سائل حيوي
ضربت العصا الأرض ثلاث مرات للفت انتباه الحضور. فخفتت الأصوات لوهلة قصيرة، لكن الجلبة عادت من جديد. مرة أخرى ضربت العصا على الأرضية الرخامية ثلاث ضربات كل ضربة أشد من سابقتها. ونادى الحاجب بالفرنسية: «من فضلكم!» مستخدمًا تلك اللكنة ذات الأصوات القصيرة السريعة التي تشفُّ عن أنه من سكان باريس. نادى الحاجب من جديد: «من فضلكم!» فاصلًا الكلمتين ليتأكد من أن نداءه قد سُمِع. كانت القضية المنظورة خطيرة إذ ينبغي عدم الاستهانة باتهامات القتل على أي حال، خاصةً في ظل مثل تلك الظروف الاستثنائية؛ الزمان هو السبت ١٧ أبريل ١٦٦٨؛ والمكان هو مبنى لوجراند شاتيليه الذي يضم المحكمة المركزية في باريس، وهو مبنى عظيم في قلب المدينة على ضفاف نهر السين.
وسط مجموعة صغيرة، وقف جون باتيست دوني أحد الأطباء ذوي العقلية العلمية الذين كانوا على صلة بالملك لويس الرابع عشر. وُلد دوني لأسرة كانت على اتصال بالأوساط الملكية، لكنها لم تحظَ يومًا بمكانة تمنحها القبول التام بتلك الأوساط. كان والده كبير مهندسي الملك لويس الرابع عشر، وقد طبَّقت شهرته الآفاق في مجال تصميم مضخات المياه وبنائها. في ذلك الوقت كان دوني في السابعة والعشرين من عمره تقريبًا، وكان يتمتع بعقل متألق، وكان قد حصل على درجة البكالوريوس في اللاهوت قبل أن يتجه لدراسة الطب في مونبيلييه. كما كان قد حصل حديثًا على درجة الدكتوراه في الرياضيات، وعاد إلى مسقط رأسه باريس ليتولى منصب أستاذ في الرياضيات والفلسفة الطبيعية حيث قسَّم وقته بين أكبر اهتمامين له: الرياضيات والفلك. واتخذ من البحث في الطب هوايةً له. وككثير من الهواة، تمنى دوني أن تدرَّ هوايته الأموال عليه. لكنها — على النقيض — أتت به إلى قفص الاتهام؛ ليُحاكم بتهمة القتل.
أما المحامون من حوله، فكانوا يرتدون عباءات سوداء وقبعات مربعة يتجه أحد أركانها إلى الأمام، ملقيةً ظلًّا مثلث الشكل على وجوههم مثل منقار طير جارح. وكان من بينهم محامي دوني السيد لاموانيون — الذي كان والده أول رئيس لبرلمان باريس. ارتدى دوني شعره المستعار المصفف بإتقان، والذي تنتهي خصلاته بثنية ملفوفة بإحكام تبلغ تمامًا أعلى ياقة معطفه الطويل ذي اللون البني الداكن وقميصه المكشكش قليلًا؛ وهو الزي الذي ميز كونه رجلًا متعلمًا. تجهَّم منزعجًا من رؤية رذاذ من الطين على سرواله الأبيض النظيف الذي يخرج من حذاء أسود شديد اللمعان ذي كعبٍ عالٍ وحلي فضية مربعة. فقد كان اليوم فاصلًا وأراد دوني ألا يخالج الرقيب المكلف بنظر القضية أي شك تجاه ما يحظى به من مكانة.
إلى جوار دوني، وقف مجموعة من الأصدقاء ذوي النفوذ، من بينهم هنري لويس هابرت دو مونتمور — أول مستشار لمجلس الدولة في عهد لويس الرابع عشر. كان ذوقهم في انتقاء الملابس بادي الفخامة؛ إذ كانوا يرتدون شعورًا مستعارةً ضخمة تتدلى منها الخصلات المجعدة على القمصان المكشكشة بعناية والمعاطف ذات الأكمام الضخمة المطرزة تطريزًا منمقًا.
وكان هناك رجل وامرأة يجلسان في البهو، حضر كلٌّ منهما ضمن الشهود. وكانا كلاهما من المرضى الذين تلقوا العلاج الذي ابتكره دوني وكانا مصرَّين على أنه نجح في شفائهما. زعمت السيدة أنها كانت تعاني من شلل جزئي قبل العلاج لكنها شُفيت الآن؛ كان الدليل — البرهان الحي — ضروريًّا. وكذلك كان حضور أصحاب المقامات الرفيعة مثل دوق دونيو ودوق لوين ودوق دو شون ودائرتهم من الأصدقاء ورجال الحاشية. فحتى وإن بدت القضية ميئوسًا منها، فإن ذلك الحشد الباهر من الداعمين الذين اكتظت بهم القاعة كانوا يبثُّون أملًا أكبر في الفوز بالقضية.
دقَّ الحاجب مجددًا، لكنه هذه المرة كان يضرب سطح الطاولة، محدثًا فيها شرخًا عميقًا. خفتت جلبة الحضور متحولةً إلى همسات، رغم سخرية بعضهم من محاولة الرجل فرض النظام. لكن عقل دوني ارتج حين عاودته ذكرى الدقات الملحَّة على بابه في المساء قبل بضعة أشهر — تلك الدقات التي أعلنت بداية هذه الأحداث المأسوية.
مقابلة موروا
كان الوقت متأخرًا، وولى يوم الأحد أمام الساعات الأولى من الإثنين ١٩ ديسمبر ١٦٦٧. كان دوني — كعادته — جالسًا في مكتبته ينظر في بعضٍ من آخر ملاحظاته وحساباته حول حركة الكواكب المختلفة عندما سمع صوت عربة تتوقف ببابه. كان دوني رجلًا كئيب المظهر ينتمي إلى طبقة النبلاء، وكانت وجباته الدسمة قد راحت تترك أثرها على خصره، ورغم أنه كان في مرحلة الشباب، كان منتصف العمر يظهر على ملامحه في صورة شحم وفير حول فكه السفلي وفي الثنيات الهلالية العميقة المحيطة بفمه. استمر دوني في العمل، وحك أنفه الأقنى، مستغرقًا في تركيزه حتى إنه نسي أمر زائره. وبعد دقائق معدودة، جاء خادمه مخبرًا إياه أن السيد دو مونتمور قد أرسل في طلبه في ذلك الوقت من الليل. ضيَّق دوني عينيه وقد امتلأ بمزيج من الخوف والإثارة، محاولًا تحديد السبب الذي يتطلب استدعاءه في هذا الوقت من الليل. ففي النهاية، لم تكن شوارع باريس عام ١٦٦٧ مكانًا آمنًا للتسكع بعد حلول الظلام. إلا أن دو مونتمور لم يكن الشخص الذي يطلب طلبًا إلا إذا كان ضروريًّا.
كان الأرستقراطي الفرنسي هنري دو مونتمور البالغ من العمر ٦٧ عامًا يتمتع بالاستقلال المادي الشخصي، بدخل سنوي كان يبلغ ١٠٠ ألف جنيه فرنسي، وفائض كافٍ لممارسة الهوايات المُكلفة، التي كان أهمها بالنسبة إليه العلوم الجديدة. لقد أسس من ثروته أكاديمية مونتمور عام ١٦٥٧، التي أصبحت ملتقًى للمواهب الفكرية بما في ذلك صديقه عالم الرياضيات رينيه ديكارت؛ وجيرار دوزاركه أستاذ الرياضيات في الكلية الملكية في باريس؛ وبيير جاسندي — عالم الرياضيات والفيزياء والفلسفة الدينية؛ وبليز باسكال، بالإضافة إلى آخرين مثل الشاعر والناقد الفرنسي جون شابلان. كان هؤلاء الأعلام يجتمعون أسبوعيًّا في فندق دو مونتمور الفخم الذي أصبح الآن رقم ٧٩ طريق رو دو تيمبل الذي يبعد نصف ميل شمالي نقطة التقاء النهر بكاتدرائية نوتردام التي تقع في الدائرة الإدارية الثالثة حاليًّا.
في بداية عام ١٦٦٧، بدأ عقد هذه المجموعة ينفرط، وقد دُعي بعض أعضائها للانضمام إلى أكاديمية العلوم المنشأة حديثًا، إلا أن مونتمور ظل يتمتع بنفوذ كبير في الأوساط العلمية. ترك دوني عمله واستغرق بضع دقائق في إعادة ضبط هندامه، وارتدى شعره المستعار فوق شعره القصير المقصوص بمساعدة خادمه. وبعد أن تفحَّص نفسه أمام المرآة جذب ياقة قميصه وأعاد ضبط شعره المستعار، وبعد أن تأكد من أن كل شيء على ما يرام، خرج. شعر بالارتياح عندما وجد أن رسول مونتمور جاء بعربة مغلقة؛ وما إن صعد إلى العربة، فوجئ بوجود بول إميري، ذلك الجرَّاح وأخصائي التشريح الموهوب الذي كان قد انضم للمجموعة أيضًا. وكان إميري مشهورًا بأنه أحد أكفأ من علَّموا الجراحة والتشريح، وحيث إنه قد وُلد في سان كوينتين في باريس فقد أصبح رئيس جمعية الجرَّاحين الباريسيين. بعد أن اكتشف الرجلان أنهما لا يعلمان سبب استدعائهما، لاذ كلاهما بالصمت وسط ضجيج سير العربة على أرضية الشوارع المرصوفة بالحجارة، مارةً بفندق دو فيل قبل أن تتوجه شرقًا عبر طريق رو دو تيمبل.
انحرفت العربة إلى اليسار بحدَّة مجتازةً البوابات، لتتوقف في ساحةٍ مفتوحةٍ، ونزل راكباها متجهين إلى الباب. فور وصولهما، أُرشدا إلى مكتبة مرتفعة السقف، حيث استُقبلا ببعض صيحات الترحيب. وكانت الغرفة المزخرفة مليئة بالفعل بالنبلاء ذوي الأزياء الأنيقة الذين راحوا يتبخترون في أرجاء الغرفة ويجولون في أرجائها للفت الانتباه إلى ثيابهم المبهرجة لإحداث أفضل أثر ممكن. وفي نهاية المكتبة، كان هناك رجل مقيَّد إلى كرسيٍّ، شعره أشعث ومبتلٌّ، وفي وجهه خدوش، وعلى النقيض تمامًا ممن حوله في الغرفة، لم يكن يرتدي أي ملابس. أحيطت كتفاه بعباءة، إلا أنها كانت تسقط على الأرض عندما كان يجاهد لتخليص نفسه من القيود بين الحين والآخر.
كان الأسير هو أنطوان موروا ذا الأربعة والثلاثين عامًا، وكان خادمًا يعيش في قرية تبعد نحو ١٠ أميال عن قلب باريس. وطوال سبعة أعوام أو ثمانية، كان يعاني نوبات جنون، كانت كلٌّ منها تستمر لعشرة أشهر أو يزيد. وفي أثناء تلك النوبات، كان يصير عنيفًا، وكان ينزع إلى الركض في الشوارع عاريًا، وكان يشعل النار في البنايات إن استطاع. ولا عجب أنه سرعان ما لحقت به السمعة السيئة في الحي الذي يقطن فيه.
وقبل نحو عام، بينما كان في إحدى فترات اتزانه العقلي، تزوج بيرين — وكانت شابةً صغيرة استطاع إقناعها بأن نوبات الجنون التي تعرَّض لها لم تكن سوى مرض عابر وانتهى وأنه شُفي الآن. بدا أن الزواج بدأ جيدًا، لكن للأسف بعد بضعة أشهر تدهور سلوكه من جديد. في البداية، تمكنت زوجته من احتوائه، ورغم أنها تعرضت للاعتداء في غير مرة، فقد قيدته هي وبعض الأصدقاء من أجل الحفاظ على سلامته وسلامة من حوله.
كان هناك كثيرون ممن هم على استعداد لتقديم المشورة بشأن وسائل العلاج لحالة أنطوان. فقد كان من الواضح أن هناك سببًا وراء ذلك السلوك العنيف، ووفقًا للمبادئ التي اتبعها معظم الأطباء وقتها، فقد كان الاحتمال الأكبر هو أن دم أنطوان هو السبب. فربما كانت لديه كمية زائدة منه، أو أن كمية الدم كانت مناسبة لكنه كان ملوثًا. وفي كلتا الحالتين، كان الخيار الأفضل هو التخلص من بعض دمه.
أجرى الأطباء والحلاقون المحليون عملية فصد دماء لموروا ثماني عشرة مرةً مختلفة، وهي طريقة كان يُعتَقَد أنها تتخلص من الدم الفاسد وتعيد التوازن الصحي وتمكِّن من التعافي. كما أعدوا له أربعين حمَّامًا أو أكثر، كانت خليطًا من الأعشاب والمواد الكيميائية وغيرها من العناصر النشطة. لكن شيئًا لم يتغير. وفي أسلوب مشابه، ربطوا على جبهته العديد من الوصفات العلاجية، لكن دون فائدة. وفي المقابل، كان أنطوان يتحرر من قيوده ويفر هاربًا من آنٍ لآخر.
في تلك الليلة الشتوية الحالكة، كانت زوجة موروا تمشط الشوارع والأزقة والحقول والترع بحثًا عنه، أو حتى أملًا في أن تجد أثرًا يشي بمروره المخرِّب. لكنها لم تعرف مع ذلك أنه قد وصل إلى قلب باريس وأن عسس الليل قد اعتقلوه. ولسبب ما، جذب هذا الرجل انتباه مونتمور. لن نعرف أبدًا إذا كان ذلك نابعًا من الشعور بالشفقة أو الفضول، لكن مونتمور بعدما لم يجد مكانًا مناسبًا له في أي مستشفى، اصطحبه إلى البيت وأرسل في طلب أصدقائه.
كانت فكرة مونتمور بسيطة بقدر ما هي ثورية؛ فقد علم في الأشهر الأخيرة أن اثنين من أعضاء أكاديميته — دوني وإميري — يُجريان تجارب على فكرة نقل الدم فيما بين الحيوانات المختلفة. ففي منتصف القرن السابع عشر، كانت أية أفكارٍ تتعلق بالجسد تتمحور حول فكرة مفادها أن دم الإنسان يحوي العناصر الحيوية لروحه. وقد أثار هذا احتمالية جديدة. فهل يمكن لإفراغ دم الإنسان الفاسد وإحلال دم نقي طاهر من حيوان مستأنس محله أن يعالج سلوك شخص جامح وخطير؟ هل يمكن لدم الحمَل مثلًا أن يغسل خطايا الإنسان فعليًّا؟
ومع دخول دوني وإميري إلى الحجرة، تحولت إليهما كل الأنظار وخفتت المحادثات إلى تمتمة. تقدم الرجلان وانحنيا تحيةً لمونتمور وأصدقائه المجتمعين وتقديرًا لإيماءاتهم وابتساماتهم المرحِّبة وقبعاتهم المرفوعة. اصطحبهما مونتمور إلى موروا، ووقف الثلاثة معًا ريثما أطلعهما مونتمور على تاريخ الحالة كما رآها. وكانت المهمة التي كلفهما بها هي أن يقررا ما إذا كان موروا مرشحًا ملائمًا لنقل الدم.
كانت المخاطرة كبيرة. وكان بين الحضور كثيرون بالتأكيد ممن يأملون أن تكون الحالة مناسبة لنقل الدم من أجل أن يتمكنوا من شهود التجربة ورؤية قفزة سريعة إلى الأمام في مجال الطب العلمي سريع النمو. أما الآخرون فكانوا متشككين أو ساخطين تمامًا. فإذا حدث أي شيء للمريض، فستعرف باريس كلها بالخبر، وستكون حياة دوني العملية — وربما حياته هو نفسه — على المحك. أما إن نجحت التجربة، فمن المؤكد أن دوني سيحفر اسمه في سجل التاريخ.
اللعب بالنار
لكن ماذا لو فشلت التجربة؟ إذ إن نقل الدم من حيوان إلى إنسان في ذلك الوقت كان فكرة شاذةً من الأساس، وقد يرى كثيرون كذلك أنها غير أخلاقية من ناحية المخاطرة بالمريض، واستخدام الحيوان المتبرع بالدم، الذي ربما ينزف حتى الموت خلال تلك العملية. لكن لمعرفة أسباب هذا الخوف لدى دوني في ذلك الوقت، فإننا نحتاج لمعرفة مدى إجلاله لمكانة الدم.
لم يكن دوني — شأنه شأن أغلب من كانوا في منزل مونتمور — واحدًا من الدجالين الجهلة أو المشعوذين الذين كانوا يعملون في الشوارع الخلفية القذرة في مدن أوروبا وقراها في القرن السابع عشر. فقد علمته معرفته باللاهوت وحكمة العالم الإغريقي الروماني السحرية أن الدم كان يلعب دورًا أساسيًّا بوصفه وسيطًا بين البشر والآلهة؛ فقد كان رمزًا تذوب فيه كل معاني الروحانية والخرافة والتعاليم المقدسة والتقاليد الشعبية. لم يكن أحد ليستخفَّ بالدم.
مع ذلك، لم يكن الدم مجرد رمز، بل كان هو الحياة ذاتها. فقد كان أي طبيب يتعامل مع دم إنسان يملك في يده جوهر حياته. جاء هذا الاستنتاج من ملاحظة واحدة بسيطة؛ اقطع عنق أي حيوان — أو إنسان في تلك الحالة — وراقب ما سيحدث له. فمع اندفاع الدم للخارج تخور قوى الإنسان؛ إذ تنفد منه حيويته وروحه. وما إن تنفد دماؤه تمامًا، فلن تتبقى أي حياة في جسده. فمن الواضح أن الحياة تخرج من الجسم مع الدم؛ لذا كان الدم يحمل في جزيئاته الحياة.
مثَّل هذا المنطق جوهرَ عديدٍ من أول الوقائع المؤرخة التي تعلقت بالدم أو تحدثت عنه منذ القدم. وقد وردت إحدى تلك الوقائع في كتابات تُنسَب للشاعر الملحمي الإغريقي هوميروس الذي تسرد ملحمته المؤلفة في القرن الثامن قبل الميلاد — الأوديسة — مآسي حرب طروادة. ففي إحدى مراحل الكتاب يجد أوديسيوس — بطل ملحمة هوميروس — نفسه في مأزق، فيستحضر روحَ الكاهنة تريسياس — عملًا بنصيحةٍ أسدتها له ساحرة. ويأمل أوديسيوس أن تتمكن تلك الكاهنة المتنبئة من حل مشكلاته. ففي خطوة جريئة، يدخل أوديسيوس إلى عالم هيدز ويعرض تقديم اللبن والعسل والنبيذ ودم أضحية — هي الحمَل. ويكون الدم هو مفتاح النجاح، وبينما تشرب أرواح الموتى هذا الدم الأسود الحار يسترجعون ذكرياتهم عن الحياة على الأرض ويستعيدون أنفاسهم الحية للحظة قصيرة. فقد أعاد الدم الحياة لتريسياس على الأقل مؤقتًا.
بينما تميز القرنان السادس عشر والسابع عشر بمرحلةٍ جديدة في الفكر البشري أرادت التشكيك في المفاهيم الأسطورية، لم يزل معظم فلاسفة هذين القرنين يؤمنون بجدِّيَّة بالتعاليم الإنجيلية. وقد امتلأت النصوص الإنجيلية بتحذيرات من الاستهانة بالدم؛ فيما يحتوي سفر اللاويين على تحريم مشدد لشرب الدماء «لأن حياة كل كائن تكمن في دمه.» وفي رواية سفر التكوين لمقتل هابيل، يواجه الرب أخاه قابيل قائلًا: «إن دم أخيك صارخٌ إليَّ من الأرض.» لذا عززت دراسة دوني للاهوت إدراكه لضرورة الحذر.
هل كان دوني يفكر جدِّيًّا في سكب دم حيوان في جسم إنسان؟ نعم لقد كان يفكر في ذلك مقتنعًا أن هذا القربان ربما يتيح الشفاء والتعافي. نظر دوني إلى موروا. وفحص جلده بحثًا عن أي علامات لمرض عضوي يمكن أن يجعل من العملية إجراءً خطيرًا. وانحنى زميله إميري ليشارك في عملية الفحص. لم ينتمِ أي منهما إلى المدرسة القديمة التي كان أطباؤها يُجرون التشخيص عن بُعدٍ، بل أراد كلاهما أن يبنيا قراراتهما على أدلة دامغة. وتقدم الحضور أنفسهم باحثين عن أي علامات قد تمكِّنهم من تشخيص حالة موروا ووضع استراتيجية لعلاجه. وأفصح كثيرون منهم عن استنتاجاتهم بتبجح سافر. وربما يقول المتشائمون إنه من السهل أن تثق بفاعلية علاجك عندما لا توجد أي طريقة لاختباره!
كانت نتيجة الفحص الأولي سارَّة؛ فقد بدا موروا مُعافًى بدنيًّا، ولم يكن هناك أي علامة ظاهرة على العلة أو المرض. وبدا أن روحه فقط هي التي كانت تعاني خللًا. ومن المؤكد أن خيرَ علاج هو معالجة مكمن الروح، أي معالجة دمه. فعلى كل حال، كان الدم هو الشيء الذي تسكُنه شخصية الفرد؛ فقد كان الدم يحوي السبب الذي يحدد شخصيتك. فإن أُصيبت شخصيتك بالاضطراب، فليس أفضل من التخلص من بعض الدم وإحلال روح السكينة والنظام محله.
بدت الاحتمالات واقعية جدًّا، لكن كذلك كانت المخاطر. مرة أخرى كانت المخاطرة كبيرة؛ فهل من المقبول أخلاقيًّا استخدام علاج يغيِّر طبيعة الشخص؟ إذا كانت شخصية الإنسان وسماته قد وهبه إياها خالقه، فهل لدى أي طبيب سلطة أخلاقية للتدخل وتغيير تلك السمات؟ لقد كان هذا السؤال يُطرَح كثيرًا منذ بدء تطبيق العلم نظرياته على الكائنات الحية، خاصةً إذا كان البشر هم هذه الكائنات. بعبارة أكثر تحديدًا، هل كانت التجربة المقترحة «تدخلًا في خلق الله»؟
على الأرجح، كان ذلك الجدل يشبه الجدل الحالي حول المعالجة الجينية للنباتات والحيوانات، وكذلك المواجهات المحتدمة التي صاحبت مناقشات إمكانية استنساخ البشر. ففي كل هذه المواقف، يوجد ذلك التخوف من احتمال أن البشرية توظِّف العلم للسيطرة على جوانب تتجاوز صلاحياتها. وساد بين مجتمع القرن السابع عشر الذي يخشى الربَّ قلق مطَّرد من أن ثمة احتمالية لإرضاخ بعض القواعد القدرية أو كسرها. فمن غير الرب له سلطة تحديد شخصية الفرد؟!
ولم يكن ما سبق ليمرَّ كمسألة ثانوية، بل كان معضلة خطيرة. أليس الرب هو من خلق كل شخص على حاله؟ إذا نجحت نظرية نقل الدم هذه، أفلن تُغيِّر طبيعة الشخص؟ ألن تُغيِّر الشخص الذي خلقه الله؟ أليس هذا خارجًا عن النطاق المسموح العمل به من قبل أي طبيب يتمتع بالأخلاق؟ كان دوني سينتبه جيدًا للمنتقدين الذين كانوا يسنُّون خناجرهم بالفعل. كان الاحتمال الوارد أنه في موقف لن يخرج منه فائزًا. فإذا فشل العلاج، فمن الممكن أن يواجه اتهامات بالإهمال الخطير المهدد لحياة إنسان. وإن نجح فسيُتَّهم بالاستيلاء على سلطة الرب. فقد أكلت حواء التفاحة في الجنة وهي على علم بالخير والشر. والآن رأى كثير ممن كانوا في تلك الحجرة كل الإشارات الدالة على أن الشر على وشك أن تكون له اليد العليا.
كان يُزعَم أن الطب يمكنه علاج الأمراض، لكنه في هذه الحالة سيُعالج السلوك المنفلت من خلال تغيير طباعه. فقد كانت هذه محاولةً لتغيير طبيعته ذاتها. وما كان سيسبب صدمة أكبر هو أن هؤلاء الأطباء المجرِّبين فكروا أن يفعلوا ذلك بإدخال كميات قليلة من دم عجل في جهازه الدوري. وبعمل ذلك أرادوا أن يُدخلوا روح العجل البريئة الطيعة الهادئة والمحبوبة في مجملها في جسد هذا المشرد سيئ السمعة. لكن إذا نجحوا، فهل سيظل إنسانًا أم أنه سيصبح هجينًا؛ نصف إنسان ونصف عجل؟
المناقشة المماثلة لذلك في القرن الحادي والعشرين تدور حول نقل الجينات من أحد الأنواع إلى نوع آخر، حيث تطرح سؤالًا عن عدد الجينات التي يجب نقلها من خنزير إلى إنسان قبل أن يصبح الإنسان نصف خنزير. أو العكس: كم عدد الجينات التي يجب نقلها من إنسان إلى خنزير قبل منح الخنزير حقوق الإنسان؟ ثمة تشابه كبير بالفعل بين الحالتين؛ نقل الجينات ونقل الدم. ففي القرن السابع عشر، كان دوني وزملاؤه يعتقدون أن الدم مكون أساسي من ماهية الإنسان. أما العلم الحديث، فيعتبر التناسل عملية خلط للجينات. وفي ضوء هذه الرؤية تصبح الجينات هي المكافئ الحديث للدم.
توازن الأمزجة
كانت تسوية الأمر من الناحية الأخلاقية لضمان درجة عالية نسبيًّا من الأمان من خطر استنكار رجال الدين إحدى المشكلات التي واجهت دوني. لكن، كان عليه أن يعيد النظر أيضًا في طرق العلاج التي تبناها الأطباء وقتها. فقد كان إخراج الدم من الجسم هو ما يتقنونه وليس إدخاله. وكان هذا عصرًا ساده فن وحرفة الفصد. ومع أن كثيرًا من أعضاء المجتمع العلمي كانوا سيخسرون على الأرجح أسباب رزقهم إن نجحت أفكاره، لم يكن أي شخص على يقين مما إذا كانت نظرية نقل الدم توافق — أو تعارض — نظرية الصحة والمرض والدم القائمة.
لفهم الطبيعة الثورية لفكرة دوني، علينا أن نتوقف للحظة وننظر إلى التصور السائد عن الدم. ففي منتصف القرن السابع عشر، كان الناس لا يزالون متأثرين بالعقلية الفلسفية التي نشأت في بلاد الإغريق. وفي القرن الثالث عشر قبل الميلاد، علَّم الطبيب الإغريقي أسقليبيوس تلاميذه أن كل الأمراض منبعها المشكلات الروحية، وأن علاجها يكون بالصلاة وتقديم القرابين للآلهة. إلا أنه بحلول القرن السادس قبل الميلاد أخذت أفكار جديدة في الظهور.
أما المفكرون من أمثال فيثاغورس والطبيب ورجل الدولة إمبيدوقليس فكانوا مولعين بالرقم أربعة. فقد كانوا مقتنعين أن هذا الرقم يحوي قوة كبيرة لأن الكون كله كان مبنيًّا بأجزاء مكونة من أربعة عناصر. وقد تغلغل مفهوم الأقسام رباعية الأجزاء هذا في عمل أفلاطون. فقد اعتقد أن كل المخلوقات تنتمي إلى واحد من أربعة أنواع؛ أولًا: هناك الآلهة الأصلية، ثم أبناء الآلهة الذين خلقهم الصانع الأول. وثانيًا: هناك رجال ونساء بسطاء العقول لكن غير عدوانيين، وهؤلاء كانوا يتحولون إلى طيور. ثم هناك ضعاف الإدراك العاجزون عن التفكير المعقد ويتحولون إلى حيوانات. رابعًا: يتحول أشد الرجال والنساء جهلًا إلى سحالٍ وثعابين، أما الأغبياء حقًّا فكانوا يتحولون إلى أسماك ومحار. لقد استمرت هذه العقلية في الواقع؛ إذ نتحدث عن عصور الإنسان الأربعة، ونقسِّم السنة إلى أربعة فصول، ونقسِّم الساعة إلى أرباع.
وافترض هؤلاء الفلاسفة الإغريق أنه بما أن البشر جزء من الكون أو العالم فإن جسم الإنسان (العالم الصغير) يجب أن يعمل مثل كل ما سواه (العالم الكبير). ومن ثم شعروا أن أي تفسير لكيفية عمل الجسم السليم يجب أن ينبني على نظام مادي مكون من أربعة أجزاء، وأن مناقشة أي مرض يجب أن تضع في اعتبارها فهم المواد الأولية الأربعة؛ التراب والهواء والنار والماء.
ورأى الفلاسفة من أمثال فيثاغورس وإمبيدوقليس أن هذه العناصر تمثل خصائص الحرارة والبرودة والرطوبة والجفاف. فالأرض مثلًا تكونت بخلط البرودة والجفاف، والنار خليط من الحرارة والجفاف. علاوة على ذلك، فقد رأوا أن طبع الإنسان وذكاءه وإدراكه الحقيقة كان يخضع لنسب التراب والهواء والماء والنار في جسمه. وعليه فقد كان هناك تصور عن الصحة وممارسة الطب يقوم على فكرة معالجة اختلال التوازن المحسوس في تركيب الإنسان.
وفي القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، دمج أبقراط وأتباعه من الأطباء الأبقراطيين فكرة العناصر الأربعة الأساسية مع فكرة أخرى شائعة؛ وهي الأمزجة أو الأخلاط. فعندما يؤكل الطعام فهناك عناصر فيه لا يمكن هضمها ولا يستفيد الجسم منها. وإذا لم يتم التخلص من هذه «الأخلاط» فستتراكم وتسبب المرض. اعتقد الأبقراطيون في البداية بوجود خليطين؛ العصارة والبلغم. ثم قسمت العصارة إلى نوعين: الصفراء والسوداء؛ لتصبح الأخلاط ثلاثة. إلا أن الأخلاط إن وُجدت فيجب أن تكون أربعة. وبعد كثير من التأمل والحيرة، قرر الأطباء إضافة الدم إلى القائمة. وكان الدم مختلفًا عن الأخلاط الثلاثة الأصلية في أنه — على عكس العصارة السوداء والصفراء والبلغم — كان له تأثير إيجابي على الجسم. أما عن مصادر كلٍّ منها داخل الجسم، فالبلغم كان مصدره الدماغ، بينما ينبع الدم من القلب، أما العصارة السوداء فينتجها الكبد، والعصارة الصفراء ينتجها الطحال.
وهكذا بدأ الدم يلعب دورًا أساسيًّا، ليس لأنه أحد الأخلاط الأربعة فحسب، بل لأنه نُسبت إليه أيضًا مهمة الحفاظ على التوازن الحيوي للجسم؛ أي الحفاظ على الكميات المناسبة من الهواء والماء والتراب والنار. وكان الدم يقوم بوظيفته عن طريق اتصاله بالمسام التي اعتُقد أنها موجودة على السطح الخارجي للجسم. فكانت هذه المسام تتيح للعناصر الأربعة أن تنتقل من الدم وإليه، ثم يتحرك الدم بدوره داخل الأنسجة والأعضاء في مركز الجسم ليعيد التوازن إلى أي منطقة تعاني من الخلل في ذلك الوقت. والأهم أن الدم كان يضمن استمرار التوازن في محيط القلب؛ مركز تفكير الإنسان.
لقد كان الدم هو النسيج المثالي في الجسم. فقد كان حارًّا، وهو ما يعني أنه مفعم بالحياة وأنه يلعب دورًا في جميع جوانبها بدايةً من التنفس وحتى التغذية، ومن الهضم حتى التفكير. وعُرفت هذه الفكرة بالنظرة الدموية (المتمحورة حول الدم) للحياة. واتَّسق ذلك تمامًا مع فكرة أرسطو أن العواطف كان مكمنها الدم، فقد كان الجبن — على سبيل المثال — ناتجًا عن فقر الدم، كما كانت برودة الدم أيضًا مدعاة للقلق.
جرى المزيد من التنقيح لهذا المفهوم على يد بوليبوس — زوج ابنة أبقراط — الذي وضع في كتابه «طبيعة الإنسان» نظامًا من أربعة أجزاء شكَّل جوهر ممارسة الطب حتى القرن السابع عشر وما تلاه. وقد لخص بوليبوس أفكاره في جدول بسيط:
الخليط | الفصل | الخصائص |
---|---|---|
الدم | الربيع | الحرارة والرطوبة |
العصارة الصفراء | الصيف | الحرارة والجفاف |
العصارة السوداء | الخريف | البرودة والجفاف |
البلغم | الشتاء | البرودة والرطوبة |
وكما تعلَّم زملاء دوني خلال دراستهم الطب، كان الجدول يمثل منهجيةً منظمةً لعلاج الأمراض. فإذا كان الشخص يعاني البرودة أو نقص الرطوبة فعليه أن يشرب النبيذ حيث كان يُعتقد أنه يساعد الإنسان على الشعور بالدفء، وهي الخاصية التي كانت تنبع من زيادة كمية الدم. كما تضمن هذا المنهج الطبي «إخراج» الدم. فبينما يمكن التخلص من الدم في بعض الحالات كوسيلة لتقليل حرارة الشخص المصاب بالحمى، اعتُبر التخلص من الدم مفيدًا لأنه كان يتيح الفرصة للتخلص من الأخلاط الضارة التي تختلط بالدم. وكان أبقراط وأتباعه مقتنعين بأن دم الحيض ونزيف الأنف وسيلة الجسم الطبيعية لاستعادة التوازن والحفاظ على الصحة؛ لذا كان إخراج الدم — وليس إدخاله — وسيلة جوهرية لاستعادة التوازن في حالات شديدة التفاوت.
سائل مرتبط بالحياة
كذلك، كان معظم فلاسفة القرن السابع عشر يعتقدون أن الدم مصدر حياة جديدة. وكان أرسطو قد ابتكر فكرة أن الحياة الجديدة تبدأ عندما يلتقي الدم المنقى للرجل والمرأة؛ أي المني والحيض. ولم يكن لدى دوني وزملائه أي دليل يدفعهم للتشكك في ذلك؛ فقد كانوا على بعد بضعة عقود قبل أن يستخدم تاجر الأقمشة الهولندي أنطوني فان ليفنهوك مجموعته من المجاهر المتطورة ويكتشف الأمشاج الذكرية في عينات المني. فكان أصدقاء دوني يعتبرون أن العبث بالدم عبث بالمادة الحاملة للحياة ذاتها.
وزاد التأكيد على الرابط بين الدم والحياة بسبب التغير الجوهري الأخير في منظومة المعتقدات التي ترسخت قبل القرن السابع عشر. وكان ذلك في القرن الثاني الميلادي على يد الفيلسوف وأخصائي التشريح الإغريقي كلوديوس جالينوس — الذي درس الطب بمدينة برجاموم التي تقع حاليًّا في المنطقة التي تُعرف بغربي تركيا. وكان جالينوس كبير الأطباء المعالجين للمصارعين في برجاموم، كما كان كاتبًا غزير الإنتاج. فقد ألَّف نحو ٥٠٠ كتاب ورسالة في جميع مناحي الطب والفلسفة على مدار حياته المهنية. وكانت آراؤه تتسق تمامًا مع معتقدات المسيحيين الأوائل، وأصبحت جزءًا أصيلًا من الأنماط الفكرية للثقافات التي تسودها المسيحية طوال ١٥٠٠ عام تالية. ووصل الأمر لدرجة أن من يشكك فيها كان يواجه أزمة كبيرة؛ فقد كان ذلك يُعد تشكيكًا فعليًّا في الكنيسة.
انتقل جالينوس إلى روما بصفته طبيبًا وصديقًا للإمبراطور ماركوس أوريليوس. وكان عمله مع المصارعين قد أتاح له كثرة التعامل مع الأجسام المصابة، كما أتاح له تطبيب المصارعين ذوي الإصابات القاتلة في الكولوسيوم مشاهدة الدم مباشرةً. وكان ذلك أمرًا غير مألوفٍ، حيث إنه كان يرى رجالًا أصحاءً أُصيبوا لتوِّهم، وليس أشخاصًا يمرون بمراحل مختلفة من المرض، ولا مصابي المعارك الذين قد يصلون إلى الطبيب بعد ساعاتٍ أو أيامٍ من الإصابة. ومن تلك المشاهدات توصل جالينوس لاستنتاج هام؛ إذ قال إن الدم نوعان: دم أميَل إلى الزرقة يسيل ببطء من الطرف المقطوع للأوعية الحاملة له، ودم شديد الحمرة يتفجر من أوعيته.
ساعدت نظرية نوعي الدم هذه جالينوس على تكوين فكرة أكثر تعقيدًا من الفكرة السائدة حتى ذلك الحين. فقد استنتج أن الدم يتكوَّن في الكبد. فعلى كل حال، كانت قطع الكبد تبدو كالدم المتجلط، وعند هرسها ينساب منها سائل يشبه الدم. وكان هذا الدم يتكوَّن مباشرةً من العناصر الناتجة من هضم الطعام، وبذلك كان الدم هو الوسيلة التي يجري بها توزيع العناصر الغذائية عبر الجسم ونقلها في الأوردة.
أما الشرايين، على الناحية الأخرى، فكانت تنقل نوعًا من الدم بعد تنقيته في القلب الذي يشبه الفرن. ويحمل هذا الدم مادة جديدة، ليس لها وزن لكنها في غاية الأهمية هي «العناصر الجوهرية الحيوية». مع ذلك لم تزل هناك إشكالية أخرى في هذه النظرية؛ وهي أن بعض الدم الذي يحمل الروح كان يُضَخ إلى الدماغ. وهناك يُنقَّى الدم ويتحول إلى «العناصر الجوهرية الحيوانية»، التي تمكِّن من التفكير وتتوزع على الجسم عبر الأعصاب. ولم تكن قيمة الدم النفيسة إلا لتزيد قلق معاصري دوني تجاه أي إجراءات طبية تشمل الدم بأي حال. فبالتعامل مع الدم كان دوني يتعامل مع الحياة ذاتها.
نحو اتخاذ القرار
لم يكن نقل الدم في رأي دوني إلا مسلكًا مختلفًا لاستعادة التوازن الصحيح بين الأمزجة أو الأخلاط. كما كان يتيح على حد علمه ميزة استعادة التوازن مع الحفاظ على كمية طبيعية من الدم. وكانت خطته تقوم على التخلص من بعض الدم غير المتوازن من الشخص المريض؛ وإحلال دمٍ متوازنٍ من حيوان سليم محله. وكان هذا يعني أن المريض لن يُحرَم من العناصر المغذية في الدم، وسيتبقى له قدرٌ كافٍ من الدم يمكن للقلب أن يدمغه بالخلاصات الحيوية والحيوانية للشخص.
لقد كان من الواضح أن موروا لم يكن في حالة مزاجية جيدة. بدأت المجموعات الصغيرة من الأطباء في المكتبة في الحث على فحص المريض، لكنهم كانوا يشعرون بالإحباط بوجه عام بسبب نقص المعلومات. فلم يكن هناك أي مؤشر على أن الرجل كان باردًا فسيولوجيًّا، وهو ما كان يدل على زيادة نسبة البلغم، إلا أنهم لم يتوقعوا حدوث ذلك، عند شخص مجنون. من ناحية أخرى، كان الحصول على عينة براز سيفيد. كان حدوث الإسهال علامة قوية على زيادة الصفراء، وزيادة الصفراء — كما كان جميعهم يعلمون — ترفع درجة حرارة الدماغ، مسببةً جميع صور اختلال العقل. من الناحية الأخرى، كان وجود كتل سوداء في البراز الصلب يُحتَمَل أن يدل على زيادة العصارة السوداء. وكان المنتسبون لكلية الأطباء على يقين مما سيفعلون؛ كانوا سيفصدون دماءه. من المؤكد أنه خضع للفصد من قبل، إلا أن الإجراء لم يكن بالشدة الكافية، أو أن الدم لم يؤخذ من المكان الصحيح. على كل حال، هل كان هناك أي مؤشر على أن دماء الرجل قد فُصِدَت حتى فقد الوعي؟ من المحتمل جدًّا أن العديد من الأطباء كانوا في ذلك الوقت، يداعبون بأصابعهم أقفال الصناديق الجميلة التي تحتوي مجموعات من أدوات الفصد الحادة.
كانت هذه هي النظرة السائدة آنذاك في المجتمع الطبي في باريس، وكانت تهيمن على معظم النقاش مع دخول الساعات الأولى من الصباح. كان دوني على وعي كامل بأن فكرته عن نقل الدم لمريض، وأخذ الدم من حيوان وضخه في آخر، تمثل هزة للنظام الراسخ حينها. لكنه قال إنه برغم كونها طريقة غير معهودة، كان من الممكن اعتبارها وسيلة لاستعادة توازن الشخص؛ إذ تؤدي ذلك على نحو أكثر فعالية من الفصد وحده. كما أنها إن نجحت فستصير تلك الطريقة علاجًا عامًّا؛ فإن تعلمتها فربما يمكنك علاج أي مرض تقريبًا. وفي ظل تلك المكافأة المنتظرة، من يسعه أن يقف أمام من يحاول نقل الدم؟!
وبينما كان دوني وإميري ينظران إلى مريضهما المحتمل، كانا يقيِّمان فرضية أن يكون مسار دمه بحاجة إلى تعديل. ولربما كانا يتساءلان في نفسيهما عما إذا كان جنون موروا وعنفه سيهدآن بحقنه بجوهر ألطف كلية. وكانا يتساءلان عما إذا كانت تلك هي فرصتهما لإبهار المتشككين وكتابة وتخليد اسميهما.
ما من سبيل إلى معرفة ما إذا كان قرار دوني سيختلف لو علم بتسلسل الأحداث التي كانت ستؤدي إلى وفاة مريضه. لكن من المرجح أنه كان يراوده الشك في أن تلك الخطوة ستثير ذعرًا نابعًا من الغيرة في أرجاء إنجلترا. لم يتردد أي رائد في مجاله أمام التحدي، وكان بمقدور دوني في ذلك الحين أن يرى اسمه متصدرًا عناوين الصحف الرئيسية؛ المجد قبل سن الثلاثين؛ لقد كان ذلك صعودًا صاروخيًّا نحو الشهرة لا يليق إلا بعبقري.