دروس الأدب في المعاهد العالية
المعروف أن المعاهد العالية للتخصص: فهذا معهد يخرج الأطباء، وذاك معهد يخرج الرياضيين والمهندسين، وذلك معهد يخرج رجال الأدب أو رجال التشريع.
والتخصص من مزايا هذا الزمان، ومن آفات هذا الزمان. هو من المزايا لأنه يقصر طوائف من الناس على طوائف من العلوم، فنعرف إلى من نتوجه ومع من نتحدث فيذهب من يشكو الرمد إلى طبيب العيون، ويمضي مهيض الساق إلى الجراح، ويتوجه الممعود إلى الطبيب المختص بالأمراض الباطنية، وكذلك يفعل من تحرجه معضلة هندسية، أو مشكلة قانونية.
وهو من الآفات لأنه يورث الناس ضيق الذهن، وفقر العقل وخمود الإحساس، فالمهندس لا يرى من واجبه أبدًا أن يفكر في تهذيب ذوقه بالنظر في بعض المؤلفات الأدبية أو الفنية، والمشرع لا يرى من واجبه أبدًا أن يحرص على تثقيف عقله بالنظر في بعض المصنفات الرياضية أو الطبية، والأديب يرى أنه لم يخلق إلا لدرس آثار الشعراء والكتاب والوقوف على ألوان الأساليب.
وقد انتهز المتخصصون فرصة الغفلة الفاشية في هذا العهد فأعفوا أنفسهم من كل ما يعود بالنفع على الذهن والعقل والذوق، فصار الأديب يجالس الطبيب فلا يحس أنه يخاطب رجلًا من أهل هذه الأرض، وإنما يخاطب مخلوقًا من سكان المريخ، وصار أستاذ الأدب ينكر على طلابه أن يوجهوا إليه سؤالًا في مشكلة نحوية أو صرفية، لأنه فيما يزعم غير مسئول عن علوم المبرد والكسائي وسيبويه، وإنما هو رجل تخصص في درس آثار الكتاب والشعراء والخطباء، وصار المحامي أو القاضي لا يسوءه أن يجهل الأوليات من المسائل الأدبية أو العلمية.
•••
ذلك تصوير لمزايا التخصص ومساويه، وتصوير لأحوال المتخصصين في هذا الزمان.
وأقول بصراحة إني ثائر على التخصص الذي يصل بأصحابه إلى ذلك الحد من ضيق العقل، وقد حملت على هذا الضرب من التخصص أعنف الحرب، وكلفت نفسي ما تطيق وفوق ما تطيق في الطواف بعلوم كثيرة كان لها أثر ظاهر فيما أخرجت من المؤلفات الأدبية والفلسفية، وأحب أن يكون طلاب العلم والأدب في هذا الزمن من الثائرين على الإسراف في فهم التخصص ومن المقبلين على المشاركة في جميع الفنون، وإليهم يساق البيان:
كان أقطاب العلماء في الزمن القديم يجهلون التخصص، أعني أنهم لهم يكونوا يقصدون إليه قصدًا، وإنما كانوا ينتهون إليه وفقًا لوحي الفطرة والطبع، فالعلماء الخالدون من أمثال أرسطاطاليس وأفلاطون وابن سينا والفارابي وابن رشد والجاحظ وابن خلدون والقلقشندي ومحمد عبده وعبد العزيز جاويش، هؤلاء العلماء في التاريخ القديم والمتوسط والحديث لم يكونوا يعرفون التخصص، وإنما كانوا يفهمون أن من واجبهم أن يطلعوا على ما يمكن الإطلاع عليه من المعارف الإنسانية.
ولا يجهل أحد أن أمثال أولئك العلماء كانوا على جانب عظيم من التفوق والبصر بحقائق الحياة.
وقد أشرت إلى أنهم انتهوا إلى التخصص بوحي الفطرة والطبع ولم يسمحوا لأذهانهم وعقولهم بأن تنصرف عمدًا عما تتطلع إليه الأذهان والعقول، فكان لثقافتهم الواسعة أثر فيما تخصصوا فيه، وكان اطلاعهم الشامل يفتح لهم فيما تخصصوا فيه أبوابًا للبراعة والسبق والتفوق.
وهل يستطيع المتحذلقون من شبان اليوم أن يفقهوا كيف كانت ثقافة ديكارت وباسكال؟
وهل فيهم من يدرك كيف كانت ثقافة سبنسر أو كيف كانت معارف أناطول فرانس؟
وما أدعو إليه اليوم كنا حاولناه مرة في الجامعة المصرية، ثم أخفقنا بفضل الحذلقة التي تغلب على شبان هذه الأيام، فقد كان تقرر أن لا يدخل الطالب كلية الحقوق إلا بعد أن يمضي سنتين في كلية الآداب، وأن لا يدخل الطالب كلية الطب إلا بعد أن يمضي سنة في كلية العلوم، وسارت الجامعة المصرية على هذا النظام أعوامًا قليلة، ظهر أثرها في طوائف من المحامين والأطباء، ثم أسرف الطلبة في الصرخ فأعفتهم الجامعة، من ذلك النظام المفيد، ومن الواضح أن ذلك النظام كان في جوهره حربًا على الإسراف في فهم التخصص، فقد كانت الجامعة تفهم أن طالب الحقوق لا يمكن أن يبرع في فهم أسرار القوانين إلا إن أمضى سنتين في كلية الآداب يدرس فيهما علوم اللغة العربية وعلم النفس وعلم الأخلاق ويتعمق بعض التعمق في اللغات الحية وفي الجغرافيا والتاريخ.
وكانت الجامعة تفهم أن طالب الطب لا يعتمد عليه إلا إن أمضى سنة في كلية العلوم يدرس فيها الطبيعة والكيمياء والرياضة درس الفهم والتثبت ليكون في المستقبل من الأطباء العلماء.
•••
ونحن اليوم نحاول أن نضع للحياة العلمية في العراق أصولًا من التقاليد الصالحات، فهل ترون من الخير أن نحقق ما عجزت عن تحقيقه الجامعة المصرية؟
ما الذي يمنع من ذلك؟ أفي الحق أن وزارة المعارف العراقية قد تلاين الطلبة كما صنعت وزارة المعارف المصرية؟
- أولًا: نحن في العراق نحاول جهد الطاقة أن نعيد مجد الأسلاف في حيواتهم العلمية والأدبية والفلسفية، وكان أسلافنا جميعًا معروفين بالتفوق في اللغة العربية، فما كان فيهم طبيب ولا مهندس ولا مشرع إلا وله آثار نظمية ونثرية تشهد ببراعته في الأدب والبيان.
- ثانيًا: نحن نحاول نقل العلوم الحديثة إلى اللغة العربية، وهذا يوجب أن يكون الرياضيون والمهندسون والمشرعون والأطباء قادرين أتم القدرة على التعبير باللغة العربية تعبيرًا يذكِّر بابن سينا وابن رشد وابن البيطار والغزالي والكمال بن الهمام وإمام الحرمين.
- ثالثًا: سيكون أكثر أبنائنا من شبان العراق مدرسين في المدارس الثانوية والمعاهد العالية، وهؤلاء لا مفرّ لهم من أن يشعروا تلاميذهم بأنهم يتكلمون لغتهم العلمية، كما يتكلم المدرسون الأوروبيون لغتهم العلمية.
- رابعًا: سيكون أكثر أبنائنا من شبان العراق مسئولين عن تثقيف الجمهور، وهذا الجمهور لغته العربية، وهو في بعض أحواله يفهم لغته بأدق مما يفهمها المتحذلقون من شبان هذا الزمان.
•••
أما بعد، فإنه من العيب أن يقع ما عبته مرة على أستاذ مصري ألف كتابًا في علم النفس فكانت مراجعه كلها إنجليزية، ولم يشر مرة واحدة إلى رسائل إخوان الصفاء، مع أن في تلك الرسائل كثيرًا من أمهات المسائل في علم النفس وعلم الأخلاق.
ومن العيب أن يقع ما سمعت من أن مكتبة كلية الحقوق في بغداد ليس فيها نسخة من شرح فتح القدير على الهداية، ومن العيب أن يستغرب بعض الطلبة في دار المعلمين العالية أن أكلفه درس مسألة فقهية، مع أن الفقه جانب من الأدب يصور مشكلات المجتمع في الحواضر الإسلامية.
ومن هذا يرى القراء أن أفق الأدب أوسع مما يظنون، وأنه واجب كل الوجوب في تثقيف جميع الطلاب.