طريق دوني إلى القمة
كانت التواصل بين إنجلترا وفرنسا جيدًا، وتتوافر لدينا جميع الأسباب التي تدفع للاعتقاد بأن العلماء الفرنسيين كانوا على علم بتجارب نقل الدم التي كان يجريها لوور وأصدقاؤه. وقرر الفرنسيون في سبيل العلم أنه إذا كانت هذه الطريقة جيدة كما يبدو فإن عليهم أن يجربوها بأنفسهم.
كانت محاولتهم الأولى في الأسبوع الأخير من ديسمبر عام ١٦٦٦، عندما ترأس الطبيب الباريسي كلود بيرو فريقًا صغيرًا وجرب نقل الدم بين كلبين. وفي ٢٢ يناير ١٦٦٧، أجروا محاولةً أخرى. وكان ذلك بعد سنوات قليلة من بدء بوتر ولوور أبحاثهما في أكسفورد وما حولها، لكن قبل أشهر قليلة من بداية كينج تجاربه في لندن. وتجمع في هذه المناسبة عدد من أعضاء الأكاديمية الملكية للعلوم المنشأة حديثًا في مكتبة الملك وأحضروا معهم كلبين. وجرى تقييد الكلبين جيدًا بطاولتين في محاولة لنقل الدم من شريان في ساق أحدهما إلى وريد في ساق الآخر. وبعد القليل من العبث والتلطخ بالدماء تمامًا، تراجع العلماء عن المحاولة ملقين باللوم على أدواتهم؛ إذ شكَوا من أن القُنيَّات (الكانيولات) لم تكن مصنوعة بالضبط كما طلبوا من الحرفي ومن ثم لم يكن لديهم أدنى فكرة عما إذا كان الدم يتدفق خلالها أم لا.
ولئلا يتم إرجاء التجربة اجتمع الأعضاء من جديد يوم ٢٤ هذه المرة في منزل لويس جايانت وهو جرَّاح باريسي مشهور. وكانت الأنابيب الجديدة لديهم أفضل بكثير، ونجحوا في توصيل الشريان السباتي في رقبة أحد الكلبين بالوريد الوداجي في رقبة الآخر. وتحقق الاتصال هذه المرة بوضوح حيث وجدوا الوريد الوداجي ينبض مع ضخ الدم الشرياني. ونفق الكلب المستقبِل للدم في الحال، وعندما فُتح صدره لدراسة السبب، وُجد أن القلب والأوردة الرئيسية مليئة بالجلطات.
التقى أصحاب العقول المتسائلة مرة أخرى بعد يومين في مكتبة الملك من أجل إجراء محاولة جديدة. واستنتجوا أن الكلب المستقبِل ساءت حالته على نحو أكبر من المانح، حتى مع فقدان المانح لكميةٍ كبيرةٍ من الدم بسبب «حادث» خلال العملية؛ ولا يحتاج الأمر لجهد كبير لتصور حجم الفوضى. وبالنظر إلى أن معظم أطباء باريس قضوا حياتهم المهنية في علاج الناس بالفصد، ليس من الغريب أنهم ظنوا أن الكلب المانح كان بحالٍ أفضل من المستقبِل. والأرجح في الواقع أن كلا الكلبين كان في حالةٍ سيئة في النهاية؛ أحدهما بسبب رد الفعل العكسي للدم الغريب والآخر نتيجة فقدان الدم الحاد.
أُجرِيَ آخر أربع محاولات لنقل الدم في منزل جايانت في ٢٨ فبراير و٣ و١٥ و٢١ مارس. ولم ينبهر منفذو التجربة كما لم ينبهروا قبلها. فقد كان الدم يميل إلى التجلط في أوردة المستقبِل، ولم تكن الحيوانات في حالة جيدة بعد العملية إلا التي تلقت كميةً صغيرةً جدًّا من الدم.
وفي التجربة النهائية، أُضيفت لمسة علمية لطيفة على خطواتها. فقد جرى قياس وزن الحيوانات قبل نقل الدم وبعده، وأي فضلات خرجت كان يجري جمعها وقياس وزنها. ومن ثم، أمكن التأكد من نقل أوقيتين من الدم من أحد الكلبين إلى الآخر. وأعيدت التجربة ونُقلت أوقيتان أخريان من الدم، لكن مع تفريغ ثلاث أوقيات من الدم خوفًا من ملء الكلب بكميةٍ زائدةٍ من الدم. ونفق الكلب المستقبِل في اليوم التالي.
في ضوء تلك النتائج السيئة، ليس من الغريب ألا يشعر أعضاء الأكاديمية بالحماس البالغ تجاه نقل الدم. ومع ذلك، لم يستسلموا تمامًا، وتساءلوا عما إذا كان من الممكن استخدام أنبوبين ونقل الدم في الاتجاهين في آنٍ واحد. وكانت الفكرة هي السماح باختلاط الدم في كلا الكلبين واتحادهما، إلا أنه رؤي أن المشكلات الفنية لإجراء ذلك على الحيوانات الصغيرة مثل الكلاب كانت كبيرة.
لكن هذه الأفكار عند فحصها لم تدعم الاعتقاد بأن هناك أساسًا قويًّا للآمال التي عُلقت على تبديل الدم، وتبدو الطريقة التي استخدمتها ميديا لإعادة الشباب إلى حَماها أكثر واقعية وأقل خرافية، حيث لم تدَّعِ الجراحة الحكيمة تجديد دم آيسون بمجرد حقن السوائل العلاجية في أوردته التي سُحبت منها الدم القديم، لكنها اعتمدت في الجزء الأساسي للعلاج على دواء أعطته إياه عن طريق الفم.
دوني يخطو خطوته
إذن، كيف تخطر الأفكار الجيدة للمرء؟ أحيانًا يستطيع الناس تسجيل اللحظة التي جاءتهم فيها الفكرة، لكن في الغالب تستغرق تلك العملية بعض الوقت. فحتى تلك الحكايات التي تُروى عن سقوط التفاحة على إسحاق نيوتن ووضع نظرية الجاذبية الأرضية يُعتقد أنها ملفقة. من المؤكد أنه لا يوجد أي سجل يوضح لماذا ترك دوني الرياضيات لبعض الوقت، وتحول اهتمامه لنقل الدم. ومن الواضح أنه سمع بمحاولة الآخرين نقل الدم، وبما أنه كان قد تعاون مع إميري فقد رأى في ذلك فرصة لمواصلة عمله. فأول من ينجح في علاج مريض من خلال نقل الدم سيحظى بأهمية كبيرة. ولم يكن هناك كثير من الوقت ليضيعه.
لذلك ذات مساء في بدايات مارس ١٦٦٧، جلس دوني ليكتب أول منشور له يتناول عمله في بحث نقل الدم. وكان هدفه أن يُنشَر ما كتبه في دورية «جورنال دي سافونز». واكتسبت هذه الدورية الحديثة نسبيًّا قاعدة كبيرة من القراء في باريس، وأخذ القراء على مستوى العالم يشتركون فيها كذلك. وكان العدد الأول للدورية التي أسسها قاضي باريس دوني دي سالو قد صدر في ٥ يناير ١٦٦٥. وكانت الدورية بالأساس مخصصة لمقالات نقدية، لكنها أحيانًا كانت تنشر بعض الأبحاث في العلوم والطب والتكنولوجيا.
نُشر مقال دوني في عدد ١٤ مارس ١٦٦٧ من الدورية، وهو ما أسعده كثيرًا، وتضمن تفاصيل محاولاته الأولية مُبينًا أن المحاولة الأولى جرت في ٣ مارس ذلك العام، وهو اليوم نفسه الذي جرت فيه تجربة جايانت الخامسة. وجرى في التجربة نقل الدم من كلب يشبه الثعلب وكلبة سبنيلي. وابتسم دوني لدى تقليبه صفحات إحدى نسخ الدورية عندما قرأ التقرير الذي كتبه عن التجربة الثانية لنقل الدم التي أجراها هو وإميري في ٨ مارس. وكان هذا مرضيًا بوجه خاص حيث نجحا في نقل الدم من المستقبِل في التجربة الأولى إلى كلب ثالث. وتضمنت التجربة تفصيلة مهمة هي أنهما أبقيا الغرفة دافئة؛ إذ لم يرغبا أن يبرد الدم في أثناء مروره في الأنابيب الموصلة؛ فكان هذا سيُفقد الدم حرارته الحيوية. وظهرت سعادة دوني بتلك الخطوة في وصفه للعملية بأنها كانت أقل خطرًا مما توقَّعا. فالدم دخل أجسام ثلاثة كلاب في خلال أسبوعين فقط وبدت جميعها في صحة جيدة وفي كامل قوتها وفي حالتها المستأنسة. وانبهر أحد الأطباء الذين شهدوا الحدث، قائلًا إنه لم يكن ليظن أبدًا أن ما حدث ممكن إن لم يره بنفسه.
سيشعر أي عالم معاصر بالغيرة من حقيقة أن تلك التجارب نُشرت على ما يبدو في دورية خلال أسبوع من إجرائها. من السهل الوقوع في خطأ الاعتقاد أن التكنولوجيا تعجِّل من إيقاع الأحداث حتمًا. لكن مع كل الشروط الإضافية المفروضة في يومنا هذا من أجل العرف ومن أجل التدقيق، يستغرق النشر في دورية أكاديمية عادة من ستة أشهر إلى سنة على الأقل من تاريخ الانتهاء من التجربة.
قمنا في حضورك بنقل دم العجل إلى أوردة الكلب في ٢٨ مارس، وهو ما نفعله في كل التجارب اللاحقة التي أجريناها من وقتها، مع عملنا الدائم على إتقان العملية إلى حد ما.
أول إنسان
بعد ذلك خطا العالم أولى أهم خطواته في تاريخ نقل الدم. ففي ١٥ يونيو، تعرَّف كلٌّ من دوني وإميري على فتًى في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره — لا تُعرف سنُّه بصورةٍ مؤكدةٍ — وكان من الشائع ألا يعرف الناس سنهم. وكان هذا الفتى يعاني طوال شهرين من حمَّى شديدة أوهنت قواه. واستقدم أقاربه الأطباء الذين أجروا له فصد دم حتمًا. كانت الحمى تعتبر علامة على أن أخلاط الشخص اختلَّت وأن الجسم يحتوي على كمية كبيرة من الدم المولد للحرارة. وكان إخراج نحو نصف لتر من الدم سيحل المشكلة.
لكن الفصد لم يعالج الحمى لدى هذا الفتى تحديدًا؛ لذا عاد الأطباء وكرروا العلاج. وعلى مدار شهرين، فُصِدَت دماء الفتى عشرين مرة؛ لذا لم يكن غريبًا أن الفتى عاثر الحظ قد وهنت قواه، وتبلد عقله، وضعُفت ذاكرته، وثقل جسده، وكان النعاس يغالبه باستمرار؛ إذ كان ينام لمدة ١٢ ساعة كل ليلة، وكان إيقاظه في الصباح يتطلب جهدًا كبيرًا؛ حتى إنه كان ينام حتى وهو يتناول الإفطار. وكان هذا تناقضًا كبيرًا مع الروايات التي ذكرت أنه قبل الحمى كان يتمتع باللياقة البدنية والرشاقة.
كان استدعاء طبيب أمرًا مكلفًا، بل كان خطرًا؛ إذ لم تعد المشكلات التي يعاني منها الشاب في هذه المرحلة نتيجة للمرض الأصلي بقدر ما كانت نتيجة العلاج الذي كان يتلقاه. من المحتمل جدًّا أن يكون السبب الأصلي للحمى قد انتهى خلال شهرين وأن إرهاق الفتى كان نتيجة معاناته من فقر الدم الناتج عن فصد الدم المفرط؛ فقد كان النزيف الشديد لعشرين مرة كافيًا لجعل أي جسم في غاية الوهن.
وعندما وصل دوني، برزت احتمالية تحول الموقف من سيئ إلى أسوأ. فحص دوني المريض واستمع إلى قصته. وبعدما ناقش المشكلة مع إميري توصل كلاهما إلى أن جسم الفتى يحوي كمية قليلة جدًّا من الدم، وأن الكمية القليلة المتبقية قطعًا كانت مليئة بكمية مركزة من الحمى. ومع نقص الدم من جسم يخف مستوى الحمى. هذا بخلاف أن قلة كمية الدم كانت تعني أن الحرارة الطبيعية في جسم المريض لم تكن كافية لقتل العوامل المسببة للحمى. وظنَّا أن الدم بدلًا من أن يجري عبر الجسم كان في الأغلب يرقد في برك ساكنة داخل الأوعية الدموية، فلا يحمل ما لديه من القوة المانحة للحياة إلى الأعصاب والعضلات.
وكانت هناك طريقة واحدة للتأكد من صحة نظريتهما، وهي فتح أحد أوردة الشاب ورؤية ما يخرج منها. ومرة أخرى خسر الشاب بعضًا من دمه الثمين. وباستخدام أدوات فصد الدم الشائعة، فتح دوني وإميري أحد الأوردة ورأيا كمية صغيرة من الدم تخرج منه، وكان الدم داكن اللون كثيفًا لدرجة أنه لم يكد يخرج من الوريد، لقد كان الشاب في حالة سيئة بلا شك.
كان الحل واضحًا لهما، لكنه كان حلًّا ثوريًّا في رأي المراقبين. كان الحل إعطاءه مزيدًا من الدم. هنا كان الوقت قد حان لإرسال شخص للبحث عن متبرعٍ وبدت الخراف حلًّا جيدًا كغيرها من الحيوانات الأخرى.
كان الانتقال من مجرد التصور — عبر التجارب الأولية على الحيوانات — إلى أولى التجارب على البشر سريعًا للغاية. وليس هذا بالشيء المسموح به حاليًّا، حيث توجد الضمانات التنظيمية واللجان الأخلاقية من أجل حماية المرضى من تصرفات الممارسين ذوي الحماس الشديد؛ إذ ربما توافق إحدى اللجان الأخلاقية في الغرب لعالمٍ أن يجرب فكرة على حيوان وهي تعلم أن الحيوان لن ينجو من التجربة، لكنها تصر على ألا تُجرى أية تجارب على إنسان إلا إذا توافر دليل قوي على أن الشخص سيستفيد من الإجراء. ويقودنا هذا إلى التفريق بين العلماء الذين يُجرون «التجارب» على الحيوانات، والأطباء الذين يُجرون «الاختبارات» على البشر. والآن يمثل إعلان هلسنكي لعام ١٩٦٤ أساسًا للطريقة التي ينبغي أن يتواصل بها الأطباء والمرضى، مع الإصرار على أن مصلحة المريض هي الهدف الأساسي لأي علاج. ففي البحوث الطبية، ينبغي أن تسبق سلامة الإنسان الذي يخضع للاختبار اهتمامات العلم أو المجتمع. ويبدو أن دوني تصرَّف بنزاهةٍ ملحوظةٍ في هذا السياق، حتى بمقاييس القرن الحادي والعشرين. ولم يكن من المعتاد أن تكون صحة المرضى وسلامتهم هي الشاغل الأساسي للأطباء.
أصبح كل شيء جاهزًا في الخامسة صباحًا. فتح دوني أحد الأوردة في ذراع الشاب وأخرج ثلاث أوقيات من الدم. فقد أراد أن يُخرج بعض الدم ليتأكد من وجود مجال لدخول الدم الجديد؛ إذ لم يكن دوني يعارض المنطق السائد القائل بأن زيادة الدم خطر. ثم انتقلا إلى الحمَل، فعندها كان دوني وإميري قد أدخلا أنبوبًا رفيعًا إلى الشريان السباتي للحمَل، وهو ذلك الشريان الموجود في الرقبة الذي يحمل الدم من القلب إلى الدماغ. يتمتع هذا الشريان بعدة مميزات تتجسد في أنه يسهل نسبيًّا تحديد موضعه في جانب الرقبة، وما إن عثرا عليه، كان لديهما وعاء دمويٌّ يمتد بطول ١٠ سنتيمترات يمكن كشفه بسهولة.
وسرعان ما أدخل إميري أنبوبًا في وريد الشاب ووصلها بالأنبوب المتصل بالحمَل. وانتظرا كلاهما وظلَّا يحسبان الوقت. فقد كان هدفهما أن ينقلا إلى الشاب ثلاثة أضعاف ما أخرجوه من دمه. وكان هذا سيعوض الخسارة، ويخفف تركيز الحمى، ويوفر كمية كافية من الدم لاستعادة الحرارة الضرورية. وعندما شعرا بأن عملية النقل قد انتهت سحبا الأنبوبين، ومنعا نزف الدم عن طريق عقد رباط صغير بإحكام حول الجرح الموجود في ذراع المريض.
بعدها لم يكن أمامهما سوى الانتظار والمشاهدة. وأمطر دوني المريض بالأسئلة، واكتشف أنه شعر بحرارة شديدة في ذراعه في أثناء العملية. وبخلاف ذلك، لم يكن هناك كثير ليُعرف على مستوى النتائج الفورية. لكن الشاب ذكر أنه في المساء الذي سبق العملية كان قد سقط من فوق دَرج مكون من ١٠ درجات وأصيب في جنبه، إلا أن الألم قد اختفى منذ نقل الدم. وفتح هذا الباب أمام الاحتمال المثير للاهتمام المتمثل في أن فائدة نقل الدم قد لا تقتصر على علاج الحمى بل تتجاوزه إلى جميع أنواع الآلام والأوجاع الجسدية.
بحلول العاشرة صباحًا، وبعد خمس ساعات فقط من العملية شعر الشاب بالبهجة وتساءل إن كان من الممكن أن ينهض. ولم يرَ دوني أي سبب لمنعه، وسُرَّ لما رأى المريض يقضي باقي يومه وهو يأكل ويشرب ويعيش حياة طبيعية تمامًا. وبعد الظهيرة، في حوالي الساعة الرابعة عصرًا نزفت أنف الشاب قليلًا، وظن دوني أنه نزف ثلاثة أو أربعة قطرات من الدم. شعر أن هذا غريب، لكنه شعر أيضًا أنهما ربما أعطياه كمية من الدم زائدة قليلًا وكانت النتيجة مثل أنبوب فاض في خزان للمياه.
في اليوم التالي نام لمدة أطول قليلًا، ومنذ ذلك الحين استطاع بسهولة أن يتغلب على الشعور بالنعاس، بعد أن كان يحاول النوم من قبل دون جدوى؛ والآن لا يفوته الاستيقاظ مبكرًا من تلقاء نفسه. وهو ينفذ ما يُطلب منه بمنتهى الخفة مهما كان، ولم يعد يعاني من بلادة الروح ولا ثقل الجسد، اللتين جعلتاه في حال لا تمكنه من فعل أي شيء. وزاد وزنه بوضوح، وباختصار، أصبح مثارًا لدهشة كلٍّ من يعرفه ويعيش معه.
نقل الدم يتحول إلى واقع
لقد مر ٢٠٠ عام قبل أن يبدأ الأطباء في اكتشاف التعقيدات التي تدخل في عملية نقل الدم، وعندئذٍ كشفوا عن مدى خطورة تلك العملية في حقيقة الأمر؛ إذ ثبت أن الدم لم يكن سائلًا أحمر بسيطًا، بل هو عضو حي يتكون من عدة أنواع مختلفة من الخلايا التي يؤدي كل منها دورًا مختلفًا في جميع أجزاء الجسم. فخلايا الدم الحمراء تنقل الأكسجين من الرئتين إلى الأنسجة، وتُمكِّن الدم من نقل ثاني أكسيد الكربون في الاتجاه المعاكس. وتحارب خلايا الدم البيضاء الأمراض، بينما تؤدي الصفائح الدموية دورًا حيويًّا في تجلط الدم. وتسبح هذه الكتل الصلبة في سائل البلازما. وسرعان ما وجد العلماء أنه عند السماح للدم بالتجلط، ظهرت لهذا السائل خواص مختلفة بعض الشيء عن البلازما، فسموه مصل الدم.
وفي عام ١٨٧٥، استخرج عالم الفسيولوجيا الألماني ليونارد لاندويس، الذي كان يعمل في جرايفسفالد، خلايا دم حمراء من دم الحملان، وخلطها بأمصال مأخوذة من دم حيوان آخر، كالكلب مثلًا، وأبقى الخليط في حرارة الجسم الطبيعية. وعندما نظر في المجهر، وجد أن خلايا الدم الحمراء انفجرت خلال دقيقتين تقريبًا. كان من الواضح أن ما حدث لن يكون أمرًا جيدًا إن تم داخل جسم الإنسان. فخسارة خلايا الدم الحمراء تعني صعوبة انتقال الغازات إلى أجزء الجسم المختلفة. كما كان لاندويس يعلم أن هلاك الخلايا الحمراء كان له أثر آخر. فخلايا الدم الحمراء غنية بالبوتاسيوم، ومن ثم سيسبح هذا الأيون في مجرى الدم. فعلى الرغم من أن البوتاسيوم أحد العناصر الحيوية للجسم، فإن التركيز العالي للبوتاسيوم في الدم ذو أثر قاتل ويمكنه أن يمنع عضلات القلب من الانقباض. سيشعر الشخص عندئذٍ بآلام في الذراعين والصدر، ويعاني فعليًّا من سكتة قلبية.
في ضوء هذه المعلومة، يبدو أمرًا عجيبًا أن يظل أي فرد على قيد الحياة بعد نقل الدم إليه من نوع مختلف، رغم أن لاندويس عندما راجع كل الحالات المسجلة لنقل دم الحيوانات إلى الإنسان، وجد أنه في نحو ثلث الحالات لم يعانِ الشخص من أضرار طويلة المدى. والتفسير الأرجح هو أنهم لم يتلقوا كمية كبيرة جدًّا من الدم، ومن ثم تمكن الجسم من احتمال التأثير. ومع ذلك، ظل بعض الأطباء يدافعون عن نقل الدم من الحيوان إلى الإنسان حتى عام ١٩٢٨.
نقل الدم غير المتوافق
يمكن لأحد ثلاثة احتمالات أن يقع عند نقل فصيلة دم غير مناسبة: فأحيانًا لا يحدث شيء؛ إذ لا يتعرف الجسم في تلك الحالة على هذا الهجوم من الخلايا الغريبة ومن ثم لا يعطي استجابة دفاعية.
أما الاحتمال الثاني فهو تحطم كرات الدم الحمراء المنقولة بنحو فوري ومهدد للحياة. ويحدث هذا عندما ترصد خلايا الدم في جسم المريض خلايا دم غريبة ويستثير ما يُعرف بالجهاز المناعي المتمم. والمتمم هو جزيء يلتصق بخلايا الدم الحمراء ويسبب ثقوبًا في أغشيتها. وبما أن تركيز المواد الكيميائية داخل الخلايا أعلى من تركيزها في الدم، فإن الماء يندفع عبر الثقوب فتتضخم الخلايا وتنفجر، وتخرج محتوياتها إلى مجرى الدم. عندها يواجه الجسم مهمة كبيرة تتمثل في إزالة هذا الحطام. وعلاوة على ذلك، يمكن لآلية التجلط في الدم أن تخرج عن السيطرة، فتسبب نزيفًا حادًّا من أي نقاط ضعيفة. ويطلق على هذا الوضع التخثر المنتثر داخل الأوعية الدموية المعروف اختصارًا باسم دي آي سي. يمكن أن يكون النزيف داخليًّا فلا يُلاحظ، أو يمكن أن يحدث من خلال الجروح القديمة أو في الممرات الأنفية، مما ينتج عنه نزيف الأنف. ويمكن لصدمة الجهاز المتمم أن تكون شديدة وغامرة. لكن في الحالات الأقل سوءًا يمكن ألا يُستثار الجهاز المتمم بالكامل ولا يفقد الدم سوى ثُلث خلايا الدم الحمراء في الساعات الأربع والعشرين الأولى. وفي هذه الحالة يستقر وضع الشخص المتأثر ويتعافى ببطء.
وأما الاحتمال الثالث فهو أن تُزال خلايا الدم الحمراء الغريبة على نحو بطيء من مجرى الدم. ولا يتدخل في هذه العملية نظام التعرف على فصائل الدم، بل تضطلع بها خلايا دم بيضاء موجودة خاصة لرصد الخلايا المهاجمة وإزالتها. وفي هذه الحالة، يجري تدمير خلايا الدم المتبرع بها خارج مجرى الدم، إما في الكبد أو في الطحال. وربما يشعر الشخص بالتوعك، لكن الوضع لا يشكل خطرًا على حياته.
من حين لآخر، تحدث حالات نقل دم بين فصائل متباينة في البيئات الطبية الحديثة، لكن ذلك لا يحدث إلا في حالات الأخطاء المطبعية فيُعطى الشخص دمًا من فصيلة غير مناسبة.
المؤشرات السريرية
تعد الحمى أكثر أعراض عدم التوافق في نقل الدم شيوعًا؛ إذ يستجيب الجسم للمواد الكيميائية التي تصب في مجرى الدم. ويمكن للوضع أن يسوء إذا كان الدم المنقول يحمل عدوى بكتيرية أو كانت الأدوات المستخدمة غير معقمة، ومن ثم تنقل البكتيريا إلى المتلقي. ربما كان دوني ومعاصروه ينظفون الأنابيب التي يستخدمونها، لكن بما أنهم لم يكتشفوا وجود البكتيريا لم يكن هناك أي أمل في أن تكون الإبر التي تدخل في العروق معقمة. ومن ثم زاد احتمال أن تدخل الميكروبات المسببة للأمراض مع الدم إلى الدورة الدموية.
كما يمكن للمرضى أن يشعروا بألم في الصدر حيث يعاني القلب من ارتفاع نسب البوتاسيوم في الدم. وفي تجربة دوني، ربما كانت السكتة القلبية الناتجة أحد أسباب شكوى الفتى من الألم في ذراعه مع دخول الدم الجديد، رغم أن نسبة كبيرة من الألم الحاد كانت تعود على الأرجح إلى الحساسية المفرطة في استجابة الجسم في ظل اختلاط الدم الأصلي والدم الجديد داخل الوريد.
ومع الصعوبة التي تواجه عمل القلب، ينخفض ضغط الدم لدى المريض ويظهر لديه الشعور بالغثيان ويتقيأ. ويمكن لضغط الدم المنخفض في ظل وجود ملايين التجمعات الصغيرة لخلايا الدم الحمراء أن يشل الكليتين بسهولة ما يزيد المشكلات تعقيدًا. فمع توقف الكليتين يصعب على الجسم تنظيف الدم، وإن لم تُحَل المشكلة يصبح المريض عرضةً للوفاة نتيجة التسمم الداخلي.
وتؤدي الوسائط أو الرسل الكيميائية التي تُطلَق في الدم إلى ارتخاء الشرايين الدقيقة، ويسمح هذا بتسرب السوائل منها إلى النسيج المحيط بها. ويؤدي هذا الأثر المركب إلى انخفاض ضغط الدم على نحو أكبر. وفي محاولة لاستعادة ضغط الدم الطبيعي، يتم إفراز هرمونات أخرى تسبب غلق بعض الأوعية الدموية. ويتأثر أحد تجمعات الأوعية الدموية على وجه التحديد وهو ذلك الموجود في الكلى. ونتيجة انخفاض ضغط الدم يصعب على الكلى تنقية الدم من الشوائب. وفوق كل ذلك، تتعطل آلية التنقية في الكلى بسبب الانسداد الناتج عن الجلطات الصغيرة التي تسبح في الدم، وتبدأ الأوعية التي تمد الكلى بالدم في الانغلاق. وإذا استمر هذا الوضع، تعجز الكلى عن أداء وظيفتها وتموت خلاياها مع استنفادها الأكسجين الضروري للحياة.
لكن في حالة مريض دوني، يبدو أن الكليتين تمكنتا من الاستمرار في عملهما. إلا أنه في حالات مرضى لاحقين، سجَّل دوني أن أجسامهم أخرجت كميات وافرة من البول الأسود؛ ويرجع اللون الأسود إلى احتوائه على نواتج تكسير خلايا الدم الحمراء. كما شكا المرضى من ألم شديد في الظهر، وهو عَرَض ربما يرتبط بالفوضى الدائرة في الكليتين.
كما ظهرت على مريض دوني أعراض واضحة لإصابته بالتخثر المنتثر داخل الأوعية الدموية. وبدلًا من أن يثير ذلك مشاعر القلق لدى دوني، عرف دوني في أثناء تعلمه الطب أن النزيف كان جزءًا لا يتجزأ من العلاج الطبيعي لذا اعتبر ذلك علامة صحية؛ فعلى كل حال كان يُنظر للحيض على أنه الوسيلة التي يستعيد بها جسم المرأة توازنه الداخلي بصورة طبيعية شهريًّا. فكانت تلك الاستجابة لنقل الدم علامة في رأي دوني على أن الجسم يحل مشكلاته بنفسه. وبدلًا من القلق من نزيف الأنف عندما حدث في المرضى اللاحقين، قرر دوني أن يشجع تلك العملية بقطع أحد الأوردة والتخلص من مزيد من الدم.
المضي قدمًا
على حد علم دوني، كانت عمليات نقل الدم التي أجراها ناجحة؛ لكن ماذا كانت الخطوة التالية؟ لقد كان هناك الكثير من المرضى في باريس، إلا أن إجراء التجارب على المرضى كان محفوفًا بالمشكلات. فإذا تُوفي المريض بعد نقل الدم إليه، فكيف سيمكن تحديد ما إذا كانت الوفاة ناتجة عن مرضه أم أنها بسبب حقن الدم؟ لذا ولدراسة العملية على نحو أشمل، كان عليه أن يجربها على شخص سليم. ويحفل تاريخ علم الطب بأمثلة لعلماء جربوا الوسائل الجديدة على أنفسهم، لكن في هذه الحالة، قرر دوني أن يبحث عن متطوع، مما أسفر عن إجراء ثاني عملية نقل دم للبشر في العالم.
ومثلما كان يوجد كثير من المرضى، كان يوجد كثير من الفقراء؛ هكذا وبعد أيام قليلة استقدم دوني عاملًا بالغًا من العمر ٤٥ عامًا. وكان ضخمًا وسليمًا وقويًّا، وكانت حسابات دوني تقضي بأنه سيحتاج لنقل كمية أكبر من الدم إليه ليتمكن من رؤية الاستجابة.
بدأت التجربة بداية سيئة، حيث وجد دوني وإميري صعوبة في إخراج دم العامل من أوردته. وفي النهاية، لم يتمكنا إلا من استخراج ما لا يزيد عن ١٠ أوقيات. وباستخدام الطريقة نفسها التي استخدموها مع الشاب، وصَّلا العامل بحَمَل؛ لكنهما في تلك المرة أخذا الدم من الوريد الفخذي الأكبر في ساق الحمَل. وظلا يحسبان، منتظرين هذه المرة حتى رأيا أنهما نقلا إلى الرجل ٢٠ أوقية من الدم.
يبدو أن الرجل احتفظ بحس الفكاهة لديه عبر التجربة، وهو ما كان أمرًا جيدًا، حيث تسرب الدم لاحقًا على نحو متوقع من الأنابيب المستخدمة وانتشر الدم عبر أنحاء الغرفة وغطى كل المشاركين في العملية. كما أنه من المستبعد أن يكون الحمَل قد اشترك في تلك التجربة في استكانة. فرغم أنه قُيد بإحكام ولم تُتَح أي فرصة لأن يتحرك أو أن يفعل أي شيء سوى إصدار صيحة اعتراض مكتومة، فإن ذلك لم يمنعه من إغراق المكان ببوله من وقت لآخر.
مرة أخرى، ذكر المتلقي الحرارة الشديدة التي شعر بها في ذراعه مع تدفق الدم الجديد إليه. ويصف دوني ما حدث بعدها، قائلًا إن العملية عندما انتهت نصحوا العامل بالاستلقاء والراحة لكن مع شعوره بالنشاط تجاهل توجيهاتهم. وعلى العكس، قرر العامل أن يذبح الحمَل معللًا ذلك بأنه تعلم الجزارة في شبابه. ويبدو في الحقيقة أن العامل أحسن ذبح الحيوان وسلخ صوفه. بعدها قال إنه سيعود إلى منزله وأكد أنه سيطهو حساءً مغذيًا وأنه سيستلقي ويرتاح بقية اليوم.
أما دوني فقد شعر بالإحباط؛ إذ كان ذلك يعني أنه لن يتمكن من أخذ ملاحظات مستمرة على استجابة العامل لنقل الدم، لكن لم يكن أمامه خيار على أية حال. مع ذلك، ظل دوني مصرًّا على أن يرتاح العامل. وانصرف العامل، وذهب دوني وإميري ليحصلا على قدر من الراحة بينما عكف الخدم على تنظيف المنزل. وبعدها ذهبا إلى منزل العامل ليكتشفوا أنه لم يعد إلى المنزل قط. ولم يكتشفا ما فعل إلا عندما صادفاه في الشارع في اليوم التالي.
من الواضح أن العامل تلقَّى أجرًا نظير خدماته، رغم أن المبلغ الذي حصل عليه ليس معروفًا. وبينما كان هذا مألوفًا في ذلك الوقت إلا أنه عملٌ مستهجَن في يومنا هذا؛ إذ يعني تلقي الشخص للمال بهذه الطريقة أنه لم يعد متطوعًا بل يتخذ من جسمه وسيلة لجني المال. ويمكن أن يقال عن الشخص أنه يبيع جسده؛ وهو ما يكاد يقترب من العبودية.
مع شعوره بعد الظهيرة بالنشاط (إما بسبب الدم الجديد الذي تلقاه قبل ست ساعات أو بسبب كمية النبيذ التي شربها) انكبَّ على عمل شديد الإجهاد لجسمه بالكامل لدرجة قد تُتعب فرسًا؛ وقضى طيلة وقت ما بعد الظهيرة على هذا النحو.
وزعم الرجل في دفاعه عن نفسه أنه كان من المستحيل عليه أن يفكر في الراحة بينما كان مفعمًا بالطاقة. وأوضح أنه لم يشعر بأي ألم، وأنه أكل وشرب ونام جيدًا، وأنه شعر بقوة لم تكن لديه من قبل. لقد كان متحمسًا لنتائج عملية نقل الدم لدرجة أنه عرض تكرارها وقتما يريد دوني وإميري؛ مضيفًا أنه سوف يتصرف هذه المرة على نحو أفضل ويستلقي كما أمره دوني.
ليس هناك ما يدل على أن دوني طلب هذه الخدمة من هذا الرجل مجهول الاسم مرة أخرى، لكن ليس هذا آخر ما سنسمعه عنه.