الجامعة العراقية
لقد آن للمفكرين في العراق أن يسألوا أنفسهم عما صنعوا في سبيل الجامعة العراقية، فإني أخشى أن يطول أمد التريث والتسويف فتمر أعوام وأعوام قبل أن يتحقق هذا المشروع الجليل.
ولقد يكون عجيبًا أن يوجد ناس يحتاجون إلى من يقنعهم بوجوب إنشاء جامعة في بغداد، فهذا أمر كان يثير الجدل في مصر منذ خمس وثلاثين سنة، ومعاذ الأدب أن يثور الجدل حوله في العراق بعد أن تمتع بالاستقلال.
ولكن الأعجب أن لا تجد هذه الحقيقة على وضوحها من يتحمس لها تحمسًا قويًا فينقلها من عالم الفكر إلى عالم الوجود.
الأعجب هو أن يصبر ناس على حرمان بغداد من حظ أدبي تتمتع به جميع العواصم في العصر الحديث.
قد تقولون إن الجامعة العراقية موجودة بالفعل، بدليل ما في بغداد من المعاهد العالية، وأنا لا أنكر ذلك، ولكني أؤكد أن الصورة التي أنشدها تختلف عن الصورة الموجودة أشد الاختلاف وإليكم البيان:
عندنا مثلًا دار المعلمين العالية، وهي معهد عال بالتأكيد، ولكن شخصيتها ستقوى وتستفحل حين تصبح كلية من كليات الجامعة العراقية، وستصبح أيضًا في أمان من التقلبات، فلا تكون مرهونة بإعداد من نحتاج إلى إعدادهم من المدرسين فتفتح مرة وتغلق مرة وفقًا للظروف، وإنما تظل كلية ثابتة تجاهد في سبيل الآداب والعلوم والفنون.
وستتغير أيضًا نفسيات الطلاب، فلن يكونوا كالطلبة الذين نعرف وتعرفون، لن يكون همهم أن يصاحبونا ثلاث سنين محدودة المواقيت ليظفروا بمناصب التدريس في المدارس الثانوية، ثم يذهب نشاطهم العقلي فلا يكون فيهم باحثون ومؤلفون.
نريد إنشاء الجامعة العراقية لتغيير هذه النفسيات، فقد أصبح من الواجب أن يفهم أبناؤنا أن التعليم العالي ترخص في سبيله السنون الطوال، أصبح من الواجب أن نفهم جميعًا أنه لا مفر من أن يكون عندنا مئات من الشبان المثقفين ثقافة عميقة بحيث نستطيع أن ننتفع وننفع بتبادل الأساتذة مع كبار الجامعات.
في العراق اليوم عدد من الرجال الذين كوّنوا أنفسهم، ولكن هؤلاء في الأغلب يشغلون مناصب إدارية تحول بينهم وبين الانقطاع للتدريس والتأليف، وهم قد نشأوا في جيل غير هذا الجيل، نشأوا في زمان يعرف قيمة اللذة العقلية، ولن يسمح الدهر بوجود نظائرهم مرة ثانية؛ لأن المغانم المادية صارت أكبر ما يتطلع إليه شبان هذا الزمان.
فلا بد من التفكير الجدي في تهيئة جو جديد تتنفس فيه المطامع العلمية والأدبية، لا بد من فتح آفاق جديدة تتنسم هواءها عزائم الشبان الذين يسرهم أن يكونوا من أقطاب العلم والبيان.
إن العراق لا ينبغي له أن يصبر طويلًا على القناعة العقلية التي يعيش في ظلالها شبان هذه الأيام، إن العراق سيتذكر دائمًا أنه كان في طليعة الأمم التي أحيت العلوم والآداب والفنون، وسيطالب أبناءه بأن يرفعوا رايته بين رايات الأمم التي تواجه العصر الحديث بما هو أهله من القوة والطرافة في المذاهب والآراء.
ولكن كيف ننشئ الجامعة العراقية لنحسن إنشاء الجيل الجديد؟ يخيل إليّ أننا لن نواجه المصاعب التي واجهتها مصر حين أنشأت الجامعة المصرية، فقد كان الجمهور في مصر سنة ١٩٠٦ ينقسم إلى فريقين يقال لأحدهما أمة ولثانيهما حكومة، وكانت حكومات تلك العهود تراعي ذوق الاحتلال، والاحتلال لم يكن يسره أن يكون في مصر جامعة، وكان يخشى أن تنشأ طوائف من المزودين بالثقافة العالية، وهذا الصنف من الشبان يكون شوكة تخز الاحتلال.
وقد فطن الفريق الذي يمثل الأمة إلى هذه الحقيقة فأعلن يأسه من الحكومة، ودعا الجمهور إلى الاكتتاب العام لإنشاء جامعة مصرية، فلم تمض غير أشهر معدودات حتى صارت فكرة الجامعة المصرية حقيقة واقعية تلمسها الأيدي وتراها العيون.
وقد أتعب المحتلون أنفسهم في حرب الجامعة المصرية، وتقوّلوا عليها الأقاويل، ولكن الجامعة ظلت تكافح حتى انتصرت وعاد خصومها بغنيمة القنوط.
فهل حالنا اليوم في العراق كحال إخواننا المصريين في سنة ١٩٠٦؟ ليس في العراق اليوم فريق يقال له أمة وفريق يقال له حكومة، وإنما هو كتلة واحدة بحيث يستوي الحاكم والمحكوم في التسابق إلى خدمة البلاد.
معنى هذا الكلام أيها القراء: أننا ننتظر أن تكون الحكومة هي القوة التي تنتظر منها المبادرة إلى إنشاء الجامعة العراقية، وستكون الحكومة بمعونة الله عند ظنكم الجميل.
ولكني أرجو أن تسارع الأمة إلى معاونة الحكومة، أرجو أن يكون للنواب والأعيان وكبار الملاك والتجار والموسرين يد مشكورة في تأسيس الجامعة العراقية، أرجو أن يمد الجمهور يده الكريمة لينفخ في هذا المشروع روح الحياة فإنه يحتاج إلى كثير من الأموال.
وإني لموقن بأن في أرجاء العراق نفوسًا تتطلع إلى المجد، وهذه فرصة نفيسة يجب اغتنامها، فليس من القليل أن تسجل أسماء المتبرعين في كتاب ذهبي يصبح على الزمن من أشرف وثائق التاريخ.
والجمهور الذي أدعوه إلى الاكتتاب لإنشاء الجامعة العراقية يدخل فيه الوزراء والموظفون، لأنهم لا يمثلون الحكومة إلا في دوائرهم ومكاتبهم، وهم بعد ذلك من صميم الشعب الذي وثق فيهم وأسند إليهم القيام بجلائل الأعمال.
فما رأيكم فيما أقترح أيها الصحفيون؟
ما رأيكم فيمن يدعوكم لنصرة الوطن الغالي، الوطن الذي تعود منكم البر والوفاء، الوطن الذي يعرف أن الصحافة هي قلبه النابض ولسانه المبين؟
هل أرجو أن يكون للصحافة الفضل الأول في إنشاء الجامعة العراقية؟
هل أرجو أن تدعوا الجمهور إلى الاكتتاب العام بحيث تستطيع الحكومة أن تبني للجامعة دارًا عالية الشرفات تذكِّر بدار الجامعة المصرية؟
أيها الصحفيون الشرفاء
أنا لا أطالبكم بعمل مرهق، وإنما أرجوكم أن تشغلوا أقلامكم بهذه القضية شهرين اثنين، فإن فعلتم — وستفعلون — فستضعون الأساس للمنافسات العلمية والأدبية والتشريعية بين جامعة القاهرة وجامعة بغداد، وقد آن أن يعرف الجمهور أن المنافسة العلمية هي السناد الوحيد الذي تنهض به المعارف العربية.
أيها الزملاء
تذكروا أن الجامعات ليست من أعمال الحكومات وإنما هي من أعمال الشعوب، فادعوا قراءكم وجماهيركم إلى تقديم الهبات والأوقاف لمشروع الجامعة العرقية، حتى يقال إن الأمة سبقت الحكومة، فإن الحكومات لا تسبق الأمم إلا في عصور الضعف، ومعاذ الله أن يكون أهل العراق من الضعفاء.
أيها الزملاء
أدعوكم إلى المبادرة لمناصرة هذا المشروع الجليل، وأتشرف بتقديم خمسة دنانير تكون فاتحة مباركة إن شاء الله لقوائم الاكتتاب.
أيها الزملاء
هناك تردد في إنشاء الجامعة؛ لأن ناسًا يقولون بوجوب التفكير في تعميم التعليم الابتدائي قبل إنشاء الجامعة، وأقول بصراحة إن الأمم لا ترقى بفضل انعدام الأمية وشيوع القراءة والكتابة، وإنما ترقى الأمم حين توجد فيها صفوة ممتازة تتفوق في العلوم والآداب والفنون، وكيف يمكن أن يكون انعدام الأمية هو الشاهد على تقدم الشعوب ونحن نعرف أن هناك ملايين يقرؤون ويكتبون ثم تمر الأعوام وهم غافلون لا يطلعون على شيء؟
إنما تنهض الشعوب حين يكون فيها مئات لا ملايين يسايرون روح التقدم في الشرق والغرب ويقودون بلادهم إلى التفوق والسبق في الميادين العلمية والاقتصادية والاجتماعية.
إن الغرض من هذا الاكتتاب هو بناء دار الجامعة العراقية، ليشعر الشعب بأنه استطاع أن يقيم شاهدًا على صلاحيته لحياة الفكر والعبقرية ويومئذ لا ترى الحكومة بدًا من استصدار مرسوم ملكي بإنشاء الجامعة وتكوين ما يحتاج إليه العراق من مختلف الكليات.
أيها الزملاء
إن العراق يفيض بالشعر، ولكن هناك قصيدة نحب أن نسمعها في العراق، قصيدة كالتي سمعها أهل مصر منذ أكثر من ثلاثين عامًا، حين تقدمت الأميرة فاطمة هانم إسماعيل فخلعت جمع حليها وقدمتها هدية لبناء الجامعة المصرية، ومن المؤكد أنكم ستجدون في العراق قصائد من هذا النوع، ستجدون نبيلات يقدمن حليهن لبناء الجامعة العراقية، وستجدون من أعيان الألوية رجالًا كرماء يزينون صدر بغداد بدار عظيمة تكون ملاذ العقول في عاصمة الرشيد.