حديث المؤلف مع جريدة الأخبار
كان لصدور كتاب (عبقرية الشريف الرضي) الذي أتحف القراء به حضرة الأديب الكبير الدكتور زكي مبارك أستاذ الأدب العربي في دار المعلمين العالية رنة استحسان في مجتمعنا الأدبي ودوي في محافل الفكر.
لذلك تاريخ قديم، فقد كان الأدباء في مصر يختلفون حول أبي تمام والبحتري والمتنبي، وكنت وحدي أقدم الشريف الرضي على هؤلاء الشعراء، وأثر هذا التقديم واضح في كتاب (مدامع العشاق) الذي طبع مرتين، وهو يشهد بإعزازي للصديق العظيم محمد بن الحسين، ولما قدمت بغداد رأيت الفرصة قد سنحت لإنصاف هذا الشاعر المظلوم الذي غفل عنه الناقدون.
إرجعوا إلى المؤلفات الحديثة التي دونت أخبار الشعراء تروا أن الشريف الرضي لم ينل بعض حقوقه في الحياة الأدبية، ويكفي أن تذكروا أن كتاب (الوسيط) لم يشر إليه، وكتاب الوسيط ألف لغاية واضحة هي تعريف الشبان المصريين بأهم الشخصيات التي كان لها سلطان في عالم الشعر والأدب والبيان.
كان القدماء يرون أنه أشعر الناس في «الحجازيات»، وأرى أن أهم النواحي في شعره هي «المعالي» وأعتقد أنه أعظم شاعر وضع دستورًا لحياة الفتيان، وأكاد أجزم بأنه أكبر شاعر صور الضجر من حياة الخمول، فالشريف الرضي شاعر ثائر يدعو إلى تحطيم قيود الذل والاستعباد، ونواحي الرجولة قد اكتلمت فيه كل الاكمال، فهو رجل له صبوات وآمال، هو عاشق وفارس ومؤمن وزعيم، هو رجل يجمع بين المرارة والحلاوة والعنف والرفق، هو شخصية عراقية تقسو فتكون أعنف من الجحيم وترق فتكون أرفق من النسيم.
لقد أقمت كتابي على غير مثال سبق، وأنا أحرص كل الحرص على أن تكون مؤلفاتي ألوانًا مختلفات، وأحب أن ألقى قرائي في كل كتاب بأسلوب جديد، والتأليف عندي فن من الفنون فلكل كتاب ضرب من التصميم، ولون من التصوير، واختلاف الموضوعات يوجب ذلك، فللمؤلفات الأدبية لون، وللمؤلفات الفلسفية لون، فلي في كتاب (الأخلاق عند الغزالي) شخصية غير شخصيتي في كتاب (النثر الفني) وكذلك كان كتاب (عبقرية الشريف الرضي) صورة جديدة تخالف سائر الصور فيما نشرت من مؤلفات.
تلك خطتي في التأليف، فأنا أهتم بارتياد المجاهل من حيوات الشعراء وأحرص على التعرف إلى ما عندهم من ميول وأذواق وأهواء، وأنا بكل صراحة أعتقد أن لا بد للناقد من أن ينسى شخصيته ويفني في شخصية الشاعر الذي يدرسه بحيث يبصر بعينه، ويسمع بأذنه، ويفقه بقلبه، ليسبر أغوار نفسه، ويرى مبلغ شعوره بما وصف من الأشياء.
كنت في حالة نفسية تشبه تمام الشبه أحوال الشريف في دنياه، وقد تفتح قلبي تفتحًا لم أعهده من قبل، فأنشأت في أشهر قلائل ألوفًا من الصفحات، وأصبح من المقرر عندي أن الشريف شاعر يوحي، والشاعر الذي يوحي هو الشاعر الحق، وأنا أؤمن بأن كتابي عن الشريف سيخلق نهضة أدبية وذوقية وفنية، وسيكون له تأثير شديد في توجيه التأليف وجهة جديدة سترون شواهدها بعد قليل.
إن إحياء الذكريات لون من حياة المجتمع الإسلامي، ولكنه كان مقصورًا على الشخصيات الدينية، ونحن قد أخذنا عن أوربا الاحتفال بالشخصيات الأدبية والفلسفية، ولعل ذلك التقليد وقع في مصر أول مرة حين احتلفت الجامعة المصرية بإحياء ذكرى الأعضاء المؤسسين، فقد كان معالي الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا يلقي علينا محاضرة في كل سنة عن قاسم أمين، ثم توسعت الجامعة المصرية فاحتفلت بذكرى رينان ومحمد عبده والجاحظ والمتنبي، وشاعت هذه البدعة الجميلة في سائر الأقطار العربية، وكان للعراق نفسه نصيب من إحياء ذكرى المتنبي، فمن الواجب أن ينتهز الفرصة التي ستسنح بعد عام ونصف للاحتفال بمرور ألف سنة على ميلاد الشريف الرضي، وإني لأرجو أن يكون احتفالًا عالميًا تشترك فيه سائر الأمم العربية، ويكون فيه للفن نصيب مرموق: ففي ديوان الشريف قصائد كثيرة تصلح للغناء، ومن الواضح أن أمثال هذه الاحتفالات تنفع في إحياء الدراسات الأدبية، وتوجه الباحثين إلى أفانين من شائق البحوث.
ضاق وقتي عن تذكير الرأى العام بكتابي فلم أهد إلى الصحفيين العراقيين غير نسخ معدودات، وفي العراق جرائد ومجلات لم أهد إليها الكتاب، مع أن فيمن تغافلت عنهم أصدقاء فضلاء، ولعلهم يعتبون ويلومون ولكنهم سينسون هذا التغافل حين يتذكرون أني كنت مشغولًا بتلاميذي، على أن هذا لم يمنع من أن يكون كتاب (عبقرية الشريف الرضي) أول كتاب شعرت بوصوله إلى أفئدة القراء بسرعة بعد كتاب (النثر الفني) فقد وزعت مئات النسخ في بضعة أسابيع، وسيكون له مجال حين يصل إلى مصر، فالصحافة المصرية تهتم بحياة التأليف أكثر مما تهتم الصحافة العراقية، وكأن أهل العراق يعرفون ذلك، فهم يتسامعون بأخبار الكتب الجديدة قبل أن تحدثهم عنها الجرائد والمجلات.
أنا ما قضيت عامًا في بغداد، وإنما قضيت في بغداد لحظات ستكون ذخيرتي من الأنس فيما بقى من حياتي، وما عرفت معنى الحياة إلا في بغداد، فقد قضيت جميع تلك اللحظات والقلم في يدي، واستطعت أن أشغل طوائف من الجرائد والمجلات في مصر والعراق ولبنان، وأستطيع أن أصرح بأنني أول موظف تلطفت معه حكومة العراق، فلم يسألني أحد عما أنشر من المذاهب والآراء، وقد ظن بعض من لا يفهمون أن حكومة العراق سكتت عني لمكانتي الأدبية، والرأي الحق أن حكومة العراق سكتت عني لأنها تعرف أني من أصدق أصدقاء العراق.
العام المقبل في ضمان الله، فقد اعتذرت عن مواصلة العمل بدار المعلمين العالية في العام المقبل، لأنني أريد أن أطبع كتاب «التصوف الإسلامي» الذي نلت به الدكتوراه في الفلسفة من الجامعة المصرية برتبة الشرف، وهو لا يطبع في غير القاهرة لأسباب فنية.
وبهذه المناسبة أوجه أصدق الثناء لمن عز عليهم أن أحرم من هواء بغداد في العام المقبل، ولا يعزيني عن فراقهم إلا يقيني بأن بغداد ستكون في أكرم المنازل من قلبي، وسأذكر أني احتملت مشاق السفر لأرى قبر أبي تمام بالموصل، ولأهيء نفسي لتأليف كتاب عن عبقرية الشاعر الذي أعز دولة الشعر في القرن الثالث، فإن ترفقت شواغلي بمصر وسمح أطفالي بالرجوع إلى بغداد فسأقيم موسمًا ثانيًا للشاعر الجميل الذي اسمه حبيب، وإن كان هذا آخر العهد بتنسم هواء بغداد فإني أؤكد لكم أنني سأقصر جهودي وأنا بمصر على الاهتمام بالآثار الأدبية لأهل العراق، وسيكون شعاري قول جميل في خطاب بثينة:
والسلام عليكم وعلى العراق ورحمة الله.