الفصل السادس عشر
والآن اسمع يا سيدي خاتمة قصتي؛ لتعلم أن المرأة المسكينة التي تراها الآن جالسة معك قَدَرَتْ — مع شدة ضعفها وجبنها — أن تنتقم لنفسها وتأخذ بثأرها من ذلك الذي نَغَّصَ عَيْشَها وجَلَبَ عليها كل هذا الذل والهوان.
إنني بينما كُنْتُ أجول في أطراف هذه الجزيرة المقفرة لَمَحْتُ على بُعدٍ شخصًا نَزَلَ من إحدى السفن الراسية على مقربة مني وهو مُقْبِل إليَّ يخطر بثيابه الرثة وأطماره البالية، أما أنا فظننته في مبدأ الأمر أحد السياح الذين تَعَوَّدُوا أن يتخذوا لهم زيًّا بسيطًا ما داموا في الغربة؛ فبادَرْتُ إليه لأسأله الصدقة حسب عادتي، ولكني لَمَّا تَفَرَّسْتُ في وجهه اعتراني الانزعاج والاضطراب؛ لأني عَلِمْتُ أنه زوجي راعول أفضى به الحال إلى التجول في المدن والقرى يتسول مثلي الصدقة، ويطلب الإحسان، ولما نَظَرَنِي لم يَعْرِفْنِي فظنني امرأة فقيرة جِئْتُ أسأله الصدقة، فقال: هَوِّنِي عليك يا مسكينة، ولا تعللي نفسك بالمحلل؛ فأنا أشد فاقة منك وأكثر احتياجًا إلى القوت الضروري، ثم تركني وذَهَبَ في حال سبيله.
أما أنا فتبعته واقتفيت أثره على بُعد، وإذا به قد صَعِدَ إلى صخرة عالية يريد الجلوس تحت ظل شجرة فيها، وكان كلما تقدم إلى الأمام يلتفت فيراني أتبعه فيدنو مني ويسألني عن قصدي فلا أجيبه بشيء؛ فزاد حنقه وغيظه واقترب من طرف الصخرة التي كنا واقفين عليها وناداني بأعلى صوته: من تكونين يا هذه، وما شأنك؟ وماذا تريدين؟ أما أنا فلم أُبْدِ حراكًا ولم أَفُهْ ببِنْتِ شَفة حسب عادتي، وحينذاك صَرَخَ راعول في وجهي متهكمًا وقد هزَّ كتفيه وَحَرَّكَ رأسه بازدراء وقال: يَظْهَر أنَّك يا هذه شبح لا حياة فيه أو صَنَم لا حراك به.
فعند ذلك نزعت الرداء الذي كنت أُغَطِّي به رأسي ودنوت من هذا الوحش الضاري فناديته بصوت جهير: أجل، أنا شبح زوجتك مادلين المنكودة الحظ، التي أَوْصَلْتَهَا إلى هذه الحالة التعيسة بسوء تصرفك ودناءة سلوكك جاءت تَطْلُب الانتقام وأَخْذَ الثأر.
فَلَمَّا سَمِعَ مني راعول هذا الكلام اعْتَرَتْهُ الدهشة والانزعاج، وكأن الأرض فَتَحَتْ فاهًا لتبْتَلِعَهُ أو انشقت ميازيبُ السماء لتمطر عليه صواعق الغضب والانتقام، فأجفل ورجع إلى الوراء ولم يتمالك نفسه حتى سقط من أعلى الصخرة إلى الأرض، وفي اليوم الثاني أُشِيعَ بهذه المدينة خَبَرُ مَوْتِه.