الساعة صارت عشرة!
صديقي
إن الساعة صارت عشرة.
ألا تصدق أن الساعة صارت عشرة؟
إن كنت في ريب من ذلك فاسمع هذا الحديث:
كان سعادة وزير إيران المفوض في العراق تفضل فدعاني لحضور الاحتفال بعيد ميلاد صاحب الجلالة ملك إيران، فقهرت نفسي على الخروج من عزلتي لأجيب هذه الدعوة الكريمة، وقضيت هناك نحو ساعة أنست فيها بمحادثة فريق من كرام الرجال، وعند عودتي إلى المنزل رأيت رجلين ينتظرانني بالباب: أحدهما صديق عزيز، وثانيهما زائر كريم.
فالتفتّ إلى الصديق، وقلت: من أتى بك؟ ألم أقل لك أكثر من عشرين مرة إني لا أحب أن يزورني أحد؟ ألم أنشر في الجرائد مرات ومرات أن وقتي لا يتسع للزيارات؟
فتبسم الصديق، وقال: لطفًا، لطفًا، فما جئت إلا بالرغم مني، وصاحبي هذا قدم من الموصل، ورجاني أن أدله على بيتك ليراك، ودخلنا فجلسنا لحظة، وأنا على جانب من سوء الخلق لأني كنت أحب أن أخلو إلى القلم والقرطاس، ولكن الزائر الكريم ظنني أمزح فاحتمل سوء خلقي، ثم اقترح الصديق أن نخرج فنقضى لحظة في أحد الأندية فاعتذرت. فقال: راع حق الموصل.
فقلت: حبًا وكرامة! وخرجنا فجلسنا في أحد الفنادق نحو نصف ساعة، ثم استأذنت.
وسأل الرفيقان: متى نلتقي؟
فقلت: بعد شهر!
فقال الزائر الكريم: إني لن أقضي غير أسبوع واحد في بغداد.
فقلت: سأزورك في الموصل!
فقال: أراك تهرب مني!
فقلت: لا أهرب، ولكني مشغول.
وبعد ثلاث ليال سمعت طارقًا يناديني، فنظرت فإذا هو أديب الموصل، فاستقبلته وأنا متضجر متأنف، ولكنه ظنني أمزح، كأنه استكثر أن ألقى الضيف بالتضجر والتأنف، فتتشجعت وقلت: إنني أحرم نفسي من إخواني في العراق، وأعتكف في المنزل لأتمم كتاب «عبقرية الشريف الرضي».
فقال: ولكن نحن على موعد مع الصديق (ع).
فقلت: ما أظننا على موعد.
فقال: هو ينتظرك.
فقلت: هذا بعيد!
فقال: ولكن لا بد على أي حال من الخروج للسهر في هذه الليلة.
فقلت: هذا مستحيل؛ لأن كتابي أعز علي منك.
فاتبسم وقال: ولكن الليلة عيد ميلاد صاحب الجلالة ملك العراق.
فقلت: أحسنت إذ نبهتني إلى ذلك، فمن الذوق أن أشارككم في الأفراح، ولكن اسمع يا صديقي: نحن في الساعة السابعة، وقد شرعت في كتابة بحث مهم جدًا، ويؤذيني أن أخرج الآن، فارجع إليّ في الساعة العاشرة، وسأكون في صحبتك إلى نصف الليل.
فقال: وأنا أقترح أن نخرج الآن، ثم تعود في الساعة العاشرة لتخلو إلى عملك ما طاب لك.
فقلت: هذا حل موفق، وقدمت إليه جملة من المجلات المصرية ليتلهى بها حتى أستعد للخروج.
•••
خرجت في صحبة الزائر الكريم وأنا متضجر متأنف، ولم يهن الأمر على نفسي إلا حين خطر بالبال أن بكائي سيطول على الصحة التي أنفق منها بلا حساب في سبيل الأدب، فأنا أشتغل في كل يوم أكثر من سبع عشرة ساعة، وجبال الكحل تفنيها المراود، وهيهات أن تبقى صحتي مع هذا الكدح المخيف، وأخشى ألا أظفر بكلمة رثاء يوم يشيعني الناس إلى قبري، فذاكرة بني آدم ضعيفة جدًا، وهم لا يذكرون إلا من يؤذيهم، أما الذي يخدمهم ويشقى في سبيلهم فلا يذكره أحد منهم بالخير إلا وفي كلامه نبرة تشير إلى أنه يتصدق بكلمة المعروف، عفا الله عنكم يا بني آدم وعفا عني!
خرجنا فمضينا إلى منزل الصديق فرأيناه يسمر مع زوجته، ولم يكن ينتظرنا كما زعم صاحبي، ولكنه مع ذلك جرى على الفطرة العراقية فاسقبلنا أكرم استقبال، وتلطفت الزوجة الكريمة فأحضرت فناجين القهوة والشاي، وبعض الطيبات من الفاكهة والحلوء.
أما الصاحب الموصلي فأخذ يتلهى بالخطاب الموجه إلى ليلى المريضة في الزمالك على صفحات الصباح، وأما الصديق البغدادي فشاركني في متابعة الأغاني التي يجلجل بها المذياع، ودار صوت من أصوات أم كلثوم فكدت أبكي، ثم ابتسمت فجأة حين تذكرت أنه لا بد من انتهاب قبلة أو قبلتين من أم كلثوم يوم أعود، وهل تستطيع أم كلثوم أن تفر من يدي؟ هيهات هيهات!
وانقطعت الأغاني وشرع طبيب يتكلم عن العناية بصحة الطفل، فقام صاحب البيت وأغلق المذياع بعنف.
– فقلت: ما هذا الحمق؟
– فقال في ألم موجع: إن هذا الطبيب هو الذي قتل طفلي، ومد يده إلى الحائط فأنزل لوحة فيها صورة طفل يشبه أدونيس ابن أفروديت، وجريت على عادتي في درس الوجوه والعقول والقلوب، فرأيت الزوجة تتطلع إلى صورة الطفل وهي في مثل حال الظبية المروعة التي اختطف الأسد رشأها منذ لحظة أو لحظتين.
ثم تغير حالي أشد التغير، وغلبني الحزن، وتذكرت الدواء الناجع الذي ينقذني من أحزاني، وهو دواء مركب من ثلاثة عناصر هي: الكتاب والقلم والقرطاس، فجريت إلى معطفي ألبسه لأخرج، فنظرت الزوجة نظرة تلطف، وقالت: هذا منزلك يا دكتور، فما الذي أزعجك؟
ثم وقف في وجهي صاحب البيت، وهو يقول: لن تخرج، لن تخرج، ورأيت موقفي صار سخيفًا جدًا.
– فقلت: اسمع يا صديقي، أنا أخشى أن تكون دسيسة من دسائس الدكتور طه حسين!
فضحك، وقال: وهل للدكتور طه حسين دسائس؟
فقلت: هو يحاول منذ سنين أن يخلق لي صداقات كريمة تصدني عن متابعة الإنتاج الأدبي، وأخشى أن يكون كرمك من عقابيل تلك الدسائس، وكانت فكاهة غمرت المجلس بالضحك، وساعدتني على الخلاص.
•••
وفي السيارة تحدث الرفيق الموصلي. قال: يظهر أنك مصمم على العودة إلى منزلك.
– نعم، وهل في هذا شك؟
– ولكن الساعة العاشرة لم تحن، وأنت وعدت بأن نظل معًا إلى الساعة العاشرة.
– أعفني يا صديقي، فأنا أشغل مطبعتين في بغداد، وسيطرقون بابي مع الشروق، ليقدموا التجارب ويطلبوا الأصول.
– تذكر أني راحل إلى الموصل.
– ألم أقل إني سأزورك في الموصل؟
– أنا لا أضمن ذلك، وتكفيني ساعة واحدة في صحبتك، من التاسعة إلى العاشرة.
– ألم تسمع حكاية العالم مع الأمير؟
– وكيف كان ذلك؟
– زعموا أن عالمًا دخل على أحد الأمراء فدعاه الأمير إلى المنادمة، فقال العالم: إنما وصلت إلى مولاي بالعقل، فأنا أكره ما يذهب العقل، وأنا يا صديقي لم أصل إلى مسامع أهل العراق إلا بالمحافظة على الوقت، فأنا أكره ما يضيع الوقت، ولولا هذه المزية لما أمكن أن أكون من كبار المؤلفين.
– هي ساعة واحدة تكرم بها أدبيًا يعشق أدبك، ثم تعود فتخلو إلى قلمك كيف شئت.
•••
وكانت لحظة دار فيها رأسي فتذكرت ما كتبت عن أدب الأخوة في كتاب التصوف الإسلامي، وتذكرت الحكيم الذي قال: «إذا قلت لصاحبك: هلم بنا، فقال: إلى أين؟ فليس بصاحب». فقلت: لك يا صديقي ما تشاء، على شرط واحد.
– ما هو؟
– أن نفترق في الساعة العاشرة.
– وهو كذلك، ولك الفضل.
دخلنا في فندق، فلم نر فيه مكانًا خاليًا فذهبنا إلى فندق، فرأيناه أشبه بسفينة نوح، فمضينا إلى فندق، فرأيته لا يليق برجل يشتغل بالتدريس، والمدرس مسئول عن كرامته ولا يليق به أبدًا أن يدخل مكانًا تحيط به شبهات.
– واعترض رفيقي فقال: هذه ليلة أنس يباح فيها مالا يباح.
– فقلت: هي ليلة عيد في قصر جلالة الملك، ولكن يغلب على ظني أن الملوك لا يعرفون الأعياد، ومن يدريك فلعل جلالة الملك في هذه اللحظة مشغول بتدبير بعض الشؤون.
فتضجر رفيقي وقال: ولكن الملك يسره أن يفرح الشعب في ليلة عيد.
– فقلت: ولكن يسره أيضًا أن يعرف أن شعبه لا ينسى كرامته في ليالي الأعياد.
– سمعت أن الملك فؤاد كان يترك ضيوفه أحرارًا في سهرات قصر عابدين، ويكتفي هو بشراب الليمون.
– ولو أنهم تأدبوا بأدبه فاكتفوا بشراب الليمون لكانوا إلى قلبه أحب وأقرب.
– أنت رجل مزعج يا دكتور!
– لست بمزعج، وإنما أحب أن أرجع إلى قلمي وكتابي.
•••
وانتهى بنا المطاف إلى فندق يغلب عليه التجمل، إن كان للتجمل مكان بين أكواب الصهباء، جلس رفيقي وجلست بالقرب من جماعة يسكرون ويعربدون، جلست وأنا متهيب، وجلس رفيقي وهو متهيب، أما أنا فتهيبت لأن هذه الجماعة تعرفني، وربما كان أحدهم أبًا أو عمًا أو خالًا لأحد تلاميذي، وأنا مسئول عن كرامتي أمام هؤلاء الناس، وأما رفيقي فتهيب لأن هذه الجماعة بها ثلاثة هو لهم رئيس، وأخذت أدرس الوجوه والشمائل والخصال لأصحح أغلاطي في فهم الأدب العربي، وهنا أصرح بأن الدراسات الفلسفية لا تطيب لي إلا في مدينتين اثنتين: باريس وبغداد.
أما باريس فأمرها معروف، لأن جميع الوجوه هناك كانت مألوفة لديّ، لأني رأيت صورها في مؤلفات المبدعين من أقطاب الأدب الفرنسي. وأما بغداد فإني أرى فيها صور الرجال الذين أولعت بدراسة آثارهم العلمية والأدبية والفلسفية منذ أعوال طوال.
أما القاهرة فليس فيها وجه رأيت صورته في كتاب، لأن أدباء القاهرة فلاسفة عظام لا تراهم إلا في مكانين: بغداد في العصر العباسي، وباريس في العصر المنصرم، أو طلائع العصر الحديث، وربما تظرف فريق منهم فحدثونا عن أدب اليونان والرومان.
ثم يقول الرفيق الموصلي: الساعة صارت عشرة يا دكتور!
فأخرج ساعتي من جيبي فإذا هي ١١.
فأقول: بقى وقت … ثم أعود إلى درس الوجوه من جديد، هذا هو الشعب العراقي، الشعب الطروب الذي لا يشغله الجد عن اللعب، ولا يصرفه اللعب عن الجد.
هذا هو الشعب الذي طال عهده بكفاح الأيام والخطوب ثم بقيت عنده ذخيرة من الابتسام. ثم أخذ السامرون يغنون، والعراقي إذا طرب غني فأجاد الغناء، ولم تقع في أغانيهم كلمة بذيئة، ولم تنفرج شفاههم عن كلمة فيها رائحة الفحش، ولم يتوهم أحد أن المجلس قد يقع فيه ما ينافي الذوق، هذا هو الشعب العراقي، وتلك شمائله وسجاياه.
فإن وقع منه ما يؤذيك فتذكر أن مياه الأنهار قد تقع فيها أحيانًا أقذاء، وتذكر أن البدر لا يخلو من كلف، وتذكر أن الأزهار قد تحيط بها أشواك، ثم تذكر أن الحياة فيها الشهد والصاب.
•••
يقع هذا ورفيقي متجمل متهيب، ولكنه يخرج فجأة عن وقاره ويغني:
فأخرج علبة السجائر وأكتب فوقها هذا الموال، ثم أتذكر أني كنت سمعته من رجل جالس متربع فوق جسر أبو العلا منذ سنين، وكأني سمعته بالأمس فقد كان المغني «ابن بلد» وكانت سيماه تشهد بأنه ذاق طعم الصبايا في بولاق، وأنه اكتوى بنيران العشق، وقاسى لواعج الأشواق، ثم يثب الخيال إلى آفاق بعيدة جدًا، فينتقل من بغداد إلى بولاق ومن بولاق إلى باريس، فأتذكر أني كنت أعطف أشد العطف على الدكتور الديواني مدير البعثة المصرية في باريس لسبب واحد هو أنه من مواليد بولاق، بولاق العظيمة التي صنعت المدافع لتحارب بونابارت، والتي سمعت على جسرها في ليلة صيف:
وقد تفضلت على الدكتور الديواني فقصصت عليه هذا الحديث في سهرة من سهرات باريس في سنة ١٩٢٨.
ثم يقع ما هو أعجب: ذلك بأن أحد المعربدين يحسب الرفيق الموصلي فتى مصريًا، لأنه يغني موالًا مصريًا، فيقبل عليه، ويقول: نحن في العراق أربعة ملايين وعندنا قوة جوية، وأنتم في مصر ثمانية عشر مليونًا ولا تملكون قوة جوية تناسب عظمة مصر.
فأعرف أن أهل العراق لا يفكرون في غير الحرب والقتال، ويضحك رفيقي ويقول: ألا ترى كيف رآني العراقيون مصريًا؟ فأجيب: والأغرب أن يروا سكان مصر ثمانية عشر مليونًا، ويتدخل ذلك المعربد فيقول: إن سكان مصر في الواقع يبلغون خمسة وعشرين مليونًا.
فأقول: أفصح يا أخا العراق.
فيقول: إنما أعني سكان مصر والسودان.
آه آه آه
إن جنود العراق يذكروننا بالسودان، ولكن أين من يسمع؟
•••
ثم يقول الرفيق الموصلي: الساعة صارت عشر يا دكتور.
فأخرج ساعتي مني جيبي فإذا هي ١٢.
فأقول: بقى وقت.
فيقول: مطابع بغداد تنتظرك.
فأقول: أنا لها، أنا لها، لأني أستثقل النوم في الليل، وهل جئت إلى بغداد لأعرف فيها طعم النوم في الليل؟
ثم نخرج لنعود إلى منازلنا، فيقترح الرفيق الموصلي أن نطوف ببعض الملاهي، فأقول: لا بأس، فهذه ليلة عيد، وما أقل الأعياد في حياتي! وفي ملهى لا أسميه أرى صديقًا عذب الروح وفي يده كأس ويدعوني إلى منادمته، فأرفض لأني سكرت من كأس أحزاني، ثم تقبل فتاة ندية الجسم كأنها من دمياط، فتدعوني إلى الرقص، فأرفض أن أرقص، لأني راقصت أشجاني.
•••
ويقول الرفيق الموصلي: الساعة صارت عشرة يا دكتور، فأخرج ساعتي من جيبي؛ فإذا هي الثالثة بعد نصف الليل، فأصرخ: نعم، الساعة صارت عشرة! صحيح، الساعة صارت عشرة! مؤكد، مؤكد، الساعة صارت عشرة! ثم نخرج؛ ويجري هذا الحوار في الطريق:
– هل أستطيع أن أخبر أهل الموصل أني قد قضيت نحو تسع ساعات في صحبة الدكتور زكي مبارك؟
– حدث أهل الموصل عني بما شئت فهم إخوان أعزاء.
– ولكن أدباء الموصل سيسألون عن أسباب النجاح الذي ظفر به الدكتور زكي مبارك في حياته الأدبية.
– قل لهم إن زكي مبارك نجح في حياته الأدبية لأنه رجل يؤمن بأن رزقه بيد الله لا بيد الناس.
– ثم؟
– ونجح في حياته الأدبية لأنه يعشق الصدق، ويبغض الرياء.
– ثم؟
– لأنه يبذل دمه في سبيل الوفاء.
– ثم؟
– لأنه لم يقدم أية إساءة إلى أي مخلوق، وكان أصدقاؤه يكتبون له بأيديهم صحيفة الاتهام.
– ثم؟
– لأنه أحب كل بلد عاش فيه، فعشق سنتريس والقاهرة وباريس وبغداد.
– ثم؟
– قل لأهل الموصل إن زكي مبارك نجح في حياته الأدبية لأن اسمه زكي مبارك.