حقائق وأباطيل
١
وعدت ليلى ثم أخلفت.
فهل تعلمين يا ليلى عواقب ما تصنعين؟
تذكري يا ليلاي أن النظام هو سر هذا الوجود.
فلو أخلف النيل لهلك المصريون، ولو أخلفت دجلة أو الفرات لهلك العراقيون.
تذكري يا ليلى أن الإخلاف هو سبب الموت، فلو عرفت الأعضاء معنى النظام لكان الموت من المستحيلات.
لو عرف الإنسان متى يأكل، ومتى يشرب، ومتى يستريح؟ لعاش على الأقل مثل ما عاش نوح، وكان عمره أطول من صدودك، أيتها الحسناء الظلوم.
ليلاي
كان إخلافك جريمة، والمجرم الأعظم هو من يثق بعهود الملاح.
٢
لي صديق عزيز جدًا شاء له هواه أن يقول إنه وصل يوم كان في سن العشرين إلى ما لم أصل إليه بعد أن جاوزت الأربعين.
وهذا صحيح فما استطعت في سن العشرين ولا الثلاثين ولا الأربعين أن أقول لأحد أصدقائي «إني أفضل منك».
وما أنكر أني قد أبلغ أقصى حدود العنف حين أحارب أعدائي، ولا عيب في ذلك فالجروح قصاص، ولكني مع أصدقائي مثال الأدب والوفاء.
فإن كان لأصدقائي شيء من النفع حين يزعمون أنهم أفضل مني فهنيئًا مريئًا، وإن كنت أتهمهم بالبخل، إي والله أتهمهم بالبخل، فالحكم بأنهم أفضل مني مزية كنت أحب أن أسبقهم إليها، ولكن لا باس فأنا أحب أن يكون لهم فضل السبق في كل نضال.
عفا الله عنك يا صديقي وحفظك ورعاك.
٣
ليتني أعرف من الشاعر الذي يقول:
٤
أن أزن الذوق بميزان الذهب، ولكن مع من؟ مع صديق يكيل الذوق بمكيال.
٥
لطمتني ليلى بالأمس فغفرت وصفحت، لأن كفها لين، ولأن وجهها جميل.
٦
تنمرت ليلى وتمردت، فقلت: اصنعي ما شاء لك الدلال بالئيمة فأنا آخر من يغفر الذنوب لأهل الجمال.
٧
عجبت ليلى من أن أخلق لها المحاسن وهي في غاية من الشراسة وسوء الأدب، وأنا أعجب مما تعجب منه ليلى، وإلا فكيف اتفق أن أخلق لها المحاسن وهي تختلق لمحبوبها العيوب؟
٨
أحسنت وأساءت ليلى، وهي مع ذلك ترجو أن أستغفر لتمن بالغفران.
٩
إن ليلى تجهل السبب فيما أسبغ عليها من رفق وعطف.
والظاهر أنها كالكريم الذي تجهل يسراه ما أعطت يمناه.
فاعرفي يا ليلى أني لا أتصدق عليك بالرفق والعطف، وإنما أقضي الديون الثقال، فقد قضيت في حماك لحظات كانت أطيب من الأمن بعد الخوف، وأنضر من النعيم بعد الشقاء.
١٠
سألني تلاميذي: من أشعر الناس؟ فأجبت هو الذي يقول:
١١
أطلعتني ليلى على مقال نشرته إحدى المجلات المصرية وفيه ألفاظ غلاظ فابتسمت متكرهًا، وقلت: «جرح الأحبة عندي غير ذي ألم»، وهم والله أحباب.
١٢
السيارات العمومية في بغداد ضيقة جدًا، ورديئة جدًا، والصعود إليها متعب، والنزول منها متعب.
كنت في إحدى هذه السيارات في يوم غزير المطر كثير الأوحال فتقدمت سيدة لتركب، سيدة لها وجه رائع، وجسم فينان، وكان صعودها إلى السيارة لا يتم بسهولة إلا إذا مددت يدي فعاونتها على الصعود، وما كان في ذلك بأس، ولكني خشيت أن أمد إليها يدي فيتغامز الركاب، وفيهم كسائر الناس طيب وخبيث.
وقضى الوحل والمطر أن تزلق قدم تلك السيدة وأن تفوتها السيارة.
قلت في نفسي: إن الناس يمن بعضهم على بعض فيقول قائلهم: لقد ضحيت براحتي ومالي في سبيل كيت وكيت.
فما الذي كان يمنع من أن أبتدع فنًا جديدًا من التضحية، هو التضحية بالسمعة في سبيل الخير؟
ليتني فعلت وأنقذت تلك السيدة من الزلق في الوحل.
١٣
تقول ليلى إنها ستتعقبني وأنا في مصر كما تعقبني أصدقائي وأنا في العراق.
تأدبي يا ليلى فالله من ورائكم محيط.
١٤
ما كنت أحسب أن الليل يعقبه نهار، وأن النهار يعقبه ليل، وأن المرء ينتقل من الشباب إلى المشيب، وما كنت أظن أن المقادير ستحكم بأن أعاني ضجر السهاد في باريس وفي بغداد، وما كنت أتوهم أن الأقدار سترغمني على مداراة أحبابي، وما كنت أتوقع أن أسمع كلمة تؤذيني من صديق يلين له الدهر فيقضي الأصائل والعشيات في شارع فؤاد.
وما كان يخطر بالبال أني أسقي الناس الشهد ليسقوني الصاب، ذلك حظي من أهلي وأحبابي وأصدقائي ودنياي.
لا تحزن يا قلبي، فالعاقبة للصابرين، وسوف تعلم ويعلمون.
١٥
لي صديق مولع بإخلاف المواعيد، فلما عاتبته على ذلك قال: ما أذكر أبدًا أني أخلفت معك موعدًا، وإنما أذكر أني كنت أحضر قبل الموعد بنصف ساعة على الأقل.
فقلت: ذلك أبشع ضروب الإخلاف.
وفقهاء الإسلام نصوا على أن الصلاة لا تقبل إلا حين تجب بحلول الوقت.
وهذا من الآداب الدقيقة التي لا يدرك أسرارها إلا الأقلون، وكم في الإسلام من آداب.
١٦
لقيني صديق فقال: أنا أعجب لاهتمامك بمصالح فلان.
فقلت: وما وجه العجب؟
فقال: إنه يغتابك عند جميع الناس.
فقلت: وما الذي يمنع من أن نتخلق بأخلاق الله، وقد أمرنا الله بذلك وهو عز شأنه يسبغ نعمته على الكافرين والجاحدين؟
لقد أصبحت أؤمن إيمانًا صادقًا بأن الكرم الحق هو أن تحسن إلى من لا يحفظ الجميل.
ولنا في الله — تباركت صفاته — أسوة حسنة.
١٧
ذهبت إلى فرنسا وأنا مسلم ورجعت منها وأنا مؤمن.
ولكن كيف؟
ذلك هو السؤال!
١٨
لقيني أحد البغداديين، فقال: هل هذا صحيح؟
فقلت: ماذا؟
فقال: إن الأستاذ علي الجارم بك ألقى خطبة في محطة الإذاعة المصرية أكد فيها أن بغداد أدفأ من القاهرة في الشتاء.
فقلت: وأنا أجزم بأن بغداد في الشتاء أدفأ من مصر الجديدة ومن حلوان.
فقال: أنتم في سبيل المجاملة تقلبون الحقائق.
فقلت: هذا صحيح في بعض الأحيان ولكننا في هذه المرة نقلب الحقائق لنصل إلى حقيقة أعظم وأروع.
فقال: وما هيه؟
فقلت: إن الصداقة الصحيحة لا تقوم إلا على أساس واحد، هو أن تعتقد أن صديقك أفضل منك، فإن اعتقدت بأنك أفضل منه فلست بصديق.
وعلى هذا الأساس تكون بغداد أدفأ من القاهرة في الشتاء.
وقديمًا قيل: عين المحب عمياء.
١٩
أجمع كل من حادثوني على أن الفرق بعيد جدًا بين زكي مبارك المؤلف وزكي مبارك المحدث، وأنا عند أكثرهم مؤلف عظيم ومحدث سخيف.
وقد بحثت عن السبب فعرفت أنه يرجع إلى أني حين أؤلف أكون مع نفسي وحين أتحدث أكون معهم … هل فهمتم يا بني آدم؟
٢٠
لي في بغداد أهل، وربما كنت أول مصري له في بغداد أهل وكان لي في باريس أهل، وربما كنت أول مصري كان له في باريس أهل، فما سر هذا البخت المدهش؟
يغلب على الظن أن السبب يرجع إلى الفطرة التي صيغت عليها عيوني، فما دخلت بيت صديق واستطاع بصري أن يرى فيه شيئًا غير جميل.
٢١
لامني صديق فقال: ما قرأت لك كتابًا ولا مقالًا ولا قصيدة إلا رأيتك مشغولًا بالحب، فما هذا الإسراف؟
فقلت: لا تؤاخذني يا مولاي فأنا أريد أن أملأ أقطار قلبي بالحب حتى لا يوجد فيه مجال للبغض.
٢٢
ظهر كتاب «عبقرية الشريف الرضي» في جزأين، ويقول أهل العراق إنني أحييت الشريف، وأشهد صادقًا أن الشريف هو الذي أحياني.
٢٣
كان لي في القاهرة صديق مظلوم تساق إليه التهم الكواذب بلا حساب، وقد رأيت أن أكون نصيره في بلواه، فكنت أتردد على منزله وكأني أجهل ما يفتري المفترون.
ألا يمكن أن يكون ما ظفرت به من التوفيق هو الجائزة الربانية على وقوفي صابرًا محسبًا في صفوف المظلومين؟
٢٤
عين الرضا كليلة لا ترى العيوب، وعين السخط حادة ترى ما خفى من العيوب، كذلك كان الناس يفهمون.
ألا يمكن أن نرفع الإنسانية قليلًا؟
ألا يمكن أن تضعف أبصارنًا عن رؤية العيوب في أعدائنا؟
إنك يا ربي تعلم أنني أخلق المحاسن لأعدائي، وأنا أرجو منك حسن الجزاء.
٢٥
لي مؤلفات كثيرة لم تنشر، وقد أصبحت أرى من الواجب أن أنفق عليها كما أنفق على أطفالي، لتستطيع التنفس في جو الحياة الأدبية.
فيا مؤلفاتي ويا أطفالي …
رزقي وأرزاقكم على الله …
وإن بقيت لكم فسترون بإذن الله كيف يكون كرم الآباء.
٢٦
لي منزل في سنتريس تحيط به حديقة غناء.
وفي ذات يوم نظرت فرأيت أبي رحمه الله يشير بإقامة (مصطبة) بجانب سور الحديقة، فسكت ولم أعترض.
وبعد أشهر أو أعوام ضايقني أن تكون تلك المصطبة هي المكان المختار الذي يجلس فيه العاطلون من الفلاحين.
فمضيت إلى أبي، وقلت في ترفق: أنا أقترح هدم هذه المصطبة، فقال: ولماذا؟ فقلت: لأني أراها أصبحت ملاذ العاطلين.
فابتسم وقال: ولكن هذه المصطبة لها فضل على منزلك يا بني.
فدهشت وقلت: كيف؟ كيف؟ أوضح يا أبي.
فقال: هذه المصطبة هي الوحيدة في الحي كله، ومن أجلها يجلس الخفير على باب منزلك طول الليل.
يرحمك الله يا أبي، فقد كنت حكيمًا.
٢٧
وعلى مصطبة ذلك المنزل رأيت طفلًا يلعب وبيده صقر جريح، وما كان صقرًا وإنما كان فرخ صقر، وبدا لي أن أداعب ذلك الفرخ فعض إصبعي عضة إليمة جدًا، فتوهمته يقول: احترس من الشجاع يوم ينهزم، واحترس من البطل يوم يضام، فللمهزومين من الشجعان والأبطال غضبات.
٢٨
ثار تلاميذي بالأمس لأني فرضت عليهم من الواجبات ما لا يطيقون.
معذرة يا تلاميذي فإن أستاذكم يفرض على نفسه ما لا يطيق.