الفصل الخامس
وبينما أنا على هذا الحال ما أشعر إلا ويد قوية هَزَّتْ كتفي وناداني صوت مملوء من الغضب والحنق: يَظْهَر أنك لا تطلبين النزهة يا سيدتي إلا في واسع الخلاء.
فهذا الذي كان يكلمني هو زوجي راعول، وقد جاء يفتش عليَّ ويقتفي أثري.
أما أنا فنهَضْتُ واقفة على قدمي ولم أَفُهْ ببِنْت شفة، فاندفع راعول في تيار غضبه وطَفِقَ يوسعني لَوْمًا وتوبيخًا، وأنا لا أزداد إلا صمتًا ورضوخًا، ثم الْتَفَتُّ إليه وقلت له بلطف: هيا بنا نرجع إلى الدار يا راعول.
فنَظَرَ إليَّ شزرًا وأجابني بلهجة العدو الماقت: إنك يا مادلين تتظاهرين أمامي كل يوم بالعداء والجفاء، وقد عِيل صبري وضاق صدري من سوء معاملتك؛ فالأفضل لك أن تجاهري بكراهتك لي حتى أصبح على بصيرة من حقيقة مستقبلنا، فأجبْتُهُ بجأش قوي وجنان ثابت: إني لا أحبك يا راعول، ولكني لا أَبْغَضُك أيضًا.
– حسنًا تقولين، ولكن هل تَظُنِّين أني أُصَدِّق أنه يوجد في العالم كله امرأة واحدة يخلو قلبها من الحب؛ فمن تُحِبِّين إذن يا مادلين؟
ومن هو ذلك الشقي الذي أَخَذَ حُبُّه بمجامع قلبك وجاء يزاحمني على حبك؟
– إن من كانت زوجة مثلي ليس لها الحق أن تُحِبَّ أو تذوق لذة العشق.
– دَعِينَا من هذه المراوغة يا مادلين واعترفي بالحق؛ لأن دموعك وعُزْلَتك يشهدان عليك؛ فمِن العبث أن تَكْتُمي عني حقيقة حبك وغرامك، أَلَمْ تَهَبي قلبك لذلك الشريد الطريد الذي كان يُئْوِيه والدك في داره ويعيش من فضلات صدقتكم.
– إن كُنْتَ تعني بهذا الكلام أخي «موريس» فهو أَجَلُّ من أن يُوَجَّه إليه هذا الهجاء؛ لأنه رجل شريف أبيُّ النفس، وقلبه مملوء من العواطف الشريفة والإحساسات الحرة، وهذا القلب هو أفضل من كنوز العالم كلها.
فلما سمع راعول مني هذا الكلام صعد الدم في رأسه ولاحت على وجهه علامات التهيج والاضطراب، وصرخ في وجهي بغضب شديد قائلًا: كفى يا مادلين؛ فأنا لا أريد أن أَحْتَمِل منك أكثر من ذلك، ولا يمكنني أن أعيش مع امرأة لا همَّ لها إلا سَكْب العبرات وإصعاد الزفرات، وتَذَكُّر أيام اللهو والصبا.
– وأنا لا أستطيع أن أعيش إلا كذلك يا سيدي.
فعند ذلك ازداد تَهَيُّجه وغضبه، ودنا مني رافعًا يَدَهُ ليضربني فناديته بأعلى صوتي: عار عليك يا راعول أن تُهِينَ فتاة مسكينة مثلي وتتطاول عليها بالضرب؛ فلم يُصْغِ راعول لكلامي ولم أشعر إلا وقد انْقَضَّ عليَّ وطَفِقَ يوسعني لَكْمًا وضربًا، ولما أَرَدْتُ أن أتناول حجرًا من الأرض لأدافع به عن نفسي قبض على يدي وناداني بصوت منخفض: إياكِ أن تقولي كلمة أو تُبْدِي حركة، وإلا قَتَلْتُكِ خنقًا، وأرَحْتُ نفسي من شَرِّ أعمالك. وفي ذلك الوقت خارت قُوَاي وضَعُفَتْ عزائمي؛ فنَظَرْتُ إليه نظرة المستغيث؛ فإذا به قد تَقَطَّب وجهه وانقلبَتْ سَحْنَته، وتطايَرَ الشَّرَرُ من عينيه، وأصبح مَنْظَرُه هائلًا ومخيفًا؛ فارتعَدَتْ حينذاك فرائصي، وسَقَطْتُ على الأرض مغشيًّا عليَّ.