الفصل التاسع
لما سافر راعول إلى «نانت» بَقِيتُ أنا وحدي مع خادمتي «دانيز» وهي فتاة على جانب عظيم من الحُسن والجمال استخدمها زوجي في خدمتنا على إثر زواجي ببضعة أشهر، ولكن هذه الخادمة مع ما كانت عليه من جمال الخَلق اشْتَهَرَتْ بفساد الأخلاق وسوء النية ودناءة الطبع، وقد ظَهَرَتْ لي منها أمور كثيرة تؤكد عندي هذا الظن، وكنت عزمت على فَصْلِها من الخدمة وطَرْدِها، ولكن إرادة زوجي أَبَتْ إلا صدًى من هذا العزم، واتضح لي أخيرًا أن تلك الخادمة كانت عشيقة زوجي وخليلته؛ فكَظَمْتُ حينذاك غيظي وصَبَرْتُ على هذه المصيبة العظيمة، وكنت أَتَعَجَّبُ كيف أنَّ الاندفاع والتهور في الفساد يقود صاحبه إلى درجة الجنون والعمى، حتى يَسْتَحِلَّ وَضْع زوجته الشرعية وخليلته الفاسقة في بيتٍ واحدٍ وتحتَ سقْف واحد!
ومع أن دانيز كانت تعلم أنها معتبَرة بصفة خادمة حقيرة؛ لكنها كانت تَتَظَاهَر لي بالحسد وتناصبني العداء جهرًا؛ لأنها علمت أني وإياها سواء في الحقوق والواجبات أمام هذا الزوج الخائن …
ولم تكن هذه الفتاة تميل إلى زوجي أو تُحِبُّه حبًّا خالصًا، غير أنها جَرَت وراءه حُبًّا في مالِهِ ورغبةً في استنزاف ثروته، وهذا شأن كل امرأة أباحت عِرْضَها وانتَهَجَتْ سبيل الغواية والفساد.
قُلْتُ لك يا سيدي: إن زوجي سافر إلى «نانت» لقضاء مهمة كنت أَجْهَلُها؛ فبقيت وحدي مع هذه الخادمة أو الخليلة …!
وكان في جملة الذين تَعَوَّدُوا زيارَتَنَا وتَفَقُّد أحوالنا من أقارب زوجي راعول شابٌّ ليِّن العريكة، حُلْو المعاشرة، يُدْعَى «إميل» وهو من عائلة عريقة في الحسب والنسب، قد أَحْرَزَ مالًا طائلًا وثروة عظيمة، إلا أن ذلك كله لم يكن ليجعل «إميل» سعيدًا؛ لأن السعادة الحقيقية ليست في كثرة المال وإحراز الغنى، ورُبَّ صعلوك حقير أسعد من غني كبير.
لقد كان إميل مع ما هو عليه من السعة واليسار لا يميل إلى البطالة والكسل، ولا يحب الراحة والخمول، فتَعَلَّمَ فَنَّ التصوير وبَرَعَ فيه كثيرًا؛ فكان يقضي أَغْلَب أوقاته في مزاولة هذا الفن الجميل، وقليلون هم الذين يَحْذَوْن هذا الحذو من أبناء الأغنياء وأصحاب الثروة والجاه.
ولكن دوام الحال من المحال، ولا بد لكل امرئ أن يذوق في هذه الحياة الدنيا مرارة العيش ولو مرة واحدة مهما كانت درجته، وكيفما كان حاله، وقد قيل:
فبينما كان إميل يمرح في بحبوحة العز والرخاء، رُزِئَ فجأة بوفاة والديه، وهو في عنفوان الصبا وريعان الشباب؛ فاحْتَمَلَ هذا المصاب الأليم بجأش قَوِيٍّ، وجنان ثابت، ولكن الدهر لم يَقْنَعْ بتجريعه هذه الكأس المُرَّة، بل ابْتَدَرَهُ بعد ذلك بفاجعة ثانية كانت على قلبه أَعْظَمَ وَقْعًا وأشَدَّ وطأة من الأولى.
ذلك بأن إميل كان يُحِبُّ فتاة تَبَادَلَ وإياها عبارات الإخلاص والولاء؛ فخانت وَعْدَه ونَكَثَتْ عَهْد مَحَبَّتِه، وتَزَوَّجَتْ بشابٍّ آخَرَ من أرباب الخلاعة والمجون؛ فشَقَّ عليه هذا الأمر، ومن ثَمَّ انقطع عن العمل وهَجَرَ الشغل؛ لأنه وَجَدَ في نفسه انقباضًا عظيمًا واضطرابًا زائدًا، والرأسُ — في الغالب — إذا امتلأت بالهموم والأكدار لا تستطيع العمل أو التفكير على الإطلاق.
وعليه أخذ إميل يجول في طول البلاد وعَرْضِها؛ طَلَبًا للنزهة والرياضة حتى يُزِيلَ غَصَّتَه ويُفَرِّجَ كُرْبَتَه، وكان يرى في زيارتنا مِنْ وَقْتٍ إلى آخر بعض التعزية والسلوى.
أما أنا فلم يكن مَيْلِي إلى مُجَالَسَتِهِ ومُحَادَثَتِهِ بأَقَلَّ مِنْ مَيْلِهِ إلى زيارتنا؛ لأني كُنْتُ أرى في مبادئنا ومشاربنا تَوَافُقًا تامًّا وائتلافًا عجيبًا ولا غَرْوَ في ذلك؛ فقد كابَدَ كل مِنَّا من مصاعب الحياة ومتاعب العيش ما مِنْ شأنه أن يُقَرِّب القلوب ويَسْتَمِيل الأفئدة ويَجْتَذِب العواطف والأميال، فكُنْتُ إذا اخْتَلَيْتُ بإميل يَقُصُّ عليَّ تاريخ حياتهِ الماضية وحوادثه السالفة؛ فأَجِدُهَا كلها مُفْعَمَة بالحِكَم والعِبَر، وأرى في نفسي عند سماعها راحة عظمى، ولذة لا تُوصَفُ.
وكلما كَثُرَ تَرَدُّد إميل علينا قَوِيَتْ مَحَبَّتُنا وازْدَادَتْ أُلْفَتُنَا، حتى أصبح يَشُقُّ عليَّ فِرَاقُه، وأَوَدُّ لو أن يكون قريبًا مني وجالسًا بجانبي طول العمر؛ لأن أعظم ما تجده فتاة حزينة مسكينة مثلي من أنواع التعزية والسلوان هو أن ترى بجانبها شابًا جميلًا لطيف المعاشرة مثل إميل يقاسمها الهموم ويشاطرها في مصائبها وأحزانها.
ولكني لم أَكُنْ أعلم ما خَبَّأَتْه لنا يد الأقدار، من النوائب والأكدار، إذ بينما كُنْتُ أنا وإميل نذوق لذة العزاء، ونتمتع بهذه المعاشَرة الخالية من شوائب الغش والخداع، كانت خادمتي «دانيز» تُدَبِّر لنا المكائد والدسائس ونحن لا نَشْعر ولا ندري؛ لأنها هي أيضًا كانت تُحِبُّ «إميل» وتميل إليه كل الميل، وقد حَسَدَتْنِي على حبه لي وانعطافه إليَّ، وظَنَّتْ أنَّ وراء هذا الحب الخالص شيئًا من المآرب الدنيئة أو الشهوات البهيمية، وإني أريد مزاحمتها في حُبِّ هذا الشاب الجميل فاحْتَدَمَتْ غيظًا واستشاطَتْ غضبًا، ولا سيما لأنها وَجَدَتْ مِنْ إميل كل النفور والهجر، فأخذت تثير عوامل الغيرة في قلب زوجي وتُوغِر صَدْرَه على إميل، حتى أَوْقَعَتْ في نفسه الشك والارتياب من جِهَتِنَا فأصدر أَمْرَه حالًا بطرد إميل من دارنا وحرمانه من زيارتنا، وقد تمَّ ذلك فعلًا بلا معارَضة ولا نِزَاعٍ، وجَرَتْ هذه الحوادث كلها على إثر زيارة الموسيو فوستير المعهودة ببضعة أسابيع، وبعد ذلك عزم زوجي على السفر وغادر القرية متوجِّهًا إلى مدينة نانت كما مَرَّ الكلام.