إلى ليلى المريضة في الزمالك
سيدتي
أقدم إلى قلبك النبيل أطيب التحيات وأشرف العواطف، وأشكر لك تلك الكلمة الرقيقة التي خطتها أناملك اللطاف على صفحات الصباح، فقد شرحت بها صدري وأقنعتني بأن مصر لا تزال بحمد الله معدن الذوق.
وهذه الغمزة موجهة إلى الشخص الذي تعرفين، الشخص الذي اسمه محمد … والذي اطمأن إلى غيبتي عن مصر فأخذ يشطح وينطح على هواه، والذي اطمأن إلى أني رجل تقتله الشواغل العلمية في بغداد بحيث لا يستطيع الدفاع عن نفسه لو أراد، فهو يصول وحده ويجول.
ومن الغرائب أن يستعين بالدكتور سعيد عبده وأن يحتال في تأليب الأدباء على طبيب ليلى المريضة في العراق.
ولكن لا بأس ففي يدي قلم أحدّ من السيف أؤدب به هؤلاء «الخناشير» وسوف تعلمين.
وأعود إليك يا سيدتي فأقول:
إن همك كله انصرف إلى إقناعي بأنك موجودة، وأنني زرتك بالفعل مع محمد وسعيد، ولكنك لم تذكري العنوان لأعرف بالضبط من تكونين، فقد اشتغلت بطب القلوب سنين عددًا، وتشرفت بعيادة نحو سبعين مليحة من ملاح الزمالك، ويسرني أن أسجل أني كنت دائمًا بلسمًا شافيًا، وأن البهجة كانت تحل حيث حللت، وأن الأفراح كانت تقام في الأفئدة والقلوب حيث توجهت فيا سيدتي، من أنت في أولئك الملاح؟ فقد تكونين أجمل من عرفت، وأشرف من عرفت، وأكون نسيت.
وهل يستحيل النسيان على رجل مثلي؟ لقد عشت دهري أتقرب إلى الله بتدليل الملاح، ولا أدري ماذا أنفقت من مالي ومن شبابي، وكل ما أذكر من تفاصيل الحساب أنني كنت فتى كريمًا فلم أعرف الخيانة ولا الغدر ولا النميمة، ولو شئت لقلت إنني لم أعص الله قط، ولكن من يصدقني؟ وهل من معصية الله أن نتغنى بالوسامة والصباحة والجمال؟
ومعاذ الأدب أن أقول إنني رجل صالح، فالرجل الصالح هو الذي لا يؤذي أحدًا أبدًا، وأنا قد آذيت الأدباء، لعنة الله عليهم، ولكن يعزيني أنني راعيت الأدب مع الله فلم أقدم أية إساءة إلى وجه جميل، أما الأدباء فهم شياطين ودمهم مباح.
سيدتي
من أنت؟ ذكريني فقد نسيت.
أتكونين تلك الإنسانة التي جلست معي على الشاطئ في ليلة مقمرة وأعلنت أنها لا تثق بأمانتي ثم بكت وانصرفت؟ أتكونين تلك الإنسانة التي عبرت معي النيل في زورق ولامتني على عدم العناية بهندامي؟
أتكونين تلك الإنسانة التي كانت تداعبني مداعبة ثقيلة فتثنى على الدكتور طه حسين؟
أتكونين تلك الإنسانة التي كان وجههًا يتدفق بالنور حين تراني، ثم ترفض أن أقبل يديها لنجرب كيف يكون أنس الروح بالروح؟
أتكونين تلك الإنسانة التي لطمتني بكتاب مدامع العشاق ثم داسته بقدميها لأعرف أني عاشق خائن لا يفهم آداب المحبين؟
أتكونين تلك الإنسانة التي عملت أني مدين فقدمت لي حليها لأسدد بها ديوني؟
أتكونين تلك الإنسانة الغادرة التي انتظرتها ساعة عند محطة الحمامات بمصر الجديدة لأتزود منها بنظرة قبل رحيلي إلى العراق ولم تحضر، واكتفت السفيهة ببرقية تهنئني بها على الوصول سالمًا إلى بغداد؟
من أنت يا سيدتي؟ من أنت؟
ذكريني فقد نسيت، ولو شئت لقلت إنني رجل أراد أن يحرس الجمال فأضاعه الجمال.
وهنا أنتقل من الرفق إلى العتاب.
أفي الحق أنه يجوز لك أن تقولي إن ليلى المريضة في العراق امرأة أجنبية، وأن غرامي بها إيثار للأجنبيات على المصريات؟
لا، يا سيدتي، فهذه نزعة خبيثة تنافي أدب العروبة، فالمرأة العراقية شقيقة المرأة المصرية، وستمر أجيال قبل أن تسدد مصر ديونها للعراق.
تعالي إلى بغداد أسبوعًا أو أسبوعين لتسمعي صوت مصر في العراق، تعالي وانظري كيف يكرمنا أهل هذه البلاد، تعالي وانظري كيف أحبس نفسي في بيتي فرارًا من الكرم والجود، فما دخلت مقهى ولا ملهى ولا مطعمًا إلا وجدت حسابي مدفوعًا بدون أن أعرف من الذي دفع، حتى أصبحت لا أدري أين أتوجه، والماء العذب يهجر للإفراط في الخصر، كما يقول أبو العلاء.
لقد آن يا سيدتي أن تعرفي أن المرأة العراقية كلها روح، كلها قلب، كلها فؤاد.
المرأة العراقية هي كما تقول في مصر «ربة بيت» وحنانها مصدر الثروة لزوجها وأبنائها، والتبرج الممقوت لا يعرفه نساء العراق، وليس في بغداد شارع واحد تتبذل فيه المرأة، كما يقع واأسفاه في بعض شوارع القاهرة، وإنما يعيش أهل بغداد متجملين، فلا ينقلهم الحب القاهر إلى الخروج على شريف الآداب.
لا تذكري المرأة العراقية إلا بالخير يا سيدتي، وتذكري أن للمرأة العراقية أحسابًا وأنسابًا، وأنها تكرم نفسها عن التبذل في المشارب والملاعب والمراقص، وتؤثر أن تظل دائمًا مصباح البيت.
سيدتي
قلت لك إنني انتقلت من الترفق إلى العتاب, فعلى أي قاعدة من قواعد الذوق جاز لك أن تقولي إنني فارقت شبابي؟
اسألي عن أهلي يا سيدتي لتعرفي أني من قوم تشيب نواصيهم ولا تشيب أبدانهم ولا قلوبهم.
ومعاذ الأدب والذوق أن أنبهك إلى خطأ ستندمين عليه يوم أعود.
ولكن متى أعود؟
اشتقت إلى الضلال في الزمالك.
اشتقت إلى المنزل الذي لم تسدل ستائره على قلب أشرف من قلبي. اشتقت إلى المنزل الذي كانت تحييني أحجاره حين أشرفه بقدمي. اشتقت إلى الإنسانة الغالية التي كانت تراني أعظم نعمة عرفها الوجود. اشتقت إلى الجدائل المعطرة التي أخذت منها «خصلتين» أدفع بهما قسوة الوحشة في أيام الاغتراب.
ولكن من صاحبة هذه الجدائل؟
من هي؟ من هي؟
لن تعرفي ولن يعرف اللئام الذين يلاحونني على صفحات الصباح.
ولو سألني فاطر الأرض والسموات لأنكرت وكتمت، فليس في الدنيا كلها غير عاشق واحد يكتم أسرار الملاح هو صاحب «النثر الفني» الرجل الذي تعرفين ويعرفون.
ثم ماذا؟ ثم ماذا؟
ثم تقولين إنني عجزت عن مداواتك، وعجز معي الدكتور سعيد عبده والأستاذ محمد، وإن شفاءك وقع على يدي الشاب الظريف، وأنا لا أستبعد ذلك فالله عز شأنه قد يضع سره في أضعف خلقه، وما يسوؤني أن ينجح الشاب الظريف فهو تلميذي، ولو لم يكن تلميذي لما أمكن أبدًا أن يكون شابًا ظريفًا.
ولكن كيف جاز لهذا الشاب الظريف أن يخرج على الأدب فيداوي مليحة عليلة بدون أن يستأذنني؟
وكيف جاز لك أيتها السيدة أن ترضي عن ثورة التلامذة على أساتذتهم؟ ألم يبلغك منشور وزارة المعارف؟
سيدتي
من أنت؟ من أنت؟ أحب أن أعرف من أنت لأنفض منك يدي إلى الأبد، فقد كان الظن أن يكون الموت أحب إليك من الخروج على الذوق، والذوق هو أثمن ما تملك المرأة، وهو عندنا قبل المال وقبل الجمال.
سيدتي
لقد سألتني أن أحمل عنك التحية إلى ليلاي بالعراق، وأنا أعتذر عن نقل هذه التحية، لأن ليلاي بالعراق ضحت بعافيتها في سبيلي وأبت أن تظهر لأعضاء المؤتمر الطبي، وقررت أن الغرق في دجلة أحب إليها من الخروج على الأدب مع طبيبها الخاص.
مولاتي
إن كان في هذه الرسالة شيء يسوء فاعذريني، فقد ألفت الشطط في مخاطبة الملاح، لأني عشت مدللًا بين الملاح، وأنا مع هذا أفهم قيمة التضحية التي تقدمها سيدة حين تخاطب رجلًا، أنا أفهم جيدًا أنك صاحبة الفضل، وأعرف أن المعصم الجميل لا يتحرك لكتابة كلمة مثل كلمتك إلا وهو منفصل، ومثلي يحفظ الجميل ولا ينساه، وكل ما أرجوه أن تصوني قلبك فلا يعرف أسراره شاب ظريف ولا شاب سخيف، وأرجو ألا تكويك التجارب فتذكري نصيحتي بعد الأوان، والسلام.