شاعرية زكي مبارك
يا سيد فؤاد
ما هذا الذي تصنع؟
إني لا أزال أبحث عن لحظة فراغ لأنقض تعليقاتك على مقالتي الماضية، وسترى كيف أرجع إليك رجعة السيل، فإن عندي كلمة قاسية لا يجرؤ على كتابتها رجل غيري ولا يجرؤ على نشرها رجل غيرك.
وأبادر الآن بهدم ما نشرتموه لأحد الأدباء من الاستخفاف بشاعرية زكي مبارك، وما كان يهمني أن أهدم ما بنى ذلك الأديب فمثلي يحب أن تكون للناشئين أوهام وأحلام، ولكني خشيت أن يصدق القراء كل ما ينشر في مجلة «المكشوف» وقد وقع ما خشيت فنقلت ما نشرتم جريدة «الرأي العام» في بغداد.
والطريف في هذه القضية أن تنشروا أكثر من خمس مقالات في الرد على الآنسة نجلا عبد المسيح لأنها وقعت في أكبر خطيئة حين قررت أن رأيها في الدكتور زكي مبارك لا ينقض بسهولة!
وكان الظن بأدبكم أن لا تشجعوا القراء على مناوشة تلك الفتاة فالدكتور زكي مبارك هو صاحب كتاب «النثر الفني» الذي لم تعرف مثله اللغة العربية، لا في القديم ولا في الحديث، ولا تؤاخذني يا سيد فؤاد، فلست بالرجل المغرور، وسيأتي يوم تنظر فيه كتاب «النثر الفني» وتعرف أن الدكتور زكي مبارك دان اللغة العربية بذلك الكتاب، وعند الله جزائي.
لا تؤاخذني — يا سيد فؤاد — فإني أشعر بالألم اللاذع حين يجيء كاتب من كتابكم فيسميني «أمير الشعر والبيان» على طريق السخرية ولو كنت سلكت المسالك التي تعرفون لكنت اليوم من أقطاب الوزراء واسترحت من إمارة الشعر والبيان.
وأنا والله غير نادم على ما اخترت لنفسي من مذاهب الحياة، ولكنني أعاني مضاضة اللوعة كلما تذكرت أن جهودي في خدمة الأدب العربي لم تجد من يحفظ الجميل.
ولو كان درس علم البيان في حداثته أو في صباه لعرف كيف يندرج الجزء في الكل، واكتفي بهذه الإشارة راجيًا أن يعود «فيذاكر» علم البيان.
ثم وقف حضرته عند قول زكي مبارك:
فقال: إن الدمن هي المزابل.
وأنا يا سيد فؤاد لم أكن أعرف أن الدمنة هي المزبلة، وهل كانت كذلك في قول صاحب المعلقة المشهورة:
هل كانت الدمن هي المزابل في قول الشريف الرضي:
وهل كانت الدمن هي المزابل في قول أبي نواس:
وهل كانت الدمنة هي المزبلة في قول ابن سنان الخفاجي:
أنا يا سيدي شاعر، رضيتم أم كرهتم، والدمنة في كلام الشعراء الحضريين والبدويين هي الدار العافية، فاسألوا عن صنعة ذلك الناقد لتعرفوا كيف جاز له أن يسمي الدمن مزابل، وما أحب أن أزيد.
ثم ماذا؟ ثم اعترض حضرته على قول زكي مبارك:
واستغرب أن يكون للعاشق عزاء في الأقمار والأفنان.
ويظهر أن هذا الأديب الناشئ لم يطلع على كتاب «مدامع العشاق» ولو كان اطلع عليه لعرف أن الشعراء يتعللون بالأوهام وأن جحدرًا يقول:
وعجب حضرته من أن أقول:
وقال: «لله ما أبشع هذه الميم في مخاطبة الحبيب».
ولو كان حضرته اطلع على كتاب «مدامع العشاق» لرأى أن هذه الميم تقبلها أبو صخر الهذلي وهو يخاطب محبوبته فيقول:
ولو شئت لقدمت إليه ألف شاهد من هذا النوع.
ثم ماذا؟ ثم رماني بالسرقة لأني قلت:
ورأى أني أخذت هذا المعنى من قول عنترة:
مع أن المعنى مختلف تمام الاختلاف، وهل تكون السرقة لأني اشتركت مع عنترة في عبارة «أحبك يا ظلوم»؟
إن كان هذا صحيحًا فما رأي هذا الناقد المبتدئ فيما قيل من أن عند العرب أربعمائة قصيدة تبتدئ بعبارة «بانت سعاد»؟
ثم عجب حضرته من أن أقول:
نعم عجب من أن يحاسب الشاعر نفسه على الإسراف في الحب كأن الشاعر يحرم عليه أن يرجع على نفسه بعتاب أو ملام.
وتأذى حضرته من كلمة «كذلك» فهل تسمحون بأن أقترح عليكم أن تبيعوا ما يملك هذا الناقد من حاسة الذوق؟ إنه يملك موهبة لو بعتموها لأغنتكم عن مصايف لبنان.
ثم ماذا؟ ثم أتعب نفسه في فهم هذه القطعة:
•••
•••
أتعب الناقد نفسه في فهم هذه القطعة ولم يفهمها، وما أحسبه سيفهمها إلا بعد سنين، ولو كانت المصادر تحت يدي لأريته كيف فهمها كبار النقاد من أمثال الأستاذ عبد الكريم الكرمي أديب فلسطين.
وقد أراد حضرته أن يقارن بين هذه القطعة وبين قطعة قالها شاعر لبناني في المهجر، والموضوع مختلف ولكن الناقد لا يعرف، فطفلة المهاجر اللبناني كانت بنت ثلاث سنين، أما الطفلة التي قلت فيها قصيدتي فكانت في سن حضرة الناقد حرسه الله، فإن تفكيره يشهد بأنه ابن عشر سنين!
وبعد فماذا تريد، يا سيد فؤاد؟
- الأول: أن تكون سيء النية، وهذا ما أستبعده كل الاستبعاد.
- والثاني: أن تريد أن أكون محررًا في مجلة «المكشوف» بالمجان.
وأنا والله مستعد لمعاونتك فقد شقيت بالقلم كما شقيت، وأنا شديد العطف على أصحاب الصحف والمجلات وأسميهم «شهداء الأقلام» على وزن «شهداء الغرام» كتب الله لك السلامة والعافية ونجاني من مغالطاتك.
وقد نسيت أن أنص على اسم الأديب الذي نقد ديواني في «المكشوف» فلأذكر أن اسمه حليم كنعان ولو كان جنى على نفسه كما جنيت على نفسي حين قضيت عشرين سنة في الحياة الجامعية حتى ظفرت بإجازة الدكتوراه ثلاث مرات لسميته الدكتور حليم كنعان، ولكنه سخر من أن أكون «دكتورًا» فليكن من واجبي أن أدعو الله أن يرحمه ما عاش من خطر الألقاب فقد كانت سبب بلائي.
والسلام عليكم، وعلى بيروت أيضًا.
•••
قرأت ملاحظتكم على الكتاب الذي شرعت في تأليفه عن (المجتمع العراقي) وابتسمت حين رأيتكم تعجبون ممن يحكم على الحياة العراقية بعد خمسة أشهر في بغداد.
ابتسمت لأنكم صدقتم من حكم على أدب زكي مبارك، مع أنه لم يصاحبه في بيروت غير لحظات قصيرة ضاعت بين التسليمات والتحيات.
وقديمًا قيل: واحدة بواحدة جزاء.
إذا كان الشاعر إلياس أبو شبكه عندكم فسلموا عليه.
وحدثني أحد أعضاء المؤتمر الطبي أن بعض المجلات في لبنان تغتابني، فإن كان ذلك صحيحًا فإني أعتمد على مروءتكم في إرسال ما يكتب عني لأصحح ما فيه من أخطاء، فقد أكون في ذات نفسي برئيًا مما يفترى الظالمون.
أراني الله وجوه أنصاري وخصومي بخير وعافية، والسلام.