الفصل الثامن
ويا ليت مفاسد زوجي وشروره وَصَلَتْ إلى هذا الحد، بل إنه قد فَعَلَ ما هو أعجب وأغرب من ذلك كله؛ فاسمع يا سيدي ما أَقُصُّه عليك، وتَعَجَّبْ كيف تَصِلُ الدناءة والسفالة ببعض الناس إلى درجة تفوق حدَّ التصور.
دخل عليَّ زوجي ذات يوم وهو يتبسم تَبَسُّم الدهاء والمكر، وقال لي: اسمعي يا مادلين ما أقوله لك؛ فأنا قد عَزَمْتُ على الذهاب الآن، وربما لا أعود قبل الغد، ولكني وَعَدْتُ صديقي «فوستر» بأن يتناول عندي الغداء في هذا النهار؛ فعليك أن تقابليه بكل لُطْف وبشاشة، وتقومي بكل ما يَلْزَم له من مظاهر الاحتفاء والإكرام، وإني أُؤَمِّل أنك تجدين فيه من اللطف والدعة ما يُحَبِّب إليك مجالسته؛ لأنه حلو الشمائل، جذَّاب الملامح، وقد أَوْقَعَ كثيرات من النساء الجميلات في أشراك حبه.
فتَعَجَّبْتُ من كلام زوجي وقُلْتُ له: وماذا يهمني يا راعول مِنْ أَمْر هذا الرجل حتى تُطْنِب لي في وَصْف أخلاقه ومَحاسنه؛ فأنا — والْحَقُّ يُقال — لا أجد في نفسي مَيْلًا إلى مُقَابَلَتِهِ ومُحَادَثَتِهِ.
– هذا ما تَقُوله النساء دائمًا عن كل رجل يحبونه، وأنا أُبَشِّرك بأن فوستر هو أيضًا عاشق مُتَيَّم، ومُحِبٌّ وَلْهَان.
– إني أراه في سن الرشد والكمال؛ فكيف يكون هذا حاله؟
– إن الإنسان لا تنتهي مطامعه أو تَقِف شهواته عند حدٍّ، ولا يغيرها السن أو تؤثر فيها تقلبات الأيام.
– ولكن ماذا يُهِمُّني أنا من كل ذلك؟
– إذا كان لا يُهِمُّك هذا الأمر؛ فأنا أرى أنه يُهِمُّني كثيرًا.
– إني لا أفهم معنى كلامك يا راعول.
– وأنا أريد أن تفهمي كل شيء الآن، قُلْتُ لك: إن فوستر عاشق ولهان، والذي يحبه هو أنت يا مادلين!
– يظهر أن هذا الرجل فاسد الأخلاق دنيء النفس؛ فأنا أبغضه وأَحْتَقِرُه منذ هذه الساعة.
– ولكن سَهَا عَنْكِ يا مادلين أن فوستير هو من أعز أصدقائي، وعلى كل حال؛ فأنا أطلب إليك أن تُحْسِني مُقَابَلَتَه وتَسْعَيْ جهدك في إرضائه؛ لأن لذلك أسبابًا سوف تعلمينها.
قال ذلك: ثم خرج مهرولًا وأَقْفَل وراءه الباب بشدة، وبعد برهة اندفع الباب فدخل فوستر يميس هجبًا ويتمايل طربًا، وهو رجل يتجاوز الخامسة والثلاثين من العمر، تلوح عليه سمات الفطنة والذكاء وحب اللذات والشهوات، وهو مِنْ أشهر تُجَّار مدينتنا وأغناهم؛ فلما دنا مني حَيَّانِي بكل لطف ودعة، ثم اقترب من المكان الذي كنت جالسة فيه، فجلس بجانبي والتصق بي، وأخذ يداعبني ويغازلني بألفاظ لا أَتَذَكَّرُها الآن فابْتَعَدْتُ عنه، ونظرت إليه نظرة الغضب والامتهان.
فتظاهَرَ بأنه لم يفهم قصدي، وزاد اقترابه مني، ثم أراد أن يمسك بيدي فنزعتها منه بشدة وقُلْتُ له: ما هذا الحال يا سيدي، وماذا تريد مني؟
أجاب فوستر: بالله دعي عنك يا مادلين هذا الصد والدلال وارثي لحال حبيب مسكين يرجو رضاك وينتظر نوال السعادة على يدك.
– وما معنى هذا الكلام يا سيدي؟
– يا لله من قلوب النساء؛ فما أشد قساوتها؛ فهل لم تدركي يا سيدتي مرادي ولم تعرفي في حقيقة قصدي إلى الآن، فها إني أنبئك بما تجهلين، فأنا فوستير التعيس الذي أضناه حبك وتأججت نيران الوجد والهيام بين أضلاعه، فجاء يطلب منك الشفاء ويرجو الرضاء، فعسى أن تُشْفِقي عليه ولا تَرُدِّيه خائبًا.
– يظهر يا سيدي إنك قد ضللت في الطريق فدخلت هذا البيت سهوًا وأنت تظنه من بيوت الهوى، فأرجوك أن ترجع من حيث أَتَيْتَ لأن ما فَعَلْتَه يخالف ناموس الشرف والآداب.
وعلى إثر ذلك نَهَضْتُ على قدمي بكل حماسة وفتحت أمامه الباب معتذرة إليه عن صدور هذه الجسارة مني؛ لأني فَعَلْتُ ذلك رغمًا عن إرادتي.
أما فوستر فلم يَعْبَأْ بهذا التصريح الجارح وتظاهر بعدم الفهم، ثم بادر إليَّ فأمسك بيدي وأجابني بكل هدوء وسكينة.
لا تخشي يا سيدتي ولا تضطربي؛ فقد صدر الأمر بأن لا يدخل هذه الغرفة أحد سواي، وقد خلا لنا الجو ونامت عيون العواذل والرقباء.
قُلْتُ: ومن أصدر هذه الأوامر؟
قال: إن خادمتك دانيز أخبرتني أن زوجك هو الذي أمر بذلك.
قلت: ولماذا؟
قال: حَتَّامَ تحاولين الكتمان وتتعمدين التجاهل، أليس هو زوجك الذي أخذ مني اليوم مبلغ ٢٠ ألف فرنك، ووعدني بأن يستميلك إليَّ ويُنِيلَني منك سؤلي، وقد وَعَدْتُه أنا أيضًا بأضعاف هذا المبلغ إذا أَدْرَكْتُ بُغْيتي وفُزْتُ بوَطَرِي.
فلما عَلِمْتُ ذلك سقط هذا الرجل من عيني، وتعجَّبْتُ كيف أن الدناءة والسفالة تَصِلُ ببعض الناس إلى هذا الحد، ثم الْتَفَتُّ إلى المسيو «فوستير» الذي كان في ذلك الوقت جاثيًا على قدميه أمامي يسترضيني.
ويستعطفني، فقلت له: انهض يا مولاي ودَعْنِي أندب سوء حظي؛ لأني أصبحت مثل الأنعام التي تُباع وتُشرى بأبخس الأثمان، وإني أطلب يا سيدي أن لا تزيد في حزني وهمي، فاذهب إلى حيث تشاء، ولا تعد إليَّ بمثل هذا الموضوع والآن أستودعك الله؛ لأنه قد طفح الكيل وبلغ السيل الزُّبَى.
قُلْتُ ذلك ثم خرجت من أمامه غاضبة، ودخلت إلى غرفتي فانْطَرَحْتُ على سريري وطَفِقْتُ أذرف الدموع السخينة على ما وَصَلَتْ إليه حالتي من التعاسة والشقاء، وكُنْتُ في ذلك الوقت أناجي نفسي قائلة: يا لله ما هذا الحال؟ هل سَمِعَ أحد أن زوجًا باع عِرْضَ زوجته بهذا الثمن البخس، فهل لم يَكْفِ راعول أنه بدد ثروة أولاده على بنات الهوى وربات الغنج والدلال، وأهان زوجته إلى هذا الحد حتى إنه باع عِرْضَها لذلك التاجر الغني بمبلغ لا يزيد عن ٢٠ ألف فرنك؛ فوا خجلاه ووا فضيحتاه.
وبينما أنا على هذا الحال أنوح وأبكي لم أشعر إلا وقد فتح الباب، ودخل جيلبير وروبير مُهَرْوِلِين فانطرحا بين ذراعي وسألاني عن سبب حزني وكدري، وسَمِعْتُ صوت طارق على الباب الخارجي فكفكفْتُ الدمع وقُلْتُ لهما: ليس بي شيء؛ فاذهبا لمقابَلة أبيكما المحبوب؛ فإني أسمع وَقْع أقدامه الآن.
وعلى إثر ذلك دخل راعول إلى غرفتي فنظر إليَّ نظرة الغضب الممزوج بالحزن، ولكنه لم يُبْدِ حراكًا، ولم يَفُهْ ببنت شفة؛ فعلمت أنه اطَّلَعَ على كل ما جرى بيني وبين صديقه فوستير، وبعد مضي يومين أنبأني زوجي بأن لديه أشغالًا ضرورية تضطره إلى مبارحة القرية والتوجه إلى مدينة «نانت»، ولكنه لا يعلم متى يرجع من سفره، وعلى ذلك أَعَدَّ ما يلزمه لهذا السفر، ووَدَّعَ وَلَدَيْه، ثم رَمَقَنِي بعين الحنو والخداع، وسار قاصدًا مدينة «نانت».