خطأ أم مكر أم قتل؟
ضربت العصا على الأرض مرة أخرى، فانقطعت الأحاديث هذه المرة. دلف رئيس المحكمة — ملازم القضايا الجنائية السيد دورميسو — إلى القاعة، فنادى الحاجب: «سوف تنعقد اليوم السبت الموافق السابع عشر من أبريل من عام ألف وستمائة وثمانية وستين ميلاديًّا محكمة لو جراند شاتليه في باريس»، وقد سره أن الناس قد أعاروه بعض اهتمامهم أخيرًا. استغرق دورميسو بعض الوقت وهو يتخذ جلسته وانتظر الحاضرون؛ إذ لم يكن هناك أي طائل من امتلاك السلطة إن لم تتعد على وقت الآخرين وحرياتهم. وعندما تهيأ أخيرًا أشار بإيماءة عامة في اتجاه الوجهاء من داعمي دوني المجتمعين في الشرفة حانيًا رأسه لهم، قبل أن يلتفت إلى المحامي الموقَّر وأومأ برفق. وأخيرًا أشار إلى حاجب ليتلو التهمة.
«التهمة الموجهة للسيد دوني: أنه في الأيام الأخيرة من يناير من هذا العام قتل هو وشريكه مريضًا — وهو السيد أنطوان موروا — في مخالفة للقانون. والتهمة هي أنه، رغم اعتراضات السادة المتعلمين في كلية الطب، أجرى سلسلة من التجارب غير الطبيعية بنقل الدم من العجول إلى عروق المجني عليه. ولم يفعل ذلك مرة واحدة، بل ثلاث مرات. والاستنتاج واضح. لقد قتل دوني موروا.»
قال السيد لاموانيو — محامي دوني — وقد وقف وانحنى للقاضي أولًا ثم لمن في الشرفة: «سيادة القاضي، اسمحوا لي أن أتقدم بالدفاع عن المتهم.» ربما لم تكن هناك هيئة محلفين، لكن طالما كانت استثارة رد الفعل الصحيح من الجمهور تساعد على الفوز بالقضية، وكانت الكياسة ناجحة إلى حد بعيد.
«إنكم — كما أتيقن — على دراية بالفصول الافتتاحية للموقف الحالي، بالعلاج الفريد الذي أُعطي للرجل الذي لفت جنونه أنظار كل سكان مدينة باريس الكبيرة. لقد أدى التخلص من بعض دم الرجل الملوث، وإنعاش جسمه بدم بارد بريء من عجل طيِّع إلى تحوله، لدرجة أن سلطات الكنيسة أعلنته سليم العقل في غضون أيام وسمحت لموروا بالمشاركة في الشعائر المقدسة. وإن رغبت المحكمة، فأنا على أتم استعداد لاستدعاء القسيسين اللذين زاراه قبل أيام من عيد الميلاد ليشهدا على سلامة عقله.»
لم يبدُ على القاضي الاهتمام.
استطرد المحامي: «إنني على قناعة بأنكم تتهمون الشخص الخطأ بجريمة القتل هذه. وأود أن أعرض القضية، وأورد القرائن التي تدين فردًا آخر من العامَّة ينبغي أن يكون حاضرًا بين هذه الجدران بحسب ما تحتم الضرورة، لكنه يبدو غائبًا.» ضاقت عينا لاموانيو، وجالت بين الشرفات، وكأنها تبحث عن جاسوس: «إنني أرى أن السيدة موروا ينبغي أن تحضر وتُسأل عن أفعالها، فهي كما يبدو مسئولة عن كثير. على الأقل ينبغي أن تتحمل مسئولية تقصيرها في اتِّباع النصيحة السليمة.»
رد القاضي قائلًا: «قد يكون هذا صحيحًا، لكن الاتهام موجه حاليًّا للسيد دوني، وهناك أسئلة عليه أن يجيب عنها. إنك تشكو من تجاهل السيدة السافر للنصح، لكن أليس صحيحًا أن دوني هو الآخر لم يلتفت، أو تجاهل نداءات الحذر من أهل الطب؟»
«إن كنتم تميلون إلى الشك في حذره وممانعته فاعلموا ما يلي. لم يكن دوني هو من سعى وراء موروا، لكن زوجته هي من أزعجته وتوسلت إليه. وإن كنتم تقصدون أنه تجاهل من هم أرفع مقامًا فهذا أيضًا غير صحيح؟ فلقد جاءت دعوات وقف هذه الطريقة من كلية الطب الباريسية، لكن دوني درس في مونبيلييه. فلِم عليه أن يتقيد بعقول باريس الجامدة؟»
قال القاضي في إصرار: «لكن يا سيد دوني، أليس من المنصف أن نقول إنك كنت ستسعى في تلهف لإجراء التجربة إن سنحت الفرصة؟»
«إنني أؤمن بنفعها؛ لذا أبحث بالطبع عن الأوقات المناسبة لاستخدام هذه الطريقة؛ إلا أن هذه المرة لم تكن واحدة من الأوقات المناسبة.»
«لكنك تابعت عملك ونقلت الدم!»
رد دوني: «لا يا سيادة القاضي. لقد امتلأت الليلة بالفوضى، لكننا لم نصل قط في أي لحظة من العملية إلى فتح شريان العجل وتوصيله بالإبرة التي في ذراع السيد موروا. لقد دخل الرجل في نوبات صرع عنيفة بمجرد أن حاولنا بدء العملية، فاضطررنا إلى التوقف. فما من سبيل لكي نتمكن من نقل الدم في هذه الحالة. كان من الممكن أن ننقذ حياته لو فعلنا، لكن في ضوء حالته الصحية المزرية لم نكن في وضع يسمح لنا بالاستمرار. فقد كانت حياته بين يدي الرب وكان من الواضح أنه تجاوز ما يمكن لأي فن من فنون الطب أن يقدمه.»
استطرد القاضي: «هل أنت متأكد من هذا؟»
«تمامًا.»
«هل لديك شهود؟»
«ليس في هذه الواقعة. فكل الحاضرين كانوا أنا وإميري والسيد موروا وحرمه.»
«ونعم الشهود!» قالها القاضي ودوَّن شيئًا على عجل: «ولم يجرِ أي فحص للجثة كذلك؟»
تدخل محامي الدفاع: «لم يكن هذا ذنب موكلي، سيادة القاضي. فالخطوة التالية كانت واضحة أمام السيد دوني؛ إذ كان بحاجة ليجري تشريحًا للجثة، وبسرعة. وكان حريصًا على هذا لسببين؛ أولهما: أن تلك كانت مسألة تتعلق بالعلم؛ فقد أُجريَت عمليتا نقل دم، وكان موكلي حريصًا على البحث عن آثار دخول دم العجل. والثاني: أنه أراد أن يبحث عن أي أعراض تسمم، نعم تسمم. فقد كانت هناك شائعات تقول إن زوجة موروا إذ يئست جراء العنف الزائد هددت في عدة مواقف بقتله حالما تسنح الفرصة. وكانت تلك الكلمات وقتها تؤخذ على محمل الدعابة السوداء، لكن الطبيب الجيد ينظر في كل احتمال قبل أن يكوِّن تشخيصًا.»
تدخل دوني: «لذا ولكي يمكن الوثوق في كلمتنا جمعنا سبعًا أو ثمانية أطباء ليكونوا شهودًا واتجهنا لمنزل موروا. وعلى النقيض تمامًا من الزيارة السابقة، لم أتلقَّ أي ترحيب، بل أصرت الأرملة على ألا ندخل بيتها. وكانت مصممة على ألا نفحص جثة زوجها. ألا ترى هذا غريبًا؟ فقبلها بيوم جُررت إليه جرًّا؛ والآن أنا ممنوع. وطبقًا للجيران، فقد قضت بقية اليوم بمجرد أن غادرنا في سعي محموم لتنهي ترتيبات دفنه، لكنها لم تتمكن من إتمام المهمة في ذلك اليوم. ستدرك السرعة التي انتشر بها خبر الواقعة في مقاهي باريس وملتقياتها؛ لذا ليس من الغريب سماع أحد أشهر أعضاء كلية الطب بباريس بخبر وفاة موروا ذلك المساء. لم يكن مؤيدًا لعملي ورأى في ذلك فرصة لإقامة الحجة عليَّ. فأرسل جرَّاحين لفحص الجثة، لكن أرملة موروا رفضت أيضًا السماح لهم، بل كذبت في تلك المرة قائلة إن الدفن قد حدث بالفعل.
بعد ذلك، قررت أنا والطبيب — في اتفاق نادرًا ما يحدث بين أفكارنا — أن الشيء الوحيد الذي يمكن عمله هو أن نذهب معًا إلى منزلها ونأخذ الجثة بالقوة. واتفقنا على أن نقوم بهذه المغامرة في الصباح، لكن بحلول هذا الوقت اكتشفنا أنها أتمت الدفن بالفعل قبلها بساعات في جنح الظلام وقبل الفجر بقليل.»
كان من الممكن — حسبما تابع قصته — أن تكون هذه نهاية التجربة بكل بساطة وآخر ما يُسمع عن هذين الزوجين البائسين. وبالفعل، قرر الطبيب أن يستسلم وألا يقول أي شيء آخر. لكن سرعان ما أصبح هذا خيارًا غير متاح؛ لأن «أعداء التجربة» فرحوا بهذا التسلسل المؤسف للأحداث وسعوا لاستغلال الموقف. وكانت أولى خطواتهم هي نشر كُتيب يشجب فكرة هذا العلاج بالكامل. قال دوني: «وعندما التزمت الصمت، أشاعوا أن صمتي كان بسبب اتفاقي معهم وأنني لم أعد أريد مزاولة هذه المهنة.»
سأل دورميسو — رافعًا بيده في الهواء حزمة من الخطابات والدوريات — قائلًا: «هل تشير كما أفترض إلى تلك؟ لنلقِ نظرة سريعة عليها لو سمحتم. في البداية، هناك هذا الخطاب من الفيلسوف المعروف يوتسيل إلى زميله الإنجليزي السيد أولدنبرج بتاريخ الثالث من فبراير. من الواضح أنه يرى أن أعمالك طائشة غير مدعومة لا ببراهين فلسفية ولا بأدلة من العلم الحديث. فلنقرأ بعض كلماته: «وهذا سيبيِّن خطأ نقل الدم، ولن يجرؤ أحد على تنفيذه على إنسان.» أظن أنه من الممكن أن نقول إنه كان متشككًا على ما أظن. بعد ذلك، يوجد هذان الخطابان اللذان كتبهما جورج لامي. وفيهما يعبر عن احتقاره لعملك ويبدو أنه يتصور أن الشقاء حال أي مريض خضع للعملية. ويمكننا أن نضيف لذلك عديدًا من المقالات الواردة من مارتين دي لا مارتينيير الذي يؤمن بأن عملك فضيحة غير أخلاقية.»
قال المحامي محاولًا أن يستعيد السيطرة مجددًا: «يسرنا أن نوضح ذلك. من الواضح أن هناك اختلافًا في الرأي. إن الرأي الرسمي يشكك في نقل الدم، ويرى أن هؤلاء الرواد يتورطون في المضايقات أو المواقف لاعبين دور الأشرار منعدمي الأخلاق. لكنهم يثيرون اللغط دون أن يشتغلوا بالتجارب والملاحظة. فإن استمعت إليهم لن تتجاوز الفهم الذي ترسخ في بلاد الإغريق القديمة. لكن بالإضافة إلى ذلك، أود أن أقدم أدلة على أن من بين هؤلاء السادة المتعلمين من هم على استعداد لتغيير مسار العدالة لتحقيق أهدافهم. أسأل عدالتكم أن تستمعوا لرواية السيد دوني للفصل التالي في هذه القصة.»
تولى دوني زمام الحديث مرة أخرى: «تصوروا اندهاشي عندما اكتشفت أن السيدة موروا بعد شهرين من هذه الوفاة السابقة لأوانها تتعرض لمضايقات من ثلاثة من هؤلاء الأطباء. فهل كانوا يحاولون مساعدتها في مصيبتها؟ لا أظن. تبين أنهم كانوا يعرضون عليها المال، مقابل شهادتها في المحكمة بأني بإجراء عملية نقل الدم قتلت زوجها.
إن هذه الواقعة لا تلقي بظلال الشك على نزاهة خصومي، بل تكشف شيئًا جديدًا عن شخصية السيدة موروا. فأي ملتزم بالقانون سيرى الظلم والشر وراء الرشوة ويرفض العرض فورًا. لكنها ليست من هذا النوع، بل إنها حتى لم تأخذ المال وتذهب كيهوذا للمحكمة لتسلم رجلًا بريئًا؛ لكنها أتت إليَّ في السر. في البداية بدا عليها أنها أتت بدافع الكرم وبنيَّة حماية اسمي وسمعتي فقط. وأسهبت في الحديث عن الخدمة الجليلة والإحسان اللذين أبديتهما تجاه زوجها الراحل، معترفة بأنني قد أعطيته أفضل علاج يتيحه العلم الحديث لأي إنسان، ومن ثم عرضت أن تشهد لصالحي عند الحاجة. إلا أن نبرتها في هذه المرحلة تبدلت، وأصبح من الواضح أن العرض لم يكن مجانيًّا. وبعكس أعمالي الكريمة التي قدمتها لها ولأسرتها دون تكلفة، طلبت السيدة موروا مبلغًا لقاء خدماتها في المحكمة. والسعر الذي طلبته؟ كان كل المطلوب أن أعرض مبلغًا أكبر من الذي عرضه خصومي. وكان هدفها الوحيد — كما زعمت — هو أن توفر مبلغًا كافيًا لتعود إلى مسقط رأسها وتبدأ حياة جديدة.
لا أعلم ما إذا كنت تصرفت بدافع من المهانة أم الغضب. فقد طردتها ببساطة قائلًا إن هؤلاء الأطباء وكذلك هي نفسها في حاجة لنقل الدم أكثر مما احتاجه زوجها من قبل، وإنني من جانبي لا أعبأ بتهديداتهم. فأنا على يقين من أن كل الأدلة المقامة ضدي مبنية على معلومات مغلوطة ضخمتها الغيرة والرغبة في تحويل مسار العدالة.»
ثلاثة شهود
قال لاموانيو: «لدينا شهود، سيادة القاضي.» وأشار لدوني بالجلوس.
تقدم في هذه اللحظة شاهدان، كان أحدهما يدعم قصة دوني وقال إن السيدة موروا حاولت فعلًا ابتزاز الطبيب الشريف. وزعم الثاني أن طبيبًا عرض عليه ١٢ عملة ذهبية إذا جاء إلى المحكمة ليقول إن موروا تُوُفِّيَ أثناء عملية نقل الدم الثالثة ذاتها؛ وهو اتهام قد يجعل من دوني قاتلًا ويتركه في صراع للحفاظ على حياته.
سأل لاموانيو وهو ينحني قليلًا: «يوجد شاهد آخر أود أن أستدعيه، فهل تسمح عدالة المحكمة؟» وأومأ دورميسو بالإيجاب. فاستطرد لامونيو قائلًا: «أود أن أستدعي جارة السيدة موروا.»
كانت الشاهدة جالسة تنتظر، ثم هبت واقفة كما لو كانت صاعقة كهربية قد سرت في جسمها. كانت تعبث طوال الوقت بخاتم في إحدى أصابعها وبدت غير مرتاحة وسط أجواء المحكمة الرسمية. سرت همهمة في القاعة مع تبادل الناس الأفكار وثرثرتهم محاولين التنبؤ بالمعلومات التي كانت على وشك الإفصاح عنها.
سأل المحامي بعد أن هدأت القاعة من جديد: «لقد رأيت بعض المواقف المقلقة، أليس كذلك؟ وقد بدأت عندما سمعت شيئًا، صحيح؟ أخبرينا.»
«لقد كان ذلك قبل أسبوع — أو ربما أسبوعين — من وفاة موروا» ثم سكتت قليلًا وتلفتت حولها في توتر.
قال دورميسو: «تابعي.»
«حسنًا، سيدي، لقد سمعت شجارًا.» تلعثمت السيدة من جديد ونظر دوني إلى الأرض. كانت الدلائل تشير إلى أن شاهدته الرئيسية على وشك الفشل.
استحثها لاموانيو: «شجار؟ بين من؟»
«بين موروا وزوجته بالطبع.» بدا عليها الذهول من السؤال، وعندها نزل عليها الإلهام فجأة وانطلقت تسرد باقي القصة: «أقصد أنه لم يكن ذلك شيئًا غير معتاد. فمنزلانا متجاوران، والجدران رقيقة جدًّا ونسمع كل شيء، بل يمكننا أن نرى عبر الجدران في بعض المواضع بسبب الشروخ. وقد تعمَّق أحد الشروخ كثيرًا بعد أن ضرباه في إحدى مشاجراتهما. وطلبت منهما كثيرًا أن يصلحاه. فإن حدثت مشكلة — كما ترى — كنا نعلم كل شيء عنها. وقبل أسبوعين — كما قلت — كان صوت الشجار أعلى من المعتاد؛ فالخلافات والمشاجرات كانت جزءًا اعتياديًّا من حياتهما. ولطالما كان هذا حالهما. لكن في هذه المناسبة كان السيد موروا يشكو من الطعام. وكان يقول إن الطبيب أمره ألا يأكل شيئًا يرفع حرارة دمه، لكن كل ما تقدمه له كان مشروبات وحساءات ثقيلة. وقد صاح بها ذات مساء قائلًا: «قد يظن أي أحد أنك تحاولين أن تسمميني؛ يمكنك أن تضيفي الزرنيخ إلى هذا الحساء ولا أعلم بذلك أبدًا.» ربما تظن أنه من الغريب أن يقول شيئًا كهذا، لكن زوجته كانت تخلط أكياس مساحيق غريبة بحسائه. وقالت إنها وصفات من الصيدلية، ولإثبات صدقها تناولت أمامه ملعقة من الحساء.»
سأل دورميسو: «وكيف عرفت بذلك؟ هل كان بإمكانك أن تسمعي صوت ارتشافها للحساء أم كنتِ واقفة تنظرين عبر شرخ الحائط الذي وصفتِه على نحو رائع؟» سرت موجة من الضحك في أرجاء القاعة إثر سؤال دورميسو.
ردت قائلةً: «لا يا سيدي» وقد ذاب توترها «ففي تلك المرحلة كنت قد خرجت لأشاهد الموقف عبر النافذة.»
– «إذن فهي تناولت ملعقة من الحساء؛ فما أهمية ذلك؟»
– «لا يا سيدي، لم تفعل. هذه هي المسألة. لقد تظاهرت بشربها، وبعد لحظة رأيتها تسكبها من الملعقة على الأرض.»
تساءل القاضي: «إذن لم يتناول أحد رشفة الحساء تلك؟»
قالت المرأة: «لم يتناولها إنسان، نعم. لكنها لم تبقَ على الأرض كثيرًا، حيث رأيت قطة تلعقها.»
«رائع»، قالها القاضي المتثائب وهو يمدد ذراعيه وعاد بظهره إلى الوراء ليبدي أكثر وأكثر عدم اهتمامه بهذه الشاهدة المنتمية لطبقة متدنية. أثار رد فعله همهمة بين الحضور، وتجاوب شخص أو اثنان بالتثاؤب اللاإرادي. بدأ البعض يتحدثون وبدأ دوني يشعر بالرعب من أن يضيع الجزء الأهم من الشهادة.
«لكن القطة نفقت.»
«كل القطط تنفُق؛ من طبيعة القطط أن تنفُق.»
«ليس بعد تناول حساء مسكوب. فهي لا تنفُق في منزلي بعد تناول حسائي، أؤكد لك ذلك.» خيَّم الصمت على القاعة على غير العادة: «تلك القطة كانت صغيرة وسليمة وقت الظهيرة، ثم نفقت في منتصف الليل، وجدت متكورة على نفسها في وضع ملتوٍ في بركة من القيء والإسهال المشوبة بالدم. لم يكن ذلك نفوقًا طبيعيًّا.»
سقط دبوس، فسمع جميع الحضور صوت رنينه على الأرض.
«شكرًا»، جاءت الكلمة من لاموانيو بعد وقفة مناسبة الطول، وصرف الشاهدة بانحناءة عميقة وجليلة أخجلت تواضعها. وتابع بهدوء وانضباط وقد التفت ببطء إلى دورميسو: «كما ترون، عدالتكم، لدينا مشتبه به آخر في هذه الجريمة. شخص عرف الضحية جيدًا ولديه الدافع والفرصة لارتكاب هذا الفعل. شخص عانى من عنف الضحية في الماضي وهدد بالانتقام مؤخرًا. شخص ظاهره زوجة راعية تبحث عن علاج لزوجها، لكن لديها الدوافع الخفية لزانية تسعى للتحرر من الزواج الذي عقدته قبل بضع سنوات فقط. أشير بالطبع إلى السيدة موروا. إن سلوكها منذ وفاة زوجها يزيد الشبهات حولها.»
بعد أن انسحب دورميسو لينظر في الأدلة ونتائج أي حكم قد يحكم به، عاد مرة أخرى ورفع الجلسة بإصدار حكم مكتوب. كان بالحكم مساوئه؛ لكنه على الأقل سمح لدوني بأن يخرج حرًّا.
معركة ناجحة، وحرب خاسرة
غادر دوني ورفاقه المحكمة، وعبروا نهر السين من فوق جسر بونت نوف متجهين إلى منزله في طريق جراند أوجستين لمناقشة الحكم. لم يكن من الغريب أن يسرعوا في مشيهم، ليبعدوا أنفسهم عن المحكمة. لكن حتى اللحظة كانت الشمس ساطعةً والجو معتدلًا؛ وكان يومًا رائعًا يقضونه على قيد الحياة، فكان سيرهم متهاديًا. وانقشعت غيوم الشتاء، مفسحةً المجال ليوم ربيعي مثالي وكانت الشوارع مليئة بجموع البشر.
في أي يوم عادي، كانت بو نيف دائمًا مزدحمة طوال الوقت، إذ كان بعض الناس يتدافعون في طريقهم بينما يقف البعض الآخر محدقًا في قصر اللوفر البديع، وشرفات المباني المبهرة، ومئات القوارب التي تشق طريقها في حذر متداخلة في النهر المزدحم. كان هذا هو الجسر الوحيد على النهر الذي لم تكن تحده المنازل، وهو ما أتاح مشهدًا خلابًا لمجرى النهر المتدفق الذي أعطى باريس روحها. كان الجسر في ذلك اليوم ممتلئًا على غير العادة.
كان ذلك أحد الأيام الأخيرة لمعرض سان جيرمان، وهو احتفال يمتد لشهر، بدأه الرهبان قبل قرن إيذانًا بفترة الصوم الكبير التي تسبق عيد الفصح لكن تحول في السنوات الأخيرة إلى احتفال بما هو غيبي. كان الجسر والطرق الواقعة أمام هذه المجموعة مباشرةً مليئة بالجنود والمتسولين، وبالحراس والعاهرات. كان المهرجان بوتقة للحياة الباريسية، وحدثًا مطوَّلًا يجمع بين أروع البغايا وأجمل الفتيات وأبرع النشالين. كان النبلاء يتجولون مع وُصفائهم، وكان اللصوص يجالسون الشرفاء ويشربون معهم. تزاحم الموظفون وأصحاب المحال والخدم والطلاب والحمَّالون. كان المهرجان لدى الأرستقراطيين النبلاء فرصة لكسر الرتابة الشديدة للحياة الرسمية وفرصة للسخرية من فظاظة القرويين ودونيتهم. بالمثل، وجد البسطاء أنفسهم فجأة على قدم المساواة مع أسيادهم؛ إذ مد الكل أعناقهم ليشاهدوا الحدث. وكان المعروض كثيرًا.
ومع الإبداء المتعمد للانزعاج، مر دوني ورفاقه بخيمة فيها رجل يتحدث عن عجائب العلم، لكنه كان في الحقيقة مخادعًا تحايل بخفة اليد والدخان والمرايا على جمهور ساذج ليظن أنه يؤدي مهارات عجيبة. ربما كانت النتيجة امتلاء جيوبه بالنقود، لكنها، بالنسبة إلى دوني، أدت للتقليل من قيمة العلم الحقيقيِّ، وكانت تزيد مهمة إقناع العامة والقضاء المتشككين في قيمة عمله صعوبة. لقد أكد العرض في نطاق الجدل العام فكرة أن العلم والسحر شيء واحد. وبما أن أكثر من ثمانية بالمائة من أهل باريس أميون، كان دوني يعرف بكل أسى أنه ليس من السهل رفع الأمة إلى عصر تنوير.
كان السائرون على الحبال والبهلوانات والمهرجون وآكلو النار أكثر إمتاعًا، حيث تبارى كلٌّ منهم مع غيره ليؤدي عروضًا أكثر إذهالًا. وكلما ازدادت صعوبة العرض كثُر الجمهور. جثم أحد الاستعراضيين في وضعية ملتوية على الأرض، ثم قفز في حركة واحدة مفاجئة على سارية طولها ثمانية أقدام. وتحدى سائرٌ على الحبل الجاذبية، عازفًا الكمان وهو في حالة غيبوبة حقيقية. وكانت هناك طفلة من المفترض أنها في الثانية من عمرها تدور حول نفسها بينما صُوبت سيوف حادة من حولها إلى عينيها وحلقها وبطنها؛ انزلاقة واحدة قد تُحدث ضررًا كبيرًا.
لكن لم يكن هذا الاستعراض للقدرات البشرية الممتازة والمصقولة هو ما لفت انتباه دوني. ففي كل مرة يتجول فيها عبر المهرجان كان ينجذب إلى مظاهر التشوه؛ فأصحاب الأصابع الزائدة في أيديهم لم يثيروا اهتمامه إلى حدٍّ كبيرٍ، لكن أصحاب الرءوس شديدة التشوه أو الأجسام ذات العيوب الكبيرة كان لهم سحرهم الخاص؛ إذ كان هناك الأقزام الذين لم يتعدَّ طولهم قدمين بجانب العمالقة الذين بلغت أطوالهم ثماني أقدام، وصبي بلا ذراعين أو ساقين، لكنه كان قادرًا على حمل عصا في فمه والقرع على طبلة. جلس كثيرون منهم مغتمين. بينما بدا على آخرين الاستعداد لفعل شيء، مما أجبر القائمين عليهم على تقييدهم في الأغلال أو حبسهم في أقفاص كبيرة تعزز الإحساس بالخوف منهم، وتثير أسئلةً عن الحد الفاصل بين الإنسان وغيره من الدواب التي تسير على ظهر الأرض.
وخلال نظر دوني إلى المشوه الذي كان يُعرض وهو يرتدي الحد الأدنى من الملابس لإبراز الشعر الذي يغطيه، جال سؤال في خاطره. ما الكمية اللازم نقلها من دم الخراف إلى إنسان ليتحول إلى نصف خروف؟ وعندها ظهر سؤالٌ آخر موازٍ: كم من الدم يلزم نقله من إنسان إلى خروف ليصبح بحالة لا تقل عن حالة هذا الرجل المسكين؟
بدا السؤال أكثر تعقيدًا عندما نظر إلى القفص المجاور الذي يحوي قردًا كبيرًا يجلس وكأنه يسأله باهتمام كبير وذكاءٍ ظاهري على الأقل. وفي المربع الذي أضاءته أشعة الشمس من ورائه، أدى قرد شمبانزي رقصة المينيويت، وأدى تدريبات عسكرية، رغم أن الدب الذي حُلق شعره وارتدى ملابس تاجر باريسي كان محاولة أكثر بؤسًا لطمس أي فرق بين بني آدم وباقي مخلوقات الرب البديعة.
باريس تتولى المسئولية: حان وقت التغيير
استغرقت مسيرة الدقائق العشر ساعةً كاملةً، وخلالها «انخرط» كثيرون من رفاق دوني جدًّا بالتسلية لدرجة أنهم لم يصلوا إلى منزل دوني. أما الذين وصلوا فقد دخلوا سريعًا في جدال حول تبعات الحكم الصادر في الصباح.
توجد أسباب كافية لاستجواب هذه السيدة للإجابة على عدد من الأسئلة: من أين جاءت بتلك المساحيق؟ ولمَ أعطتها لزوجها؟ وبتعليمات ممن؟ ولمَ كذبت في سبيل إعاقة تشريح الجثة؟ ولتنفيذ ذلك، أمر دورميسو بأن تُحتجز خلال فترة التحقيق في هذه المسائل.
وأنه فيما يتعلق بالأطباء الثلاثة الذين عرضوا عليها المال نظير ملاحقة الأطباء الذين أجروا العملية قضائيًّا، والذين شوهدوا معها، طلب تحديد موعد ليمثلوا بشخوصهم أمامه.
وأخيرًا، أنه في ضوء نجاح عملية نقل الدم مع الحالتين الأوليين، وأنه لم تُجرَ الثالثة إلا بإلحاح من السيدة (التي تجاهلت في غير هذا الموقف تعليمات من أجروا العملية الذين اشتُبه في تسببهم في وفاة زوجها) طلب إلغاء قرار مثول دوني أمام المحكمة — وأنه بريء من التُّهم الموجهة إليه ويُخلى سبيله.
وعليه تقرر مثول أرملة موروا بشخصها في يوم محدد، وخضوعها للاستجواب بخصوص الأقوال المزعومة؛ وأن تقدم مزيد معلومات عن مضمون شكوى السيد دوني؛ وألا تُجرى في المستقبل أي عملية لنقل الدم في جسم إنسان من دون موافقة أطباء الكلية الباريسية.
رغم المودة والزمالة أُجبر دوني على الخضوع؛ فقد كسب المعركة لكنه خسر الحرب على الأرجح؛ إذ كانت المشكلة الكبرى تكمن في جملة القاضي الختامية: «وألا تُجرى في المستقبل أي عملية لنقل الدم في جسم إنسان من دون موافقة أطباء الكلية الباريسية.» فقد كان منح كلية الطب الباريسية حق النقض بمثابة حظر لنقل الدم. فقد أبدت الكلية معارضتها له بصراحة وسيسرهم أن يتعزز وضعهم وقدرتهم على التحكم في الأنشطة الطبية هكذا.
ومع أن دوني كان طبيبًا، فإنه لم يكن عضوًا في الكلية الباريسية. فأصوله الطبية وانتماؤه المستمر كانا لكلية الطب في مونبيلييه، وكثير ممن حضروا في القاعة كانوا من تلك المجموعة أو من الكلية المنافسة في رانس. وكلاهما كان غاضبًا؛ فالحكم بالصورة التي كان عليها ينطبق على فرنسا كلها. فإن لم يطعن فيه أحد، فذلك يعني أن الأطباء الباريسيين تولوا فجأة دور الحكم على كل أعمالهم. وتساءلوا: «لماذا ينبغي علينا أن نخضع لأي طبيب باريسي؟»
… وفي هذه الأثناء، إذا اجتمعت كلية الأطباء الباريسيين ليناقشوا الأمر، لا أعتقد أنهم سيتصرفون بتسرع. في الواقع، سيكون علينا أن ننتظر البرلمان ليفصل في الأمر، ولا أظن أنهم يرغبون في حظر هذا العلاج، إلا إذا ظهرت فجأة دلائل جديدة من التجارب المستقبلية تشير إلى أن هذا الإجراء خطير.
وفيما يخص الكلية الباريسية، علينا أن نتذكر واقعة الأنتيمون. فقد أدرجوه ضمن السموم في الوقت الذي نصح زملاء آخرون باستخدامه كعلاج. وبعد أن نجح في علاج الملك، بدل الباريسيون رأيهم وبدءوا هم أنفسهم يطالبون باستخدامه على نطاق أكبر.
هذا المثال وحده سيجعلهم يتصرفون بحذر أكبر. بخلاف أننا نعيش في عصر يشجع الاكتشافات الجديدة. فبرغم الانشغال بإدارة المملكة، فإن الملك نفسه مهتم بتشجيع المتعلمين والباحثين. ففي الوقت الذي يرسل فيه الملك الأموال والعطايا حول العالم لتحصيل العلم، لا أعتقد أن قاضيًا سيُدين رجلًا لا جريرة له سوى تركيز كل اهتمامه وعمله على تقدم المعرفة وتطورها.
سأطلعك بكل تأكيد على أي تطورات تطرأ في هذا الشأن.
في الوقت الحالي أطلب منك أن تصدقني.
وتفضلوا بقبول وافر الاحترام.
حصافة أم تحامل؟
لم تسِر الأمور كما تمنى دوني. فقد رأى أن شهرته وثراءه المستقبليين مرتبطان بنقل الدم، لكن ذلك لم يحدث. لكن لم يكن هناك إقبال عام على اختبار العلاج، وسرت شائعات بأن بعض المحاولات التي أجريت في الأشهر القليلة التالية انتهت بالمريض في تابوت على عمق ست أقدام تحت الأرض. ومع ازدياد شكوك السلطات الفرنسية، وقع البابا مرسومًا في عام ١٦٧٥، يُجرِّم الإجراء، وفي عام ١٦٧٨، تدخل البرلمان الإنجليزي ليمنع إجراء نقل الدم في إنجلترا. ومر ١٥٠ عامًا قبل أن ينشط نقل الدم ثانية ليصبح تلك الصناعة التي تقدَّر بمئات الملايين من الجنيهات في بلدان عديدة في يومنا هذا.
تلفت قرارات الحظر تلك الاهتمام باعتبارها من ضمن أولى الأمثلة على تعليق النشاط الذي يُفرض على جانب من جوانب الجهد العلمي. ففي هذه الحالة، وجد المشرعون أنفسهم غير مستعدين للفصل في المسألة وردوها إلى الوسط الطبي ليفصل هو فيها. وكانت النتيجة حظرًا فعَّالًا، إلا أن العلماء لم يحزموا حقائبهم ويهجروا العلم، بل وجهوا اهتمامهم إلى مجالات أخرى، مع شعورهم الملح بأنه بمجرد إتمام الأبحاث الأساسية الأخرى، قد يعودون هم أو خلفهم إلى هذه المنطقة.
إن أصداء دعوات حظر البحث المبني على الاستنساخ الجاري حاليًّا لافتة للانتباه هي الأخرى. فبالعودة إلى نقل الدم، من السهل الآن أن نرى كم من القرارات كان مبنيًّا على معلومات قليلة. فلم يكن لدى لوور ولا دوني ولا بويل ولا بيرو أي فكرة عن المسائل الحقيقية التي كان يتحتم تناولها قبل أن يصبح نقل الدم واقعًا. لقد كانوا بعيدين عن صياغة لغة تعبر عن فصائل الدم والتلازن، ولم يكونوا يعرفون أن الدم عبارة عن كتلة متدفقة من الخلايا الحية تسبح في سائل. وكان الحذر مفروضًا عليهم من قبل ولاة أمرهم الذين كانوا يجهلون ما وصل إليه العلم وقتها، ومن ممارسي الطب الذين كانوا يخشون فقدان مصدر رزقهم إذا نجح نقل الدم.
يفيد هذا الموقف كتذكرةٍ للعلماء بأنهم إذ يعملون على توسيع حدود المعرفة فإنهم يخطون إلى المجهول. فجهلهم بالآليات الحقيقية التي تكمن وراء ما وصلوا إليه من نتائج كان — وسيظل — كبيرًا.
انتهى حلم دوني بتحقيق الشهرة والثراء، لكن الحياة لم تتوقف. لقد بدا أنه فقد حماسه للاستمرار في الأبحاث الطبية وعاد اهتمامه إلى أكثر المجالات أمنًا؛ الرياضيات والفلسفة والفلك، وأضاف إلى سجله من خلال عقد المؤتمرات العلمية العامة. إلا أن الطب ظل جزءًا من حياته، حيث نجده في عام ١٦٧٣ يسير في شوارع لندن بعد أن تلقى دعوة من الملك تشارلز الثاني ليتحدث عن خبرته في نقل الدم ويقدم رأيه في علاجات أخرى. وبدا آنذاك رجلًا يعيش جيدًا مستفيدًا من مذكراته بدلًا من أن يكون باحثًا يخطو نحو اكتشافات جديدة. لم يُبدِ دوني أي علامة على تحدي التعميم القائل إن معظم العلماء لا تأسرهم إلا فكرة كبيرة واحدة في حياتهم. من اللافت أن نرى عدد الأشخاص الذين يمرون بمرحلة ابتكارية من حياتهم، في أثناء إعداد رسالة الدكتوراه وفي السنوات الأولى لأبحاث ما بعد الدكتوراه، لكن نجاحهم الدائم يعتمد على جمع فريق من العقول اليافعة حولهم. فإن سار الأمر على ما يرام، فإنهم يضطلعون بدور المعلم والموجه ويستمتعون بتجوالهم في سلك المؤتمرات الدولية ليقدموا أعمال أعضاء فرقهم؛ لذا لم يكن فشل دوني يتجسد في أنه لم يأتِ بفكرة أخرى مزلزلة بقدر ما تجسد في عدم بنائه لفريق.
وماذا عن زوجة موروا؟ في الحقيقة تحولت القضية إلى مواجهة بين الشهود ومقارنة بين أنصار كل طرف. ويحيط بنتائج هذه المواجهة بالتحديد جو من غياب العدالة. ففي جهة كانت هناك فلاحة فقيرة ترملت مؤخرًا وتحاول جمع ما يكفي من المال لتبدأ حياة جديدة. لم تكن في المحكمة ذلك اليوم، لكن من المرجح أنها عند الاستماع لحجتها كانت قاعة المحكمة خالية؛ فلم يكن لديها كثير من الأصدقاء وليس لديها أي دعم مالي. وفي الجهة المقابلة، كان هناك رجل له أصدقاء ذوو نفوذ وتدعمه مجموعة كافية من الشهود. في الواقع، بدت مجموعة الشهود مناسبة جدًّا بدرجة تثير الشك في أن دوني استخدم الحيلة نفسها التي تضرر منها كثيرًا على يد أطباء كلية الطب. هل من الوارد أنه عرض على شهوده بعض الحوافز؟
لا دليل على تقديم أي رشوة، لكن ما هي الاحتمالات الحقيقية لأن يرى شخص ملعقة من الحساء تنسكب على الأرض وتتناولها بعدئذٍ قطة ماتت نتيجة لذلك؟ يا لحظ دوني أن يعثر على شهود قد عُرضت عليهم رشوة وتمكنوا من أن يشهدوا بأن زوجة موروا هي الأخرى عُرضت عليها رشوة. لكن اللافت هو تعدد الروايات التي قدمها دوني عن الليلة الأخيرة لموروا؛ إذ تقول سجلات المحكمة إنه لم يصل إلى فتح شريان العجل قبل أن يدخل موروا في نوبة صرع. إلا أنه في خطاب دوني لأولدنبرج يقول إن الإبرة أُدخلت لكن لم تنقل أي دم. لكن مع إدخال الإبرة، يكون الأرجح أن بعض الدم عبر إلى جسم المريض. وكما رأينا من قبل، كان دوني ميالًا للمبالغة في طول المدة بين أول عمليتين لنقل الدم وتلك الواقعة الأخيرة، وهي مبالغة تعني أن العملية بدت أفضل مما هي عليه في الواقع.
علاوة على ذلك، أبدى دوني تجاهلًا عامًّا للتفاصيل. فالخطاب الذي كتبه إلى مونتمور الذي أثار غضب الإنجليز كان بتاريخ ٢٥ يونيو. لكن هذا خطأ حتمًا؛ إذ كان أولدنبرج قد تسلمه وترجمه عندما أُلقي القبض عليه في ٢٠ يونيو. ويعتمد ادعاء دوني السبق في عمله في نقل الدم على قوله إنه سمع الراهب البندكتي دوم روبرت دو جابتس يتحدث عنه في أحد اجتماعات أكاديمية مونتمور قبل ١٠ سنوات. على الرغم من أن عام ١٦٥٧ شهد ذروة نشاط مجموعة مونتمور، لم يكن دوني يتجاوز السابعة عشرة في ذلك الوقت، والأرجح أنه لم يحضر الاجتماع. وأذكر كذلك القواعد التي نصَّت على أن الأعضاء وحدهم هم من يمكنهم الحضور؛ إذ لا يُسمح للمراقبين بالحضور. وتوجد نقاط تضارب أخرى.
وأيًّا كان ما حدث ذلك المساء، لم تكن رواية دوني للأحداث متسقةً تمامًا، وبدا أنها قد خضعت لبعض التنقيح لتخدم أهداف تبرئة اسمه. لكن يبدو من المنطقي جدًّا أن دوني حاول فعلًا إتمام عملية نقل الدم الثالثة، وأن كمية الدم الصغيرة التي دخلت جسم موروا كانت كافية لترجح كفة الموت على الحياة. لقد كان موروا رجلًا مريضًا، وكان أي رد فعل عكسي آخر أكبر مما يتحمله. ويبدو أن زوجته لم يكن أمامها وقت كافٍ لتُحضِّر الحساء القاتل المزعوم حتى وإن أرادت. لقد مات المريض بعد محاولة دوني الثالثة مباشرة. وللأسف لم يترك الحريق الذي دمر المحكمة وكل سجلاتها أي سبيل لمعرفة ما قالت زوجة موروا في هذا الشأن.
وكذلك لا نعرف مصيرها. فبينما كانت محاكمة دوني محل اهتمام في إنجلترا ومن ثم سجل أولدنبرج وقائعها، فإنه لم يهتم بأي مما حدث بعد ذلك. لم يكن قرار السيدة موروا بدفن الجثة في أقرب وقت ممكن غير معتاد تمامًا، ورغم أنه قرار ربما قد شجعته عروض الأموال من الوسطاء المنتمين لمهنة الطب. على كل حال، يبدو أنه ليس هناك كثير في قصتها — بخلاف الشهود «الملائمين» — يدينها بجريمة القتل. لكن بالنظر إلى المعاملة القاسية للسجناء الذين لم يكن لديهم دعم رفيع المستوى أو ثروة، وكذلك قسوة العقاب في باريس في القرن السابع عشر، من المشكوك فيه أن حياتها استمرت بعد ذلك.
إذن، هل كان دوني قاتلًا؟ الإجابة أقرب يقينًا إلى النفي. يبدو من المرجح أن علاجه أضعف موروا. لكن الجريمة تتطلب دليلًا على وجود نية القتل، وهذا آخر ما كان يريده دوني. إذن هل ارتكب القتل بغير عمد؟ من الوارد جدًّا أن تلك التهمة كانت ستلصق به إن كانت تلك الجريمة موجودة وقتها.
في جميع أنحاء العالم، ينقذ نقل الدم الآن حياة الملايين كل سنة، ومن المنصف أن نقول إن دوني أدى دورًا صغيرًا في بدء هذه المسيرة. لقد كان على هذه الطريقة أن تتعطل حتى يصل العلم إلى النقطة التي تحول فيها حلمه إلى حقيقة. أما في حياته، فقد حقق جزءًا صغيرًا من الشهرة التي كان يتمناها، لكن من المؤكد أنه كان سيتحمس لنتائج عمله بعيدة الأمد. فإن فتحت أي كتاب تقريبًا ستجد بلا شك ذكرًا لعمله المغامر في موضع ما في الفقرات الافتتاحية. وكما هو الحال دائمًا، أعطى التاريخ لدوني تقديرًا يفوق ذلك الذي أعطاه له أقرانه.
لقد انطوت الواقعة الكاملة التي سُرِدت عبر دفتي هذا الكتاب على قليلٍ من العلم وكثيرٍ من الدم، لكن هل حصل أي شخص في هذه الأحداث على العدالة فعلًا؟