المجتمع العلمي
لم يضيع جون باتيست دوني وقتًا طويلًا بعد وصوله إلى باريس عام ١٦٦٤ ليصبح خيطًا من نسيج الحياة الأكاديمية. وبحلول عام ١٦٦٥، كان قد نصب لنفسه مكانةً بوصفه أستاذًا جامعيًّا، وتعرف إلى دائرة المفكرين الديكارتيين. كان صغيرًا لامع الذكاء ومتشوقًا للدخول إلى لب القضايا الجدلية الهامة وحفر اسمه في تلك المدينة المزدهرة.
لا بد وأن «الموقع ثم الموقع ثم الموقع» — وهو على ما يبدو العامل الجوهري والأكثر تأثيرًا عند افتتاح أي متجر، كان على رأس ما وضعه دوني في اعتباره عند بحثه عن منزل. ووقع اختيار هذا الشاب الطموح على شقة في بناية من أربعة طوابق تطل على طريق أوجستين (طريق جراند أوجستين في يومنا هذا) وهو الطريق المحاذي لضفة نهر السين على الجهة المقابلة لبلاس دو دوفين في جزيرة إيل دو لا سيتي، حيث برج كنيسة سانت شابيل المذهل يكاد يلامس عنان السماء. كان من السهل الوصول إلى ذلك المكان الذي يقع بالقرب من نهاية جسر بونت نوف وفي نهاية الطريق القادم من جسر سانت ميشيل. كما كان المكان ساحرًا؛ فبالنظر إلى اليسار من النوافذ الممتدة من الأرضية حتى السقف تُرى واجهة اللوفر المحاذية للنهر؛ أما إلى اليمين، فتستحوذ كنيسة نوتردام على المنظر.
كان اختيار دوني للموقع جزءًا من خطته لتحقيق الشهرة من خلال إلقاء المحاضرات؛ وقد نجحت بالفعل. فقد امتلأت محاضراته بالحضور، ولمع نجمه، ولم يستغرق الأمر طويلًا قبل أن يدعوه مونتمور إلى الانضمام إلى دائرته. فرحب دوني بالدعوة أشد ترحيب؛ إذ لم يكن الأمر يقتصر على الاحتكاك بمجموعة من المفكرين، بل كان من المعروف عن مونتمور كذلك أنه يعطي المال مكافأةً لمن يجرون عملًا مثيرًا للاهتمام. ربما كانت الشهرة هدف دوني بعيد الأمد، لكن في ذلك الوقت كانت النقود تشكل له منفعة كبيرة.
لقد كانت مجموعة مونتمور ذاتها نتاجًا لثورة هادئة في الأنماط الفكرية. وبينما يستحيل تحديد اللحظة التي بدأت فيها تلك الثورة، إلا أنه يصح القول إن الفيلسوف ورجل الدولة الإنجليزي فرانسيس بيكون هو من دفع عجلة التغيير. تخلى بيكون عن المنطق الأرسطي لصالح مذهب يبحث عن الدليل المادي لبناء النظريات — متنكرًا بذلك للقرون السوالف. وأصر على تفسير جميع الشواهد في التجارب وعدم تجاهل أي بيانات يمكن ألا تتواءم مع نظرية مفضلة.
كانت هذه المنهجية الجديدة المتمثلة في التشكيك في أنفسنا وفي العالم من حولنا تتطلب منهجية جديدة متمثلة في مناقشة الأفكار ونشر المعرفة. فشرع المهتمون بالفلسفة في جميع أنحاء أوروبا يتجمعون في عددٍ من النوادي غير الرسمية. وفي عام ١٦٠٣، أنشأ الفلاسفة الإيطاليون أكاديمية دي لينشيي في روما، وما لبث الفرنسيون أن أنشئوا أكاديمية فلوريمونتان دانيسي في عام ١٦٠٦. والهولنديون لكيلا يشذوا عن الجميع أَنشئوا الأكاديمية الهولندية في أمستردام عام ١٦١٧، وفي العام نفسه بدأت جماعة فروخت برينجنده الألمانية في الاجتماع. في واقع الأمر، كانت كل أكاديمية تضم في الغالب مجموعة من الأصدقاء المحليين الذين اهتم بعضهم بالتواصل مع أعضاء النوادي الأخرى. وفي عام ١٦٣٥، أنشأ الفرنسيون أكاديمية وطنية: الأكاديمية الفرنسية، وتمنى مؤسسوها أن تصبح نقطة التقاء لجميع المفكرين في فرنسا.
كانت المشكلة أن هذه الأكاديميات كانت تتأسس على يد الأشخاص المرموقين؛ بمعنى أصح أهل الثروة وأهل النفوذ. فبينما كانوا يتكلمون عن التحرر، كانوا يميلون بشدة لفعل ذلك فحسب: أي الكلام لا شيء غيره؛ لذا لم يكن هناك أي محاولة كبيرة لإجراء التجارب التي تخيلوها في أوقات فراغهم وناقشوها بصورة مطولة في عروضهم.
١٤ أكتوبر ١٦٤٥
كنت أحب أن أرى هذه الشوارب التي تتحدثان عنها في تلك المخطوطات لكي أؤنب أصحابها. فهؤلاء الحثالة ذوو الكلمات المنمقة يسعون إلى الحكم على ما لا يفهمون. سوف تريان أن هذه الأكاديمية ستصبح حاضنة للهمجية وستكبت بكل إمكانياتها علوم اللغات والحروف؛ ذلك لأن من هم على استعداد لتحمل مشقة الدراسة قلة. وسيقتصر تعليم المفكر وقدراته على كتابة علامات الترقيم وكتابة قصائد الروندو. إنهم يستغرقون ثلاثة أسابيع أو شهرًا في تناول شيء تافه يمكن حسمه في طرفة عين، ويحبون استعراض أنفسهم في صالونات سيدات باريس اللاتي يعجبن بالمظاهر. وإن خير نصيحة كانت ستسدى لرئيس هذا التجمع الشهير (المستشار سيجير) هي فض هذا التجمع، حينئذٍ سيكون فعله مبررًا، وسيصيبه سخط كبير بعد أن أنفق كل ما أنفق، وبعد إرساله خادمًا مخصوصًا لاستعادة كتب قد تكون أنفع للعوام من أي شيءٍ خرج من أيادي أولئك المفكرين.
سرعان ما برز أحد أسماء الذين سخطوا على الوضع القائم، وهو هنري لوي هابرت دو مونتمور. فقد اجتمعت فيه الخصال الأساسية لمجدد القرن السابع عشر. لقد كان ثريًّا وعلى علاقة بالدوائر الملكية، ويحب الاختلاط بأهل الفضول، وفوق ذلك امتلك منزلًا في وسط باريس كان بمثابة ملتقًى رائعًا.
اكتسب مونتمور نفوذًا بسبب كرم ضيافته، وكان هذا وحده كفيلًا بتلقيه الثناء برغم وجود بعض الشكوك حول كونه ألمع عقول أهل الأرض؛ إذ ذكر أحد المعلقين أنه كان يتمتع ﺑ «ذوق في الخطابات» وهو ما يوحي بأنه كان يعتمد على الإسهاب الذي كان مزعجًا. كما اتُّهِم كذلك بمواجهة صعوبة في التعبير عن نفسه وبأنه كان بطيئًا وطيعًا ولم يكن يعبأ كثيرًا بواجباته.
القواعد والأسبقية والحقيقة
بغض النظر عن أي نقاط ضعفٍ شخصية، وجد مونتمور نفسه في طليعة الثورة الفكرية، ويمكن اعتبار مجموعة مونتمور من جوانب عدة بداية رعاية المؤسسات للعلم. فقد أتاحت ثروة مونتمور له أن يستقطب البارعين حتى وإن كانت مواردهم المالية قليلة، بدلًا من أن يقصر العضوية على هؤلاء الشغوفين والأثرياء في الوقت ذاته. وعلى هذا النحو، انضم أمثال دوني وإميري إلى هذا الملتقى تحت الرعاية المباشرة لمونتمور.
وخلال سنوات التوسع ١٦٥٣–١٦٦٤، كانت تلك المجموعة تجتمع بانتظام — في البداية مساء كل جمعة، لكن مع زيادة الاهتمام، باتوا يلتقون في أمسيات الثلاثاء أيضًا. دُعي دوني للانضمام عام ١٦٦٤ ليشهد نشاط المجموعة قبل أن يبدأ في الخفوت. وكان هدف المجموعة واضحًا: فقد أراد مونتمور أن يضطلع بدورٍ ورغب في أن يشارك في جهود استكشاف آلية سير العالم الذي خلقه الرب. وفي سبيل ذلك أراد مونتمور أن يهيئ بيئة للجدال المنهجي لا يعرقلها المهتمون بالجدل على حساب تحقيق تقدم في موضوعات المناقشة. ولوقاية المجموعة من الوقوع في فخ المناهج القديمة، وُضعت مجموعة من القواعد لتحكم عمل جلسات المناقشات:
يجب ألا تتحول الملتقيات إلى استعراض للقدرات العقلية يضيع وقت الجميع في مناقشة تفاصيل لا داعي لها، بل ينبغي للمناقشة أن تهدف على الدوام لكشف «أوضح التصورات عن خلق الرب». وينبغي أن يعزز هذا التصور القدرة على ممارسة الآداب والعلوم بخلاف تحصيل المكاسب العملية.
على العضو الذي يترأس أي جلسة أن يحدد موضوع الجلسة التالية. وبعدها يطلب من عضوين محددين أن يعرضا رأييهما. ويقع الاختيار عليهما لكونهما واسعي الاطلاع في مجال المناقشة. ويمكن لباقي الحضور في المجلس أن يعرضوا آراءهم.
تُقرأ البيانات جهرًا، وتدوَّن كتابة كذلك. وتُكتب التقارير باختصار قدر الإمكان دونما إسهاب أو اقتباس للمصادر بغير ضرورة. وبمنع الاقتباس من المصادر، منعت القواعد الأعضاء من بناء الأجزاء غير المثبتة في نظرياتهم على مصدر سابق غير قابل للنقاش؛ وبذلك طعنت المنهج الأرسطي بهدوء. وهكذا، إذا طرحت فكرة، فعليك أن تدعمها بالحجة والدليل.
يبدأ العضوان المتناظران بقراءة أوراقهما دون مقاطعة.
بعد انتهاء كلا المتحدثين من قراءة إسهامه، يعرض كلٌّ منهما تعليقاته أو نقده أو إقراره لما قدمه نظيره. وبعد ذلك يُقفل باب النقاش في هذا الموضوع في تلك الليلة ما لم يأذن الرئيس علنًا باستمرار المناقشة.
يمكن لمن لا يستطيع الحضور أن يسلم رأيه في الموضوع المقترح كتابةً.
يشجع الملتقى أعضاءه على مراسلة المتعلمين في فرنسا وخارجها للاستفادة منهم بخصوص الأعمال الجارية أو بخصوص الأعمال المنشورة في الآداب والعلوم. ويُبلغ الملتقى بهذه المسائل في نهاية جلساته.
بمجرد عقد الملتقى لا يجوز انضمام أي عضو جديد ما لم يوافق على انضمامه ثلثا الحاضرين بعد أن يقدم إليهم طلبًا بانضمامه.
لا يسمح بدخول غرفة الاجتماع التي تستضيف المناقشة إلا للأعضاء. ويقتصر الملتقى على المهتمين بالعلوم الطبيعية والطب ما لم يكن هناك سبب معين للسماح بحضور ضيف شرف.
لذا فبحلول القرن السابع عشر، ضمت باريس فريقين من الفلاسفة: فلاسفة المجتمع القديم الذين كانوا يلتقون برعاية سفير البندقية، وعُرفوا بسلوكهم الحسن وبيئتهم المتجانسة، وفي المقابل عُرف فريق مونتمور بحدة نقاشهم. ففي الفريق القديم، اقترنت الوجاهة بالمنصب، أما في فريق مونتمور، فكانت الوجاهة نابعة من الإقرار بأنك أول من قدم فكرة جديدة. وفي بعض الأحيان، كان الصراع على التقدير يتدنى بمستوى الجدل حيث يحاول أحد الأعضاء أن يهدم فكرة آخر لمجرد تخوفه من أن يكون منافسه على وشك إعلان رأي في مسألة يعمل هو فيها. فكان كل فرد يرغب في التوصل وحده إلى الحقيقة، ولم يرد أن يشارك المجد مع غيره.
وعبر حكاية القرن السابع عشر تلك، نرى أن اللاعبين المحوريين بنوا أفكارهم على ما نسميه اليوم الاستدلال المغلوط بجلاء. إلا أن هذا الأساس بدا منطقيًّا وقتها. وفي حالة دوني ثبت أن الفهم الخاطئ لطبيعة الدم يشكل خطرًا كبيرًا على كل الأشخاص الذين ارتبطت أسماؤهم بهذا الموضوع؛ وفي بعض الأحيان كانت النتائج صادمة.
منافسون في كل مكان
وكتب الشاعر والناقد الفرنسي جون شابلان — بأسلوب مشابه — إلى صديقه فرانسوا بيرنييه الذي أصبح فيما بعد طبيبًا للإمبراطور المغولي الهندي سيئ السمعة أورنكزيب. وعلق شابلان قائلًا إن هناك «عددًا كبيرًا من سادة ديجبي وموراي وغيرهم من سادة الإنجليز ذوي النفوذ» كانوا يجتمعون في لندن على نحو مشابه لملتقى مونتمور. وبالإضافة إلى ذلك، أشار إلى أن الملك نفسه كان يدعم المشروع الإنجليزي وأن أعضاءه كُلفوا بإجراء تجارب تساعد على اكتشاف العالم المادي وفهم العالم السماوي بدرجة أشمل. لقد كان يتحدث عن الجمعية الملكية المؤسسة حديثًا.
إذن لم تقتصر المنافسة على النجاح منذ بداية البحث العلمي المنظم على المشاحنات بين أعضاء نادٍ أو ملتقًى بعينه، بل كانت تزداد حدتها عندما يكون أطرافها أعضاءً في مجموعات مختلفة، بل تحتدم إن كانت تلك المجموعات في بلاد مختلفة. ولما كانت البلاد المعنية هي إنجلترا وفرنسا فقد بلغت الخصومة منتهاها.
إلا أن الوقائع الفعلية أكثر تعقيدًا؛ حيث قضى أحد أهم أعضاء المجتمع الإنجليزي هنري أولدنبرج بعض الوقت يتجول في فرنسا في منتصف خمسينيات القرن السابع عشر، ومن المؤكد أنه انضم إلى أكاديمية مونتمور قبل عودته إلى إنجلترا. وبما إنه أصبح عضوًا مؤسسًا في نادي العلوم الإنجليزي، فيبدو منطقيًّا أنه ساهم بأفكار عن أساليب العمل استمدها من تجربته في القارة الأوروبية.
نظرة جديدة للقوة
حتى ذلك الوقت كانت صراعات القوة في أوروبا تحت هيمنة الكنيسة والدين المنظم. وكان وضع أساس للعلوم المنهجية إحدى وسائل كسر قيود الماضي والتقدم نحو الأمام. وبينما أُجبرت الفلسفة في السابق على الركوع أمام مذبح الكنيسة، تجرأ الناس في ذلك الوقت على تصور ما لا يمكن تصوره. فمنذ عهد الباحث والفيلسوف وعالم اللاهوت الإيطالي توما الأكويني، تبنت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية مذهب أرسطو. ومن ثم أصبحت تعاليم أرسطو على درجة من القداسة تقارب الإنجيل نفسه. كان التشكيك في الأفكار الراسخة لا يزال مكافئًا للتشكيك في العقيدة، وقد عُلِّق كثيرون على الأوتاد وأُحرقوا بسبب جريمة الهرطقة المشينة تلك. لكن ذلك لم يمنع أهل المغامرة من توسيع حدود المعرفة، لكنه أجبرهم على الحذر من الكنيسة للتأكد من أنهم لم يستنفدوا صبرها.
لا يعني هذا أن العلماء الأوائل أرادوا هجر الدين والكفر بالرب؛ بل العكس تمامًا. فقد كان كثيرون منهم شديدي الإيمان بالدين تحركهم الرغبة في نقل معرفتهم بالرب إلى العالم أجمع. فقد آمنوا بأن خدمة الرب على خير وجه كانت بالدراسة الدقيقة لخلقه.
الفكر الإنجليزي
من بين الأسباب التي دفعت هوك للامتعاض من الإيحاء بأن الإنجليز قلدوا الفرنسيين هو أن العلوم الإنجليزية كان لها تاريخها. ففي عام ١٦٤٥، بدأت مجموعة من الفلاسفة في عقد اجتماعات في لندن. وكان من بينهم شخصيات من أمثال ويلكنز وجون واليس وجوناثان جودارد. وكان اشتراك جودارد على وجه الخصوص في المجموعة مفيدًا حيث إنه كان أحد أطباء أوليفر كرومويل، وفي ظل سلطة كرومويل في البلاد، كان من المفيد استقطاب أحد رجاله إلى جانبك. وكانت المجموعة تعقد لقاءاتها أحيانًا في منزل جودارد في وودستريت بلندن، وأحيانًا في شارع تشيبسايد وفي بعض الأوقات في كلية جريشام. وفيما بين عامي ١٦٤٨ و١٦٤٩، تفرقت المجموعة؛ إذ أدت عوامل السياسة القومية وارتفاع مستويات معايشهم الشخصية إلى انتقالهم للعيش في أكسفورد أو كامبريدج أو أيرلندا.
وكان على الفريق — شأنه شأن نظيره الفرنسي — أن يحدد موقفه بالنسبة إلى أرسطو. فقد عانى الفريق الأمرين في سبيل التأكيد على أنهم لم يسعوا إلى التقليل من شأن أرسطو، حيث إن أعماله كانت تُدرَّس في المدارس على مدار قرون وكان لها أفضل الأثر. وذكر ويليس باعتباره أحد الأعضاء المؤسسين أن أرسطو كان رجلًا عظيمًا وباحثًا فريدًا في أمور الطبيعة، لكن — ولا بد من «لكن» — الحياة تطورت من بعده. واتفق الأعضاء على أنه من المستحيل أن تجتمع كل المعرفة لدى شخص واحد، ولا حتى أرسطو؛ لذا كان أمامهم ما يقدموه، وكذلك من سيأتون بعدهم.
كانت الحياة في إنجلترا في ذلك الوقت معقدة جدًا. فبجانب المشاركة في الثورة الفكرية الأوروبية كان أمام كلٍّ من عاش على تلك الجزيرة بالتحديد التعامل مع ثورة فعلية. فقد اندلعت الحرب الأهلية الإنجليزية في أغسطس عام ١٦٤٢، وانتهت باستسلام الملك تشارلز الأول في المقر الملكي بأكسفورد؛ وشهد العام ١٦٤٩ إعدام تشارلز الأول وإعلان إنجلترا جمهورية. وبعد بضع سنوات أصبح كرومويل السيد الحامي ودخل الإنجليز في حرب مع الهولنديين، وتورطوا في صراع مع الإسبان، وكانوا تارة يدخلون في مناوشات مع الفرنسيين وتارة يعقدون معهم تحالفات، واستخدموا القوة ليفرضوا السيطرة على أيرلندا.
وفي عام ١٦٦٠ تبدلت الأحوال السياسية مرة أخرى، واعتلى الملك تشارلز الثاني — ابن تشارلز الأول المنكوب — العرش. وعادت الملكية الإنجليزية من جديد. وحان الوقت لهؤلاء الذين قدموا الدعم المخلص للملكية لأن يتنفسوا الصعداء وأن يستفيدوا ما استطاعوا من الوضع الجديد، كما حان الوقت ليغير من ناصروا كرومويل ولاءهم وأن يغيروه بسرعة. وقد جلب البلاط الذي استعاد الملكية لإنجلترا معه الأزياء الفرنسية، وسرعان ما بث ذوقًا جديدًا في الألوان والمرح في المشهد الاجتماعي البيوريتاني الذي اعترته الرتابة. وسرعان ما عُرف تشارلز بحبه للترفيه وكان يتواجد في بيوت الدعارة ذات المستوى الرفيع بقدر وجوده في مقر البلاط الملكي.
وبعد أن أصبحت لندن أكثر أمنًا أخذت مجموعة جديدة في الظهور. وعقدت هذه المجموعة لقاءاتها أيام الأربعاء في كلية جريشام وكان من بين المجتمعين أشخاص من أمثال رين، الذي أصبح اسمًا مألوفًا خلال فترة قصيرة. وبحلول عام ١٦٦٠، بدأت المجموعة تتخذ طابعًا رسميًّا، وطُلب من الأعضاء الأربعين المساعدة في التمويل، حيث يدفع كل فرد رسم انضمام قدره ١٠ شلنات ثم يدفع شلنًا واحدًا في الأسبوع لتدبير النفقات المستمرة.
وفي ٢٨ نوفمبر١٦٦٠، بعد إحدى محاضرات رين المنتظمة أيام الأربعاء في كلية جريشام، اجتمع ١٤ رجلًا وشكلوا نواة منظمة جديدة. وحدث التقدم الكبير بعد عدة أسابيع عندما جاء السير روبرت موراي في الخامس من ديسمبر بنبأ معرفة الملك بالجمعية ورغبته في المساعدة. إلا أن الملك لم يمنح المجموعة لقب الجمعية الملكية إلا في ١٥ يوليو ١٦٦٢. وبدت القائمة المعلنة للعاملين بها من أصحاب المقام الرفيع مبهرة ودالة على طبيعة الجمعية. وبينما كانت تسعى بثبات إلى الاكتشاف العلمي، فقد كانت إدارتها تتم بطريقة بريطانية بحتة؛ إذ كانت طبقة النبلاء هي التي تتولى إدارتها. وإذا كان شابلان مخطئًا بشأن التأثير الفرنسي للجمعية فقد كان محقًّا بشأن الطبيعة الأرستقراطية لأعضائها.
صاحب السمو الملكي
إننا نحن رعاياك الذين ندين لكم بالولاء، والذين اجتمعوا على ميثاق جلالتكم وتشرفوا باسم الجمعية الملكية، نتقدم إليكم بصفتكم مؤسس الجمعية المذكورة بخالص الشكر؛ إذ إنها الوسيلة الوحيدة حاليًّا التي يمكننا بها أن نعرب لسموكم عن الامتنان والعرفان لفضلكم، ونؤكد إجلالنا الدائم لشخصكم الموقر وإخلاصنا في خدمة جلالتكم وعزمنا الراسخ على السعي بكل إخلاص نحو الغاية التي من أجلها أسستم هذه الجمعية وعلى تحقيق التقدم في معرفة أمور الطبيعة وجميع الآداب النافعة من خلال التجارب؛ وهو منهج معروف عن جدارة بعظمته ومجده ويشتهر بتحقيقه النفع للبشرية، وهو الذي زاد من الإعجاب بكم والثناء عليكم بعد إقراره؛ وهذه الجمعية قد ذاع صيتها بالفعل وعُرفت في كل بقاع أوروبا المستنيرة؛ ولا شك أن صيتها سيزداد ذيوعًا مع الوقت باستمرار أفضالكم وبجهود الجمعية المكللة بالنجاح بما يرفع قدركم ويُعرِّف برجاحة عقلكم التي دفعتكم لوضع حجر الأساس لأعظم تطور في العلوم والفنون — التي يسع أعضاء الجمعية الوصول إليها — وهو ما لم يفعله أحد من قبل؛ وذلك كي لا يشكو أحد من افتقار مثل هذا المشروع الذي يؤمل دوامه إلى مساعدة وفضل ملك قدير.
مولانا، إن ما يكفل لنا عطاء سموكم ومساعدة جلالتكم التي تزيد إصرارنا وتتعلق بها آمالنا هو أننا في الوقت المناسب سنتمكن من أن نقدم لمعاليكم هدية تختارونها ونُجري تجارب مفيدةً، وننفذ خطتكم الجليلة؛ إذ تُحركنا دوافع قوية عديدة نحو تلك الغاية.
وبعد بضعة أشهر، في ٢٩ أغسطس، أُرسلت عريضة رسمية إلى الملك تشارلز الثاني كُتبت بلغة تعتبر متذللة في يومنا هذا، إلا أن الملك لم يكن يتوقع شيئًا غير ذلك. ورغم أن تشارلز كان حريصًا على وجود جمعية علمية في إنجلترا، فقد كان شديد الانشغال بالحفلات والسعي وراء الترفيه بما لم يمكنه من حضور لقاءاتها.
جمعية ملكية فرنسية
بينما كان دوني متحمسًا لدعوته للانضمام إلى جماعة مونتمور، إلا أن هذه الدعوة سرعان ما فقدت جانبًا كبيرًا من جاذبيتها. ولم يكد دوني يحضر اللقاءات حتى أصبحت اللقاءات متقطعة وغير منتظمة. فقد كانت أكاديمية مونتمور في مرحلة الانهيار. وقد كانت الأكاديمية على شفا الانهيار من قبل في عام ١٦٥٨ عندما شكك جيل بيرسون دو روبرفال في ذكاء السيد ديكارت، ليضرب سبب وجود الأكاديمية في مقتل. ويبدو أن روبرفال اتُّهم بأنه قال إن شهرة أكاديمية مونتمور كانت بسبب ثروته ونفوذه، وليس لأن لديه أي فكر يقدمه.
إلا أن الأكاديمية صمدت، لكنها في ذلك الحين كانت تواجه مشكلةً جديدةً. فقد ألقى الأكاديمي الفرنسي فولتير الضوء لاحقًا على هذه الحقبة التاريخية في أحد خطاباته التي حملت عنوان «خطابات عن الأمة الإنجليزية» وكُتبت عام ١٧٣٣. فأوضح أنه في عام ١٦٦٦ شعر الفلاسفة الفرنسيون بالغيرة من الجمعية الملكية؛ تلك المنظمة الجديدة التي أشار إليها فولتير باسم «ذلك المجد الجديد»؛ إذ أرادوا أن يكون لهم منظمتهم الخاصة بتكليف ملكي، وأقنعوا لويس الرابع عشر بمنحهم الإذن لافتتاح أكاديمية للعلوم. وبعد أربع سنوات من بدء الجمعية الملكية عملها، افتُتحت الأكاديمية الملكية للعلوم في فرنسا.
أما بخصوص نشأتيهما فقد ذكر فولتير بعض التعليقات البارعة على أوجه الشبه والاختلاف بين المنظمتين قائلًا إن النسخة الفرنسية كانت أقوى لأنها تعلمت من أخطاء سابقتها الإنجليزية. كما طبقت الأكاديمية الملكية الفرنسية للعلوم قواعد أكثر شمولًا تحكم أنشطتها؛ كانت الجمعية الفرنسية منظمة كما لو كانت جيشًا عالي التدريب، ومن ثم رأى فولتير أن إنجازاتها أرفع مجدًا من نظيرتها الإنجليزية التي تفتقر إلى التنظيم الجيد.
لكن الأهم من ذلك هو ما أشار إليه فولتير من أن عضوية الأكاديمية الفرنسية كان لها امتيازات كبيرة. فكان العضو يتلقى راتبًا، وهو ما يعني أن الأكاديمية تقدم الدعوة بناءً على الكفاءة وحدها. في المقابل، كانت الجمعية الملكية الإنجليزية تُحصِّل رسوم عضوية من أعضائها لتتحول إلى نادٍ يجتمع فيه من يتوافر لديهم الوقت والمال. ورأى فولتير أن أي شخص قادر على تحمل نفقات الجمعية الملكية كان يمكنه الانضمام إليها، بينما كانت عضوية الأكاديمية الفرنسية تعتمد على الكفاءة والتعلم فقط.
وبينما كان ذلك بمثابة هدية للبحث العلمي في فرنسا، فقد كان إيذانًا باندثار أكاديمية مونتمور، حيث بدَّل عدد كبير من أعضائها المحوريين ولاءهم. وكان هذا مصدر انزعاج لمونتمور في البداية، لكن الانزعاج سرعان ما استحال غضبًا. فعلى الرغم من أنه قدَّم في سبيل رعاية عالم علمي باريسي جديد ما لم يقدمه غيره، لم تُقدم له الدعوة للانضمام إلى النادي الملكي الجديد. فلم يكن هذا تجاهلًا غير مقصود؛ بل كان إقصاءً متعمدًا. وأثر سوء الحظ المضاعف هذا في دوني كذلك؛ إذ لم يُدع — كما لم يُدع راعيه — للانضمام إلى النخبة الجديدة. وتلقت آماله في الصعود السريع على سلم الشهرة والثراء ضربة قاصمة. وكان من الضروري اتخاذ إجراء حاسم وبسرعة إذا أراد دوني أن يمنع أحلامه من الانهيار.
وعندما أراد دوني أن ينهض من عثرته، كان من الواضح أنه ينبغي أن يتوصل إلى اكتشافٍ ما أو يخترع شيئًا ولم يكن كنه الاكتشاف أو الاختراع ضروريًّا ما دام نافعًا سليمًا ولافتًا للانتباه. وكان عليه أن ينكبَّ على سلسلة من التجارب التي كان من شأنها أن تهز العالم … أو تهز باريس على الأقل.