الفصل السادس
ولما أَفَقْتُ من غَشْيَتِي وَجَدْتُ نفسي على فراشي في غرفتي، وبجانبي الطبيب يمرضني، وأمامي خادمتي «دانيز» ترمقني بعين الخداع والرياء؛ فجَمَعْتُ حواسي، وتَذَكَّرْتُ ما حلَّ بي قبل هذا الإغماء، وابتدأْتُ أفكر في كيفية التخلص من هذا «الزوج القاسي أو الوحش الضاري»؛ لأنه أكد لي أن حياتي معه أصبَحَتْ مهددة بالخطر، ولا شك فخَطَرَ على بالي أن أَهْجُر هذه الدار التي اسْتَحْكَمَتْ فيها حلقات الشر وأَرْجِع إلى بيت والدي؛ فأقضي به ما بقي من أيام حياتي، ولو أني أعلم أن نير والدتي ثقيل، وضغطها شديد، ولكن الحكمة تقضي على العاقل بأنه إذا وَقَعَ بين شَرَّيْن يجب عليه أن يختار أَخَفَّهما ضررًا، ومن ثَمَّ عَزَمْتُ على تنفيذ هذا الفكر وشَرَعْتُ في التأهب والاستعداد.
ولكن الدهر إذا أَخْنَى على أَحَدٍ وأبى إلا مُعَاكَسَتَه لم يَتْرُك أمامه بابًا للفرج والخلاص؛ فإني بينما كُنْتُ أفكر في هذا الأمر وَرَدَ إليَّ نبأ مُفْجِع ينعي لي وفاة والدي ووالدتي اللذين ذهبا فريسة النار على إثر حريقة هائلة الْتَهَمَتْ دارنَا فصَيَّرَتْهَا رمادًا ولم تُبْقِ فيها حجرًا على حجر.
وقد هَالَنِي هذا الخبر المفجع والخطب الجلل؛ فأذْرَفْتُ الدمع السخين، وبَكَيْتُ بكاء الخنساء، ولكن ماذا ينفع هذا العويل والنحيب، وقد نَفَذَ القضاء، وسبق السيف العذل.
ولا حاجة لي الآن يا سيدي أن أُنْبِئك بما وَصَلَتْ إليه حالتي من الشقاء والتعاسة بعد حلول هذا المُصاب العظيم؛ فقد أَصْبَحَتْ تتنازعني عوامل الحيرة واليأس، وعُدِمْتُ كل ساعد ونصير، ولكني كنت كلما شَعُرْتُ بهذه المصائب عَلِمْتُ أني أستحقها أنا التي جَنَيْتُ على نفسي، وسَلَّمْتُ لإرادة والدتي، ورَضِيتُ بهذا الزواج المشئوم؛ فيلزمني أن أتحَمَّل تَبِعَة خطئي وأُكَفِّر عن ذنبي.
وعلى ذلك رضيت البقاء تحت هذا النير القاسي، وحَمِدْتُ الله على هذه الدرجة التي وَصَلْتُ إليها، ثم أخذت أعتني بتربية وَلَدَيَّ اللذين رُزِقْتُ بهما بعد مُضِيِّ ثماني سنوات من تَزَوُّجي راعول، وهكذا تَرَكْتُ الأمور تجري في أَعِنَّتِهَا، على أني رأيت بعد ذلك في سلوك راعول تَغَيُّرًا عظيمًا، وانقلابًا كليًا؛ فبعد أن كان يلازم الدار ولا يغيب عني طرفة عين أخذ يتغيب كثيرًا، ويقضي أوقاته خارجًا عنها، وربما مَضَتْ عليه الأيام والليالي الطوال، وأنا لا أرى وجهه ولا أُنْكِر عليك يا سيدي، إن هذا ما كُنْتُ أتمناه لأنفرد بنفسي، وأُلَازم عزلتي، وأقتل الوقت بتذكر أيام النعيم والهناء التي مَرَّت عليَّ كأضغاث الأحلام؛ لأن هذا كان منتهى سلوتي وعزائي.