
حقًّا يا مولاتي، إذا وهب الله إنسانًا شيئًا من الآداب، تيسر له أن يخلعها
في البلاط، ومن لا يستطيع أن يطوي ساقًا ويرفع قبعة، ويُقَبِّل يدًا، ولا يقول
شيئًا، فليست له ساق ولا يدان، ولا شفة ولا قبعة، ومن كان هذا شأنه، فهو في
واقع الأمر، إن شئت الدقة لا يصلح للبلاط، أما أنا، فإن عندي لكل الناس الرد
الصالح.
الكونتسة
:
حقَّا إنه لرد كريم يصلح لكل سؤال.
المهرج
:
إنه مثل «كرسي» الحلاق، يصلح لكل الأعجاز، الناحل، والسمين، والمفتول، وأي
عجز.
الكونتسة
:
أيصلح ردك لكل الأسئلة.
المهرج
:
كما تصلح عشرة قروش ليد وكيل مفوض، والريال الفرنسي للبغيِّ ذات الثوب
الحريري الخفيف، وخاتم زواج فلان في أصبع فلانة١٢ وقطعة الفطير لثلاثاء الزفر، ورقص المغاربة لعيد الربيع،١٣ والمسمار للشق الذي يدخل فيه، والديوث لقرنه، وكما تصلح الفاجرة
اللوامة للوغد الشرس، وشفتا الراهبة لفم الراهب، والحشو للأديم الذي
يحويه.
الكونتسة
:
إني أسألك هل لديك ردٌّ يصلح لكل الأسئلة.
المهرج
:
إن ردي يصلح لأي سؤال ممن هم دون «الدوق» عندكم إلى من هم تحت
«الكونستابل».
الكونتسة
:
لا بد أن يكون ردًّا ضخم الحجم حتى يصلح لكل المطالب.
المهرج
:
ولكنه قد لا يكون إلى حد ما في الحقيقة، إذا تحدث العارفون عنه على حقيقته،
ها هو ذا بكل ما يتعلق به، سليني هل أنا من رجال البلاط، ولا تخشي من الجواب
ضيرًا.
الكونتسة
:
ليتنا نعرف كيف نعود إلى الشباب لنلهو، إنني في توجيه هذا السؤال إليك سأكون
خالية من الفطنة، ولكني أرجو أن أصيبها من ردك، قل لي من فضلك يا سيدي هل أنت
من أهل البلاط؟
المهرج
:
مولاي وسيدي،١٤ هذا سؤال لا رد لي عليه غير تأجيله، اسألي سؤالًا آخر، مائة من
الأسئلة.
الكونتسة
:
إنني صديقة لك مسكينة، صديقة تحبك.
المهرج
:
مولاي وسيدي … هذا كثير … هذا كثير … لا تتخلي عني
الكونتسة
:
أظنك يا سيدي لا تأكل من هذا اللحم المنزلي …
المهرج
:
مولاي وسيدي، بل ها أنا أناشدك.
الكونتسة
:
أحسبك يا سيدي قد ضربت بالسوط من عهد قريب.
المهرج
:
مولاي وسيدي، لا تتركيني.
الكونتسة
:
هل تصيح «مولاي وسيدي» عندما تُساط، وهل تقول «لا تتركني»؟، حقًّا إن صيحتك
«مولاي وسيدي» لأنسب لازمة لضربك، وخير رد على جَلْدِك، إذا شد له وثاقك، وكان
فيه قيدك.
المهرج
:
لم أشهد في حياتي أتعس حظًّا مني في قولي «مولاي وسيدي» وأعتقد أن الأشياء قد
تخدم المرء طويلًا، ولكنها لا تخدمه دائمًا.
الكونتسة
:
إنني أضيع وقتي عبثًا كرَبَّةِ بيت في التفكُّه مع مهرج.
المهرج
:
مولاي وسيدي … ها هي ذي تخدم الآن مرة أخرى.
الكونتسة
:
كفى هذرًا يا هذا … خذ هذا الكتاب إلى هيلين وقل لها تعجلي بالجواب، وأقرئي
قومي وابني السلام وليس هذا بكثير.
المهرج
:
ليس بكثير إقراؤهم السلام.
الكونتسة
:
أنت فاهم مرادي. ليس بعمل كثير لك.
المهرج
:
بكل إخلاص سأكون هناك قبل ساقي.
الكونتسة
:
وعُدْ بمثل عجلتك ذاهبًا.
(يخرجان.)
المشهد الثالث
(يدخل برترام ولافيه الشيخ وبارولس.)
لافيه
:
يقولون لقد مضى عهد المعجزات، ولا نزال نرى بيننا من «المتفلسفة» من يجعلون
الخوارق والأحداث التي لا ترجع إلى علل ومسببات، شيئًا مألوفًا، وأمرًا
عاديًّا، ولم نعد نخشى الخوارق، بل نحاول تعليلها أحيانًا، بظواهر الطبيعة ونواميسها،١٥ وكان أولى بنا أن نرتضيها كما هي إيمانًا، ونعدها خارقة
يقينًا.
بارولس
:
إنها لأندر أعجوبة ظهرت في أيامنا هذه.
برترام
:
إنها لكذلك.
لافيه
:
أن ييأس من برئه الأساطين.
بارولس
:
هذا ما أقول وجالينوس وباراسيلسوس كذلك.١٦
لافيه
:
وسائر العلماء والجهابذة.
بارولس
:
حقًّا.
لافيه
:
الذين حسبوا علته مستعصية عضالًا.
بارولس
:
هذا هو عين ما أقول.١٧
لافيه
:
ليس في وسعنا أن نقول غير ما قلنا.
بارولس
:
حقًّا. وفي الواقع. كأن رجلًا يؤكد له.
لافيه
:
إن حياته في خطر وموته محقق.
بارولس
:
قلت حقًّا، وهو ما كنت أنا قائله.
لافيه
:
والحق أقول إنها لحدث جديد في العالم.
بارولس
:
هو كذلك في الواقع، ولو عرض على الناس لقرأته فيما يدعونه.
لافيه
:
«بحث في المعجزات السماوية، على أيد بشرية».١٨
بارولس
:
تمامًا، وهو ما كنت قائله بعينه.
لافيه
:
إن درفينك ليس أكثر بأسًا١٩ إنني أتكلم عن …
بارولس
:
إنه لغريب، بل جد غريب، هذا هو جملة الأمر وتكراره، وهو وإن كان ذا الروح
الشريرة لا يريد أن يعترف بأنه …
لافيه
:
من صنع السماء.
بارولس
:
نعم، هذا ما أقوله.
لافيه
:
إن في أضعف الخلق.
بارولس
:
وأوهنهم قوة عظيمة، وسموًّا بالغًا، قد تنتفع بها في شيء آخر غير شفاء الملك
من علته حتى …
لافيه
:
حتى يظفر بشكر الناس جميعًا وعرفانهم.
(يدخل الملك وهيلين والحاشية.)
بارولس
:
كنت أريد أن أقول ذلك. لقد أحسنت القول، ها هو ذا الملك قادم.
لافيه
:
شيء يفرح، ليتني أظفر بفتاة كهذه وأنا لي سن في فمي يا عجبًا، إنه ليستطيع أن
يتقدم بها إلى حلبة رقص.
بارولس
:
عجبًا … أليست هذه هيلين.
لافيه
:
إي والله، إني لأظنها هي.
الملك
:
اذهبوا ادعوا إلي كل أشراف البلاط وساداته، واجلسي يا منقذتي بجانب مريضك.
وبهذه اليد الموفورة العافية التي رددت إليها إحساسها الذاهب تلقي مرة أخرى
توكيد وعدي لأنه لا ينتظر غير أن تعيني من هو ليكون لكي ما تشاءين.
(يدخل ثلاثة أشراف أو أربعة ويقفون أمام الملك وينضم إليهم
برترام.)
أيتها الحسناء أرسلي بصرك إلى هؤلاء الشباب، من الأشراف العزاب، ها هم أولاء
يقفون ماثلين ينتظرون هبتي، وسيادة سلطاني، وصوت أبوتي، فمن حقك أن تختاري،
وليس لأحد أن يرفض.
هيلين
:
لكل منكم حسناء ذات خلق، إذا شاء الحب أن يجعلها من نصيبه، إلا
واحدًا.
لافيه
:
إني لأنزل عن حصاني «كيرتال» بسرجه وعدَّته، لو كان لي أسنان كهؤلاء الفتيان،
ولحية قصيرة كلحاهم.
الملك
:
تأمليهم طويلًا، لا من شاب بينهم إلا من أب ماجد.
(تتقدم إلى أحدهم.)
هيلين
:
أيها السادة، إن الله قد رد على يديَّ إلى الملك صحته.
الجميع
:
لقد علمنا ذلك ونحمد الله إليك.
هيلين
:
لست إلا فتاة خفرة، أعز ما تملك الحياء،٢٠ وأغلى ما عندها الخفر، وها أنذي يا صاحب الجلالة أستشعره، ولا
أنكره، إن الحمرة التي علت الوجنتين تهمس لي «أن أستحي من أن تختاري، فتُرفضي،
فليعد البياض إلى الوجنة أبدًا، ولن أعلو لك صفحة ولا أصعد خدًّا».
الملك
:
اختاري، وانظري، من يأبَ حبك، يأبَ حبي كله.
هيلين
:
الآن من معبدك يا ديانا أطير،٢١ وإلى الحب الجليل، ذلك الإله الرفيع، تتدفق زفراتي.
سيدي هل تستمع إلى خطبتي؟
الشريف الأول
:
وأوافق عليها.
هيلين
:
شكرًا يا سيدي وهذا حسبي.
لافيه
:
إني لأوثر أن أكون في هذا الاختيار، على أن أرمي النرد على الحياة أو الموت
فأصيب الخسارة.
هيلين
:
إن الشرف يا سيدي الذي يتقد في عينيك الجميلتين يجيبني قبل أن أتكلم متوعدًا،
مهددًا، إن الحب يجعل قدرك فوق من تريدك، عشرين مرة، وفوق حبها
المتواضع.
الشريف الثاني
:
لا أرجو مزيدًا.
هيلين
:
إن رغبتي هي أن تتلقى ما يمنح الحب العظيم، وبهذا أنصرف.
لافيه
:
أكلهم رافض سؤالها، لو كان هؤلاء أولادي، لأمرت بجلدهم أو لبعثت بهم إلى
التركي ليجعل منهم خصيانًا.
هيلين
(إلى شريف آخر)
:
لا تخشَ أن أتناول يدك، لأني لا أريد أن أسيء إليك إكرامًا لك وإنما أدعو لك
بالبركات، وأن يسعدك الحظ فتجد في فراشك خيرًا مني إذا تزوجت.
لافيه
:
كأن هؤلاء فتيان من الجليد، لأن كلهم لا يريدها، لا شك عندي في أنهم ليسوا من
أبناء الإنجليز، ولا هم من أصلاب الفرنسيين.٢٢
هيلين
:
أنت من حداثة السن، ونقاء الخاطر، ووفرة الطيبة بحيث لا تصلح أن تأتي بولد من
دمي.
الشريف الرابع
:
لا أظن ذلك أيتها الحسناء.
لافيه
:
لا يزال هنا واحد يجري في عروقه دم طيب من أبيه، فإذا لم تكن أنت حمارًا،
فأنا غلام في الرابعة عشرة، لقد عرفتك من قبل.
هيلين
(لبرترام)
:
لا أجرؤ على القول بأني آخذك، بل أقول أعطيك، نفسي وإخلاصي ما دمت حية،
أسترشد بعونك، وأستلهم قوتك، هذا هو الرجل الذي أريده.
الملك
:
إذن أيها الشاب برترام، خذها إنها زوجك.
برترام
:
زوجتي يا مولاي؟ إني ألتمس من جلالتك أن تأذن لي في هذا الأمر أن أستعين
عيني، وأستوحي فيه ناظري.
الملك
:
ألا تعلم ماذا صنعت لي؟
برترام
:
أجل، يا مولاي الكريم، ولكني لا أرجو
يومًا أن أعرف لِمَ ينبغي أن أتزوج بها.
الملك
:
أنت تعلم أنها أنهضتني من فراش مرضي.
برترام
:
ولكن أيستلزم هذا يا مولاي أن تُعرضني للمهانة والعار، أفهل من واجبي أن
أتحمل أنا نتيجة برئك؟ … إنني أعرفها حق المعرفة، لقد كان أبي هو الذي تولى
تنشئتها، أفأتخذ ابنة طبيب فقير لي زوجًا، سيلحقني بذلك عار لا ينمحي
أبدًا.
الملك
:
إن ما تحتقره من شأنها مرده إلى القلب وحده، وفي وسعي أن أهبها إياه، ومن عجب
أن لا نفترق في الدم، ولا في اللون، ولا في الوزن، ولا في حرارة البدن، ولكنا
مع ذلك كله لا نزال في أمر الألقاب جد مختلفين، وإذا كانت الفتاة ربة فضائل
(ولا ينقصها إلا ما تكرهه فيها وهو أنها فتاة فقيرة ابنة طبيب)، فإنك إذن تكره
الفضيلة من أجل المحتد واللقب، ولكني أربأ بك أن تفعل، وإذا أتت المكارم من
المكان الأوهد، شرف المكان بما يفعله شاغله، أما إذا ضخمت الألقاب، وازدهينا
بها، بغير خلال، فشرفها أجوف، والمجد بها مزيف، إن الخير وحده هو الخير بغير
لقب، وكذلك شأن الشر، لا يؤخذ بلقبه وخطره، وإنما يؤخذ بفعله وأثره، إنها فتاة،
حكيمة، جميلة، ورثت كل هذه المحامد من الفطرة ذاتها، وحسب ذلك للشرف الرفيع
بانيًا، وعن اللقب الكبير مغنيًا، وما يتراءى شرفًا موروثًا، ويدعي أنه جاء من
المنبت مغروسًا، هو من الشرف سخرية، إذا لم يكن مماثلًا لمن ورث منه، إن الشرف
لينمو بأعمالنا ويبذخ ويسمو بفضل فعالنا، لا بأسلافنا، وألقاب آبائنا، إن كلمة
«شرف» مزدراة على كل قبر، وهي نصب كاذب على كل حدث، وكثيرًا ما تكون نصبًا أخرس
أصم، فوق تراب يُهال ويركم ونسيان وعدم، فوق العظام الشريفة حقًّا، وماذا عساك
أن تقول؟ … إذا لم تستطع أن تقبل هذه المخلوقة فتاة عذراء، فإني بالباقي لزعيم،
بائنتها هي ذاتها وفضيلتها، أما الشرف واليسار فأنا كفيل بهما.
برترام
:
لا أستطيع أن أحبها، ولا أن أحاول أن أحبها.
الملك
:
إنك لظالم لنفسك إذا حاولت أن تختار.
هيلين
:
حسبي يا مولاي أنك استرددت عافيتك، ودع ما دون ذلك.
الملك
:
إن شرفي أصبح مهددًا، فلأفزع إلى سلطاني، دفاعًا عنه وذودًا، اسمع أيها
الغلام المتكبر المتعجرف، تناول يدها، إنك بهذه الهدية الكريمة غير خليق، وأنت
بهذه السخرية المنكرة تنتقص من حبي ومن قدرها، ألا تدري أننا لو وضعنا قدرنا
معها في الكفة المرجوحة، لشالت كفتك، ألا تعلم أننا نحن الذين ننبث شرفك حيث
نشاء أن ينمو وينضر، دع عنك هذا الازدراء، وأطع مشيئتنا، لأنها تعمل لخيرك، ولا
تصدق زهوك وخيلاءك، وبادر إلى إيتاء نفسك حقها الذي يفرضه الواجب عليك، ويتطلبه
سلطاننا منك، وإلا لَفَظْتُك من عطفي إلى الأبد، وألقيت بك إلى التيه، والتشرد،
وتركتك لفراغ الشباب والجهل، وأطلقت موجدتي وكراهيتي تفترسانك افتراسًا، باسم
العدالة، بدون رحمة، تكلم، قل ما جوابك؟
برترام
:
عفوًا أيها المولى الكريم، إني أعرض ولائي وحبي على عينيك، وبعد أن شهدت كيف
تنفذ في العظائم مشيئتك، ويطير الشرف الباذخ حيث تأمره أن يطير، رأيت التي كانت
بالأمس في خاطري أحقر المخلوقات، تصبح اليوم موضع إطراء الملك، فكأنها بهذا
التشريف وُلدت شريفة، وجاءت من المنبت من المكرمات.
الملك
:
خذها باليد وقل لها إنها صاحبتك، وإني لواعدها عدل ذلك عطاء، فإذا لم يكن
بقدر ما أوتيت، فأكثر منه، ولدينا مزيد.
برترام
:
أتقبل يدها.
الملك
:
الحظ السعيد، وحظوة الملك يباركان هذا القران وسيتلوه الزفاف على الأثر،
فيقام الليلة بالذات، بعد توقيع الأوراق القانونية وقد أُعدت من قبل، أما
الاحتفال الرسمي فسيؤجل حتى يقدم الصحاب الغائبون، وإذا أحببتها كان حبك في
عيني فريضة مقدسة، وإلا كان النقيض خطيئة وإثمًا.
(يخرجون عدا لافيه وبارولس للتعقيب على هذا القران.)
لافيه
:
هل سمعت يا سيد؟ أريد كلمة معك.
بارولس
:
أمرك يا سيدي.
لافيه
:
لقد أحسن مولاك وسيدك في تراجعه عن إبائه.
بارولس
:
تراجعه؟ مولاي … سيدي؟!
لافيه
:
نعم، أليس هذه لغة مفهومة وكلامًا واضحًا؟
بارولس
:
أغلظ لغة وأخشن كلام، ولا يمكن أن يفهم، بغير سفك دم،٢٣ أتقول عنه أنه سيدي؟
لافيه
:
أأنت إذن رفيق للكونت روسيون وند له …
بارولس
:
ند لأي كونت، ولكل كونت في العالم، ولكل رجل.
لافيه
:
لكل رجل في خدمة الكونت، أما سيد كونت فمن طراز آخر.
بارولس
:
أنت شيخ هرم، فلتقنع بهذا الذي أنت فيه.
لافيه
:
لتعلم يا هذا أنني رجل، وهي صفة لن تكسبك الشيخوخة منها شيئًا.
بارولس
:
إن ما أجرؤ على فعله وأُحسنه، لا أفعله.
(يضع يده على مقبض سيفه.)
لافيه
:
لقد ظننتك بعد جلستين إلى العشاء إنسانًا أريبًا عاقلًا، لأني سمعتك تتحدث
بإسهاب عن رحلاتك، فقلت جائز، ولا بأس، ولكن ثيابك وشاراتك صرفتني كثيرًا عن
اعتقادي أنك وعاء ثقيل الحمل، كبير الوزن، لقد اكتشفتك الآن، فلا أراع إذا أنا
عدت ففقدتك، إنك مخلوق لا تصلح إلا لأن تكون نفرًا في الجندية وإن لم تكن بهذا
خليقًا.
بارولس
:
لولا أنك طاعن في السن، لما …
لافيه
:
لا تستسلم كثيرًا للغضب، فتعجل بنفسك، رحمة الله عليك، إنك لدجاجة «قواقة»،
إلى اللقاء إذن يا نافذة ذات قضبان متقاطعة،٢٤ لا حاجة بي إلى أن أفتح إطارها، لأني أخترقك بناظري، هات
يدك.
(يمد إليه يده.)
بارولس
:
يا سيدي إنك لتزدريني أبشع ازدراء.
لافيه
:
أجل من كل قلبي، وأنت به جدير.
بارولس
:
لا أستحق هذا يا سيدي منك.
لافيه
:
بل يمين الله أنت مستحق لكل درهم منه، ولن أُنقصك مثقال ذرة.
بارولس
:
سأزداد عقلًا.
لافيه
:
أسرع قدر جهدك، لأنك لن تلبث أن تذوق طعم النقيض وتدرك بعد هذا الفعل الذي
تدعيه أنك أحمق، ولو قُدر لك يومًا أن يشد وثاقك بملفعتك، وتضرب، لعرفت عندئذ
كيف تفاخر وتزهي بمهانتك ورباط مذلتك، إنني لأود أن أمتنع عن معرفتك أو بالحري
عن علمي بك، حتى أستطيع إذا احتاج الأمر أن أقول إنني عرفت رجلًا.
بارولس
:
إنك يا مولاي تغضبني غضبًا لا يُحتمل مطلقًا.
لافيه
:
لوددت أن يكون عذاب الجحيم لك، وأن يبقى عملي هذا القليل قائمًا إلى الأبد،
لأني فت زمان العمل وتجاوزته، كما أفوتك الساعة وأتجاوز عنك مسرعًا قدر ما تسمح
به سني المتقدمة.
(يخرج.)
بارولس
:
إن لك ابنًا سيحمل هذه المعرة عني أيها الشريف الشيخ القذر الأجرب، ولكني
لآخذن نفسي بالصبر والتجلد، فلا جدوى من منازعة أهل السلطان، ومجادلة ذوي الجاه
والنفوذ، وحق حياتي إذا لقيته في وقت مناسب لضربته ولو كان مائة شريف في بعضهم
البعض، ولن تأخذني بسنه رحمة، سأضربه إذا أنا لقيته مرة أخرى.
(يدخل لافيه.)
لافيه
:
يا هذا، إن مولاك وسيدك قد تزوج، هذا نبأ جديد لك … ستكون لك مولاة وسيدة
جديدة.
بارولس
:
أرجوك يا مولاي مخلصًا أن تقلل من إهاناتك، وتترفق قليلًا في غلوائك، إنه
مولى كريم، أما سيدي الذي أدين له بالطاعة فهو الذي فوقنا.
لافيه
:
من … الله؟
بارولس
:
أي نعم يا سيدي.
لافيه
:
بل الشيطان مولاك، لماذا أراك تربط ذراعيك في هذا الثوب الرحيب الكم، أتجعل
من كميك جوربًا، وهل يفعل الخدم الآخرون هذا، لخير لك لو أن جُزْءَكَ الأسفل
كان حيث يقف منخارك، وشرفي لو أني كنت أصغر سنًّا مني بساعتين اثنتين لضربتك،
ليخيل إليَّ أنك إهانة للناس عامة، وأن على كل إنسان منهم أن يضربك، وأعتقد أنك
إنما خُلقت لينفس الناس فيك صدورهم.
بارولس
:
هذه معاملة أليمة لا أستحقها يا مولاي.
لافيه
:
حسبك يا سيد لقد ضُربت في إيطاليا لأنك سرقت حبة رمان، وأنك لشريد عيَّار،٢٥ لا أخو رحلات حقًّا ولا صاحب أسفار، وليس لك حق في الانتساب إلى
السادات الكبار، والانتماء إلى الأشراف وذوي الأقدار، لأنك عديم النسب، غير
مذكور في دفاتر الشرفاء ولا مدون في القوائم والسجلات،٢٦ ولا أحسبك تستحق كلمة أخرى وإلا لقلت لك إنك وغد، إنني
تاركك.
(يخرج — ويدخل برترام.)
بارولس
:
بديع … بديع جدًّا، لقد تم الأمر إذن … بديع، بديع جدًّا، دع الأمر مكتومًا
إلى حين.
برترام
:
لقد قُضي عليَّ، وتُركت للهموم والمتاعب إلى الأبد.
بارولس
:
ما الخبر، يا حبيبي؟
برترام
:
لن يحتويني فراش بجانبها، وإن كنت قد أقسمت بين يدي الكاهن.
بارولس
:
ماذا تقول، ماذا تقول يا حبيبي؟
برترام
:
أواه يا بارولس، لقد زوجوني مكرهًا، إنني منطلق إلى حروب تسكانيا، ولن
أعاشرها.
بارولس
:
إن فرنسا جحر للكلاب ولا تستحق أن يطأها الإنسان بقدميه، فإلى الحرب
إذن.
برترام
:
لقد جاءت رسائل من أمي، ولكني إلى الساعة لا أعلم ماذا تحوي.
بارولس
:
لا بد من معرفة ما فيها، إلى الحرب يا بني … إلى الحرب، إن من يقيم هنا مع
زوجة لينعم بالعناق والأحضان، كمن يحتجز الشرف في صندوق خفي لا يراه إنسان،
مستنفدًا رجولته بين ذراعيها، وأولى بهذه الرجولة أن تُدخر لوثبة الحصان في
سعرة الحرب، وحومة الميدان … فهلم إلى إقليم غير هذا الإقليم، إن فرنسا إسطبل،
ونحن الذين نقيم فيها خيل لا بالكرام المطهمات، ولا بالجياد الصافنات، فإلى
الحرب.
برترام
:
ليكونن هذا، وسأردها إلى دارنا، وأنبئ أمي عن كراهيتي لها، وإلى أني أنا فازع
لاجئ، وأكتب إلى الملك ما لا أجرؤ على قوله، إن عطيته ستدفع بي إلى الميادين
الإيطالية التي يصول فيها الفتيان الكرام ويجولون، إن الحرب لأهون من بيت مظلم،
وزوج مكروه.٢٧
بارولس
:
هل أنت واثق من أن هذه النزعة الفجائية ستستقر في نفسك؟
برترام
:
تعال معي إلى مخدعي، لأستنصحك، سأردها بغير توانٍ، وغدًا إلى النزال والطعان،
أما هي فإلى الأشجان وحدها والأحزان.
بارولس
:
إن هذه الكرات الوثابة٢٨ تحدث أصواتًا، وإن هذا الأمر ليحز في نفسي، إن الشاب المقترن، هو
بالبلية مقرن،٢٩ فانطلق إذن واتركها بشجاعة وكرم، اذهب، لقد ظلمك الملك بهذا
القران، ولكن عليك بالكتمان.
(يخرجان.)
المشهد الرابع
(تدخل هيلين والمهرج.)
هيلين
:
إن أمي لكريمة في تحياتها وسلامها، أهي بخير؟
المهرج
:
ليست بخير، وإن كانت بصحتها، وهي في أشد
المرح، ومع ذلك فليست بخير، والحمد لله والشكر، على أنها بخير، وليست بها إلى
الدنيا حاجة، بيد أنها ليست بخير.
هيلين
:
إذا كانت بخير، فما يسقمها حتى لا تكون بخير؟
المهرج
:
إنها في الحقيقة بخير تام إلا من أمرين.
هيلين
:
وما هما هذان الأمران؟
المهرج
:
أولهما أنها ليست في السماء، إلى حيث يرسلها الله عاجلًا، والآخر أنها في
الأرض، من حيث يرسلها الله سريعًا.٣٠
(يدخل بارولس.)
بارولس: بوركت أيتها السيدة السعيدة الحظ.
هيلين: أرجو يا سيدي أن يكون لي إخلاصك ويكون لك سعادة حظي.
بارولس: لقد دعوت لك من قبل أن تحتفظي بها، فإن الاحتفاظ بها معناه أنها لا تزال باقية،٣١ وأنت أيها الشقي كيف «تفعل» مولاتك العجوز.
المهرج: لكي تكون لك غضونها، ويكون لي مالها، وددت لو أنها «فعلت» كما تقول.٣٢
بارولس: أنا لم أقل شيئًا.
المهرج: والعذراء إنك لحكيم، لَكَمْ من رجل أوتي لسانًا يسبب هلاك مولاه، إنك ستقضي
الجزء الأكبر من حياتك لا تقول شيئًا ولا تعرف شيئًا، ولا تفعل شيئًا، ولا تملك
شيئًا، وإن حياتك هذه لتقرب كثيرًا من لا شيء.
بارولس: بعدًا لك إنك لوغد.
المهرج: أولى بك أن تقولها أما وغد إنك وغد، أي أنك أمامي وغد، وهذه هي الحقيقة يا
سيدي.
بارولس: حسبك، إنك لمهذار أحمق، وقد اكتشفتك.
المهرج: هل اكتشفتني في نفسك يا سيدي، أو هل علمت أن تكتشفني. إن البحث كان لك
مغنمًا، ولعلك مكتشف حمقًا كثيرًا فيك، فيلهو الناس بك ويزداد بك الضحك في هذا
العالم.
بارولس: أنت والله لوغد طيب، ناعم بغذاء حسن،٣٣ سيدتي إن مولاي سيسافر الليلة في مهمة خطيرة تستوجب رحيله، وهو
لحقك العظيم، والحب الذي تقتضين مقر معترف، ولكنه مرجئه لظروف قاهرة، وسيتركز
النعيم كله في هذه الفترة وتقطر المتعة خلالها، وتنقى طيلة هذه المهلة، وبسبب
هذا التأخير الذي لا معدى عنه، حتى إذا حانت الساعة للقاء، استفاض الفرح وامتلأ
الإناء، وبلغ السرور الخافقيْن.
هيلين: وماذا يبغي أيضًا؟
بارولس: أن تستأذني الملك في الحال، وتجعلي هذه العجلة من تلقاء نفسك، وثمرة تفكيرك،
معززة بأسبابه، وبما ترين من حُسن المعذرة، التي تظهر معها حقيقية.
هيلين: وبماذا يأمر أيضًا.
بارولس: أن تنتظري بعد الحصول على الإذن ما يطلبه إليك.
هيلين: إنني منتظرة في كل شيء أوامره.
بارولس: سأبلغه ذلك.
(يخرج.)
هيلين: أرجو أن تأتي يا هذا.
(تخرج.)
المشهد الخامس
حجرة أخرى في القصر
(يدخل لافيه — وبرترام.)
لافيه
:
ولكني أرجوك يا مولاي ألا تعتقد أنه جندي.
برترام
:
بل إنه لكذلك يا مولاي، وقد ثبتت بالشواهد والأدلة بسالته.
لافيه
:
لقد جاءتك هذه الشواهد من كلامه هو وأقواله.
برترام
:
إلى جانب أدلة أخرى وشهادات صحيحة.
لافيه
:
إذن لم تكن شواهدي دقيقة، لقد حسبت هذه القنبرة درسه.٣٤
برترام
:
أؤكد لك يا مولاي أنه على علم واسع، وأن شجاعته لا تقل عن علمه.
لافيه
:
لقد أخطأت إذن في حق حنكته، وتعديت على شجاعته، فأنا إذن مقترف خطيئة
مُجْترِحٌ إثمًا، ما دمت لا أجد في نفسي نزوعًا إلى تكفير، ولا رغبة في ندامة،
ها هو ذا قادم، فأرجوك أن تصالحنا، وعليَّ أنا أن أتابع الصلح بالمودة.
(يدخل بارولس.)
بارولس
:
ستسير الأمور كما تريد يا سيدي.
لافيه
:
قل لي من يكون حائكه …
بارولس
:
سيدي؟
لافيه
:
إنني أعرفه حق المعرفة، إنه عامل ماهر، وحائك بارع.
برترام
:
هل ذهبت إلى الملك.
بارولس
:
نعم.
برترام
:
وهل هي الليلة راحلة …
بارولس
:
إذا شئت.
برترام
:
لقد كتبت رسائلي، وحزمت أمتعتي، وأمرت بإعداد جيادنا، والليلة حين أملك
العروس، أنتهي منها قبل أن أبدأ.
لافيه
:
إن المسافر الأريب يستمع إليه في آخر العشاء، يكذب في ثلاثة أمثال ما يرويه،
ويتكلم عن حقيقة معروفة ليغطي بها ألف عبارة تافهة فيجب ألا يُسمع إلا مرة وأن
يُضرب ثلاث مرات، نجاك الله أيها القائد.
برترام
:
هل وقع جفاء بين مولاي وبينك يا سيدي؟
بارولس
:
لست أدري كيف استحققت أن أقع لديه في غير موقع الرضا.
لافيه
:
أنت الذي حاولت الوقوع بحذائك ومهمازك وكل شيء لديك، كالذي قفز في الحلوى،
وأنك لتفضِّل أن تخرج منها على أن تبرر بقاءك فيها.
برترام
:
لعلك وهمت فيه يا مولاي.
لافيه
:
وسأظل كذلك أبدًا وإن كنت قد أجبت طلبه إلى الملتقى يا مولاي، وصدقني ليس في
هذه البندقية الخفيفة شيء، إن روح هذا الرجل هي ثيابه، فلا تركن إليه في الأمور
الخطيرة، فقد اقتنيت هذه الحيوانات الأليفة وعرفت طباعها، وداعًا يا سيد، لقد
تكلمت في حقك خيرًا مما استحققت أو مما ستستحق مني، ولكنا مضطرون أن نفعل الخير
لنقاوم الشر.
(يخرج.)
بارولس
:
أقسم إنه لمولى تافه.
برترام
:
لا أظن ذلك.
بارولس
:
ألا تعرفه.
برترام
:
بلى، أعرفه حق المعرفة، وهو معروف على الأفواه بسمعة حسنة، ها هي ذي الرباط
المقيد رجلي قادمة.
(تدخل هيلين.)
هيلين
:
لقد تكلمت يا سيدي كما أمرتني مع الملك واستأذنته فأذن في هذا السفر العاجل،
ولكنه يريد أن يتحدث إليك حديثًا خاصًّا.
برترام
:
سأمتثل لأمره، لا تعجبي يا هيلين لهذا المسلك الذي لا يناسب الظرف الحاضر،
ولا يلائم عروسين في يوم زفاف، ولا يتفق وما تنتظرينه مني خاصة، لأنني لم أكن
متأهبًا له ولا مستعدًّا ولا مترقبًا، فلا عجب إذا رأيتني مرتبكًا مضطربًا، وهو
أمر يدفعني إلى التوسل إليك أن تبادري بالعودة إلى البيت لتفكري في سر توسلي
إليك على هذا النحو وباعث تضرعي، ولا تسأليني فإن ما لديَّ من الأسباب أقوى مما
يبدو لك، ورحيلي ينطوي على أمر أعظم من أن ينكشف لعينيك وأجَلَّ من أن يتراءى
لك لأول وهلة، وأنت لا تعرفين عنه شيئًا، واحملي هذا إلى أمي (يعطيها رسالة) وسينقضي يومان قبل أن أراك،
ولهذا أتركك لحكمة تصرفك.
هيلين
:
سيدي، لست واجدة ما أقول إلا أنني خادمتك المطيعة.
برترام
:
حسبك، حسبك، لا تزيدي.
هيلين
:
وسأظل أبحث كيف أخفقت كواكب زواجي في أن تتفق مع كواكب سعدي.
برترام
:
دعي عنك هذا، إنني في عجلة بالغة، وداعًا!، أسرعي إلى البيت.
هيلين
:
أستميحك معذرة يا سيدي.
برترام
:
ماذا تريدين أن تقولي؟
هيلين
:
إنني لست للنعمة التي أملكها مستحقة، ولا أجرؤ أن أقول إنها نعمتي، وإن كانت
كذلك، ولكني كاللص الخائف المتهيب أود أن أسرق ما هو شرعًا مالي، وأختلس ما هو
في نظر القانون ملك يميني.
برترام
:
ما الذي تريدين؟
هيلين
:
شيئًا، يسيرًا، بل في الواقع لا شيء، ولست أقول لك يا مولاي ما أريد، إن
الغرباء والأعداء يفترقون ولا يتبادلون القبلات.
برترام
:
أرجوك ألا تتريثي، بل أسرعي إلى الخيل.
هيلين
:
لن أعصي لك أمرًا يا مولاي الكريم، أين رجالي الآخرون يا سيدي،
الوداع.
(تخرج.)
برترام
:
اذهبي إلى البيت الذي لن أعود يومًا إليه، ما استطعت أن أمتشق حسامًا، وأسمع
طبولًا، هيا بنا … ولنهرب.
بارولس
:
شجاعة وثباتًا …
(يخرجان.)