مذاهب التربية
أيها الصديق العزيز
أقدم إليك أطيب التحيات، وأذكر أن هذا الخطاب كان يجب أن يوجه إلى مجلة التربية الحديثة، ولكني رأيت أن العدد الأخير هو ختام هذه السنة، وفي تعليقك على مقالي كلمات لا أحب أن أتركها بلا تعقيب إلى العام المقبل.
أما قول الدكتور زكي مبارك إن صعوبة النطق وصعوبة الخط وصعوبة النحو هي التي مكنت العرب من لغتهم وحدت إلى نبوغ أكثر الأدباء فلا يقره عليه عاقل ولا مجنون، وهذا المنطق يذكرني بما يقوله بعض الإنجليز دفاعًا عن نظامهم العقيم في الموازين والنقود بجانب النظام العشري الجميل في النقود والموازين والمقاييس والمكاييل في فرنسا وإيطاليا ومعظم بلدان أوربا، يقول السوفسطائيون من الإنجليز إن هذا النظام المعقد يدرب العقل ويهذبه بعكس النظام العشري، وعلى هذا المبدأ ينبغي تعقيد كل شيء في الحياة توصلًا للغرض عينه.
ذلك كلامك أيها الزميل، وقد استغربت واستغرب فريق من أصدقائك بالعراق أن يصدر عنك، فعبارة «لا يقره عاقل ولا مجنون» عبارة غير مقبولة، ومن المؤكد أنك ندمت عليها ولو قليلًا، فعهدي بك تزن الألفاظ وتنقيها من العيب، ولو وقعت هذه العبارة في معركة أديبة لكان لها موضع، فإن المعارك لعنفها قد تبيح ما لا يباح، وما كنت أخاصمك حين استجبت لدعوتك الكريمة إلى كتابة مقال لمجلة التربية الحديثة حتى يجرى قلمك بذلك التعبير «المقبول»!
ومن حقي أن أمسك بخناقك حتى تعترف بالحق.
فمن أين عرفت أن الصعوبة تنافي مذاهب التربية؟
يظهر أن التربية في ذهنك لها مدلول خاص، هو أن تقال في أمريكا، وفي كتاب طبع سنة ١٩٣٨.
وفاتك أيها الزميل العزيز أن التربية كانت موجودة قبل أن تظهر «الطريقة الأمريكانية» وأن الصعوبة كانت مما يقصد إليه المربون لتمرين الأذهان والعقول.
ويظهر أيضًا أنك تفهم علم النفس على «الطريقة الأمريكانية» وإخوانك الأمريكان قوم لطاف ظراف، ولكن دعواهم التفرد بالعلم أمر «لا يقره عاقل ولا مجنون».
وأخوك زكي مبارك وهو دكتور في الفلسفة مرة أو مرتين أو مرات يفهم غير ما تفهمون، أخوك زكي مبارك يقول إن الاهتمام هو أصل كل تعمق، وعنده شواهد يعرفها العقلاء والمجانين، والصعوبة توجب الاهتمام، وهي السر في إقبال الناس على درس المعضلات.
والصعوبة أو التصعيب من المذاهب التعليمية التي عاش عليها الناس قبل أن يخلق كريستوف كولمب، وهي طريقة نافعة جدًا، وستأخذها عني يا شيطان، ستأخذها عن الفيلسوف الذي تطاولت عليه بلا حق، مع أنه زميلك وأخوك، وهذه الطريقة، طريقة التصعيب، تشبه في عالم الأفكار طريقة أهل اسبرطة في عالم الأبدان فالاسبرطيون كانوا يرمون مواليدهم في العراء ثلاثة أيام ليعرفوا صلاحيتهم للحياة الجثمانية، وطريقة التصعيب هي من هذا الباب، هي تعريض الأذهان للامتحان الصعب لتظهر صلاحيتها للحياة العقلية.
ولو أن الحظ كان أغاثك فمررت بالأزهر أو الجامعة المصرية أو السوربون أو مدرسة اللغات الشرقية كما اتفق لأخيك أن يمر وهو خائف يترقب، لو أن الحظ كان أغاثك بهذه المصاعب لعرفت كيف يكون صيال العقول، ولكنك عرفت الأمريكان الظرفاء الذين يدرسون العلم على الأساليب السينمائية.
أساليب سينمائية؟؟
ما هذا الكلام؟ يظهر أني بدأت أتطاول عليك!
لا، لا، فما أقبل أن أتطاول على أخي وزميلي، ولكنك أيها الأخ المحبوب نسيت أن تربط أجزاء اعتراضك بعضها ببعض، فجاز لي أن أفهم أنك تدرس ما تدرس على الأساليب السينمائية.
وبيان ذلك أيها الأخ أنك حين حكمت بأن كلامي في طريقة التصعيب لا يقول به عاقل ولا مجنون مضيت فقررت أن كلامي يشبه ما يقول به بعض الإنجليز في الدفاع عن نظامهم في النقود والموازين.
ومن كلامك عرفت أن الطريقة الإنجليزية هي أيضًا طريقة أزهرية.
وأنا والله راض بأن أحشر مع علماء الإنجليز، ولو في الجحيم!
طريقة التصعيب أيها الأخ هي التي «تغربل» العقول، وبفضلها استطاع أخوك زكي مبارك أن يصاول العلماء في الامتحانات العلنية مرارًا كثيرة، منها مرتان في باريس، وسأضع عقلك في «الغربال» بعد حين، لأعرف نصيبك من العمق، أراني الله وجهك بخير وعافية.
•••
بقيت عبارة واحدة اسمح لي أيضًا أن أسرها في أذنك، تقول إنك درست علم النفس منذ عشرين عامًا، وقد نسيت أن علم النفس هذا لم يكن منذ عشرين عامًا مما هو عليه اليوم إلا بمنزلة التنجيم من علم الفلك، فشمر عن ساعديك واعكف على دراسته من جديد.
سمعت وأطعت يا دكتور بقطر!
سمعت وأطعت لأني قضيت عشرين سنة في الحياة الجامعية، وقد أوصاني أساتذتي رضي الله عنهم بأن أفتح قلبي لكل نصيحة، ولو صدرت من الدكتور أمير بقطر!
ألمثلي يقال هذا الكلام؟ ألمثلي يوجه هذا النصح؟
كنت أحسب أنني أنصفت نفسي حين أضعت شبابي في دراسة الأدب والفلسفة، وكنت أحسب أن جهادي في سبيل الأدب والفلسفة سيعصمني من سماع هذا النصح المرير، وكنت أظن أن زملائي يعرفون فضلي وأني لن أحتاج إلى اكتساب ثقتهم في سر أو علانية، ثم قضى الدهر الغادر بأن أرجع إلى حياة التلمذة وأن يطلب مني الرجوع إلى دراسة علم النفس من جديد.
ومعاذ الأدب أن أنكر قيمة هذه النصيحة الغالية: فقد رضت النفس على أكون طالب علم من المهد إلى اللحد.
ولكن يؤذيني شيء واحد: وهو؟
ما هو ذلك الشيء؟
إني لأحتاج إلى شجاعة عظيمة لأفصح عما أريد.
وأتشجع فأقول: لن أستأنف دراسة علم النفس إلا يوم يستأنف الدكتور أمير بقطر دراسة الأبجدية.
هذه وقاحة!
لا، والله؛ وإنما هي كلمة حق.
ومن أين عرف الدكتور أمير بقطر أني درست علم النفس منذ عشرين عامًا حتى ينصحني بالعكوف على دراسته من جديد؟
من أين عرف ذلك؟!
ولكني قضيت عشرين سنة في درس علم النفس، وأصبح من المقرر عندي أن الاهتمام هو أصل كل تفوق.
فأنا لم اقل إني درست علم النفس منذ عشرين سنة، وإنما قلت إني درست علم النفس عشرين سنة.
وللقارئ أن يحكم بين هذا الزميل وبيني.
وللدكتور أمير بقطر أن يوجه إلى نفسه الملام إن شاء.
•••
أما بعد، فما كان يسرني أن أوجه إلى ذلك الصديق الكريم هذه الملاحظات، وما كان يسرني أن أنال مذاهب الأمريكان بنقد أو تجريح.
ولكني أحسب الوقت حان لتذكير الأمريكان بخطر ما يقدمون عليه، فهم — كما عرفتهم — ناس سطحيون، وقد صحبتهم عامين في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وما أذكر أبدًا أني رأيت في تفكيرهم شيئًا من التعمق، وإنما هم قوم يغلب عليهم اللطف والإيناس وحفظ الجميل.
وصديقنا الدكتور أمير بقطر هو نموذج من التربية الأمريكانية فهو يمر على ما يقرأ مرور الطيف، ثم ينقد ويعتسف بلا بينة ولا برهان.
ومن واجبي أن أذكره بأن (الطريقة الأمريكانية) لا تنفع في مصر؛ لأن مصر ورثت تقاليد التعقل والتدبر منذ أجيال طوال، ثم ماذا؟
ثم أرجو أن ينقل الدكتور أمير بقطر هذه الملاحظات إلى أول عدد يصدر من مجلة التربية الحديثة، وأن يعلق عليه بما يشاء، عساه يتيح الفرصة لأن أدخل بقلمي فأقف الأمريكان عند حدهم فلا يدّعون التفرد بالأستاذية في العصر الحديث.