الفصل الثالث
المشهد الأول
(طبول — يدخل دوق فلورنسا والأميران الفرنسيان مع جمع من
الجنود.)
الدوق
:
لقد سمعتم الآن تفصيل الأسباب الأساسية التي دعت إلى قيام هذه الحرب، واقتضت
أحداثها الجسام إراقة غزير الدماء، واستثارة العطاش إليها والظماء.
الشريف الأول
:
إن هذه الأسباب يا مولاي من جانبكم شريفة مقدسة، ومن جانب عدوكم منكرة
دنسة.
الدوق
:
ولهذا أنا لفي عجب بالغ من ابن عمنا ملك فرنسا كيف يصم أذنيه في أمر عادل
كهذا عن سماع طلبنا المعونة، والاستجابة لنداء النجدة.
الشريف الأول
:
أيها المولى الكريم، لست أعرف الأسباب التي بنت عليها دولتنا خطتها، ولكني
كرجل عادي لا خبرة له بالسياسة أحاول بالحدس الضعيف وحده إدراك اتجاهات المجلس
وأوضاعه المستغلقة على الأفهام، كأوضاع الكواكب، وحركات الأجرام، ولهذا لا أجرؤ
أن أقطع فيها برأي، إذ وجدتني أحيانًا كثيرة مخطئًا في حدسي وتخميني كلما بدا
لي أن أفعل ذلك.
الدوق
:
لتكن مشيئته.
الشريف
:
ولكني على يقين أن الشباب ممن هم على شاكلتنا، والذين أتخمتهم الدعة، وسئموا
الإسراف على أنفسهم، سيهرعون إلى هنا انتجاعًا للدواء من الداء.
الدوق
:
مرحبًا بهم يوم يجيئون، وسينالون كل ما نستطيع أن نحبوهم به من شرف وتمجيد،
إنكم لتعرفون مكانكم حق المعرفة، فإن خلت أماكن أفضل وأعز، فمن أجلكم تخلو
لتُملأ بكم وتعتز، إلى الميدان غدًا.
(يخرج — طبول.)
المشهد الثاني
حجرة في قصر الكونتسة
(تدخل الكونتسة والمهرج.)
الكونتسة
:
لقد جرى كل شيء كما كنت أريد أن يجري، إلا أنه لم يأتِ معها.
المهرج
:
يمينًا يا سيدتي إنني أحسب مولاي الفتى في حزن شديد.
الكونتسة
:
أرجو أن تخبرني عن الذي جعلك تظن هذا الظن.
المهرج
:
إنه لينظر إلى حذائه ويغني، ويصلح من الطرف الأعلى لهذا الحذاء ويغني، ويسأل
أسئلة ويغني، وينظف أسنانه ويغني، وأعرف رجلًا هذه صفته باع قصرًا منيفًا بأبخس
الأثمان.
الكونتسة
:
دعني أرى ماذا يقول في كتابه ومتى ينتوي مآبًا.
المهرج
:
لم أعد أطيق الوصيفات، منذ كنت في البلاط، إن سمكنا وحيتاننا ونساءنا في
الريف، يختلفن كل الاختلاف عن جواري البلاط وطعامه، إن مخ «كيوبيدي» انشرخ
وانفدخ، فبدأت أحب كما يحب العجوز المال، ولا معدة له.١
الكونتسة
:
ماذا أرى هنا؟
المهرج
:
حتى هذا ترينه فيه.
(يخرج.)
(الكونتسة تقرأ الكتاب.)
الكونتسة
:
لقد أرسلت إليك كَنَّة، شفت الملك وأضاعتني، لقد تزوجتها ولكني لم أبنِ
بها، وأقسمت ألا أفعل أبدًا، وستسمعين أنني هربت، فاعلمي النبأ قبل أن
تتلقيه، فإذا كان لهذا العالم كتابة من العرض، فسأبتعد فيه إلى أقصى حد،
وتقبلي احترامي … ولدك المنكود …
برترام
ليس هذا عملًا صالحًا أيها الفتى الجموح المطلق العنان، أتخسر رضا ملك كريم
وتستهدف لجام غضبه، لازدراء فتاة بلغت من الفضيلة حدًّا، لا يزدريه رب جاه ولا
صاحب سلطان.٢
(يدخل المهرج.)
المهرج
:
مولاتي، نبأ خطير، بين جنديين ومولاتي الصغيرة.
الكونتسة
:
ما الذي جرى؟
المهرج
:
لا تراعي … إن في النبأ بعض ما يرضي، نعم بعض ما يرضي، إن ابنك لن يقتل
بالسرعة التي كنت أعتقدها.
الكونتسة
:
ولماذا يقتل؟
المهرج
:
هذا ما أقوله أنا يا مولاتي إذا هو هرب، وقد سمعت عن هربه، إن الخطر كل الخطر
في البقاء، ففيه يضيع الرجال وإن كانوا يأتون بالأطفال، ها هم أولاء قادمون
ليزيدوك علمًا بما جرى، أما أنا فلم أسمع إلا بهرب فتاك.
(يخرج.)
(تدخل هيلين والشريفان.)
الشريف الثاني
:
سلامًا أيتها السيدة الكريمة.
هيلين
:
مولاتي، إن مولاي ذهب، ولن يعود أبدًا.
الشريف الأول
:
لا تقولي هذا.
الكونتسة
:
أرجوكما أيها السيدان صبرًا علي ورفقًا بي، لقد تعاقب على نفسي من الأفراح
والأتراح ما جعلني لأول مطالعها وبوادرها أحس ضعف المرأة وخورها، أرجوكما أن
تخبراني أين ولدي …
الشريف الأول
:
لقد ذهب ليخدم دوق فلورنسا وقد التقينا به هناك، لأننا جئنا، وسنعود إليها
بعد تأدية مهمة لنا في البلاط.
هيلين
:
انظري يا مولاتي إلى كتابه، إنه جواز سائل،٣ فهو يقول لي فيه: «إذا استطعت أن تظفري بالخاتم الذي في إصبعي
والذي لن يخرج منه إلى الأبد، وإذا أمكنك أن تقدمي إليَّ ولدًا من أحشائك
وأصلابي، أكون أنا له الوالد، وهو لي الولد، فلتُسَمِني يومئذ لك بعلًا، وإلا
فلا إلى الأبد … يا لها من كلمات مروعة.
الكونتسة
:
هل أنتما اللذان جئتما بهذا الكتاب أيها السيدان …
الشريف الأول
:
أي نعم يا سيدتي، ونحن لما حوى آسفان لما نقلناه.
الكونتسة
:
أرجوك أيتها السيدة أن تخففي من حزنك، وتُسَرِّي قليلًا عنك، لأنك إذا احتكرت
الأحزان كلها لنفسك، تركتني منها خلية، بغير نصيب، لقد كان لي ابنًا، ولكني
ماحية اسمه من دمي، وأنت وحدك كل ولدي … أتقولان إنه ذهب إلى فلورنسا؟
الشريف الأول
:
أجل يا سيدتي.
الكونتسة
:
ليكون جنديًّا؟
الشريف الأول
:
هذا هو مقصده النبيل، وثقي أن الدوق سيخلع عليه كل الشرف الذي يستحقه.
الكونتسة
:
أعائدان إلى هناك؟
الشريف الثاني
:
نعم يا سيدتي على جناح السرعة.
هيلين
(تقرأ)
:
«لن يكون لي بفرنسا شأن، ما بقي لي فيها زوج»، إنه لقول أليم …
الكونتسة
:
أوجدت هذا أيضًا في الكتاب؟
هيلين
:
نعم يا مولاتي.
الشريف الثاني
:
لعلها جرأة من يده، على ما لم يقره قلبه لحسن الحظ.
الكونتسة
:
لا شأن له بفرنسا، ما بقي له فيها زوج … «ليس له هنا من ولي ولا عزيز غيرها،
إنها لخليقة بمولى في خدمته عشرون فتى من أمثاله شراسة، يقولون لها في كل ساعة
«مولاتي» ومن كان معه؟
الشريف الثاني
:
خادم واحد وسيد عرفته في وقتٍ ما.
الكونتسة
:
أليس هو بارولس؟
الشريف الأول
:
بلى يا سيدتي الكريمة، إنه هو.
الكونتسة
:
مخلوق فاسد، امتلأت بالشر نفسه، أفسد بالتحريض طهارة ابني وأخلاقه
الكريمة.
الشريف الأول
:
أجل أيتها السيدة الكريمة، إن لهذا المخلوق أسوأ الأثر في نفس ولدك الذي
يقدره كثيرًا ويحسن الرأي فيه.
الكونتسة
:
مرحبًا بكما أيها السيدان، وأرجو أن تقولا لولدي حين تريانه: إن سيفه لن يكسب
الشرف الذي خسره، وسأرجو إليكما أن تحملَا إليه مني كتابًا.
الشريف الأول
:
نحن في خدمتك يا سيدتي في هذا وفي كل ما تأمرين به من الشئون الهامة.
الكونتسة
:
أستغفر الله، ولن تكونا في خدمتي إلا إذا أذنتما لي بأن أقوم بخدمة أؤديها
لكما من واجب الوفادة والتكريم.
(تخرج هي والشريفان.)
هيلين
:
«لن يكون لي بفرنسا شأن، ما بقي لي فيها زوج …»، لن يكون لك في فرنسا يا
روسيون زوجة، لن يكون لك أحد يا روسيون في فرنسا، وإذن سيعود إليك كل ما كان لك
فيها، واهًا لك يا مولاي، أأنا التي تطردك من وطنك، وتعرض طراءة بدنك لأحداث
الحرب وأهوالها، وهي لا تبقي ولا تذر؟ أأنا التي تبعدك عن البلاط ومباهجه، حيث
الغيد يثأرنك بأعينهن والحسان يرسلن إليك سهام لواحظهن، لتكون هدفًا لقذائف
النيران، المنبعثة وسط ذوائب الدخان؟ أيتها المقاذيف الرصاصية التي تمرق في مثل
سرعة الشهب، انطلقي غير مسددة، وانبعثي غير مصوبة ولا مؤكدة، ومزقي الفضاء
ودوِّي في أرجائه مخترقة، ولا تمسي مولاي بسوء، وكل من يسدد الرمية إليه، أنا
غريمته، وكل من يرسل الطلقة إلى صدره، أنا ملاحقته، ولئن لم أقتله، كنت السبب
في قتله، وعلة منيته، إني لأوثر أن ألقى الأسد وهو يزأر من فرط الجوع، وأن
تتناهبني مجتمعة كل ما في العالم من مصائب، وما في الخليقة من خطوب … كلا، يا
روسيون، عد إلى وطنك، من حيث لا تصيب من الشرف بتعرضك للخطر غير جرح وندبة،
ولكن قد يكون الهلاك نصيبك والخسارة، لأذهب أنا، ما دام مقامي هنا، هو الذي
يحول دون رجعاك، أفأقيم هنا لتظل أنت بعيدًا، وعن وطنك مصروفًا مذودًا؟ كلا، ثم
كلا! ولو كان نسيم الجنة على هذا البيت مطلقًا هابًّا، والملائكة فيه حاشدين،
سأذهب لعل نبأ فراري ينزل على سمعك مواسيًا، ويطالع أذنيك معزيًا أيها الليل
أقبل، لتختم النهار، لأني مع الظلام المسترق، سأسترق الخطى هاربة، أنا اللصة
المسكينة …
(تخرج.)
المشهد الثالث
أمام قصر الدوق
(طبول — يدخل دوق فلورنسا وبرترام وضباط وجنود — وبارولس
وغيرهم.)
الدوق
:
أنت قائد فرساننا، وإن لنا لأملًا كبيرًا فيك، وواضعون أصدق حبنا وثقتنا
بمستقبلك الباهر، وغدك المجيد.
برترام
:
مولاي. إنه لعبء فادح تنوء به قواي، ولكني سأجتهد في حمله، لمرضاتك إلى أبعد
حد.
الدوق
:
إذن انطلق، وليخفق التوفيق فوق هامتك، وليكن الحظ السعيد في خدمتك.
برترام
:
أي إله الحرب، إنني من اليوم سالكٌ نفسي في أجنادك فحقق أملي، واستجب لما في
خاطري، حتى أثبت أنني لطبولك محب، وللحب كاره.
(يخرجون.)
المشهد الرابع
حجرة في قصر الكونتسة
(تدخل الكونتسة ورئيس الخدم.)
الكونتسة
:
وا حزني! هاك كتابها، ألم يكن في إمكانك أن تعرف من إرسالها لي خطابًا ما هي
فاعلته قبل أن تقدم فعلًا عليه؟ اقرأ كتابها مرة أخرى.
رئيس الخدم
(يتلو الكتاب)
:
«إنني ذاهبة لأحج مزار سان جاك٤ بعد أن أزري بحبي الطموح وأستنكر، وسأسعى إليه أطأ الأرض حافية
القدمين، معاهدة الله على التكفير عن خطاياي، ضارعة إليه أن يرد مولاي العزيز،
وولدك المحبوب، من حومة الحرب الدامية إلى وطنه بسلام وعافية، قانعة من بعيد
بتقديس اسمه، مخلصة الدعاء، صادقة النداء، سائلة إياه الصفح عما كبدته من
متاعب، وجشمته من مكاره ونوائب، فأنا زوجه المزدراة، قد فعلت ما فعلت جونو٥ ببعلها العظيم، إذ نزعته من صحابه في البلاط وخلطائه، وأسلمته
للمقام بين خصومه وأعدائه، في مضارب القتال وشدة بلائه، حيث المنايا رصد
للشجعان، وهو أكرم وأجلُّ من أن يستهدف لها ويكون لي، وأنا من الموت مفتديته،
ولمقدم المنون ملاقيته، لينطلق هو بالحياة ناجيًا …».
الكونتسة
:
بالله ما أشد اللذعات في أرفق الكلمات، وما أحد السنان في لغة الحنان، أي
رينالدو، ما عهدتك يومًا أشد افتقارًا إلى الحكمة منك اليوم، إذ تركتها تفر،
ولو أني تحدثت إليها، لاستطعت أن أثنيها عن نيتها، ولكنها حالت دون ذلك
بفرارها.
رئيس الخدم
:
مغفرة يا مولاتي، لو أني قدمت إليك هذا الكتاب في الليلة البارحة لكان من
الجائز اللحاق بها، ولكنها تقول إن تعقبها ذاهب سدى.
الكونتسة
:
أي الملائكة مبارك هذا الزواج الغادر! إنه لن يحالفه التوفيق ما لم تنجِه
دعواتها الذاهبة إلى السماء مسموعة، صاعدة إلى الله مقبولة، من غضب العدالة
الإلهية، اكتب يا رينالدو، اكتب إلى هذا الزوج الذي يستحق زوجته، ودع كل كلمة
في مثل زنة فضلها، الذي استخف به، وصِف له بدقة حزني الشديد، وإن كان به
مستهينًا، وأوفد إليه أنسب الرسل، لعله حين يسمع برحيلها عائدًا إلينا، وإني
لأرجو حين تعلم بما جرى أن تبادر إلى الأوبة، يحدوها حبها الطاهر، فلست أدري
أيهما أعز عندي وأغلى قدرًا، وأنا العاجزة عن التفرقة، هلم اكفل للرسول حاجته،
إن قلبي لمحزون، وسني واهنة متقدمة، والحزن يطلب دمعًا، والأسى يقتضي بالكلام
متنفسًا.
(يخرجان.)
المشهد الخامس
خارج أسوار فلورنسا
(صوت طبول من بعيد.)
(تدخل أرملة عجوز من نساء فلورنسا وابنتها ديانا وفيولنتا وماريانا
وغيرهن من أهل المدينة.)
٦
الأرملة
:
تعاليْن، حتى لا نُحرم من المشاهدة إذا هم اقتربوا من المدينة.
ديانا
:
يقولون إن الكونت الفرنسي قام بعمل حربي جليل.
الأرملة
:
وإنه أسر القائد الأكبر وبيده ذبح شقيق الدوق … لقد ذهب جهدنا سدى فها هم
أولاء يتخذون طريقًا آخر غير هذا الطريق، ألا تسمعن دق الطبول من مكان
بعيد.
ماريانا
:
لنعد من حيث أتينا قانعات برواية الخبر، وأنت يا ديانا احذري هذا الأمير
الفرنسي، وأمسكي عليك حفاظك، إن شرف الفتاة في نقاء اسمها، وحسن سمعتها، وليس
ثمة شيء أشرف من العفاف، ولا أغلى من الطهر والنقاء.
الأرملة
:
لقد قلت لجارتنا كيف راح سيد من رفاقه يتعلق بأذيالك.
ماريانا
:
أعرف هذا الوغد لعنة الله عليه، إنه يدعى بارولس، وهو ضابط قذر، دأب على
إغواء الأمير الشاب والوسواس في سمعه، فاحذريهما يا ديانا، ولا تستمعي إلى
وعودهما وكيدهما وأقسامهما ومراوداتهما، وسائر ما تصطنعه الشهوات من وسائل
وأدوات، لأنها وعود كاذبة، وأماني باطلة، فكم من فتاة انخدعت بها، وكان الشقاء
جزاءها، وراحت عبرة لمن تعتبر، وشر ما في الأمر أن الشقاء وسوء المغبة الرهيب
الذي يؤدي إليه فقد العذارى شرفهن لا يحول برغم هذا بينهن وبين تكرار المأساة،
بل إنهن ليقعن في الشراك التي تنصب لهن، وما هذه الحبائل إلا أشبه بالفروع
والأفنان التي تجتذب الأطيار، وتحتبلها في القنيصة، وأرجو ألا أحتاج إلى إسداء
نصيحة أخرى إليك، بل أملي أن يصونك عفافك، فتظلي كما أنت، ولئن لم يبدُ للعين
خطر، فقد تفقد العذراء الحياء، ويذهب عنها الخفر.
ديانا
:
لن أدعك تخافين علي، فاطمئني.
(تدخل هيلين في زي الحجاج.)
الأرملة
:
أرجو ذلك، انظرن، ها هي ذي حاجة قادمة، إنني أعرف أنها ستقيم في بيتي، إن
هؤلاء الحاجات ينبه بعضهن بعضًا، واحدة ترسل الأخرى، سأسألها … يا حاجة سلامًا
لك، إلى أين؟
هيلين
:
إلى مزار القديس جاك الأكبر، نبئيني بالله عليك أين ينزل الحجيج.
الأرملة
:
في سان فرنسيس هنا بجوار باب المدينة.
هيلين
:
أهذا هو الطريق إليه؟
الأرملة
:
نعم هو وأيم الله (تسمع مواقع أقدام الجنود من بعيد
…) ألا تسمعن. إنهم قادمون من هذا الطريق، هلا انتظرت يا حاجة
ريثما يأتي الجنود فأسير بك إلى حيث تأوين، لأني أعرف ربة المأوى، فهي صورة
مني.
هيلين
:
أأنت هي؟
الأرملة
:
إذا رضيت بذلك يا حاجة.
هيلين
:
شكرًا لك، وسأنتظر حتى يتسع لك الوقت.
الأرملة
:
أظنك قادمة من فرنسا؟
هيلين
:
منها أتيت.
الأرملة
:
ستشهدين هنا فتى من أبناء بلدك أتى أعمالًا مجيدة.
هيلين
:
وما اسمه إذا سمحت …
الأرملة
:
الكونت روسيون، أتعرفين أحدًا بهذا الاسم …
هيلين
:
لا أعرفه إلا بالسماع، فقد سمعت أطيب الثناء عليه، ولكني لا أعرف
وجهه.
ديانا
:
مهما يكن من أمره، وهو يُعد هنا من أظرف الناس، ويقال إنه فرَّ من فرنسا لأن
الملك أرغمه على الزواج بمن لا يحب … أتظنين الأمر كذلك؟
هيلين
:
هذه هي الحقيقة بعينها، إنني أعرف زوجه.
ديانا
:
إن في خدمة الكونت سيدًا يروي السوء عنها.
هيلين
:
وما اسمه؟
ديانا
:
مسيو بارولس.
هيلين
:
آه … إنني متفقة معه، فهي من حيث الفضل، وإذا قورنت بقدر الكونت العظيم
وشأنه، أقل كثيرًا من أن يذكر اسمها بجانبه، وكل ما فيها من خير حرصها على
عفافها، فلم أسمع عنها من هذه الناحية شائبة.
ديانا
:
وا أسفا لهذه السيدة المسكينة، إنه لرباط أليم أن تكون زوجًا لسيد
يكرهها.
الأرملة
:
إنني أراها مخلوقة طيبة فاضلة، ومهما تكن فإن فؤادها لمحزون بلا ريب، وفي شجن
بالغ، إن هذه الشابة تستطيع أن تنتقم لها إذا شاءت.
هيلين
:
ماذا تعنين بقولك هذا؟ … أترى الكونت الغزل يراودها لمقصد غير شريف؟
الأرملة
:
نعم، إنه ليعرض عليها كل ما في مكنته أن يعرض، ليفسد عليها شرف العذراء،
ولكنها تتقيه، وعلى حذر منه، منتبهة إلى الذود عن شرفها.
(طبول وأعلام، يدخل الكونت روسيون وبارولس وكتيبة من جيش
فلورنسا.)
ماريانا
:
حمتها الآلهة وعاذتها منه.
الأرملة
:
ها هم أولاء قد أتوا، هذا أنطونيو أكبر أبناء الدوق، وهذا إسكالوس.
هيلين
:
وأيهم الفرنسي؟
ديانا
:
ذاك صاحب الريشة، إنه لأشجع الشجعان، ليته كان لزوجه محبًّا، ولو وفى لكان
أحسن البعول، أليس هو بالسيد الجميل؟
هيلين
:
إنه يروقني كثيرًا.
ديانا
:
ولكن من دواعي الأسف أنه ليس مخلصًا، وها هو ذا الوغد الذي يقوده إلى تلك
الأماكن، لو أنني كنت زوجه لوضعت السم لهذا المجرم الشرير.
هيلين
:
أيهم هو؟
ديانا
:
ذلك القرد المقفع الكثير الثياب، لماذا يبدو مكتئبًا؟
هيلين
:
لعله جُرح في المعركة.
بارولس
:
أنفقد طبولنا! حسن.
ماريانا
:
إنه غضبان مغيظ من شيء ما، انظرن إنه قد لمحنا.
الأرملة
:
لعنة الله عليك.
ماريانا
:
وعلى تحيتك أيها الديوث.
(ينصرف برترام وبارولس والضباط والجنود.)
الأرملة
:
لقد مر الجنود فهلمي أيتها الحاجة، أذهب بك إلى حيث تنزلين، ففي بيتي الساعة
من طلاب التوبة والتكفير أربعة أو خمسة من الحجيج إلى مزار سان جاك.
هيلين
:
أشكرك بكل خضوع، فهلا تكرمت يا ربة الدار وهذه العذراء الرقيقة بقبول تناول
الطعام معنا الليلة وستكون النفقة والشكر عليَّ، وجزاء آخر سأهب هذه العذراء
بعض وصفات طبية، خليقة بالذِّكْر.
الأرملة وماريانا
:
نتقبل هذه المكرمة شاكرين.
(ينصرفن.)
المشهد السادس
(يدخل الكونت روسيون والشريفان الفرنسيان.)
الشريف الثاني
:
إي والله يا مولاي الكريم جربه ودعه يمضي في هواه.
الشريف الأول
:
وإذا لم تجده يا مولاي مخلوقًا لا قيمة له ولا قدر، فأسقطني من عينيك، ودع
عنك احترامي.
الشريف الثاني
:
وحياتي يا مولاي إنه «فقاعة».
برترام
:
هل تظنان أنني كنت مخدوعًا فيه.
الشريف الثاني
:
صدقني يا مولاي إنه في اعتقادي، بعد معرفتي الشخصية به، وبدون حقد أو موجدة
في نفسي عليه، كأنه أحد أقاربي، جبان بادي الجبانة، كذاب لا حدود لكذبه،
حَنَّاث في كل ساعة بأيمانه، نَكَّاث في كل لحظة بوعوده، لا سجية فيه أن تقبله
في خدمتك.
الشريف الأول
:
يخلق بك أن تعرفه على حقيقته، لئلا تسكن إلى فضل ليس له منه حظ، فيخذلك في
موطن جلل، أو أمر يستوجب خطره البالغ الثقة والاطمئنان.
برترام
:
وددت لو أنني عرفت في أي أمر خاص به أجربه.
الشريف الأول
:
ليس ثمة سبيل إلى تجربته أفضل من أن تكلفه أن يحمل الطبلة في القتال،٧ كما سمعته يتحدث عن ثقة بأنه لا يتردد في حملها.
الشريف الثاني
:
وسأفاجئه أنا وجماعة من الجنود الفلورنسيين، ممَّن أثق بأنه لا يميز بينهم
وبين الأعداء، فنَشُدُّ وثاقه، ونعصب عينيه، حتى ليذهب الظن به إلى أنه محمول
إلى مضاربهم، على حين نأتي نحن به إلى خيامنا، وما عليك يا مولاي إلا أن تكون
حاضر أمرنا، فإذا لم تشهده عندئذٍ في سبيل النجاة بحياته، ودافع الخوف الخسيس،
يعرض من تلقاء نفسه الغدر بك، وإفشاء كل ما في جعبته من الأنباء عنك، وحلف
الأيمان المغلظة على صدق قوله، إنه إن لم يكن صادقًا في قوله غضب الله عليه،
فلا تركن بعد اليوم إلى رأيي ولا تثق بحكمي وتقديري.
الشريف الأول
:
حبًّا في الضحك، ورغبة في التسلية، دعه يُحضر طبلته، ما دام هو القائل إنه
البارع الحاذق في حملها، لترى يا مولاي مبلغ براعته في ذلك، ومدى مقدرته،
وتتبين إلى أي حد ستذوب هذه القطعة من المعدن المزيف، فإذا لم تضربه حينئذٍ
ضربًا مبرحًا، فلا شيء بعدئذ ينتزع منك ميلك لهذا الإنسان.
(يدخل بارولس.)
الشريف الثاني
:
حبًّا في الضحك، ورغبة في الفكاهة، لا تَحُل دون شرف مقصده، دعه يستنقذ
طبلته، مهما يكن الأمر.
برترام
:
كيف الحال الآن يا سيد … إن هذه الطبلة
تحز في جسدك، وتثقل على صدرك.
الشريف الأول
:
إنها كالجدري، فدعها، إنْ هي إلا طبلة.
بارولس
:
أتقول إنْ هي إلا طبلة، هي طبلة نعم ذهبت خسارًا، وجلبت عارًا، لقد كانت
القيادة بارعة حقًّا في الهجوم بخيلنا على جَناحيْنا، وتمزيق صفوف جنودنا
بأيدينا.
الشريف الأول
:
لا ملامة على القيادة ولا معاب، لقد كانت نكبة من نكبات الحرب يعجز قيصر نفسه
عن منعها، لو أنه كان في مركز القائد وموضعه.
برترام
:
لا يمكن أن نتهم فوزنا، ونعيب نصرنا، نعم لقد مسنا بعض الشين من فقداننا هذه
الطبلة، ولكن لا سبيل إلى استردادها.
بارولس
:
لقد كان من الجائز أن نستردها.
برترام
:
كان من الجائز، ولكن لا سبيل إليه الآن.
بارولس
:
لا بد أن تُسترد، ولولا أن حسن البلاء قلما يُنسب إلى صاحبه ومؤتيه، لاسترددت
هذه الطبلة أو غيرها، وإنْ قضيت في هذه السبل وتخطفني الردى.
برترام
:
هلم إذن، إذا كانت في نفسك يا سيد رغبة، وإذا كنت ترى أن خبرتك بفنون القتال
كفيلة برد هذه الشارة الرائعة من شارات الشرف إلى مكانها، هلم تقدم عظيمًا
فحاول استعادتها، ولك علي أن أشهد لك بحسن البلاء، وعلو المكارم، وجميل الأثر،
فإذا مضيت في هذا الأمر موفقًا، فسوف ينوه الدوق بك، ويشيد بذكرها، ويزيدك من
فضله، قدر ما يليق بعظمتك، ويناسب مقامك، ويجزي كل ذرة من قدرك.
بارولس
:
قسمًا بيد جندي إني لفاعل.
برترام
:
ولكن لا ينبغي أن تنام الآن عنها.
بارولس
:
سأحاولها في هذا المساء، أما الساعة فسأتدبر الأمر وأتروى فيه، وأنادي إلى
شجاعتي وأنا المطمئن الواثق وأعد العدة للردى، وأوطن النفس على لقائه، وعند
منتصف الليل تَرقَّب أنباءً عني وانتظر أخبارًا.
برترام
:
هل أجرؤ على إبلاغ سمو الدوق أنك معتزم المضي في هذا الأمر؟
بارولس
:
لا أعرف يا مولاي كيف سيوافيني النجاح، ولكني على المحاولة مُقسِم، وببذل
الجهد مرتبط.
برترام
:
أعرف أنك باسل، وبمدى جنديتك شاهد … إلى الملتقى.
بارولس
:
لا أحب الإكثار من القول، ولا أنا في الكلام الكثير راغب.
(يخرج.)
الشريف الثاني
:
لا يحب كثرة الكلام إلا كما يحب السمك الماء، أليس هذا المخلوق يا مولاي
عجيبًا، في هذا الاطمئنان الذي يبديه إلى إتيان عمل كهذا، وهو يعلم أنه أمر
هيهات أن يتم؟ أليس عجيبًا منه أن يلعن نفسه ليفعله، وكان خيرًا له أن يكون
ملعونًا، من أن يفعله.
الشريف الأول
:
إنك لا تعرفه يا مولاي كما نعرفه، إنه بلا شك لا يفتأ يتسلل إلى قلب إنسانٍ
ما ويسترق الخطى إلى رضاه وحظوته، ويظل أيامًا متجنبًا كثيرًا من الأشياء التي
تكشفه، متحاميًا جهده ما يفضح أمره، ولكنك حين تكشفه، تملك بعدئذ أن
تفضحه.
برترام
:
ما الذي يجعلك تظن أنه لن يقدر على شيء مما يتطوع لإتيانه، ويتقدم بنفسه إلى
إنجازه بكل ما في إمكانه؟
الشريف الثاني
:
ليس هو على شيء في هذا العالم بقادر، ولكنه عائد بأكذوبة يختلقها وشفاعة
يبتدعها، ويلقي إليك بأكذوبتين أو ثلاث مجتملات أو مرجحات ولكنا قد أجهدناه أو
كدنا، وسترى الليلة سقطته، وهو في الحق ليس باحترامك جديرًا.
الشريف الأول
:
سنلاعب لك هذا الثعلب قليلًا قبل أن تسلخ جلده، فقد استراب به من قبلنا
الشريف لافيه الشيخ، فما زال به حتى كشف ستره، وإنك لمنبئ برأيك فيه، حين تشهده
الليلة بالذات.
الشريف الثاني
:
إنني ذاهب لأعد الحبائل له، وإنه لمحتبل.
برترام
:
وسيذهب أخوك معي.
الشريف الأول
:
كما تريد يا مولاي، إنني تارككما.
(يخرج.)
برترام
:
والآن، أذهب بك إلى البيت وأريك الفتاة التي تحدثت إليك عنها.
الشريف الثاني
:
ولكنك تقول إنها عفة.
برترام
:
هذه هي المصيبة كلها، لقد كلمتها مرة واحدة فوجدتها باردة أعجب البرودة،
ولكني بعثت إليها، مع هذا المأفون الذي نريد الإيقاع به، بهدايا وكتب، فردتها
ولم تتقبلها، هذا كل ما فعلته، إنها لحسناء، ألا تأتي لنراها؟
الشريف الثاني
:
من كل قلبي يا مولاي.
(يخرجان.)
المشهد السابع
حجرة في منزل الأرملة
(تدخل هيلين والأرملة.)
هيلين
:
إذا كنت في ريب مني، ولا تصدقين أنني هي، فلست أدري كيف أزيدك يقينًا، إلا
إذا فقدت الأساس الذي أبني عليه عملي.
الأرملة
:
لئن كانت حياتي في المجتمع متداعية، فقد كنت كريمة المنبت، طيبة الأعراق، لا
أعرف من هذه الأمور شيئًا، فلست أرضى بتعريض سمعتي لفعلة سوءى، ولا أقبل عملًا
مشينًا.
هيلين
:
وأنا لا أرضاه لك ولا أرجوه، ولكني إنما أطلب إليك أن تثقي أن الكونت هو
زوجي، وكل ما طلبت إليك أن تقسمي على كتمانه صحيح بجملته وتفاصيله، ولن تأثمي
إذا أنت وهبتني العون الكريم الذي سألتك إياه.
الأرملة
:
لا بد أن أصدقك بعد أن ثبت لي أنك ذات ثراء عظيم.
هيلين
:
خذي هذا الكيس المليء ذهبًا، ودعيني أشتر معونتك الصادقة به، وسأزيدك أجرًا
وأضاعفه لك، إذا وجدتها لديك، إن الكونت يغازل ابنتك، ويضرب حصاره الدفين حول
حسنها، ويعتزم الظفر بها، فدعيها تظهر الرضا، وسنشير عليها بما ينبغي أن تفعله،
وهو في لهفته، وحرارة شهوته، لن يضن عليها بشيء تطلبه، إنه يضع في إصبعه خاتمًا
موروثًا من بيته كابرًا عن كابر، منذ بضعة أجيال، حين كان جده الأول يلبسه، وهو
بهذا الخاتم لمعتز، وعليه حريص، ولكنه من سعير شهوته، لن يأبى النزول عنه،
لشراء طلبته، وإن ندم عليه بعد ذلك.
الأرملة
:
الآن فهمت غرضك.
هيلين
:
وعرفت أنه حلال مشروع، فكل ما هو مطلوب أن تطلب ابنتك هذا الخاتم منه قبل أن
تتظاهر له بالرضا، وتضرب له موعدًا للقاء، وقصارى القول دعيني أحل محلها، وهي
غائبة طاهرة، وسأضيف إلى ما قد دفعت ثلاثة آلاف دينار لتزويجها
وتجهيزها.
الأرملة
:
وأنا موافقة، فاشرحي لابنتي كيف تسلك، وبَيِّني لها كيف السبيل، حتى يتم
المطلوب في المكان المعين، والموعد المضروب، تحقيقًا لهذه الخدعة المشروعة،
والحيلة التي يجانبها الإثم، إنه يأتي كل ليلة بمختلف الموسيقات والألحان،
وينشدها الأغاني ويمنيها الأماني، ليراودها عن عفافها، ولا نجد شيئًا يرده عن
دارنا، لأنه المُلِح الدءوب، كأن في هذا الأمر حياته.
هيلين
:
لنحاول الليلة إذن حيلتنا، ولننفذ خطتنا، فإن أفلحنا فذلك شر يراد به خير،
وحلال يراد به حلال، كلاهما لا إثم فيه، وإن ظل الواقع أثيمًا، فلنمضِ
فيه.
(تخرجان.)