أحيتني بغداد
صديقي
تحيتي إليك وإلى السامرين السعداء في ملاعب القاهرة، وإلى الأصدقاء الكرام الذين رفعوا قدري بمزاحهم اللطيف في مجلات «الشباب والدنيا والإثنين وآخر ساعة والصباح» وتحيتي إلى مصر التي أمنحها البغض فتمنحني الحب.
أما بعد، فأنا أكتب هذه الكلمة والدمع في عيني، ولكن أي دمع؟ دمع السعداء، والسعداء يبكون كما يبكي الأشقياء.
أبكي من الفرح؛ لأني أخرجت كتابًا في جزأين سيجعلني أبد الدهر على ألسنة أهل العراق.
أبكي من الفرح؛ لأن الله رعاني فكنت بفضل رعايته عند جميل الظنون، ومن الشرف الهائل أن يعرف قومي أني ظفرت بثقة الأكرمين من أهل العراق.
كان رؤسائي بوزارة المعارف المصرية يعرفون مذاهبي في الأدب والبيان، وكانوا يخشون أن أخلق لمصر أعداء في العراق، وقد نصحني الدكتور طه حسين بصدق وإخلاص، والدكتور طه — على حد تعبيره الجميل — أستاذي وزميلي وصديقي، ونصحني العشماوي بك، الرجل النبيل الذي يجعلني كرمًا ولطفًا في منزلة ابنه رجاء، نصحني هذان الرجلان بالعقل، ونهياني عن مصاولة الأدباء في العراق.
فهر تراني انتصحت؟
لقد لزمت العقل أسبوعًا واحدًا، ثم أسلمت زمامي إلى الجنون.
وكيف لا يكون مجنونًا من ينفق من الحبر أضعاف ما ينفق من الماء القراح؟
كيف لا يكون مجنونًا من يحول تلاميذه إلى مؤلفين سينتهبون منه الميدان؟
كيف لا يكون مجنونًا من يثير الناس عليه فلا يصبح ولا يمسى إلا وهو في حرب مع الجرائد والمجلات؟
ولكن الأعمال يا صديقي بالخواتيم، وليت أعمالي فيما بقى من دنياي تختم بمثل الذي ختمت به أعمالي في العراق.
لقد صاولت من صاولت، وعاديت من عاديت، ثم رجعت ورجعوا إلى كوثر الصفاء، وأي حظ أشرف وأفضل من أن يصرح أحد كبار الرجال بوزارة المعارف العراقية بأنه قرأ كتاب «عبقرية الشريف الرضي» في ليلة واحدة على ما فيه من الأبحاث الطوال، وعلى كثرة ما يعترض القارئ من غرائب الرموز ودقائق المعاني؟
إن الحب بين القارئ والمؤلف أمنية عزيزة في الأدب العربي، وقد أعانني الله فأبدعتها إبداعًا، وإن طالت حياتي فسأقنع شبان العرب بأن أدبهم خليق بأن يشغلهم بأنفسهم وأهوائهم وأخلاقهم ومطامحهم، وأن أساتذتهم ليسوا أقل بصرًا بالأدب والحياة من أساتذة السوربون.
لقد كوتني بغداد، ثم شفتني بغداد.
كوتني هذه المدينة، لأني عشت فيها محبوسًا لا أدري أين أذهب، وقد تلطف الله فجعل للسيئات رقيبًا واحدًا، وأساءت بغداد فجعلت للسيئات ألف رقيب، وكذلك عشت فيها أسير الهواجس والوساوس فلم أنعم بغير الطيف، طيف الحب العذري بين ليلى وظمياء.
وشفتني بغداد، لأني أنست بسواد الليل حين فاتني الأنس بسواد العيون، فشرفت نفسي بمراسلة الصحف في مصر والعراق ولبنان، وخرجت من ذلك كله بمحصول أدبي سيملأ خمسة مجلات، وسيكون تذكرة باقية لفضل العراق.
قدمت بغداد وقد حقت عليّ لعنة المازني فهجرت الشعر إلى الأبد، وسأفارق بغداد وفي صدري قصيدة هي أعظم ما نظمت في حياتي.
قدمت بغداد في أسمال الأشقياء، وسأفارق بغداد وعلى رأسي تاج البيان.
ليت قومي يعلمون.
ليت قومي يعلمون أن كرم العراق فوق الأوهام والظنون.
ليت قومي يعلمون لأي الأسباب تظفر مصر بثقة العراق؟
الأسباب واضحة جدًا، ولكن أين من يعرف؟
إن المصريين يفدون إلى العراق، وليس في صدورهم ثروة غير الحب، ومن أجل هذا يحبهم العراقيون، فإن سمعتم أن مصريًا شقى في العراق فاعلموا أنه مصري مزيف، ومصر يكثر في أهلها التزييف، مع الأسف الموجع، لأنها مجمع البحرين.
لقد صاولت العراقيين بلا تلطف ولا ترفق، وآذيتهم في بعض أحوالي أبشع إيذاء، وظلوا مع ذلك إخوانًا كرامًا، فكيف كنت وكيف كانوا؟
غزوتهم وأنا مخلص فرعوني وهم مخلصون.
استطلت عليهم باسم العلم الذي أدعيه فصبروا باسم العلم الذي يحسنون.
من أنتم يا أهل العراق؟ أتكونون من الملائكة؟ أتكونون من الشياطين؟
من أنتم؟ حدثوني من أنتم فقد خبلتموني؟
إن عاصميكم لا تساوي حيًا واحدًا من أحياء القاهرة، فما هو السحر الذي صرعتم به قلبي؟
لقد سحرتم أبا العلاء المعري وهو ضرير فظل طول عمره يتحدث عن فضائلكم وشمائلكم. فكيف أكون ولي بصر حاد أنعم الله به وتفضل؟ كيف أكون وأنا أشهد شقاءكم في الصباح ونعيمكم في المساء؟
كيف أكون وأنا أشهد شوارعكم تموج في النهار بالعاملين، وتموج في الليل بالعاشقين؟
عشت بينكم محرومًا يا أهل بغداد، وسأفارقكم وأنا محروم، فاذكروني بالشعر يوم أموت، وما أريد شعر القوافي وإنما أريد شعر الأرواح.
صديقي
هل سمعت بالمستحيل؟
عشت في باريس ما عشت، وكنت أصدق مصري عشق باريس، ولكني كنت أعدّ أعوامي في باريس، فكنت حين يقترب رجوعي إلى مصر أجرب السفر في كل مساء إلى محطة ليون، فكيف تراني في بغداد؟
أنا اليوم أتوجع كلما تذكرت أني سأفارق بغداد بعد أسابيع.
أنا أضطرب وألتاع كلما تذكرت أني سأفارق القيظ والغبار في بغداد.
أنا أشرق بدموعي كلما خطر بالبال أني سأرحل عن بغداد.
فهل تراني يا صديقي عشت عيش المنعمين في بغداد؟
لم أر في بغداد غير ظلام الليل.
لم أر في بغداد غير سواد المداد وبياض القرطاس.
لم أعرف كيف تصطرع الأهواء في بغداد، فما عصيت فيها ربي، وذلك أعظم الذنوب، فلولا المعصية لما ظفر الناس بأعظم نعمة من نعم الله وهي الغفران.
رباه! عاقبني بما شئت، فقد كفرت بالعيون السود، في وطن العيون السود.
رباه! اغفر ذنوبي، فقد وقعت في أعظم ذنب وهو الحرمان.
رباه! أنت تعلم أني لا أداري المنافقين، فنجني من شر المنافقين.
رباه! أنا أحب العراق، فاجعلني طول حياتي من المجاهدين في سبيل العراق، واحشرني يوم الحساب مع أهل العراق.
رباه! إن العراقيين رعوني وأكرموني فاجعلهم في الدنيا والآخرة من السعداء.