نصيحة ختامية
يشهد التاريخ أنَّ وَضْع الروايات والقصص التمثيلية وغيرها كان قديم العهد، وآثارُ المصريين واليونان والرومان القدماء تَنْطِق بهذا القول وتؤيد حقيقته وتُثْبِت صحته من كل الوجوه، فليست الروايات إذَنْ من نفحات هذا العصر واختراعاته الحديثة كما يَتَوَهَّم البعض.
على أن أغلب الروايات — وخصوصًا التمثيلية منها — لم يكن يُقْصَد مِنْ وَضْعِها بادئ ذي بدء إلا الزهو واللهو وترويح النفس ورياضة الجسم؛ فكانت أشبه شيء بالألعاب الرياضية والملاهي البسيطة، وأما في هذا العصر الذي بَزَغَتْ فيه أنوار الحضارة والعرفان واتسع نطاق التمدن والعمران؛ فقد أصبحت هذه الروايات التمثيلية وغيرها من أكبر الحاجيات وأهم وسائل التربية والتهذيب، والمشتغِلون بها يُعْتَبَرُون في اعتقاد العقلاء من مُهَذِّبي النفوس ومربي الأخلاق، ورافعي لواء الفضائل والآداب وقادة العقول والأفكار، وقد شُوهِد بعد الاختبار والتحري الدقيق أن الاعتماد على هذه الوسيلة النافعة في بث روح التقدم والإصلاح أفاد الأمم والشعوب كل الفائدة وأتى بالغاية المقصودة؛ ولذا راج سوق الروايات في عالم التمدن وأقبل الناس عليها إقبالًا عظيمًا ووَجَد المشتغلون بها من الهيئات الحاكمة والمحكومة كل المساعدة والتعضيد.
والذي يراجع تاريخ الأمة الفرنساوية الحديث يعلم أنها لم تَقُم لها قائمة ولم تَنْهَض من حضيض الانحطاط والارتباك إلى أَوْج التقدم والنجاح، إلا بفضل كُتَّابِها الذين اتخذوا وَضْع الروايات التمثيلية وغيرها ذريعةً إلى تحسين العادات وإصلاح المُخْتَلِّ وتقويم المُعْوَجِّ وتربية مَلَكَة الغيرة والشهامة في نفوس الأهالي، فاندفعوا في تيار التقدم وأدرَكوا ما لَهُم وما عليهم من الحقوق والواجبات، فانتبهوا من غفلتهم وهَبُّوا لطلب المزيد من التَّنَوُّر والإصلاح.
وقد كان للكاتب العظيم «موليير» وغيره من كُتَّاب الروايات والقصص — وخصوصًا العالم الطائر الصيت إسكندر دوماس — الفضل الأول في هذه النهضة الأدبية الشريفة.
أما في الشرق فلم يظهر من الكُتَّاب المعدودين الذين أَحْيَوْا هذا الفن في البلاد إلا النذر اليسير، ولكن الشاعر العربي يقول:
ولا يبعد أن يأتي يوم يَنْبُغُ فيه من تفتخر بهم لغتنا الشريفة وبلادنا المحبوبة، وليس هذا على ذكاء الشرقيين وحُسْن استعدادهم ببعيد.
على أننا ننصح الذين يتَصَدَّوْن لوضع الروايات والقصص أو تعريب شيء منها إلى لغتنا العربية أن يلاحظوا أمرًا مهمًّا، وهو أن يجعلوا مدار بَحْثِهم ومَطْمَح أنظارهم إصلاحَ العادات الأهلية وبثَّ روح الغيرة الوطنية والمبادئ الشريفة في نفوس القُرَّاء، وإلا فلا خير في هذه الروايات ولا فائدة لها على الإطلاق.
ولا يَخْفَى أن بين عادات الغربيين واصطلاحاتهم ما يُخَالِف مَشْرَب الشرقيين ويُفْسِد أخلاقهم، وليس وراءه إلا الخارة والغبن، فليس من الصواب تعريب هذه الروايات ونَشْرها بين قُرَّاء العربية، ولدينا من العادات القبيحة والاصطلاحات المُبْتَذَلَة ما هو أَجْدَر بالانتقاد وأحرى بالتنديد، وكثير من الروايات الإفرنجية قد تفيد الذين وُضِعَتْ لهم من الإفرنج، ولكنها لا تفيد الشرقيين، بل تَضُرُّهُم؛ فعلى الكاتب الذي يقصد الفائدة ويَنْشُد الحقيقة ويريد تهذيب الأخلاق أن يلاحظ هذه المسألة بعين الدقة والانتباه، وهذا ما حدا بنا إلى انتقاء هذه الرواية «الوحش الضاري» وتعريبها دون غيرها من الروايات الأخرى؛ لأننا رأينا فيها من الانتقادات السديدة والآراء المفيدة ما تحتاج إليه بلادنا الشرقية ويطابق حالتنا الحاضرة وظروفنا الخصوصية؛ لأن هذه الرواية كما يتضح للقارئ الكريم من مُطَالَعَتِها ترمي إلى غاية نبيلة وغَرَضٍ شريف، وهي إظهار الأضرار العظيمة والأخطار الجسيمة التي تنجم عن الزواج القسري، وهي عادة مُضِرَّة تَفَشَّتْ في الشرق، وكانت سببًا في خراب البيوت العامرة وسقوط العائلات الكثيرة في وهدة الشقاء والبلاء.
فعلى أبناء الفتيان والفتيات أن يمعنوا نظرهم في هذا الأمر الخطير ولا يُضَحُّوا مستقبل أولادهم المساكين على مذبح فائدتهم الشخصية ومصلحتهم الذاتية، وكفى بما جاء في هذه الرواية الصغيرة عبرة وتذكرة لقوم يعقلون.
وإني أسأل الله أن يجعل هذه الخدمة الحقيرة مقبولة لدى أبناء وطني وأهل جلدتي، ويُلْهِمَنا جميعًا طريق السداد والرشاد، إنه السميع المجيب.