الفصل الثاني عشر
وبينما نحن في هذا الموقف الرهيب ما أشعر إلا وَقَدْ فُتِحَ باب غرفتي فجأة، وسَمِعْتُ صوت عيار ناري أُطْلِق في وجه حبيبي إميل فخرَّ على الأرض صريعًا لا يبدي حراكًا.
وعند ذلك نظرت؛ فإذا زوجي راعول واقفٌ أمامي، وقد كاد الشرر يتطاير من عينيه وهو قابض بيده على مسدسه، فنظر إليَّ نظرة الغضب والازدراء، وقال لي بصوت جهير: حسنًا تفعلين يا مادلين؛ فيظهر أن هذا الفتى يَرُوق في عينيك أكثر من صديقي فوستير.
ولكني لم أَفْقَه معنى كلامه، ولم أَعِ على شيء مما حولي، بل سَقَطْتُ على الأرض مغشيًّا عليَّ.
وعلى إِثْر وقوع هذه الحادثة الفظيعة اعتراني مَرَضٌ عضال وأَخَذَتْنِي نوبة من الحُمَّى فلازمت الفراش، وكُنْتُ في ذلك الوقت لا أعي شيئًا ولا أعرف مَنْ حولي حتى أولادي أنفسهم، وبَقِيتُ على هذه الحالة نحو شهر كامل، وبعد ذلك تَنَبَّهَتْ حواسي وعاد إليَّ رشدي، فتذكَّرْتُ ما حَلَّ بحبيبي موريس، وكيف أنه ذهب شهيد الحب؛ فأذرفت الدموع، وبَكَيْتُ بحرقة على فَقْدِ هذا الحبيب المخلص الذي كان خير صديق يواسيني ويشاطرني هموم الحياة.
وكنت أتعجب: كيف أنَّ زوجي عَلِمَ بكل ما جرى بيني وبين إميل حتى داهمنا في تلك الليلة الدهماء وفَتَكَ بهذا الشاب البريء ظُلْمًا وعدوانًا.
ولكني أخيرًا أَدْرَكْتُ الحقيقة، وعَلِمْتُ ما وراء السويداه، فلم أُوقِع الشبهة إلا على خادمتي دانيز، وقد أقرَّتْ هي بِفِعْلِها واعْتَرَفَتْ به أمامي جهرًا، فأَمَرْتُها بأن تنفصل من خدمتي ولا تُرِينِي وجهها بعد ذلك؛ فلم يَكُن منها إلا أنها أجابت طلبي، ونَفَّذَتْ إرادتي حالًا، وذلك بخلاف عادتها معي؛ ولذا تعجَّبْتُ من هذا الانقلاب العظيم والتغيير السريع، وقلت: إنه لا بد وأن يكون وراء ذلك سِرٌّ خَفِيٌّ لم أَقِفْ عليه بَعْدُ.
وبعد شفائي من هذا المرض ببضعة أيام دخل إليَّ زوجي راعول وسألني بلطف عن صحتي، فأجبته بغضب: إني سعيدة ما دُمْتُ بعيدة عن رؤيتك.
قال: ولكني أريد أن أنبئك بخبر خطير؛ فاسمعي ما أقول؛ لأننا أصبحنا الآن في حالة تستوجب الحزم والتروِّي، فاعلمي يا مادلين أن ثروتنا كلها نَفِدَتْ، وهذا البيت الذي نَسْكُنه ليس هو ملكنا اليوم، بل إنه من حقوق المُدَايِنِين، وسيُباع غدًا لإيفاء ما علينا من المال، ولكن الله كريم رحيم، فهو لم يَرْضَ بوقوعنا تحت طائلة العقاب مرة واحدة، بل قد نَظَرَ إلينا بعين لطفه وحلمه؛ فأوجد لنا بيتًا آخر نَأْوِي إليه وهو في قرية «سان كولومب» وقد وَرِثْتُه عن شقيقتي التي انتقلت إلى رحمة الله تعالى منذ بضعة أيام.
وذلك البيت، وإن كان أقل رونقًا وبهاء، وأصغر اتساعًا من هذا، إلا أنه يكفي على حال لأن يَلُمَّ شعثنا ويأوينا تحت سقفه، فعليكِ الآن أن تستعدي للسفر إلى قرية سان كولومب، أما أنا فاندهشْتُ من هذا الكلام وقلت لراعول بلهجة الغضب والاشمئزاز: إني لا أَتْبَعُكَ ولا أقتفي أَثَرَكَ منذ اليوم؛ فاذهب أنت وحدك إذا شِئْتَ.
قال: وإلى أين تذهبين إذَنْ يا مادلين؟
قلت: أنا حرة في ما أفعل فليس عليَّ حرج ولا جُنَاح.
– ولكن، ألا تعلمين يا سيدتي أن الشريعة تُلْزِمُك بالخضوع لإرادة زوجك رغم أنفك.
– إن الشريعة لا تأمرني بالإذعان لإرادة وَحْش ضَارٍ وسَفَّاك للدماء مثلك.
– كفى يا مادلين؛ فأنت لا بد لك من الرضوخ لأمري على كل حال.
– ومن ذا الذي يُجْبِرني على ذلك؟
– إذن فاذهبي حيثما شئت فأنا آخُذُ أولادي وأرحل وحدي من هذه المدينة.
قال ذلك ثم خرج من الغرفة يَهُزُّ أكتافه علامةَ التهكم والازدراء؛ فهالني هذا الأمر، وعلمت أنه لا مَنَاصَ لي من اتباع مشورة زوجي راعول؛ لأن السلاح الذي اتخذه لمحاربتي لا يمكنني الوقوف أمامه، وما على العاجز الضعيف إلا التسليم والخضوع، وعلى ذلك جَهَّزْنَا كل ما يلزم لهذا السفر، وفي صباح اليوم الثاني ابتدأْنا في المسير، ولمْ يأتِ المساء إلا وقد وَصَلْنَا إلى سان كولومب، فدَخَلْتُ إلى دارنا الجديدة، وإذا بها بيت حقير البناء ضَيِّق النطاق، وقد خَيَّمَتْ عليه عناكِب الكآبة وأرخى فيه الظلامُ سُدُولَهُ، وحينذاك تَذَكَّرْتُ أيام النعيم والهناء التي مَرَّتْ أمام عيني كمَرِّ السحاب، وقُلْتُ في نفسي: يا لله، هل لم يكفني ما حلَّ بي من البلايا والرزايا بفقد والدي وفراق حبيبي موريس وقَتْل صديقي إميل على مَرْأى ومَسْمَع مني حتى يُحْكَمَ عليَّ بعد ذلك بالنزول من قصور العز والدلال إلى أكواخ المذلة والفقر؟
ولكن ماذا ينفع هذا التأوُّه والتنهيد، وقد نزل الخطب وحَلَّ البلاء؟
إن هذا البيت الجديد الذي قضى علينا سوءُ الطالع بأن نَسْكُنه كان مِلْك أخت زوجي راعول، وهي آنسة تناهز الخامسة والثلاثين من عمرها.
وقد كانت تهوى شابًّا أَوْقَفَ قَلْبَه لحُبِّها، ومالت إليها كل جوارحه، ولكن أبَت المنونُ إلا أن تُفْجِعَهَا بموته قبل إتمام زفافهما ببضعة أيام فشق عليها هذا المصاب، وأقسمت بأن لا تعطي يدها ولا تُسَلِّم قلبها إلى شخص آخر، وكانت تَمْلِك من حطام الدنيا كلها هذه الدار الحقيرة؛ لأن أخاها راعول هَضَمَ كل حقوقها في ميراث أبيها، واستحل اغتصابها لنفسه، أما هي فسامَحَتْهُ على كل ذلك ولم تَسْخَط عليه؛ لأنها كانت على جانب عظيم من التقوى ومكارم الأخلاق وطِيب العنصر، ولطالما وبَّخْتُ زوجي على هذا الغدر وسوء التصرف؛ فلم يكن يُعِيرُني إلا أُذنًا صماء؛ حتى إذا دنا أَجَلُ شقيقته كان هو وقتئذ وريثَها الوحيد في هذه الدار.
ومن ثَمَّ لَبِثْنَا في هذه الدار التي أبى الدهر إلا أن تكون مأوَى الحزانى وأهل المصائب والكروب، وقلت في نفسي: إن الواجب أن أَرْضَى الآن بما قُدِّرَ به عليَّ وأقضي باقي أيام حياتي الحزينة في هذا السجن الجديد كما فَعَلَتْ أخت زوجي راعول من قبلي.
ولكن بعد مُضِيِّ أسبوعين من الزمان سَئِمْتُ نفسي من الحياة وضِقْتُ ذرعًا، فعزَمْتُ على الخلاص من هذه الورطة؛ إما بالفرار أو الانتحار.
وفي صباح أحد الأيام انتهَزْتُ فرصة تغَيُّبِ زوجي عن الدار؛ فجَمَعْتُ ما يتيسر من اللوازم الضرورية، وأَخَذْتُ ما كنت قد ادخرته من فضلات المال في أيام العز والنعيم، ثم حَمَلْتُ وَلَدَيَّ الصغيرَيْن على ذراعي وبارَحْتُ قرية «سان كولومب» هاربةً من وجه هذا الوحش الضاري والزوج القاسي، ولكن النحس لسوء الطالع كان يلازمني ولا يَنْفَكُّ عني طَرْفَة عين؛ فإني لم أَدْرِ مَن الذي أخبر زوجي بحقيقة الأمر، ففاجأني في الطريق وقَبَضَ عليَّ ثم أتى بي إلى الدار ثانيًا، وطَفِقَ يوسعني شتمًا وإهانة على ما صَدَرَ مني، وأخيرًا أَدْخَلَنِي إلى غرفة مظلمة في الدار تكاد تَصْلُح لأن تكون سجنًا للمجرمين والأشقياء فزَجَّنِي فيها، وأَمَرَ بأن لا يَدْنُوَ أحد مني إلا مرة واحدة في كل مساء لإحضار الطعام، وهنا لا تسألْنِي يا سيدي عما كُنْتُ أذوقه من صنوف الذل والعذاب، وأي ذل وعذاب أعظم من أن أرى نفسي — أنا التي تربَّيْتُ في بحبوحة العز والرخاء ولم أتعود إلا على معيشة الرفاه والدلال، ولم أسكن إلا القصور الشائقة التي تَكْتَنِفُها الغياض الغناء والحدائق الأنيقة — لم ألبث أن أصبحت مطروحة في سجن مظلم، وقد حُرِمْتُ من رؤية الشمس والتمتع بجمال الطبيعة مثل غيري من البشر.