ليلى المريضة في العراق
صديقي
لعلك تعرف أن من حقي أن أعتب عليك فللصداقة حقوق، ومثلك من يراعي شروط الوفاء.
من هذا الكاتب الذي اسمه (محمد) والذي وجد من كرمكم ما يسمح له بأن ينشر في الصباح أني أجترئ على الحقيقة، وأن ليلى المريضة في العراق ليست عراقية وإنما هي مصرية؟
إنك يا صديقي تعرف أني لست من كتاب الأقاصيص حتى يتهمني هذا الكاتب بأني أكتب قصة غرامية، وتعرف أني ما فكرت يومًا في أن أزاحم محمود تيمور أو توفيق الحكيم، وإنما أنا طبيب أضاعه الأدب فلم يبق أمامه إلا أن يقضي بقية عمره في خدمة الحقائق.
وأسارع فأقرر أن نتائج أبحاثي عن ليلى المريضة في العراق كانت من أصلح ما ينشر في الصباح، ولكني خشيت أن تظنوها قصة؛ فقدمتها إلى الرسالة؛ لأن صديقنا الزيات عاش مدة في بغداد وعرف أشياء من أخبار ليلى المريضة في العراق.
وقد حققت الأيام ما توقعته وسمحتم لأحد محرري الصباح أن يثير الظنون حول ليلاي، شفاها الله.
على أنني أرى من الإنصاف أن أنص على أن صديقكم (محمد) كان أكرم من صديقكم (خلدون) الذي يكتب في جريدة الأهرام ويسمر مع (الشناوي) في بار اللواء.
فصديقكم (محمد) يرتاب في غراميات زكي مبارك لأن الذي يؤلف كتاب النثر الفني لا يتسع وقته للغراميات، وأنا والله أخشى أن يجيء ناس فيزعموا أن كتاب النثر الفني من تأليف الدكتور طه حسين، ولن يكون هذا غريبًا، فقد نشرت عدة مجلات أن كتاب (الأخلاق عند الغزالي) من تأليف الدكتور منصور فهمي، وقد يقول ناس فيما بعد إن كتاب (التصوف الإسلامي) من تأليف الأستاذ مصطفى عبد الرازق، فالذي صنعه صديقكم (محمد) كان من الكرم والنبل، أكرمه الله ورعاه.
ولكن تعالوا فانظروا ماذا صنع الأستاذ خلدون:
قدمت إليه نسخة من كتاب (ذكريات باريس) وهو كتاب تعرفون قيمته الأدبية والاجتماعية، وتعرفون أنه كان الطليعة للمؤلفات التي نشرت بعد ذلك عن باريس ولندن وبرلين.
فهل تذكرون ما صنع ذلك الصديق؟ هل تظنون أنه أدى واجب النقد الأدبي نحو كتاب كان ولا يزال أجمل ما خط كاتب في وصف باريس؟
لم يصنع شيئًا من ذلك، وإنما قال إن ذلك الكتاب يشهد بأن زكي مبارك كانت له غراميات في باريس، وزكي مبارك دميم الوجه فلا يعقل أن تكون له غراميات.
وأنا يا صديقي أعترف بأني لست مخلوقًا جميلًا، وإن كانت ليلى تراني أجمل إنسان، ولكني أنكر أن يكون وجهي دميمًا جدًا، إنما الوجه الدميم جدًا هو وجه الأستاذ خلدون الذي يعد بحق جاحظ هذا الزمان.
وقد فكرت مرات في أن أقترح على نقابة الصحافة — وكانت موجودة يومئذ — أن تشتري وجهًا للأستاذ خلدون، ثم عدلت عن هذه الفكرة، لأن صديقي وصديقكم خلدون يتلألأ وجهه بالجاذبية، وإن زعم ناس أن دمامة وجهه لا تطاق، والعياذ بالله.
ليس لي غراميات، لأني ألفت كتاب النثر الفني، كذلك يقول الأستاذ محمد، ليس لي غراميات، لأني دميم الوجه، كذلك يقول الأستاذ خلدون.
وأنا والله راض بحكم هذين الصديقين.
ولكن ماذا صنعتم في إنصافي؟
أنا بشهادتكم جميعًا من كبار المؤلفين، وبشهادتكم جميعًا لا أصلح للغراميات.
فما الذي يمنع وهذه حالي من أن أكون مدير الجامعة المصرية أو شيخ الأزهر الشريف.
إن مقامي في التأليف أعظم من مقام لطفي باشا والشيخ المراغي، فليس لأحدهما كتاب يشبه كتاب «النثر الفني»، ولطفي باشا أجمل مني، على أرجح الأقوال، أما الشيخ المراغي فله ابتسامة عذبة تحدثت عنها مرات في مقالاتي بجريدة البلاغ.
حدثوني ماذا صنعتم في إنصافي، أيها الجاحدون؟!
أتحسبون أني أقبل العيش في الدنيا بلا غرام وبلا مجد؟ هيهات، هيهات!
أنا أعرف السبب فيما يغيظ بعض الناس من غرامياتي، هم يرونني أبتدع فنًا جديدًا في اللغة العربية، ويرون أنني انتهبت منهم جماهير القراء، ويعرفون أنني الكاتب الوحيد الذي يتلقى من قرائه نحو سبعين رسالة في كل أسبوع، فهم يقولون بلسان الواعظ الكذاب: احترس يا دكتور زكي فأنت تسوئ سمعتك بهذه الغراميات، وأنت تضيع المستقبل الذي ينتظرك في وزارة المعارف.
وكنت والله مستعدًا لقبول هذه النصائح الغالية، ولكن هل أنصفني هؤلاء الناصحون وقد كنت بلا جدال أعظم المؤلفين في علم الأخلاق؟
أحب أن أعرف من هم الناس الذين يستحقون أن أصطنع في معاملتهم مذاهب الرياء؟
لقد أقنعتني عقيدتي بأن رزقي عند ربي، وما أذكر أبدًا أن الله عز شأنه عاقبني بالجوع، فلتكن حياتي هي الشاهد على أن الأرزاق بيد الله لا بيد الناس.
وما أزعم أنني أتقى الأتقياء، فعلم ذلك عند ربي، وإنما أستطيع أن أؤكد أنني أقوى دينًا وأصح عقيدة من بعض الذين تسنموا أعلى المناصب بفضل الرياء.
وأعود إلى صميم الموضوع فأقول: إن الكاتب الذي أراد أن يشكك القراء في حقيقة ليلى زعم أن (الاسطوانة) التي تصدح:
زعم هذا الكاتب أن هذه أنشودة تغنيها مطربة، لا أكثر ولا أقل، كذلك والله قال، وما أفتري عليه، فمن كان في ريب من ذلك فليراجع العدد (٥٩٢) من جريدة الصباح.
فما رأيه إذا أحلته على ما سينشر في مجلة الرسالة من أخبار ليلى؟ إنه إن أطاعني وقرأ تلك السلسلة فسيعرف أن السيدة نادرة لم تغن تلك الأنشودة بلا سبب، ولولا الخوف من تبديد أسلوب القصة في مجلة الرسالة لعجلت بنشر الحقيقة على صفحات الصباح، وذلك ما لا يرضيك يا سيد مصطفى، وأنت من أعرف الناس بحقوق الزملاء.
ثم ماذا؟ ثم ماذا؟
ثم يصرح صاحبكم بأن ليلاي مصرية لا عراقية، وأنها تقيم بالزمالك أهلًا وسهلًا، وهل أنكر أن هناك ليلى تقيم بالزمالك، وأن بيني وبينها أشياء؟
هذا حق، ولكن صاحبكم يفتري ولا مؤاخذة حين يزعم أنه زارها معي بصحبة الدكتور سعيد عبده، فمتى كانت هذه الزيارة؟ إنني لا أذكر أبدًا أنه صحبني إلى ليلى المريضة في الزمالك، وإنما أذكر أنه كان في معيتي هو وسعيد عبده حين ذهبت لزيارة ليلى المريضة في مصر الجديدة، وكان الذي دعانا لزيارتها أمير الشعراء شوقي طيب الله ثراه.
صديقي
معذرة إليك إذا أطلت القول فقد ثارت شجوني.
كان شوقي رحمه الله أراد أن يعرف بعض المستور من خلائق النساء فدعا ثلاثة لزيارة ليلى، وأنا أولهم وثانيهم محمد وثالثهم سعيد، وكنت يومئذ شيخًا معممًا، شيخًا ضئيلًا دميمًا لا يقام له ميزان، وكان محمد وسعيد من أجمل الشبان في القاهرة، على ماضيهما السلام، فلما دخلنا على ليلى لم تأنس بوجه غير وجهي، فهل كانت تنافق؟ ذلك ما زعمه صديقنا محمد وأخونا سعيد.
أما شوقي رحمه الله فصرح بأن عندي مزايا تفتن النساء، وتفضل رحمه الله فأعطاني ثلاثين جنيهًا أستعين بها على طبع كتاب (حب ابن أبي ربيعة) ولولا تلك المنحة لعجزت عن إخراج ذلك الكتاب الطريف الذي طبع ثلاث مرات.
يا لوعة القلب!
ويا غضبة الله على الأديب الذي أثار هذه الذكريات!
فقد كانت تلك السيدة تحب وتعشق.
كانت تحب أبناءها وتعشق زوجها.
وكان زوجها من الغادرين، وأبناؤها من أهل العقوق.
وكنت أستطيع أن أمزج هواها بهواي، وأنا رجل قاتل النظرات، ولا أذكر أبدًا أني رميت سهمًا فطاش، ولكن في صدري بقايا من المروءة ورثتها عن أبي وجدي.
وكذلك رأيت أن أترك تلك السيدة لزوجها وأبناءئها، ولكنها — واحر قلباه — ماتت بعد ذلك بعامين اثنين.
فإن سمعتم أن في مصر الجديدة شارعًا لا أمر به في الليالي المقمرة فاعلموا أنه الشارع الذي كانت تقيم فيه تلك السيدة الحسناء، على روحها أطيب الرحمات.
لا تذكروني أيها الأصدقاء بما عانيت في حياتي من لواذع الوجدان، وانسوني قليلًا لأنسى أحزاني، فقد طال ما قاسيت من شقاء الروح وعذاب الفؤاد.