استكمال عمل هارفي
كان القرن السابع عشر الميلادي مثيرًا ومحبطًا في آنٍ واحد. لقد أخذ دوني الحماس في التشكيك فيما لم يخضع للشك من قبل؛ فقد كانت الثورة الفكرية هي سمة العصر. ومع ذلك، لم يعرقله سوى حقيقة أن الطرق المعروفة لفعل ذلك كانت لم تزل في بداية ظهورها.
كانت القضية الرئيسية هي التقدم، وكان السؤال هو عن كيفية كسر الأغلال التي قيدت العقول المستقصية في أنماط الفكر الأرسطي، حيث الأفكار والجدليات أهم من الملاحظات المادية. وقد كان عصر النهضة هو الخطوة الأولى نحو هذا التقدم، لكنه إن كان قد قدَّم شيئًا، فإنه لم يقدم سوى مزيدٍ من الاحترام للفكر القديم؛ فقد أعاد الناس بعث الفلسفة اليونانية، ووهبوها حياةً جديدةً، وسمحوا لها بأن تُلهم مرحلةً فكريةً جديدةً. لكن هذا الفكر الجديد لم يزل قائمًا على التنظير لا القياس العملي. ومن ثم لم يكن يوجد حيز كبير لتحصيل المعرفة القائمة على التجربة.
والأسوأ من ذلك أنه كان هناك اعتقاد متزايد بأن الاستنتاجات القديمة كانت — في أحيان كثيرة — خاطئة. فعندما كان الناس يُجرون التجارب ويعتمدون على القياس ثم يحاولون فهم النتائج، كانوا يكتشفون هم أيضًا أن النظريات القديمة لم تكن سليمة. بينما رفض أنصار الفكر الأرسطي هذا المذهب على أساس أن أي انحراف عن التعاليم القديمة سيؤدي إلى فهمٍ خاطئ بالتأكيد. أما من تمتعوا بالشجاعة الكافية لتجاوز قيود الفكر القديم، فرأوا ذلك دليلًا على ضرورة النظر للحياة بمنظور مختلف.
لذا كان القرن السابع عشر شاهدًا على بزوغ فجر حريةٍ جديدة، وأخذ «الفضوليون» — كما كان ذلك الجيل من المفكرين يسمون أنفسهم — يحررون أنفسهم بحرص. ولم تكن المسألة تتمثل في التخلي عن كل المعرفة القديمة تمامًا، بل كانت إصرارًا على اختبار كل فكرة بالتجربة العملية. وزعم الفضوليون أنهم يرحبون بالأفكار — قديمها وجديدها — لكن عندما تُبنى على شواهد تجريبية لكل نظرية.
لقد كانت روح الاستكشاف تلك إذن هي ما مهد الطريق لعمل دوني. فإن كانت النظريات الإغريقية واللاهوت الإنجيلي هما المصادر الوحيدة للمعلومات، لم يكن من المرجح أن يعيد دوني النظر في فكرة نقل الدم. وباستثناء بعض الأحداث الوهمية أو الأسطورية أو التاريخية، لم يكن لدى دوني أي دافع للاعتقاد بأن محاولة نقل الدم لم تكن شيئًا خطيرًا وربما غير أخلاقي. لكن دوني كان على اطلاع كذلك بعمل ويليام هارفي. ففي عام ١٦٢٤، نشر هارفي — الطبيب والجرَّاح الإنجليزي — فكرة جديدة صادمة؛ إذ يستبعد كتابه «حركة القلب» — المكتوب باللاتينية — مفهوم جالينوس لسريان الدم الذي استمر الاعتقاد فيه لقرون. لم يكن هارفي يرفض فكرة تحول الطعام إلى كيلوس في المعدة، وأن هذا الكيلوس يتحول إلى دم عندما يُنقَل إلى الكبد؛ لكنَّ اختلافه كان حول ما يعقب ذلك. فقد قال جالينوس إن الدم يذهب بعدها إلى القلب حيث ينتقل بعض الدم من البطين الأيمن إلى الرئتين بينما ينتقل الباقي عبر المسام الموجودة في الجدار الفاصل بين البطينين إلى البطين الأيسر، ومنه ينتقل الدم إلى أجزاء الجسم التي في حاجة إليه ويُستَهلَك. لكن هارفي أوضح أن الدم يسرى عبر الجسم في دورة مستمرة.
مع ذلك، لم يكن هارفي يعلم السبب وراء دوران الدم باستمرار، وربما كان ينظر إلى الحجج التي استخدمها لاستنباط ما توصل إليه على أنها غير دقيقة بل تكاد تكون مثيرة للضحك. لكن حين قرأ دوني كتاب هارفي أدرك — شأن كثيرين غيره — أن الكتاب فتح الباب أمام طرقٍ جديدةٍ لتعامل الأطباء مع الدم، وكان نقل الدم من بين هذه الطرق.
ولم يكن بيان أن الدم يجري في دورة إلا أحد سببين لأهمية كتاب هارفي. فقد كان السبب الثاني هو أن هارفي أظهر في أثناء وضعه نظريته مدى التزامه بالتراث الإغريقي، لكنه في الوقت ذاته سبر أغوارًا جديدةً لما أصبح فيما بعد يُعرف بالعلم الحديث. ويستمر الخلاف في القرن الحادي والعشرين حول ما إذا كان من القدماء أم من المحدثين.
وُلد هارفي في الأول من شهر أبريل من عام ١٥٧٨ في فولكستون بكنت، وكان الأكبر بين سبعة أطفال. كان قصير القامة، ذا بشرة زيتونية اللون ووجه مستدير، وكان — بحسب جميع الروايات — سريع الغضب. وكانت عيناه سوداوين صغيرتين، وهو ما جعله قصير النظر لحد ملحوظ؛ وكان اللون الأبيض قد أخذ يزحف على شعره الطويل ذي اللون الأسود الداكن في شبابه؛ حتى إنه بلغ عامه الستين وقد خلا رأسه من أي خصلات سوداء. ولأنه وُلد لمزارع يملك أرضًا يقوم على فلاحتها بنفسه، فقد كان ميسور الحال لكنه لم يكن ثريًّا. ولأنه كان متقد الذهن، أرسلته أسرته ليدرس الطب في كلية كيوس بكامبريدج. وفي إطار اتباع المسار الوظيفي النموذجي، راح يعمل لما يقارب ثلاث سنوات بجامعة بادوفا في إيطاليا — وهي إحدى قلاع الطب في العالم. وكانت هذه التجربة المختلطة ستمنحه معرفة استثنائية بتصور جالينوس عن الجسم، لكنها أتاحت له كذلك الاحتكاك بهؤلاء الذين أخذوا يشككون في الاستنتاجات القديمة.
وفي بادوفا، تعرَّف هارفي طبيبَ عصر النهضة أندرياس فيزاليوس أحد أول من شككوا فيما لا يقبل الشك. درس فيزاليوس — بلجيكي الأصل — الطب في باريس، حيث بدأ في إجراء تشريح الجثث بعناية. ويقال إن أهم ما فعله كان نزوله عن كرسيِّ التدريس والعمل بيديه؛ فحين بدأ دراساته كان المحاضرون يميلون للجلوس عن بعد يقرءون التعليمات من كتابٍ دراسيٍّ، ويلوِّحون بعصا طويلة في الاتجاه العام الذي توجد فيه الخصائص موضع الاهتمام في الجسم، بينما يُجري من هم أقل شأنًا عملية التشريح الكريهة. ففي عصرٍ كانت المظاهر فيه هي كل شيء، قليلون من ذوي العلم والوقار كانوا على استعداد لتلويث أيديهم، أو الاقتراب من جثة متعفنة تفوح منها الروائح الكريهة. علاوة على ذلك، كان لا يزال هناك ذلك الإرث الفكري الإغريقي الذي يرى أن أهل الفكر لا ينبغي لهم أن يقوموا بالعمل اليدوي، الذي كان ينبغي أن يُترَك للطبقة الأدنى من الفنيين والعمال.
ورغم أن هذا بدأ ينخر في أسس معتقدات جالينوس، ظلت توجد أسئلة كثيرة بلا إجابة. فكل الأدلة مثلًا أشارت إلى أنه يوجد نوعان من الدم؛ إذ كان الدم الأزرق الداكن يجري في الأوعية ذات الجدر الرقيقة — الأوردة — بينما يجري الدم الأحمر القاني في الشرايين ذات الجدر السميكة. ونحن نعرف الآن أن جدر الشرايين السميكة تتيح لها نقل الضغط الانقباضي عبر الجسم، لكن هذا مبني على معرفتنا بعمل القلب باعتباره مضخة. لكن جالينوس ظن أن المرحلة النشطة من عمل القلب كانت عند انبساطه؛ إذ اعتقد أن هذا الانبساط كان يعمل على سحب الدم إلى القلب. ثم يسحب باقي الجسم بدوره الدم إليه لإشباع احتياجات الأعضاء المختلفة. ويشبه هذا المفهوم رؤية الحبر يتسرب عبر منديل جاف، حيث تمتص الأجزاء الجافة الحبر.
من السهل القول إن قطع أي وعاء دموي ومشاهدة الدم ينساب أو يندفع إلى الخارج دليل كافٍ على أن الدم يجري داخل الجسم. لكن، بينما لم يكن ثمةَ اختلاف بين فلاسفة عصر النهضة وكلٍّ من سبقوهم من المفكرين حول انسياب الدم إلى الخارج، كانت مدرسة عصر النهضة ترى أن ذلك دليل على أن الجهاز الدوري ممتلئ، ومن ثم فإنه مضغوط. فانسياب الدم خارج الجسم في حد ذاته لم يكن دليلًا على أن الدم يجري في دورة داخل الجسم؛ فعلى كل حال يمكن تحقيق نتيجة مشابهة عند إحداث ثقب في جدار أنبوب ينقل الماء من مكان لآخر.
وربما لفتت المحاضرات والمناقشات التي كانت تدور حول موائد العشاء انتباه هارفي إلى شخصٍ آخر أيضًا هو ميجيل سيرفيت، رغم أن القليلين الذين عرفوه كانوا يخفضون أصواتهم بعض الشيء عند نطق اسمه. كان ذلك الطبيب الإسباني قد وصف تشريح القلب وأشار إلى الأوعية الدموية الأربعة التي تخرج منه. كما أصاب في إشارته إلى أن عضلات القلب ترتخي مع امتلائه بالدم وتنقبض مع خروجه منه. وكان هذا وحده اكتشافًا ثوريًّا.
كما أجرى سيرفيت تجارب أولية لقياس تدفق الدم وتوصل إلى استنتاج آخر هو أن كمية الدم التي تجري في الرئتين كانت أكبر بكثير مما تحتاجانه لتشبعان حاجتهما الغذائية. والأدهى أنه اعتقد أن الدم يعود مرة أخرى من الرئتين للقلب، لكن في حين أنه دوَّن ذلك في صورة رسم توضيحي في نص لاهوتي، ليس هناك دليل على أنه أدرك دلالة اكتشافاته.
ولسوء حظ سيرفيت، انجرَّ إلى جدال مع عالم اللاهوت الفرنسي المتشدد جون كالفن حول طبيعة الإله. لقد كان تحدي التعاليم المسيحية خطيرًا، هكذا أُعلِن سيرفيت مهرطقًا في كلٍّ من فرنسا وإسبانيا وجنيف. وعندما حاول سيرفيت أن يُثني كالفن عن اعتقاده أن المسيح ابن الرب، كان بذلك قد وقَّع شهادة وفاته فعليًّا. ولم ينقذه الاختباء وراء اسم مستعار هو ميشيل فيلينوف؛ إذ قرر أن يخاطب كالفن شخصيًّا وهو في طريقه من باريس إلى روما. وكان كالفن في ذلك الوقت يسكن في جنيف، ولما كانت نواياه أبعد ما يكون عن مناقشة أي قضايا، فقد رتب للقبض على سيرفيت فور وصوله. وكانت محاكمته سريعة حيث بلغت نيران حرقه على الخازوق عنان السماء. وكانت تلك تذكرةً — إن كانت توجد حاجة لذلك — بأن الأفكار يمكن أن توقع صاحبها في المشكلات.
وكان هارفي سيطَّلع على أعمال الجرَّاح الإيطالي ماتيو ريالدو كولومبو — أحد معاصري فيزاليوس — بعد أن خَلَفَه في منصب أستاذٍ للجراحة في بادوفا عام ١٥٥٤. وكان السبب الأول وراء شهرة كولومبو هو اكتشافه أن الدم يمر خلال الرئتين ودوَّن ذلك في كتاب دراسيٍّ للتشريح. وورد في الكتاب أيضًا أن القلب يعمل عمل المضخة، حيث يدفع الدم إلى الشرايين الكبيرة. لقد كانت الفكرة صحيحة بالأساس، إلا أنها كانت شديدة الجموح والثورية لدرجة أن قليلين هم من أخذوها على محمل الجد. على أي حال، كان كولومبو أستاذًا في الجراحة ولم يكن لدى الأطباء «الحقيقيين» وقت لمثل هؤلاء الفنيين وأعمالهم الخام. لقد كان كتاب كولومبو مشهورًا، لكنه كان يفتقر إلى الدليل الواضح الذي يدعم ما توصل إليه، ولم يستطع الاستفادة من الأساليب العلمية التي ظهرت حديثًا للدفاع عن حجته. ويثير هذا سؤالًا: كم من مرة لا يلقى المرء تقديرًا لأن أفكاره تسبق عصره!
بالمناسبة نادرا ما نرى كلبًا أو غرابًا أو حدأةً أو غُدافًا أو أي طائر أو أي شيء يمكن تشريحه، ليس إلا بعض البشر البؤساء الذين تبقَّوا من الحرب والطاعون والذين قد حللتهم المجاعة قبل أن آتي.
لذا كانت تلك الظروف المتداخلة والتطورات السياسية المحلية هي ما جعل من أكسفورد مقرًّا لكثير من جهود هارفي العلمية. كما كانت صداقته الوطيدة مع الملك هي التي أتت بالعائلة المالكة إلى مركز البحث العلمي في إنجلترا، حيث كان تشارلز يحضر العروض التي يقدمها هارفي. وأتاحت تلك الصداقة لهارفي كذلك الوصول إلى قطيع الأيل المملوك للملك، وهو ما ساعد على تقدم عمله في السنوات التالية.
هو أبرز الملوك! إن قلب الحيوان هو أساس حياته وأهم أعضائه وهو شمس عالمه الصغير؛ فعلى القلب يعتمد كل نشاطه، ومن القلب تنبع كل حياته وقوته. تمامًا مثلما أن الملك هو مركز مملكته وشمس عالمه ومنه تنبع كل القوة وكل الشرف.
لكن كان السؤال: كيف كان القلب يضطلع بوظيفته؟ تجسدت أحد المصاعب التي واجهت هارفي ومعاصريه في كيفية دراسة القلب. تمثلت إحدى المنهجيات في تشريح الحيوانات الميتة، لكنهم حينئذٍ لا ينظرون إلا إلى قلبٍ ساكنٍ، فكان من الصعب بالتبعية تحديد وظيفته. أما البديل، فكان شقهم صدورَ الحيوانات الحية، لكن علماء التشريح الرواد هؤلاء وجدوا أن القلوب كانت تنبض بسرعة كبيرة لدرجة أعجزتهم عن تمييز حركاتها المنفردة. وشبه هارفي الموقف بمحاولة فهم عمل البندقية؛ إذ تبدأ سلسلة الحركة بالضغط على الزناد، وتنتهي بخروج الطلقة من ماسورة البندقية. لكن تسلسل الأحداث الفرعية التي تربط بين الحدثين الأساسيين يتم بسرعة كبيرة تجعل تتبعه شبه مستحيل. فكان الأمل الوحيد هو إبطاء تلك العملية.
وفي سبيل تحقيق ذلك، ركَّز هارفي مشاهداته على قلوب الحيوانات المحتضرة — حيث ينبض القلب ببطء شديد نتيجة لذلك، أو على قلوب الثعابين التي تكون معدل نبض قلوبها منخفضًا دائمًا. عندها استطاع أن يرى أن النبض في الشرايين يتبع انقباض القلب مباشرة. وصار متأكدًا من أن ذلك النبض كان ناتجًا عن مرور الدم في الأوعية.
وبالملاحظة الدقيقة، وجد هارفي أن الدم يدخل إلى الشق الأيمن من القلب من الوريد الأجوف، وهو الوريد الذي يجمع الدم من أعضاء الجسم بما فيها الكبد. وعندما ينقبض القلب فإنه يدفع الدم إلى الرئتين. ثم يعود الدم إلى الشق الأيسر من القلب ومن هناك يُضخ عبر الشريان الأورطى إلى الشرايين في سائر أنحاء الجسم.
من الواضح أنه إن أراد أي شخص حساب كمية المياه المتدفقة في يوم واحد وتخيل خزانًا مائيًّا، فإنه سيجد أن ذلك الخزان يجب أن يكون في حجم الأرض كلها أو أقل بقليل ليتمكن من استقبال كل المياه المتدفقة في عام كامل.
لقد استمد هارفي إلهامه من العالم الكبير. فمثلما تسخن الشمس مياه البحار وتبخرها، من المحتمل أن القلب يرفع حرارة الدم. وخلال جريان الدم في الشرايين، يوزع هذه الحرارة والمواد الغذائية التي يحملها؛ لذا فإنه يبرد ويحتاج إلى العودة إلى القلب لتجديد طاقته. فإن كانت هذه الدورة تحدث في العالم الكبير — في الطقس — فإنه من المنطقي افتراض إمكانية حدوثها في العالم الصغير المتمثل في الجسم. وكان هارفي يرى أن الوريد الأجوف هو «منبع الدم ومخزنه ووعاؤه».
شواهد التقديرات والتكهنات
أجرى هارفي من أجل إثبات نظريته سلسلة من الحسابات التقريبية العبقرية في الوقت ذاته. فقد ذكر بناء على بعض المشاهدات أن البطينين يمكنهما استيعاب ما بين أوقية ونصف وثلاث أوقيات من الدم. ثم قدر أن القلب عندما ينقبض فإنه يخرج كمية تتراوح بين ثُمن حجمه وثلثه. وفي النهاية قال إن القلب يخفق ما بين ١٠٠٠ و٤٠٠٠ مرة في الساعة. وبمجرد توافر الأرقام كان إجراء الحسابات سهلًا.
حجم البطين الأيسر × نسبة الدم الخارج = حجم الدم المتدفق في النبضة الواحدة.
حجم الدم المتدفق في النبضة الواحدة × عدد النبضات في نصف ساعة = حجم الدم المتدفق عبر القلب في نصف ساعة.
كان استنتاج هارفي أن هناك ٥٠٠ أوقية (نحو ١٦ كيلوجرامًا) على الأقل من الدم تتدفق من القلب في نصف ساعة. لكن، تبين أن هذا الرقم أبعد ما يكون عن الدقة؛ إذ إن حجم الدم المتدفق عبر قلب الشخص البالغ عندما يستريح أقرب إلى ٤ كيلوجرامات في الدقيقة (١٢٠ كيلوجرامًا في نصف ساعة). لكن حتى القيمة التي استنتجها هارفي كانت كافية ليقتنع أن الجسم لا يحتوي على كمية كافية من الدم تسمح لهذا الأخير بالتحرك في اتجاه واحد، بل لا بد أنه يمر عبر الجسم في دورة.
كان هذا في بداية القرن السابع عشر، ولم يكن المجهر قد ابتُكر؛ لذا كان من المستحيل على هارفي أن يرى الشعيرات الدموية التي تربط الشرايين بالأوردة. ورغم ذلك فقد زاد يقين هارفي بأن الدم بالتأكيد يجري في دورة، وساعدت نتائج سلسلة من التجارب على تأكيد قناعاته. بدأ بثعبان، شق جلده وضغط على وريده الأجوف، فاستحال لون القلب إلى الأبيض، وانكمش، وبطؤ نبضه. كان من الواضح أن انسداد الوريد منع الدم من التدفق إلى القلب. لكن ما إن رفع إصبعه عن الوريد، حتى استعاد القلب نشاطه ولونه. وعلى العكس، عندما ضغط هارفي على الشريان الخارج من القلب رأى القلب ينتفخ ويتحول إلى اللون الأحمر القاتم. لقد منع انسداد الشريان خروج الدم من القلب. وكان هذا دليلًا آخر على اتجاه تدفق الدم من القلب.
بعد ذلك أثبت هارفي أن الدم يتدفق عبر شرايين في الذراع. ولكي يفعل ذلك، عقد عصابة محكمة حول ذراعه. فتلاشى النبض في المعصم. لقد قطع تدفق الدم، وفي المقابل ظهر نبض منتظم في موقع العصابة وهو ما أرجعه هارفي إلى أن الدم «يحاول أن يتدفق عبر عقبة تعوق مساره وأن يعيد فتح مجراه».
لم يدرك مكتشف هذه البوابات وظيفتها، وكذلك من قالوا إن الدم ينبغي أن ينزل إلى الأسفل بفعل وزنه: إذ كان في الوريد الوداجي صمامات باتجاه الأسفل تمنع صعود الدم إلى أعلى.
كان هارفي يجمع أدلة على أن الصمامات تضمن تدفق الدم في اتجاه واحد؛ إلى القلب؛ إذ يجري الدم من الرأس إلى أسفل الوريد الوداجي عبر الصمامات المتجهة لأسفل بينما يصعد الدم من الساقين وأسفل الجسم عبر الصمامات المتجهة لأعلى في باقي الأوردة. وكان هذا مخالفًا تمامًا للتوقعات. فالدم — على كل حال — كان من المفترض أن يتدفق من الكبد إلى سائر الجسم عبر الأوردة، أي في الاتجاه المعاكس. ورأى هارفي أن التفسير الوحيد لما اكتشفه هو أن الدم يجري في دورة عبر الجسم.
أذكر أنني عندما سألت هارفي رجلنا المشهور — في النقاش الوحيد الذي أتيح لي معه (وكان قبل وفاته بفترة قصيرة) — عن ماهية الأشياء التي دفعته للتفكير في جريان الدم في دورة؟ فأجابني بأنه عندما راقب الصمامات في الأوردة الموجودة في مواضع عديدة من الجسم، لاحظ أنها في وضع يسمح بمرور الدم باتجاه القلب لكنها تمنع مرور الدم الوريدي في الاتجاه المعاكس: لقد شجعه ذلك على تصور أنه ليس هناك سبب أكثر حكمةً من ذلك، لأن الطبيعة لم تصنع مثل هذه الصمامات الكثيرة دون علة: وليس أفضل من ذلك علة، وحيث إن الدم لا يمكن ضخه عبر الأوردة إلى الأطراف بسبب الصمامات التي تعترض مساره، فمن الواجب أن يُضخ عبر الشرايين ويعود عبر الأوردة التي لا تمنع صماماتها مرور الدم في هذا الاتجاه.
عندما نُشر هذا المفهوم الثوري انقسمت الآراء. إذا كان هارفي على صواب، فذلك يعني أنه قد تلزم مراجعة جميع نظريات الصحة والطب الأساسية. ومما لا يثير الدهشة، لاقى ذلك معارضة كبيرة وصلت في بعض الأماكن إلى مقاومة صريحة. وهناك مؤشرات كثيرة على أن هارفي أرجأ نشر أفكاره بضع سنوات ريثما تزداد ثقته. ولم يمر وقت طويل قبل أن تلقى الفكرة قبولًا واسعًا.
لكن ما تبقَّى ليقال عن كمية الدم الذي يمر وعن مصدره غير مألوف ولم يُسمع به لدرجة أنني لا أخشى الأذى بسبب حقد بعض الحاقدين فحسب، بل أرتعش رعبًا من أن أكسب عداوة البشرية جمعاء، أخشى ذلك بشدة حتى إن الممارسة والعادة تحولت إلى طبع ثانٍ فيَّ. إن المعتقدات بمجرد زرعها تضرب بجذورها عميقًا، ويسيطر احترام القديم على كل الناس. مع ذلك فقد قُضي الأمر، وأنا أضع ثقتي في محبتي للحقيقة وفي حيادية العقول المثقفة.
لقد كانت مخاوفه في محلها؛ فبعد نشر كتاب «حركة القلب» شكا هارفي من الانخفاض الملحوظ في عدد المرضى الذين كانوا على استعداد للحصول على استشارته الطبية. وقد أخبر أوبري ذات مرة بانتشار إشاعة بين العوام في البلدة أنه «مخبول»، لكنه كان شخصيًّا مقتنعًا بأن الأطباء كانوا ينشرون إشاعات مغرضة لأنهم شعروا بالغيرة من اكتشافاته. وللأمانة، قليلون هم من أعربوا عن تقديرهم لمهاراته الطبية على أي حال؛ لذا لم يكن على الأرجح غيابه عن ممارسة الطب خسارة كبيرة للمجتمع.
رغم أن العديد من العلماء رحلوا قبل أن تحظى أفكارهم الثورية بالقبول، فقد كان من حسن حظ هارفي أنه جاء بفكرته في سن صغيرة وعاش حتى عامه الثمانين. وكان هذا وقتًا كافيًا ليتأكد الآخرون من فكرته وتحظى بالقبول بين معظم المشتغلين بالعلوم والطب.
قديم أم محدَث؟
لطالما كان فحص الجسم مصدر سرور لي؛ ومن ثم طالما اعتقدت أنه بالإضافة إلى قدرته على إمدادنا بفهم عميق لألغاز الطبيعة البسيطة، سنرى من خلاله صورة أو انعكاسًا لصورة الخالق القدير نفسه.
وفي كتاب «حركة القلب»، يعلق هارفي على الحجم الكبير نسبيًّا للبطينين وللأوعية الدموية المتصلة بالقلب بأنه «بما أن الطبيعة لا تفعل شيئًا عبثًا، فإنها لم تكن لتجعل حجمه كبيرًا نسبيًّا دون هدف …»
وتبيِّن الطريقة التي وصل بها هارفي إلى استنتاجاته أنه لم يكن يهتم كثيرًا بقياس أي شيء بعناية؛ إذ لم يرَ هارفي — كما كان حال بقية معاصريه — أي فائدة من وراء القياسات الدقيقة؛ فقد كانت تقديراته لمعدل تدفق الدم عبر القلب أبعد ما يكون عن الدقة، رغم أنه ربما كان من السهل عليه أن يقيس الأحجام بدقة أكبر، ويراقب عدد ضربات القلب في الدقيقة، محققًا درجة كبيرة من الدقة. لقد اهتم هارفي بالقضية الفكرية أكثر من القياسات التفصيلية، وبذلك توصل إلى الاستنتاجات الصحيحة بناءً على بيانات خاطئة.
ربما لم يسبق هارفي عصره إلا ببضع سنوات فقط؛ فبينما كان يدرس القلب، كان جاليليو جاليلي يطور وسائل لاستخدام القياسات والحسابات الدقيقة لدراسة الكون — العالم الكبير — إلا أن جاليليو لم يكن قد نشر عمله بعد؛ لذا لم يكن هارفي في وضع يسمح له بتبني منهجيته الدقيقة وتطويعها بما يتلاءم مع علم وظائف الأعضاء.
كان هارفي يعيش ويدرس عند مفترق طرق من الفلسفة. فقد كان يستخدم الجدل المنطقي لوضع النظريات ثم يُجري تجارب بدائية ليرى إذا كانت هذه النظريات توافق الواقع. لقد دحض هارفي بشدة أي رأي يقول إنه ينتمي إلى أخوية الأطباء حديثة الظهور آنذاك، حيث قال إنه مقارنةً بأرسطو لم يكن هؤلاء المدَّعون سوى «حثالة». ومن منظور القرن الحادي والعشرين يمكن اعتبار هارفي أحد آخر القدماء أو أحد أوائل المعاصرين أو — ما هو أفضل — جسرًا بينهما.
وعندما ننظر إلى عمل دوني سنجد أنه بينما زعم أنه جزء من عالم التساؤل والاكتشاف الجديد، لم تكن له محاولات جدية للاعتماد على القياس؛ إذ بدا متراخيًا فيما يتعلق بتسجيل ملاحظات تفصيلية. لكن في حالة دوني — مع ذلك — يزيد احتمال وجود مؤشر على نزعته المتعالية نحو التفصيل، بدلًا من تأمل خاص للفلسفة التي ينبني عليها عمله.
حركة الدم بفعل الفوران
إذا كان الدم يجري في دورة عبر الجسم، فلا بد من شيء يحركه. لقد كان الرأي السائد هو أن أي ضغط في الجهاز الدوري سببه «الفوران». ويُستخدم مصطلح الفوران للإشارة إلى تمدد اللبن أو العسل عند وضعه في إناء وتسخينه على الموقد. فبمجرد وصوله إلى نقطة الغليان تتكون الرغوة فوقه، وإن لم يكن الشخص حذرًا فإن السائل يرتفع إلى حافة الإناء ويفيض إلى الخارج. وسيحدث الشيء نفسه مع إناء مملوء بالدم إن حاولت غليه. لقد اعتقد جالينوس وهؤلاء الذين جاءوا من بعده أن وظيفة القلب الأساسية هي تسخين الدم. ويتسبب الفوران الناتج في زيادة حجم الدم، فيجبره على الجريان في الشرايين. وكانت زيادة الضغط داخل القلب هي ما يجعله يتمدد بانتظام. فطبقًا لما قاله جالينوس، كان القلب غرفة تسحب الدم، ثم تعمل كسخانٍ.
أما وراء البحر، في فرنسا، فسرعان ما تبنَّى ديكارت فكرة هارفي القائلة إن الدم يجري في شبكة من الأنابيب ضمن نظرته الميكانيكية للحياة. ورغم ذلك تمسك ديكارت ببعض النظريات القديمة، حيث إنه ظل مؤمنًا بأن تمدد القلب كان نتيجة فوران الدم بداخله. وبما أن دوني كان متَّبعًا للمدرسة الديكارتية، فإن كل الأسباب تدفعنا للاعتقاد بأنه كان يتبنى أيضًا هذا التصور للجهاز الدوري.
فكر هارفي كثيرًا في تلك النقطة ثم أجرى تجربة؛ إذ أخذ عينتين متساويتين من الدم إحداهما من شريان والأخرى من وريد، ووضعهما في إناءين متماثلين وراقب ما سيحدث، فتكونت جلطات في كلتا الحالتين، وخلال دقائق معدودة تحول سطح العينتين إلى اللون نفسه. لكن الأهم بالنسبة إلى هارفي هو أن دم الشريان ودم الوريد كليهما ظلَّا في الحجم نفسه. فلم ينكمش حجم الدم الشرياني بعد انخفاض حرارته. فإذا كان الضغط في الشرايين عاليًا، أو أن الدم الشرياني يجري في الأوعية الدموية لأن حرارة القلب دفعته للفوران، فإنه يجب أن ينكمش مع انخفاض حرارته. على كل حالٍ، كانت رغوة اللبن المغلي تختفي عند إبعاده عن الموقِد. وبما أن مثل هذا التغير لم يحدث، استنتج هارفي أن الفوران لم يكن إلا من نسج خيال الناس. لم يُعرَف رأي دوني في هذه التجربة، أو ما إذا اهتم بها من الأساس. فعندما نظر إلى الجهاز الدوري، كان أكثر حماسًا لفهم ما يمكن فعله به أكبر من حماسه لاكتشاف آلية عمله.
وحاول آخرون — مثل يوهانس فاليوس عالم التشريح الهولندي — تجربة طرق أخرى لدمج فكرة الدورة الدموية في التصور السائد أن القلب يسخِّن الدم. وتوصل فاليوس إلى أن الدم يدور ليظل في حالة سليمة؛ حيث يدخل الدم الوريدي القاتم إلى الشق الأيمن من القلب، ويندفع الدم الشرياني الأحمر القاني خارجًا من الشق الأيسر. كان التفسير بسيطًا في رأي فاليوس؛ فقد كان الدم يُسخَّن في القلب ثم «يُكثَّف» حين يزداد تركيزه في باقي أجزاء الجسم. لأنه — كما قال — ليس في الجسم ما هو أشد حرارة من القلب، وما هو أبرد من سطحه الخارجي. وفتح هذا الباب — حسبما كان يرى — أمام احتمالية مرور الدم بعملية تنقية بالطريقة التي ينقي بها الكيميائيون السوائل نفسها، من خلال غليها عدة مرات وتكثيف الأبخرة الناتجة.
اكتمال الدائرة
أشار المتشككون في أفكار هارفي إلى ثغرتين في نظريته؛ أولًا: لم يكن يوجد أي دليل على وجود ما يربط بين الشرايين والأوردة. ثانيًا: لم يكن هناك ما يوضح ما الذي يدفع الدم إلى القلب مرة أخرى من الأطراف. وكما قال الطبيب كاسبار هوفمان من نوريمبرج بألمانيا: كيف فسَّر هارفي الطريقة التي يعبر بها الدم من الشرايين إلى الأوردة؟ وحتى إذا كانت هناك ممرات غير مرئية، فكيف فسَّر هارفي الحركة — ما هي القوة المحركة؟
ولم يمضِ على وفاة هارفي (في عام ١٦٦١) أربعة أعوام حتى اكتشف عالم الفسيولوجيا الإيطالي مارتشيلو مالبيجي الحلقة المفقودة، رغم أن الأمر استغرق عدة عقود بعدها ليكتشف الناس أن ضغط العضلات على الأوردة هو ما يدفع الدم للعودة إلى القلب مرة أخرى. راح مالبيجي — الذي وُلد في العام ذاته الذي نشر فيه هارفي كتابه «حركة القلب» — يدرس الفلسفة الأرسطية في جامعة بولونيا. لم تكن حياة مالبيجي مستقرة: إذ تُوفي كلٌّ من والده ووالدته وجدته لأبيه وهو في سنوات دراسته، فاضطر من ثم إلى ترك الجامعة لعدة سنوات كي يرعى أخواته الثلاث الصغيرات وينظم شئون الأسرة المالية. وبعد عامين عاد للاجتهاد، حيث جمع في النهاية بين اشتغاله بالطب واهتمامه بالعلوم.
أثارت مساعي مالبيجي العلمية الجدل؛ فقد بدأ يشكك في جالينوس، وهو ما فوت عليه عدة فرص للترقي، رغم أن عمله حظي بالتقدير، وأصبح صديقًا شخصيًّا للبابا. كرَّس مالبيجي كثيرًا من عمله لاستخدام أول المجاهر التي عرفها العالم ورَسْم ما يراه. وفي عام ١٦٦١، نشر أول كتبه الذي كشف — من بين أشياء أخرى — عن ملاحظته لشبكة من الأوعية الدقيقة في رئتي الضفدع. وبعد أن سماها الشعيرات الدموية، اعتبر — وكان على صواب — أنها قد تكون الحلقة المفقودة في دورة هارفي، أي الأنابيب التي تربط الشرايين بالأوردة. ودحض هذا الاكتشاف في الأوساط العلمية فكرة تحول الدم إلى لحم عند أطراف الأوردة. مع ذلك، استغرق الأمر عشرات السنين قبل أن ينتشر العلم والتسليم باندثار فكرة جالينوس في الأوساط الطبية، بل استغرق الأمر وقتًا أطول قبل أن يحظى باهتمام العامة بوجه عام.
جلب اكتشاف مالبيجي ما يشبه الجنسية الإنجليزية إليه. فقد كان العلماء في إنجلترا شديدي الحرص على إنجازاتهم وأسباب شهرتهم، وكان أهمها دليل هارفي القاطع على صحة نظرية الدورة الدموية؛ لذا كانوا حريصين على أن يكون أي عمل يضيف إلى اكتشاف هارفي على الأرض الإنجليزية. فلم يكن من المثير للدهشة — بحلول عام ١٦٦٧ — أن يبدأ هنري أولدنبرج أمين عام كبرى المؤسسات البحثية في إنجلترا — الجمعية الملكية — في التواصل كتابيًّا مع مالبيجي نيابةً عن الرابطة؛ إذ كان من الواضح أن مالبيجي عالم، ومن ثم فإن اكتشافه للشعيرات الدموية لن يكون إسهامه الوحيد على الأرجح في مجال العلوم والطب؛ لذا كانت الطريقة المثلى أمام إنجلترا لإدخال عمله البحثي ضمن مجتمعها العلمي هي دعوته ليصبح زميلًا في الجمعية الملكية. فوافق وأضاف اسمه إلى القائمة المتنامية كأبرز الوجوه العلمية في عام ١٦٦٩.
وبذلك اكتُشفت آخر قطعة في أحجية الدورة الدموية، على الرغم من ذلك لم يكن أحد يعرف الوظيفة الفعلية للدم. لكن تلك الاكتشافات كانت كافية لتدفع كثيرين في أنحاء أوروبا إلى شحذ عقولهم؛ والسعي لمعرفة وظيفة الجهاز الدوري. وعندما تناول دوني هذه القضية لم يكن مهتمًّا بالجانب الفسيولوجي من ورائها بقدر ما كان مهتمًّا بمعرفة كيف يمكن لهذه المعلومات الجديدة أن تؤثر في ممارسة الطب.