من صديق إلى صديق
أخي الأستاذ مدحت عاصم
أتذكر المثل القديم: واحدة بواحدة جزاء.
والمفاجأة هي أن تكون أول قارئ لهذا الخطاب في جريدة الصباح، لأن محطة الإذاعة هي أول من يقرأ جريدة الصباح، وهل نسيت يا شيطان يوم كنتم ترسلون من يترقبها في ميدان الأزهار لتطلعوا قبل سائر الناس على ما يقال فيكم؟ وهل نسيت أنكم مع ذلك لم تنتفعوا أبدًا بما يوجه الناقدون إليكم؟ وهل نسيت أنكم هجرتموني هجرًا غير جميل لأني أغرمت بتعقبكم في جريدة البلاغ؟
المفاجأة هي أن تقرأ خطابًا لم تكن تنتظره على صفحات الصباح، وذلك هو الجزاء على المفاجأة التي روعتني بها في بغداد.
وأشهد أني كنت أترقب كل خيال، وأتشوف إلى كل وهم، وأنتظر كل مستحيل، إلا أن أتلقى في بغداد خطابًا من الفنان مدحت عاصم، أخي وصديقي ومولاي.
وإنما كان الأمر كذلك لأني نفضت منك يدي منذ أعوام طوال، واليوم من هجرك كألف سنة مما تعدون.
نفضت يدي منك لأنك طغيت وتمردت، ونسيت ما قضينا من الأسمار في الليالي السود والبيض، حين كان أهلك الأكرمون لا يعرفون السبيل إلى قلبك المتمرد إلا بشفاعة الدكتور زكي مبارك أشرف صديق عرفه أهلك فأحبوه، واطمأنت إلى مروءته تلك السيدة النبيلة وذلك السيد النبيل، وأنت تعرف من أعني.
وفي خطابك عبارات لا يقولها إلا رجل في مثل كرمك ونبلك، فاسمح لي أن أسجل بطريقة علنية أن روحي كان له تأثير قوي في الفن القهار الذي تذيعه أنامل الفنان مدحت عاصم، فليس من القليل أن يكون لروحي فضل على فنان مثلك، وإني لأعرف أنني أدخلت البهجة والأريحية على العصر الذي ظهرت فيه، ولكنني لن أجد من يذكر فضلي غير آحاد، وأنت أولئك الآحاد.
فهل أستطيع أن أطمئن إلى أنك لا تبدأ ألحانك بمحطة الإذاعة قبيل منتصف الليل إلا لأن سهراتنا الوجدانية كانت لا تبتدئ إلا قبيل منتصف الليل؟
هل أستطيع أن أطمئن إلى أني أخطر ببالك حين تمزج دموعك بألحانك؟
هل أستطيع أن أطمئن إلى أني كنت مصدر الوحي لأكثر ما تذيع من الألحان؟
هل أستطيع أن أطمئن إلى أننا سنسمر مرة واحدة بعد الألف في ذلك المنزل الجميل؟
مدحت، أفي الحق أنك رجعت إلى منزل الأهل؟ أفي الحق أنك شبعت من الشطط والجموح ورجعت إلى ذلك المنزل الجميل الذي كانت تظلنا ظلماؤه في غفوات الليل؟
إنك تذكر في خطابك أنك رجعت إلى تلك الحديقة، فهل هذا صحيح؟
وهل تذكر — يا جاحد — تلك الحديقة؟
هل تذكر كيف كنت أرجوك أن تطفئ الأنوار لنتمتع بظلام الليل؟
لقد آن الأوان لأحدثك عن السبب، فقد كان يسرني أن تلعب أناملك على العود في الظلمات لأخفي عنك دموعي، دموع الوجد الذي يثيره فنك المطلول.
ثم جدت أحداث وخطوب نسيتك فيها ونسيتني، إن كان النسيان يجوز على قلب مثل قلبي، ولعل الأستاذ حسن السندوبي — الأديب الساخر — لا يزال يذكر أنني أتعبت قدميه في ليلة شاتية لنصل إلى منزلك، وما وجدناك، وقد ظل يسخر مني زمنًا غير قليل، ولعله لا يزال يسخر من سذاجتي إلى اليوم.
مدحت، لقد بدا لك أن تقارن بين فني وبين فنك، فني في البيان وفنك في الألحان، وأنت ترى أنني اجترفت ما وقف في طريقي من حواجز وأسداد، فاسمح لي أن أسجل أنني لم أنتصر وحدي، وإنما انتصرت معك، فأنت أيضًا من المنتصرين على ما تدعيه لنفسك من الخمول، وهل من القليل أن يبقى مكانك في محطة الإذاعة بضع سنين وهي أخطر وكر من أوكار الدسائس؟ إن إخوانك — وأنا منهم — أحجموا عن مناصرتك فمضيت تشق طريقك بيديك، وسيذكر عالم الفن، إن كانت له ذاكرة، أنك كنت في طليعة النوابغ.
مدحت، لك في عنقي ديون، فقد أوحيت إلى قلبي كثيرًا من المعاني، ولكني سأجزيك خير الجزاء حين أقدم إليك المذكرات الطريقة التي خطتها يمناك في التشوق إلى أخيك.
وبعد، فهل أستطيع أن أسألك عن حال الصديق السخيف الذي يسمونه الموسيقار محمد عبد الوهاب؟ هل أستطيع أن أسألك ما حاله في دنيا غرامه الأثيم؟
لقد نسى هذا الصديق السخيف فضلي عليه، ونسى موقفنا فوق بحيرة أنجان، ونسى أيامنا في باريس وهو يخرج الوردة البيضاء، ونسى القصيدة التي نظمتها فيه وأنا في القطار من باريس إلى ليون، ويظن هذا الصديق السخيف أن كسب المال أفضل من كسب القلوب، تبت يداه، ما أشقاه!
هل أستطيع أن أسأل عن صحة المغنية «حياة محمد» التي وعدتها فأخلفتها وما وعدتني فأخلفتني؟ هل أستطيع أن أسأل عن رباعي العقاد؟ هل أستطيع أن أسأل عن الفتاة التي تلقى محاضراتها عندكم بصوت أرق من بغام الظباء؟
مدحت، حدثني عن لحيتك — لعنها الله — ألا تزال في صحبتك؟ والأستاذ سعيد بك لطفي كيف حاله؟ وعزيز رفعت، وعلي خليل، والصديق الغادر عبد الحميد الحديدي، كيف حال هؤلاء الأعزاء؟ وشارع علوي أين يقع؟ وبار اللواء أين يكون؟ وخلدون أين يجلس؟ وحفني محمود أين يلعب؟ والشناوي أين يغرد؟ وجبريل أين يمزح؟ وهيكل أين يؤمن؟ وطه حسين أين يشك ويرتاب؟
أراني اشتقت إليكم، وأقسم ما قادني الشوق إلا إلى ناس هم مثال الغدر والجحود والعقوق.