مكانة مصر في العراق
كانت حادثة كلية الحقوق في بغداد مثارًا لكثير من الأقاويل والأراجيف حول التعاون العلمي بين مصر والعراق، وقد ظن فريق من الناس أن تلك الحادثة تقطع ما بيننا وبين ذلك القطر الشقيق من متين الصلات، ومن أجل ذلك أصبح من الواجب على من عرف عواطف العراقيين نحو إخوانهم المصريين أن يشرح جانبًا من تلك العواطف السامية، وأن يزيل ما قد يلحق بعض النفوس من كدورة وجفاء.
لقد أقمت في العراق نحو تسعة أشهر، ورأيت أكثر الحواضر العراقية، وطوفت بكثير من أرجاء الريف العراقي، وصادقت في العراق من صادقت، وخاصمت من خاصمت، وحييت بينهم حياة لا تكلف فيها ولا تصنع، كما كنت أحيا في بلادي، واشتركت في كثير من المجادلات والمشاغبات، فكان لي من ذلك كله فرص ثمينة أعرف بها حقائق العواطف عند أولئك الرجال، وقد صح عندي بالخبرة واليقين أنهم أصدقاء أوفياء يرعون العهد ويحفظون الجميل.
والحادث الأخير محنة، ولكنها محنة أراد الله أن يختبر بها قلوبنا وقلوبهم، فالصداقة نوع من الإيمان تصقله الحوادث والخطوب، فمن كان جزع من هذا الحادث الأليم فلينتظر قليلًا، فقد يكون هذا الحادث امتحانًا إلهيًا تريد به الأقدار أن ترينا مبلغ ما في أنفسنا من استعداد لمقاومة المكاره والصعاب.
وأقول بصراحة إن الصداقة كالعداوة لها متاعب وتكاليف، ونحن عقدنا أواصر المودة بين مصر والعراق، فليكن من واجبنا ومن واجبهم أن نحرس هذه المودة وأن نقيها مكاره التقول والبغي والإسفاف، وهذا الحادث فرصة نعرف بها كيف نصلح للتعاون وكيف نقدر على احتمال المصاعب، وكيف نفهم الأشياء على وجهها الصحيح بلا تحريف ولا تزييف.
والذي يهمني في هذا المقال أن أشير إلى بعض الشواهد التي تبين مكانة مصر في العراق فأقول:
يدخل الزائر بغداد فيسمع أول ما يسمع أغاني مصر، ويقرأ أول ما يقرأ أخبار مصر، ويروعه أن يرى المجلات المصرية أهم غذاء عقلي لجماهير الناس هناك، فإذا اتصل بأحد الأندية أو دخل إحدى المدارس رأى الجدل حول أقطاب الأدب في مصر وسمع المفاضلات والموازنات بين الشعراء والكتاب والمؤلفين، وأحس إحساسًا قويًا بأن رجال مصر يحلون من قلوب أولئك الرجال أكرم مكان.
وفي أكثر البيوت العراقية نجد صورًا مختلفة لحضرة صاحب الجلالة ملك مصر، ونجد صورًا للزعماء المصريين من مختلف الأحزاب، وتشعر بأن مودة العراق لمصر أصيلة لا يشوبها تكلف ولا افتعال.
وإذا وقع في مصر حادث سياسي أو اجتماعي أو أدبي كان اهتمام العراقيين به عظيمًا جدًا، ولا أبالغ إذا قلت إن المصري قد يراهم يعرفون من أخبار بلاده أكثر مما يعرف، وقد يراهم اطلعوا على مالم يطلع عليه من المؤلفات المصرية، وذلك لا يقع من باب المصادفات وإنما هو دليل على محبة أكيدة يضمرها لنا أولئك الأصدقاء الأعزاء، وهل يمكن أن يسود التجاوب الأدبي إلا بين أمم يعطف بعضهم على بعض ويتبادلون أواصر المحبة والإخلاص؟
أرجو القارئ أن يطمئن إلى أني لا أكتب هذا الكلام لتهدئة الخواطر بعد الحادث الذي وقع، وإنما أريد أن أؤكد حقيقة لا تحتاج إلى تأكيد، وهي أن مكان مصر في العراق مكان مرموق، وأن لمصر في العراق ذخيرة من الثقة والمحبة يجب أن نحرص عليها أشد الحرص.
وقد يتفق في بعض الأحيان أن يشعر بعض المصريين في العراق بشيء من الضجر والاستيحاش، وهذا يرجع في الأغلب إلى سبب واحد: هو أن المصري في أكثر أحواله يتضجر من الاغتراب، وقد وقع لي شيء من هذا في الأيام الأولى من حياتي في بغداد، ثم شاء الله أن أقيم لنفسي صلات من المودة مع كثير من أهل العراق، فبدل الله وحشتي أنسا، وشاع السرور في نفسي، ولم أفارق بغداد إلا وأنا دامع العين مفطور الفؤاد.
ليت قومي يعلمون كيف يحبهم أهل العراق؟
ليت قومي يعلمون كيف يفرح أهل العراق لفرحهم، وكيف يحزنون لحزنهم؟
ليت قومي يعلمون كيف تسير أنباؤهم في بغداد والحلة والموصل وكركوك والنجف وكربلاء والبصرة، وما إلى هؤلاء من حواضر العراق؟
ليت قومي يعلمون كيف تسود مجلاتهم ومؤلفاتهم وأناشيدهم في مضارب العشائر، وكيف تكون أغانيهم راح السامرين على شواطئ دجلة والفرات.
إن العراقيين يحبوننا أصدق الحب، فليعرفوا جيدًا أننا نحبهم ونتمنى لهم كل خير، وننظر إلى بلادهم نظر الأخوة الصادقة التي لا تضمر غير العطف والصدق.
وستذكر مصر أن العراق وثق بها، واطمأن إليها، وتطلع إلى أخبارها تطلع الصديق المشغوف. ستذكر مصر أن العراق رآها أهلًا لحمل الأمانة العلمية فمكنها من غرس أصول الثقافة الحديثة في رحاب دجلة والفرات.
وسيذكر العراق أن مصر كانت عند ظنه الجميل فلم ير من أبنائها غير الصدق والإخلاص والوفاء، ويرحم الله من قال: