في نوادر البرامكة
الفضل بن يحيى وزائره
بينما كان الفضل بن يحيى في مجلسه محاطًا بالوزراء والأحشاد أتاه الحاجب فقال: إن بالباب رجلًا قد أكثر في طلب الإذن وزعم أن له يدًا عليك يكاد يميته كتمانها، فقال: أدخلهُ، فدخل رجل جميل رث الثياب، فسلم بأفصح لسان، فأومأ إليه بالجلوس، فجلس، فسألهُ: ما حاجتك؟ قال: هل رأيت ما أنا عليه من رثاثة الثياب وضيق ذات اليد؟ قال: أجل، فما الذي لك علينا وقد كاد يقضي عليك كتمانه؟ قال: ولادة تقرب من ولادتك وجوار يدنو من جوارك واسم مشتق من اسمك، قال: أما الجوار فقد يمكن حصول ما ذكرت، وقد يوافق الاسم الاسم، ولكن ما علمك بالولادة؟ قال: أعلمتني أمي أن يوم ولادتي كان موافقًا يوم ولادتك، وأن والدك سماك الفضل فسمتني فضيلًا إعظامًا لاسمك وخشية أن ألحق بعالي مجدك، فتبسم الفضل وقال: كم أتى عليك من السنين؟ قال: خمس وثلاثون، قال: صدقت هذا المقدار الذي أتيت عليه، فما حال أمك؟ قال: توفيت رحمها الله، قال: فما منعك عن اللحوق بنا فيما مضى؟ قال: لم أرضَ بمقابلتك في زمن حداثة يقعدني عن لقاء الملوك، قال: يا غلام أعطه لكل عام من سنيهِ ألفًا، وأعطه من كسوتنا ومراكبنا ما يصلح له، فلم يخرج من الدار إلا وقد طاف به إخوانه وخاصة أهله.
يحيى بن خالد وأحد التجار
اعترض الفضل بن يحيى بن خالد في وقت خروجه إلى خراسان فتى من التجار كان شخص إلى الكوفة، فأخذ بعنان دابة الفضل وقال:
فأمر له بمائة ألف درهم.
مروان بن أبي حفصة وزبيدة ابنة جعفر
قال أبو الجنوب مروان بن أبي حفصة أبياتًا ورفعها إلى زبيدة ابنة جعفر يمتدح ابنها محمدًا وفيها يقول:
فأمرت أن يملأ فمه درًا.
الفضل بن يحيى وأبو علي بن الجهم
قال أبو علي بن الجهم: أصبحت يومًا وأنا في غاية من الضيق ما أهتدي إلى دينار ولا درهم ولا أملك إلا دابة عجفاء، وخادمًا خلقًا وطلبت الخادم فلم أجده ثم جاء فقلت: أين كنت؟ فقال: في اجتهاد شيء لك وعلف لدابتك، فوالله ما قدرت عليه، فقلت: أسرج لي دابتي، فأسرجها، فركبت، فلما صرت في سوق يحيى إذا أنا بموكبٍ عظيم، وإذا الفضل بن يحيى، فلما أبصرني قال: سر، فسرت قليلًا، وحجز بيني وبينه غلام يحمل طبقًا على باب ينادي جارية، فوقف الفضل طويلًا، ثم قال: سر، فسرت، ثم قال: تدري ما سبب وقفتي؟ قلت: إن رأيت أن تعلمني، قال: كانت لأختي جارية وكنت أحبها حبًّا شديدًا، وأستحي من أختي أن أطلبها منها، ففطنت أختي لذلك، فلما كان هذا اليوم ألبسَتْهَا وزينَتْهَا وبعثت بها إليَّ، فما كان من عمري يوم أطيب من يومي هذا، فلما كان هذا الوقت جاءني رسول أمير المؤمنين فأزعجني وقطع لذتي، ولما صرت إلى هذا المكان دعا هذا الغلام صاحب الطبق باسم تلك الجارية فارتحت إلى ندائه، فقلتُ: أصابك ما أصاب أخا بني عامر حيث قال:
فقال: اكتب لي هذين البيتين، فعدلت لأطلب ورقةً أكتب له هذين البيتين فيها، فلم أجد، فرهنت خاتمي عند بقال وأخذت ورقة وكتبتهما وأدركته بها، فقال لي: ارجع إلى منزلك فرجعت ونزلت، فقال لي الخادم: أعطني خاتمك أرهنه على قوتنا، فقلت: قد رهنته، فما أمسيت حتى بعث لي بثلاثين ألف درهم جائزة وعشرة آلاف سلفًا عن شهر برزق أجراه لي في كل شهر.
جعفر والرشيد
لما غضب الرشيد على البرامكة، أُصيب في خزانة الجعفر جرة فيها ألف دينار ونيف، كل دينار منها وزنه مائة مثقال ومثقال، على أحد جانبي كل دينار منها مكتوب:
ابن العلويّ والفضل
قال عبد الله بن العلويِّ: «أتيت الفضل بن يحيى فأكرمني وأجلسني معه على فراشه، فكلمته في دَيْني ليكلم أمير المؤمنين في قضائه عني، قال: وكم دينك؟ قلت: ثلاثمائة ألف درهم، قال: نعم، فخرجت من عنده وأنا مغموم لضعف ردِّه عليَّ، فمررت ببعض إخواني مستريحًا إليهِ، ثم صرت إلى منزلي فوجدت المال قد سبقني من ماله خاصةً.
هبات الفضل بن يحيى
وهب الفضل لطباخه مائة ألف درهم فعاتبه أبوه في هذا، فقال: إن هذا صحبني وأنا لا أملك شيئًا، واجتهد في نصيحتي، وقال الشاعر:
أبان بن عبد الحميد مع البرامكة
قيل: «إن أبان بن عبد الحميد الشاعر مولى بني (رقاش) قدم بغداد واتصل بالبرامكة، وعمل كتاب كليلة ودمنة شعرًا، وله قصائد ومدائح في الرشيد والفضل بن يحيى».
ويقال: إن كل كلام نُقل إلى الشعر، فالكلام أفصح منهُ إلا هذا، وأول قصيدتِه هذه قولُهُ:
وعددها أربعة عشر ألف بيت مزدوجة في ثلاثة أشهر، قال: فأعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار وأعطاه الفضل خمسة آلاف دينار، فتصدق بثلث المال الذي أخذه.
حسن شمائل يحيى بن خالد
من كلامه: إن من بلغ رتبة فتاه بها فاعلم أن محلهُ دونها. وقال: يدل على كرم المرء سوء أدب غلمانه. وقال لابنه: خذ من كل علم طرفًا، فإن من جهل شيئًا عاداه. وقال: ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها: الهدية، والكتاب، والرسول. وكان يقول لأولاده: اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون وتحدثوا بأحسن ما تحفظون. وكان يقول: إذا أقبلت الدنيا، فأنفق، فإنها لا تغني، وإذا ولت فأنفق فإنها لا تبقى وإليه أشار الشاعر:
وكان صِلات يحيى إذا ركب بأن يعرض لهُ في طريقه مائتا درهم، فركب ذات يوم فعرض له أديب شاعر فقال له:
قال يحيى: صدقت، فأمر بحمله إلى داره، فلما رجع من دار الخليفة سأله عن حاله، فذكر له أنه كان تزوج وحلف بواحدة من ثلاث، إما أن يؤدَى المهر وهو أربعة آلاف، وأما أن يطلق، وإما أن يقيم مجريًا للمرأة ما يكفيها إلى أن يتهيأ له نقلها، فأمر له يحيى بأربعة آلاف للمهر وأربعة آلاف ثمن منزل، وأربعة آلاف للبنية، وأربعة آلاف لما يحتاج إليه، وأربعة آلاف ليستظهر بها فأخذ عشرين ألف درهم.
مديح يحيى بن خالد
وكان يحيى بن خالد يجري على سفيان بن عيينة كل نهار ألف درهم، فلما مات يحيى كان سفيان يقول في سجوده: اللهم إن يحيى بن خالد كفاني أمر دنياي فاكفِه أمر آخرتِه.
حديث البرامكة في السجن
قال ابن خالد البرمكي لأبيه يحيى وهم في القيود، ولبس الصوف، والحبس: يا أبتاه بعد الأمر والنهي والأموال العظيمة، أصارنا الدهر إلى القيود ولبس الصوف والحبس، فقال له أبوه: يا بني، دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها، ثم أنشأ يقول:
جعفر البرمكي وأحمد بن جنيد
قال أحمد بن جنيد الإسكافي — وكان أحضر الناس بجعفر البرمكي خص، فكان الناس يقصدونه في حوائجهم إلى جعفر، وإن رقاع الناس كثرت في خف أحمد بن الجنيد فلم تزل إلى أن تهيأ له الخلوة بجعفر —، فقال له: جعلني الله فداءك، قد كثرت رقاع الناس معي وأشغالك كثيرة، وأنت اليوم خالٍ، فإن رأيت أن تنظر فيها، قال له جعفر: على أن تقيم عندي اليوم، فقال: نعم، وصرف دوابه وأقام عنده، فلما تغذوا جاءه بالرقاع، فقال له: هذا وقت راحة فدعنا اليوم، فأمسك عنه وانصرف فلم ينظر في الرقاع، فلما كان بعد أيام خلا به فأذكره، فقال: نعم، على أن تقيم عندي اليوم فأقام عنه، ففعل به مثل الفعل الأول حتى فعل به ذلك ثلاثًا، فلما كان في آخر يوم أذكره، فقال: دعني الساعة، وناما، فانتبه جعفر قبل أحمد بن الجنيد، فقال لخادم له: اذهب إلى خف أحمد فجئني بكل رقعة فيه، ولا يعلمه أحمد، فذهب الغلام وجاء بالرقاع فوقع جعفر فيها عن آخرها بخطه بما أحب أصحابها، ووكد ذلك ثم أمر الغلام أن يردها إلى الخف، فردها، فانتبه أحمد، فلم يقل له فيها شيئًا وانصرف بها أيامًا، قال أحمد بن جنيد لكاتبِه: ويحك، هذه الرقاع قد أخلقت خفي، وهذا ليس ينظرها فتصفحها وجدد ما أخلق منها، فأخذها الكاتب فنظر فيها، فوجد الرقاع موقعًا عليها بما سأل أصحابها وأكثر، فتعجب من كرمِه ونبل أخلاقِه، ومن أنه قضى حاجته ولم يعلم بها لئلا يظن أنه اعتد بها عليه.
جود خالد بن برمك
روى الجاحظ قال: كان أصحابنا يقولون لم يكن يرى لجليس خالد بن برمك دارًا إلا خالد قد بناها، ولا ضيعة إلا وهو قد اشتراها ولا ولدًا إلا وهو اشترى أمه إن كانت أمة، وأمهرها إن كانت حرة، ولا دابة إلا هي من دوابه، وكان خالد البرمكي أول من سمى أهل الاستماحة والاسترفاد الزوار فقال بعضُ من قصده:
العطايا الثلاث التي وهبها الرشيد ويحيى وولداه
حج هارون الرشيد مرة ومعه يحيى بن خالد وولداه الفضل وجعفر، فلما وصلوا إلى المدينة جلس الرشيد ومعه يحيى فأعطيا الناس، وجلس الأمين ومعه الفضل بن يحيى فأعطيا الناس، وجلس المأمون ومعه جعفر فأعطيا الناس، فأعطوا في تلك السنة ثلاث أعطيات ضُربت بكثرتها الأمثال، وكانوا يسمونه عام الأعطيات الثلات، وأَثري الناس بسبب ذلك.
الفضل بن يحيى والشاعر
ولاه الرشيد خراسان فخرج إليه أبو الهول الشاعر مادحًا معتذرًا من شعر كان هجاه به فأنشده:
فقال له الفضل: لا أحتمل تفريقك بين رضاي وإحساني وهما مقرونان، فإن أردتهما معًا وإلا فدعهما معًا، ثم وصله ورضي عنه.
الفضل وإسحاق الموصلي والجارية
حدث إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كنت قد ربيت جارية وثقفتها وعلمتها حتى برعت، ثم أهديتها إلى الفضل بن يحيى، فقال لي: يا إسحاق إن رسول صاحب مصر قد ورد إليّ يسألني حاجة أقترحها عليه، فدع هذه الجارية عندك فإني سأطلبها وأعلمه أني أريدها، فإنه سوف يحضر إليك ويساومك فيها فلا تأخذ فيها أقل من خمسين ألف دينار. قال إسحاق: فمضيت بالجارية إلى منزلي فجاء إلي رسول صاحب مصر وسألني عن الجارية فأخرجتها إليه، فبذل فيها عشرة آلاف دينار فامتنعت، فصعد إلى عشرين ألف دينار فامتنعت، فصعد إلى ثلاثين ألفًا فما ملكت نفسي حتى قلت له: بعتك، وسلمت الجارية إليه وقبضت المال، ثم إنني أتيت من الغد إلى الفضل بن يحيى فقال: يا إسحاق بكم بعت الجارية؟ قلت: بثلاثين ألف دينار، قال: ألم أقل لك لا تأخذ منه أقل من خمسين ألفًا؟ قلت: فداك أبي وأمي والله ما ملكت نفسي منذ سمعت لفظة ثلاثين، فتبسم ثم قال: إن رسول صاحب الروم قد سألني أيضًا حاجة وسأقترح عليه هذه الجارية وأدله عليك، فخذ جاريتك وانصرف إلى منزلك فإذا ساومك فيها فلا تأخذ منه أقل من خمسين ألف دينار.
فأخذت الجارية وانصرفت إلى منزلي، فأتاني رسول صاحب الروم وساومني في الجارية، فطلبت خمسين ألفًا فقال: هذا كثير، ولكن تأخذ مني ثلاثين ألفًا، فوالله ما ملكت نفسي منذ سمعت لفظة ثلاثين ألفًا حتى قلت له: بعتك، ثم قبضت المال منه وسلمت الجارية إليه، ومضيت من الغد إلى الفضل بن يحيى فقال: ما صنعت؟ وبكم بعت الجارية يا إسحاق؟ قلت: بثلاثين ألفًا، فقال: سبحان الله، ما أوصيتك أن لا تأخذ فيها أقل من خمسين ألفًا؟ قلت: جعلت فداك والله إني لما سمعت قوله ثلاثين ألفًا استرخت جميع أعضائي، فضحك وقال: خذ جاريتك واذهب إلى منزلك ففي غد يجيء إليك رسول صاحب خراسان فقوِّ نفسك ولا تأخذ منه أقل من خمسين ألفًا.
قال إسحاق: فأخذت الجارية ومضيت إلى منزلي، فجاءني رسول صاحب خراسان وساومني فيها فطلبت خمسين ألفًا فقال لي: هذا كثير، ولكن تأخذ ثلاثين ألفًا، فقويت نفسي وامتنعت، فصعد معي إلى أربعين ألف دينار، فكاد عقلي يذهب من الفرح ولم أتمالك أن أقول له بعتك، فأحضر المال وأقبضنيه وسلمت الجارية إليه، ومضيت من الغد إلى الفضل فقال لي: بكم بعت الجارية؟ قلت: بأربعين ألفًا، ووالله لما سمعتها منه كاد عقلي يذهب، وقد حصل عندي جعلت فداك مائة ألف دينار ولم يبقَ لي أمل، فأحسن الله جزاءك، فأمر بالجارية فأخرجت إلي وقال: يا إسحاق خذ جاريتك وانصرف، قال إسحاق: فقلت هذه الجارية والله أعظم الناس بركة، فأعتقتها وتزوجتها فولدت لي أولادي.
عمر بن العباس والفضل
قيل: إن محمد بن العباس حضر يومًا عند الفضل بن يحيى ومعه سفط فيه جوهر، وقال له: إن حاصلي قد قصر عما أحتاج إليه، وقد علاني دين مقداره ألف ألف درهم وإني أستحي أن أُعلم أحدًا بذلك، وآنف أن أسأل أحدًا من التجار أن يقرضني ذلك وإن كان معي رهن يفي بالقيمة، أبقاك الله لك تجار يعاملونك، وأنا أسألك أن تقرض لي من أحدهم هذا المبلغ وتعطيه هذا الرهن، فقال له الفضل: السمع والطاعة ولكن تقضي هذه الحاجة أن تقيم عندي اليوم، فأقام عنده، ثم إن الفضل أخذ السفط منه وهو مختوم بختمه وأرسل معه ألف ألف درهم وأنفذ الدراهم والسفط إلى منزله، وأخذ خط وكيله بقبضِه، فأقام محمد في دار الفضل إلى آخر النهار، ثم انصرف إلى داره فوجد السفط ومعه ألف ألف درهم، فسرَّ بذلك سرورًا عظيمًا، فلما كان من الغد بكَّرَ إلى الفضل ليشكره على ذلك، فوجده قد بكَّر إلى دار الرشيد، فمضى محمد إلى دار الرشيد، فحين علم به خرج بباب آخر ومضى إلى منزله، فمضى محمد إليه واجتمع به وشكره على فعله وقال: إني بكرت إليك لأشكرك على إحسانك، فقال له الفضل: إني فكرت في أمرك فرأيت أن هذه الألف ألفًا التي حملتها أمس إليك تقضي بها دينك ثم تحتاج إليه فتقترض، فبعد قليل يعلوك مثلها، فبكرت اليوم إلى أمير المؤمنين وعرضت عليه حالك وأخذت لك منه ألف ألف درهم أخرى، فلما حضرت إلى باب أمير المؤمنين خرجت أنا بباب آخر، وكذلك فعلت لما حضرت إلى باب أبي لأني ما كنت أوثر أن ألقاك حتى يُحمل المال إلى منزلك، وقد حُمل، فقال له محمد: بأي شيء أجازيك على هذا الإحسان، ما عندي شيء أجازيك به إلا أني ألتزم بالأيمان المؤكدة وبالطلاق والعتاق والحج إني ما أقف على باب غيرك ولا أسأل سواك، قيل: وحلف محمد أيمانًا مؤكدة وكتب بها خطه وأشهد به عليه أن لا يقف بباب غير الفضل بن يحيى، فلما ذهبت دولة البرامكة وتولى الفضل بن الربيع الوزارة بعدهم احتاج محمد فقالوا له: لو ركبت إلى الفضل بن الربيع، فلم يفعل والتزم باليمين، فلم يركب إلى أحد ولم يقف على باب أحد حتى مات.
جعفر وعبد الملك بن صالح بن العباس
قيل: إن جعفر بن يحيى البرمكي جلس يومًا للشرب وأحب الخلوة، فأحضر ندماءَه الذين يأنس بهم وجلس معهم وقد هيئ المجلس ولبسوا الثياب المصبغة، وكانوا إذا جلسوا في مجلس الشراب واللهو لبسوا الثياب الحمر والصفر والخضر، ثم إن جعفر بن يحيى تقدم إلى الحاجب أن لا يأذن لأحد من خلق الله تعالى سوى رجل من الندماء كان قد تأخر عنهم اسمه عبد الملك بن صالح، ثم جلسوا يشربون ودارت الكاسات وخفقت العيدان، وكان رجل من أقارب الخليفة يقال له عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان شديد الوقار والدين والحشمة، وكان الرشيد قد التمس منه أن ينادمه ويشرب معه وبذل له على ذلك أموالًا جليلة فلم يفعل، فاتفق أن هذا عبد الملك بن صالح حضر إلى باب جعفر بن يحيى ليخاطبه في حوائج له، فظن الحاجب أنه هو عبد الملك بن صالح الذي تقدم جعفر بن يحيى بالإذن له وأن لا يدخل غيره، فأذن الحاجب له فدخل عبد الملك بن صالح العباس على جعفر بن يحيى، فلما رآه جعفر كاد عقله أن يذهب من الحياء، وفطن أن القضية قد اشتبهت على الحاجب بطريق اشتباه الاسم، وفطن عبد الملك بن صالح أيضًا للقصة وظهر له الخجل في وجه جعفر بن يحيى، فانبسط عبد الملك وقال: لا بأس عليكم أحضروا لنا من هذه الثياب المصبغة شيئًا، فأحضر له قميص مصبوغ، فلبسه وجلس يباسط جعفر بن يحيى ويمازحه وقال: اسقونا من شرابكم فسقوه رطلًا وقال: ارفقوا بنا فليس لنا عادة بهذا، ثم باسطهم ومازحهم، وما زال حتى انبسط جعفر بن يحيى وزال انقباضه وحياؤه، ففرح جعفر بذلك فرحًا عظيمًا وقال له: ما حاجتك، قال: جئت — أصلحك الله — في ثلاث حوائج أريد أن تخاطب الخليفة فيها، أولها، أن عليَّ دينًا مبلغه ألف ألف درهم أريد قضاءه، ثانيًا، أريد ولاية لابني يشرف بها قدره، وثالثها، أريد أن تزوج ولدي بابنة الخليفة، فإنها بنت عمه وهو كفء لها، فقال جعفر بن يحيى: قد قضى الله هذه الحوائج الثلاث: أما المال ففي هذا المساء يُحمل إلى منزلك، وأما الولاية فقد وليت ابنك مصر، وأما الزواج فقد زوجته فلانة ابنة مولانا أمير المؤمنين على صداق مبلغه كذا وكذا، فانصرف في أمان الله، فراح عبد الملك إلى منزله، فرأى المال قد سبقه، ولما كان من الغد حضر عند الرشيد وعرفه ما جرى وإنه قد ولاه مصر وزوجه ابنته، فعجب الرشيد من ذلك وأمضى العقد والولاية، فما خرج جعفر من دار الرشيد حتى كتب له التقليد بمصر وأحضر القضاة والشهود وعقد العقد.
في المكافأة
قال الحسن بن سهل: كنت يومًا عند يحيى بن خالد البرمكي وقد خلى في مجلسه لإحكام أمر من أمور الرشيد، فبينما نحن جلوس إذ دخل عليه جماعة من أصحاب الحوائج فقضاها لهم، ثم توجهوا لشأنهم فكان آخرهم قيامًا أحمد بن أبي خالد الأحول فنظر يحيى إليه والتفت إلى الفضل ابنه وقال: يا بني إن لأبيك مع أبي هذا الفتى حديثًا فإذا فرغت من شغلي هذا فذكرني أحدثك، فلما فرغ من شغله وطعم قال له ابنه الفضل: أعزك الله يا أبي أمرتني أن أذكرك حديثَ أبي خالد الأحول، قال: نعم يا بني، لما قدم أبوك من العراق أيام المهدي كان فقيرًا لا يملك شيئًا فاشتد به الأمر إلى أن قال لي من في منزلي: إن كتمنا حالنا زاد ضررنا ولنا اليوم ثلاثة أيام ما عندنا شيء نقتات به، قال: فبكيت لذلك يا بني بكاءً شديدًا، وبقيت ولهان حيران مطرقًا مفكرًا ثم تذكرت منديلًا كان عندي فقلت لهم: ما حال المنديل، فقالوا هو باق عندنا، فقلت: ادفعوه إلي، فأخذتُه ودفعتُه إلى بعض أصحابي وقلت له: بعه بما يسر، فباعه بسبعة عشر درهمًا، فدفعتها إلى أهلي وقلت: أوقفوها إلى أن يرزق الله غيرها، ثم بكرت من الغد إلى باب أبي خالد وهو يومئذ وزير المهدي، فإذا الناس وقوفا على داره ينتظرون خروجه فخرج عليهم راكبًا، فلما رآني سلم عليّ وقال: كيف حالك؟ فقلت: يا أبا خالد ما حال رجل يبيع من منزله بالأمس منديلًا بسبعة عشر درهمًا، فنظر إليَّ نظرًا شديدًا وما أجابني جوابًا، فرجعت إلى أهلي كسير القلب وأخبرتهم ما اتفق لي مع أبي خالد، فقالوا: بئس والله ما فعلت، توجهت إلى رجل كان يرتضيك لأمر جليل فكشفت له سرك وأطلعته على مكنون أمرك، فأزريت عنه بنفسك وصَغُرت عنه منزلتك بعد أن كنت عنده جليلًا، فما يراك بعد اليوم إلا بهذه العين، فقلت: قد قُضي الأمر الآن بما يمكن استدراكه، فلما كان من الغد بكرت إلى الخليفة، فلما بلغت الباب استقبلني رجل فقال لي: قد ذكرت الساعة بباب أمير المؤمنين، فلم ألتفت لقوله، فاستقبلني آخر فقال لي كمقالة الأول، ثم استقبلني حاجب أبي خالد فقال لي: أين تكون قد أمرني أبو خالد بإجلاسك إلى أن يخرج من عند أمير المؤمنين، فجلست حتى خرج، فلما رآني دعاني وأمر لي بمركوب فركبت وسرت معه في منزله، فلما نزل قال: عليّ بفلان وفلان الحناطين ،فأُحضرا، فقال لهما: ألم تشتريا مني غلات السواد بثمانية عشر ألف ألف درهم؟ قالا: نعم، قال: ألم أشترط عليكما شركة رجل معكما، قالا: بلى، قال: هو هذا الرجل الذي اشترطت شركته لكما، ثم قال لي: قم معهما، فلما خرجنا قالوا لي: ادخل معنا بعض المساجد حتى نكلمك في أمر يكون فيه الربح الهنيء، فدخلنا مسجدًا، فقالا لي: إنك تحتاج في هذا الأمر إلى وكلاء وأمناء وكيالين وأعوان ومؤن لم تقدر منها على شيء، فهل لك أن تبيعنا شركتك بمال نعجله لك فتنتفع به ويسقط عنك التعب والكلف؟ فقلت لهما: وكم تبذلان لي، فقالا: مائة ألف درهم، فقلت: لا أفعل، فما زالا يزيداني وأنا لا أرضى إلى أن قالا لي: ثلاثمائة ألف درهم ولا زيادة عندنا على هذا، فقلت: حتى أشاور أبا خالد، قالا: ذلك لك، فرجعت إليه وأخبرته، فدعا بهما وقال لهما: هل وافقتماه على ما ذكر، قالا: نعم، قال: اذهبا فقبضاه المال الساعة، ثم قال لي: أصلح أمرك وتهيأ فقد قلدتك العمل، فأصلحت شأني وقلدني ما وعدني به، فما زلت في زيادة حتى صار أمري إلى ما صار، ثم قال لولده الفضل: يا بني فما تقول في ابن من فعل بأبيك هذا الفعل وما جزاؤه؟ قال: حق لعمري وجب عليك له، فقال: والله يا ولدي ما أجد له مكافأة غير أني أعزل نفسي وأوليه، ففعل ذلك، وهكذا تكون المكافأة.
سعيد بن سالم الباهلي مع الفضل وجعفر
قال سعيد بن سالم الباهلي: اشتد بي الحال في مرض هارون الرشيد واجتمع عليَّ ديونٌ كثيرةٌ أثقلت ظهري وعجزت عن قضائها، وضاقت حيلي، وبقيت متحيرًا لا أدري ما أصنع حيث عسر عليَّ أداؤها عسرًا عظيمًا، واحتاطت ببابي أرباب الديون، وتزاحم عليّ المطالبون ولازمني الوفاء، فضاقت حيلي وازدادت فكرتي، فلما رأيت الأمور متعسرة، والأحوال متغيرة، قصدت عبد الله بن مالك الخزاعي والتمست منه أن يمدني برأيه، ويرشدني إلى باب الفرج بحسن تدبيره، فقال عبد الله بن مالك الخزاعي: لا يقدر أحد على خلاصك من محنتك وهمك وضيقك وغمك إلا البرامكة، فقلت: ومن يقدر على احتمال تكبرهم ويصبر على تجبرهم؟ فقال: تحمَّل ذلك لأجل إصلاح حالك، فنهضت من عنده ومضيت إلى الفضل وجعفر ولدي يحيى بن خالد وقصصت عليهما قصتي وأبديت لهما حالتي، فقالا: أسعدك الله بعونه وأغناك عن خلقه بمنه، وأجزل لك عظيم خيره، وقام لك بالكفاية دون غيره، إنه على ما يشاء قدير وبعباده لطيف خبير.
فانصرفت من عندهما ورجعت إلى عبد الله بن مالك ضيق الصدر متحير الفكر منكسر القلب وأعدت ما قالاه، فقال: ينبغي أن تقيم اليوم عندنا لننظر ما يقدره الله تعالى، فجلست عنده ساعة وإذا بغلامي قد أقبل وقال: يا سيدي إن ببابنا بغالًا كثيرةً بأحمالها ومعها رجل يقول: أنا وكيل الفضل بن يحيى وجعفر بن يحيى، فقال عبد الله بن مالك: أرجو أن يكون الفرج قد أقبل عليك، فقم وانظر ما الشأن، فنهضت من عنده وأسرعت عدوًا إلى بيتي، فرأيت رجلًا معه رقعة مكتوبٌ فيها: إنك لما كنت عندنا وسمعنا كلامك توجهنا بعد خروجك إلى الخليفة وعرفناه أنه أفضى بك الحال إلى ذل السؤال، فأمرنا أن نحمل إليك من بيت المال ألف درهم، فقلنا له: هذه الدراهم يصرفها إلى غرمائه ويؤدي بها دينه، ومن أين يقيم وجه نفقاته؟ فأمر لك بثلاثمائة ألف درهم أخرى، وقد حمل إليك كل واحد منا من خالص ماله ألف ألف درهم فصارت الجملة ثلاثة آلاف ألف وثلاثمائة ألف درهم تصلح بها أحوالك وأمورك، فانظر إلى هذا الكرم العظيم.
الكتاب المزور
كان بين يحيى بن خالد وبين عبد الله بن مالك الخزاعي عداوة في السر ما كانا يظهرانها، وسبب العداوة بينهما أن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان يحب عبد الله بن مالك محبةً عظيمةً، بحيث إن يحيى بن خالد وأولاده كانوا يقولون: إن عبد الله يسحر أمير المؤمنين حتى مضى على ذلك زمان طويل والحقد في قلوبهما، فاتفق أن الرشيد قلد ولاية أرمينية لعبد الله بن مالك الخزاعي وسيره إليها، فلما استقر في يختها قصده رجل من أهل العراق كان فيه فضل وأدب وذكاء وفطنة، إلا أنه ضاق ما بيده وفني ماله واضمحل حاله فزور كتابًا على يحيى بن خالد إلى عبد الله بن مالك وسافر إليه في أرمينية.
فلما وصل إلى بابه سلم الكتاب إلى بعض حجابه، فأخذ الحاجب الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن مالك الخزاعي، ففتحه وقرأه وتدبره فعلم أنه مزور، فأمر بإحضار الرجل فلما تمثل بين يديهِ دعا له وأثنى عليه وعلى أهل مجلسه، فقال له عبد الله بن مالك: ما حملك مع بُعد المشقة على مجيئك إليَّ بكتاب مزور، ولكن طب نفسًا، فإننا لا نخيب سعيك، فقال الرجل: أطال الله بقاء مولانا الوزير إن كان ثقل عليك وصولي فلا تحتج في منعي بحجة، فإن أرض الله واسعة، والرازق حي، والكتاب الذي أوصلته إليك من يحيى بن خالد صحيح غير مزور، فقال عبد الله: أنا أكتب كتابًا لوكيلي ببغداد وآمره فيه أن يسأل عن حال هذا الكتاب الذي أتيتني به فإن كان ذلك حقًّا صحيحًا غير مزور قلدتك إمارة بعض بلادي وأعطيتك مائتي ألف درهم مع الخيل والنجب الجليلة، وإن كان الكتاب مزورًا أمرت بأن تضرب مائتي خشبة وأن تحلق لحيتك، ثم أمر عبد الله أن يُحمل إلى حجرة وأن يجعل له فيها ما يحتاج إليه حتى يحقق أمره، ثم كتب كتابًا إلى وكيله ببغداد مضمونه: إنه قد وصل إليَّ رجل ومعه كتاب يزعم أنه من يحيى بن خالد وأنا أسيءُ الظن بهذا الكتاب، فيجب أن لا تهمل هذا الأمر بل تمضي بنفسك وتتحقق أمر هذا الكتاب وتسرع إليَّ برد الجواد لأجل أن نعلم صدقه من كذبه.
فلما وصل إليه الكتاب ببغداد ركب من ساعته ومضى إلى دار يحيى بن خالد، فوجده جالسًا مع ندمائه وخواصه، فسلم عليه وسلم إليه الكتاب، فقرأه يحيى بن خالد ثم قال للوكيل: عد إليَّ من الغد حتى أكتب لك الجواب، ثم التفت إلى ندمائه بعد انصراف الوكيل وقال: ما جزاء من تحمل عني كتابًا مزورًا وذهب به إلى عدوِّي، فقال كل واحد من ندمائه مقالًا، وجعل كل واحد منهم يذكر نوعًا من العذاب، فقال لهم يحيى: قد أخطأتم فيما ذكرتم، وهذا الذي أشرتم به من دناءة الهمم وخستها، وكلكم تعرفون منزلة عبد الله من أمير المؤمنين، وتعلمون ما بيني وبينه من الغضب والعداوة، وقد سبب الله تعالى هذا الرجل وجعله واسطة في الصلح بيننا ووفقه لذلك وقيضه ليخمد نار الحقد من قلوبنا وهي تتزايد من مدة عشرين سنة، وتصلح واسطته شئوننا، وقد وجب عليَّ أن أفي لهذا الرجل بتحقيق ظنونه وإصلاح شئونه وأكتب له كتابًا إلى عبد الله بن مالك الخزاعي مضمونه: إنه يزيد في إكرامه ويستمر على إعزازه واحترامه، فلما سمع الندماء ذلك دعوا له بالخيرات وتعجبوا من كرمه ووفور مروَّتِهِ.
بسم الله الرحمن الرحيم،
وصل كتابك أطال الله بقاك وسررت بسلامتك وابتهجت باستقامتك وشمول سعادتك، وكان ظنك أن ذلك الرجل الحر زوَّر عني كتابًا ولم يحمل مني خطابًا، وليس الأمر كذلك، فإن الكتاب أنا كتبته وليس بمزور ورجائي من إكرامك وإحسانك وحسن شيمتك أن تفي لذلك الرجل الحر الكريم بأمله وأمنيته وترى له حق حرمته وتوصله إلى غرضه، وأن تخصه منك بغامر الإحسان ووافر الامتنان، ومهما فعلته فأنا المقصود به والشاكر عليه، ثم عنون الكتاب وختمه وسلمه إلى الوكيل، فأنفذه الوكيل إلى عبد الله، فحين قرأه ابتهج بما حواه وأحضر ذلك الرجل وقال له: أي الأمرين اللَّذَين وعدتك بهما أحب إليك لأحضره لك بين يديك، فقال الرجل: العطاء أحَّبُ إليَّ من كل شيء، فأمر له بمائتي ألف درهم وعشرة أفراس عربية خمسة منها بالجلال الحرير وخمسة بمروج المواكب المحلاة، وبعشرين تختًا من الثياب وعشرة من المماليك ركاب خيل، وما يليق بذلك من الجواهر الثمينة، ثم خلع عليه وأحسن إليه ووجهه إلى بغداد في هيئة عظيمة.
فلما وصل إلى بغداد قصد دار يحيى بن خالد قبل أن يصل إلى أهله وطلب الإذن في الدخول عليه، فدخل الحاجب إلى يحيى وقال له: يا مولاي إن ببابنا رجلًا ظاهر الحشمة جميل الخلقة حسن الحال كثير الغلمان يريد الدخول عليك، فأذن له بالدخول، فلما دخل عليه قبَّل الأرض بين يديه، فقال له يحيى: من أنت، فقال له الرجل: أيها السيد أنا الذي كنت ميتًا من جور الزمان فأحييتني من رمس النوائب وبعثتني إلى جنة المطالب، أنا الذي زوَّرت كتابًا عنك وأوصلته إلى عبد الله بن مالك الخزاعي، فقال له يحيى: ما الذي فعل معك، وأي شيء أعطاك؟ فقال: أعطاني من يدك وجميل طويتك وشمول نعمك وعموم كرمك وعلو همتك وواسع فضلك حتى أغناني وخولني وهداني، وقد حملت جميع عطيته ومواهبه، وها هي ببابك والأمر إليك والحكم في يدك، فقال له يحيى: إن صنيعك معي أجمل من صنيعي معك، ولك عليَّ المنة العظيمة واليد البيضاء الجميمة، حيث بدلت العداوة التي كانت بيني وبين ذلك الرجل المحتشم بالصداقة والمودة، فها أنا أهب لك من المال مثل ما وهب لك عبد الله بن مالك، ثم أمر له من المال والخيل والتخوت بمثل ما أعطاه عبد الله، فعادت لذلك الرجل نعمته كما كانت بمروءة هذين الكريمين.
شاعر البرامكة وأبو نواس
حدث ابن مناذر قال: حج الرشيد بعد إيقاعه بالبرامكة وحج معه الفضل بن الربيع وكان مضيفًا مملقًا، فهيأت فيه قولًا أجدت تنميقه وحسنت فيه، فدخلت إليه في يوم التروية، وإذا هو يسأل عني ويطلبني، فبادرني الفضل بن الربيع قبل أن أتكلم فقال: يا أمير المؤمنين هذا شاعر البرامكة ومادحهم، وقد كان البشر ظهر لي في وجهه لما دخلت، فتنكر وعبس في وجهي، فقال الفضل: مره يا أمير المؤمنين أن ينشدك قوله فيهم «أتانا بنو الأملاك من آل برمك».
فقال لي: أنشد، فأبيت، فتوعدني وأكرهني، فأنشدته:
ثم أتبعت ذلك بأن قلت: كانوا أولياءك يا أمير المؤمنين أيام مدحتهم، وفي طاعتك لم يلحقهم سخطك ولم تحلل بهم نقمتك، ولم أكن في ذلك مبتدعًا ولا خلا أحد من نظرائي من مدحهم، وكانوا قومًا قد أظلني فضلهم وأغناني رفدهم فأثنيت بما أولوا، فقال يا غلام الطم وجهه، فلطمت والله حتى سدرت وأظلم ما كان بيني وبين أهل المجلس، ثم قال اسحبوه على وجهه.
ثم قال: والله لأحرمنك ولا تركت أحدًا يعطيك شيئًا في هذا العام، فسُحبت حتى خرجت وانصرفت وأنا أسوأ الناس حالًا في نفسي ومالي وما جرى عليَّ، ولا والله ما عندي ما يقيم يومئذ قوت عيالي لعبدهم، فإذا شاب قد وقف عليَّ ثم قال: اعذر عليَّ والله يا كبيرنا بما جرى عليك، ودفع إليَّ صرة وقال: تبلغ بما في هذه، فظننتها دراهم فإذا هي ثلاثمائة دينار، فقلت له: من أنت جعلني الله فداك، قال: أنا أخوك أبو نواس فاستعن بهذه الدنانير واعذرني، فقبلتها وقلت: وصلك الله يا أخي وأحسن جزاءك.
كرم يحيى بن خالد البرمكي
استدعى هارون الرشيد رجلًا من أعوانه يقال له صالح قبل الوقت الذي تغير فيه على البرامكة، فلما حضر بين يديه قال له: يا صالح سر إلى منصور وقل له: إن لنا عندك ألف ألف درهم، والرأي قد اقتضى أنك تحمل لنا هذا المبلغ في هذه الساعة، وقد أمرتك يا صالح أنه إن لم يحصل لك ذلك المبلغ من هذه الساعة إلى قبل المغرب أن تزيل رأسه عن جسمه وتأتيني به، فقال: سمعًا وطاعةً، وسار إلى منصور وأخبره ما ذكر أمير المؤمنين، فقال منصور: قد هلكت، فوالله إن جميع متعلقاتي وما تملكه يدي إذا بيعت بأغلى قيمة لا يزيد ثمنها على مائة ألف فمن أين أقدر يا صالح على التسعمائة ألف درهم الباقية؟ فقال له صالح: دبر لك حيلة تتخلص بها عاجلًا وإلا هلكت، فإني لا أقدر أتمهل عليك لحظة بعد المدة التي عينها لي الخليفة، ولا أقدر أن أخل بشيء مما أمرني به أمير المؤمنين، فأسرع بحيلة تتخلص بها قبل أن تنصرم الأوقات، فقال منصور: أسألك من فضلك أن تحملني إلى بيتي لأودع أولادي وأهلي وأوصي أقاربي، قال صالح: فمضيت إلى بيته فجعل يودع أهله وارتفع الضجيج في منزله وعلا البكاء والصياح والاستغاثة بالله تعالى، فقال صالح: قد خطر ببالي أن الله يجعل لك الفرج على يد البرامكة فاذهب بنا إلى دار يحيى بن خالد.
فلما ذهب إلى يحيى بن خالد أخبره بحاله، فاغتم لذلك وأطرق إلى الأرض ساعة، ثم رفع رأسه واستدعى خازن داره وقال له: كم في خزينتنا من المال، فقال له مقدار خمسة آلاف درهم، فأمر بإحضارها، ثم أرسل رسولًا إلى ولده الفضل برسالة مضمونها: إنه قد عُرض علي للبيع ضياع جليلة لا تخرب أبدًا فأرسل لنا شيئًا من الدراهم، فأرسل إليه ألف ألف درهم، ثم أرسل إنسانا آخر إلى ولده جعفر برسالة مضمونها: إنه قد حصل لنا شغل مهم ونحتاج فيه إلى شيء من الدراهم فأنفذ له جعفر في الحال ألف ألف درهم، ولم يزل يحيى يرسل أناسًا إلى البرامكة حتى جمع منهم لمنصور مالًا كثيرًا، وصالح ومنصور لا يعلمان بهذا الأمر، فقال منصور ليحيى: يا مولاي قد تمسكت بذيلك وما أعرف هذا المال إلا منك كما هو عادة كرمك فتمم لي بقية ديني واجعلني عتيقك، فأطرق يحيى وبكى وقال: يا غلام، إن أمير المؤمنين قد كان وهب لجاريتنا دنانير جوهرة عظيمة القيمة، فاذهب إليها وقل لها ترسل لنا هذه الجوهرة، فمضى الغلام وأتى بها إليه، فقال: يا صالح أنا ابتعت هذه الجوهرة لأمير المؤمنين من التجار بمائتي ألف دينار، ووهبها أمير المؤمنين لجاريتنا دنانير العوادة، وإذا رآها معك عرفها وأكرمك وحقن دمك من أجلنا إكرامًا لنا وقد تم الآن مالك يا منصور، قال صالح: فحملت المال والجوهرة إلى المنصور معي، فبينما نحن في الطريق إذ سمعته يتمثل بهذا البيت:
فعجبت من سوء طبعه وردائته وفساده، وخبث أصله وميلاده، ورددت عليه وقلت له: ما على وجه الأرض خير من البرامكة ولا أخبث ولا أشر منك، فإنهم اشتروك من الموت وأنقذوك من الهلاك، ومنُّوا عليك بالفكاك ولم تشكرهم ولم تحمدهم ولم تفعل فعل الأحرار، بل قابلت إحسانهم بهذا المقال.
ثم مضيت إلى الرشيد وقصصت عليه القصة وأخبرته بجميع ما جرى، فتعجب الرشيد من كرم يحيى وسخائه ومروءته، وخساسة منصور وردائته، وأمر أن تُرد الجوهرة إلى يحيى بن خالد، وقال: كل شيء قد وهبناه لا يجوز أن نعود فيه، وعاد صالح إلى يحيى بن خالد وذكر له قصة منصور وسوء فعله، فقال يحيى: يا صالح إذا كان الإنسان مقلًا ضيق الصدر مشغول الفكر فمهما صدر منه لا يؤاخذ به لأنه ليس ناشئًا عن قلبه، وصار يتطلب العذر لمنصور … فبكى صالح وقال: لا يجري الفلك الدائر بإبراز رجل إلى الوجود مثلك، فوا أسفاه كيف يتوارى من له خلق مثل خلقك وكرم مثل كرمك تحت التراب، وأنشد هذين البيتين:
جعفر البرمكي مع بائع الفول
حُكِي أن جعفرًا البرمكي لما صلبه هارون الرشيد أمر بصلب كل من نعاه أو رثاه، فكف الناس عن ذلك، فاتفق أن أعرابيًا كان ببادية بعيدة وفي كل سنة يأتى بقصيدة إلى جعفر البرمكي فيعطيه ألف دينار جائزة على تلك القصيدة فيأخذها وينصرف ويستمر ينفق منها على عياله إلى آخر العام، فجاء الأعرابي بالقصيدة على عادته، فلما جاء وجد جعفرًا مصلوبًا، فجاء إلى المحل الذي هو مصلوب فيه وأناخ راحلته وبكى بكاءً شديدًا وحزن حزنًا عظيمًا وأنشد القصيدة ونام، فرأى جعفرًا البرمكي في المنام يقول له: إنك قد أتعبت نفسك وجئتنا فوجدتنا على ما رأيت، ولكن توجه إلى البصرة واسأل عن رجل اسمه كذا وكذا من تجار البصرة وقل له: إن جعفرًا البرمكي يقرئك السلام ويقول لك: أعطني ألف دينار بأمارة الفولة، فلما انتبه الأعرابي من نومه توجه إلى البصرة فسأل عن ذلك التاجر واجتمع به، وبلغه ما قاله جعفر في المنام، فبكى التاجر بكاءً شديدًا حتى كاد يفارق الدنيا، ثم إنه أكرم الأعرابي وأجلسه عنده وأحسن مثواه ومكث عنده ثلاثة أيام مكرمًا، ولما أراد الانصراف أعطاه ألفًا وخمسمائة دينار وقال له: الألف هي المأمور لك بها والخمسمائة إكرام مني إليك ولك في كل سنة ألف دينار، وعندما حان انصراف الأعرابي قال للتاجر: بالله عليك أن تخبرني بخبر الفولة حتى أعرف أصلها، فقال له: إني كنت في ابتداء الأمر فقير الحال أطوف بالفول الحارّ في شوارع بغداد وأبيعه حيلة على المعاش، فخرجت في يوم بارد ماطر وليس على بدني ما يقيني من البرد فتارة أرتعد من شدة البرد وتارة أقع في ماء المطر، وأنا في حالة كريهة تقشعر منها الجلود، وكان جعفر في ذلك اليوم جالسًا في قصر مشرف على الشارع وعنده خواصه، فوقع نظره عليَّ فرَقَّ لحالي وأرسل إليَّ بعض أتباعه فأخذني إليه وأدخلني عليه، فلما رآني قال لي: بع ما معك من الفول على طائفتي، فأخذت أكيله بمكيال كان معي، فكل من أخذ كيلة فول يملأها ذهبًا حتى فرغ جميع ما معي ولم يبقَ في القفة شيء، ثم جمعت الذهب الذي حصل لي على بعضه، فقال لي: هل بقي معك شيءٌ من الفول، قلت: لا أدري، ثم فتشت القفة فلم أجد فيها سوى فولة واحدة فأخذها مني جعفر وفلقها نصفين، فأخذ نصفها وأعطى النصف الثاني إحدى نسائه وقال: بكم تشترين نصف هذه الفولة؟ قالت: بقدر هذا الذهب مرتين، فصرت متحيرًا في أمري وقلت في نفسي: هذا محال، فبينما أنا متعجب وإذ بالمرأة أمرت بعض جواريها فأحضرت ذهبًا قدر الذهب المجتمع مرتين، فقال جعفر: وأنا أشتري النصف الذي أخذته بقدر الجميع مرتين، ثم قال جعفر: خذ ثمن فولك، وأمر بعض خدامه فجمع المال كله ووضعه في قفتين فأخذته وانصرفت، ثم جئت إلى البصرة، واتجرت بما معي من المال فوسع الله عليَّ ولله الحمد والمنة، فإذا أعطيتك في كل سنة ألف دينار من بعض إحسان جعفر ما ضرني شيء، فانظر مكارم أخلاق جعفر والثناء عليه حيًّا وميتًا.
حكم الوادي ويحيى بن خالد والجارية دنانير
قال حكم الوادي: دخلت يومًا على يحيى بن خالد فقال لي: يا أبا يحيى، ما رأيك في خمسمائة دينار قد حضرت؟ قلت: ومن لي بها، قال: تلقى لحنك في «ذكرتك إن فاض الفراق بأرضنا» على دنانير، فها هي ذه، وهذا سلام واقف معك ومخرجها إليك، وأنا راكب إلى أمير المؤمنين ولست أنصرف من مجلس المظالم إلى وقت الظهر فكدها فيه، فإذا أحكمته فلك خمسمائة، فقالت دنانير: يا سيدي، أبو يحيى يأخذ خمسمائة دينار وينصرف وأنا أبقى معك أقاسمك عمري كله، فقال لها: إن حفظتيه فلك ألف دينار، وقام فمضى، فقلت لها: يا سيدتي اشغلي نفسك بذا، فإنك أنت تهبين لي الخمسمائة دينار بحفظك إياه وتفوزين بالألف الدينار، وإلا بطل هذا، فلم أزل معها أكدُّها وأغني ونغني حتى انصرف يحيى، فدعا بماء وطشت، ثم قال: يا أبا يحيى غنِ الصوت كما كنت تغنيه، فقلت: هلكت، يسمعه مني وليس هو ممن يخفى عليه، ثم يسمعه منها فلا يرضاه، فلم أجد بدًا من الغناء، ثم قال: غنهِ أنت الآن فغنيت، فقال: والله ما أرى إلَّا خيرًا، فقلت: جعلت فداك أنا أمضغ هذا منذ أكثر من خمسين سنة كما أمضَغ الخبز وهذه أخذته الساعة وهو بذل لها بعدي وتجترئُ عليه وتزداد حسنًا في صوتها، فقال: صدقت، هات يا سلام له خمسمائة دينار ولها ألف دينار، ففعل، فقلت له: وحياتك يا سيدي لأشاطرنَّ أستاذي الألف دينار، قال: ذلك إليك، ففعلت فانصرفت وقد أخذت بهذا الصوت ألف دينار.
إسحاق التميمي الشاعر والفضل بن يحيى
هو عبد الله بن يعقوب ويكنى أبو محمد مولى بني تميم، حدث إسحاق قال: كنت على باب الفضل بن يحيى فأتاني التميمي الشاعر بقصيدة في قرطاس وسألني أن أوصلها إلى الفضل فنظرت فيها ثم خرقت القرطاس، فغضب أبو محمد وقال لي: أما كفاك أن استخففت بحاجتي ومنعتني أن أدفعها إلى غيرك، فقلت له: أنا خيرٌ لك من القرطاس، ثم دخلت إلى الفضل فلما تحدثنا قلت له: معي هدية وصاحبها بالباب وأنشدته، فقال: وكيف حفظتها؟ قلت: الساعة، دفعها إلي على الباب فحفظتها، فقال: دع الآن، فقلت له: فأدخله، فأُدخل، فسأله عن القصة: فأخبره ثم خرج التميمي، فقلت: خذ في حاجة الرحل، فقال: أما إذا عنيت به فقد أمرت له بخمسة آلاف درهم، فقلت له: أما إذا أقللتها فعجلها، فأمر بها فأحضرت، فقلت له: أليس لإعناتك إياي ثمن، قال: نعم، قلت: فهاته، قال: لا أبلغ بك في الإعنات ما بلغت بالشاعر في المديح، فقلت: فهات ما شئت، فأمر بثلاثة آلاف درهم فضممتها إلى الخمسة آلاف ووجهت بها إليه.
إبراهيم الموصلي يستوهب بالغناء ثمن ضيعة من البرامكة
حدَّث مخارق قال: اشتغل الرشيد يومًا واصطبح واصطبحت السماء تطش طشًا خفيفًا، فقلت: والله لأذهبن إلى أستاذي إبراهيم فأعرف خبره ثم أعود، فأمرت من عندي أن يسوُّوا مجلسًا لنا إلى وقت رجوعي، فجئت إلى إبراهيم الموصلي فإذا بالباب مفتوح والدهيلز قد كُنس، والبواب قاعد، فقلت: ما خبر أستاذي، فقال: ادخل، فدخلت فإذا هو جالس في رواقٍ له وبين يديه قدورٌ تغرغر وأباريق تزهر والستارة منصوبة والجواري خلفها، وإذا قدامه طست فيه رطليه وكوز وكأس، فدخلت أترنم ببعض الأصوات وقلت له: ما بال الستارة لست أسمع من ورائها صوتًا، فقال: اقعد ويحك، إني أصبحت على الذي ظننت فأتاني خبر ضيعة تجاورني كنت والله طلبتها زمانًا وتمنيتها فلم أملكها وقد أعطى بها مائة ألف دينار، فقلت: وما يمنعك منها؟ والله لقد أعطاك الله أضعاف هذا المال وأكثر، قال: صدقت ولكن لست أطيب نفسًا أن أخرج هذا المال، فقلت: ومن يعطيك الساعة مائة ألف درهم والله ما أطمع في ذلك من الرشيد فكيف من دونه، فقال: اجلس خذ هذا الصوت، ونقر بقضيب معه على الدواة وألقى عليَّ هذين البيتين:
فأخذته فأحكمته، ثم قال لي: امضِ الساعة إلى باب الوزير يحيى بن خالد، فإنك تجد الناس عليه وتجد الباب قد فتح ولم يجلس عليه بعد، فاستأذن عليه قبل أن يصل إليه أحد فإنه سينكر عليك مجيئك، ويقول: من أين أقبلت في هذا الوقت، فحدثه بقصدك إياي وما ألقيت إليك من خير الضيعة، وأعلمه أني صنعت هذا الصوت وأعجبني، ولم أرَ أحدًا يستحقه إلا فلانة جاريته، وإني ألقيته عليك حتى أحكمته لتطرحه عليها فيستدعي بها ويأمر بالستارة أن تنصب ويوضع له كرسي ويقول لك: ألقه عليها بحضرتي، فافعل وأتني بالخبر بعد ذلك، قال: فجئت باب يحيى فوجدته كما وصف وسألني فأعلمته ما أمرني به، ففعل كل شيء قاله لي إبراهيم وأحضر الجارية فألقيت عليها، ثم قال لي: تقيم عندنا يا أبا المهنا أم تنصرف؟ فقلت: أنصرف أطال الله بقاءك فقد علمت ما أذن لنا فيه، فقال: يا غلام احمل مع أبي المهنا عشرة آلاف درهم واحمل إلى أبي إسحاق مائة ألف درهم ثمن هذه الضيعة، فحملت العشرة آلاف درهم إلي وأتيت منزلي، فقلت: أسر يومي هذا وأسر من عندي، ومضى الرسول إليه بالمال، فدخلت منزلي ونثرت على من عندي من الجواري دراهم من تلك البدرة وتوسلتها وأكلت وشربت وطربت وسررت يومي كله فلما أصبحت قلت: والله لآتين أستاذي ولأعرفن خبره، فأتيته فوجدت الباب كهيئته بالأمس ودخلت فوجدته على مثل ما كان عليه، فترنمت وطبت فلم يتلقَ ذلك بما يجب، فقلت له: ما الخبر ألم يأتك المال، قال بلى، فما كان خبرك أنت بالأمس، فأخبرته بما كان وُهب لي وقلت: ما كان ينتظر من تحت الستارة، فقال: ارفع السجف فرفعته، فإذا عشرة بدر، فقلت: وأي شيء بقي عليك في أمر الضيعة؟ قال: ويحك ما هو والله إلا أن دخلت منزلي حتى شححت عليها فصارت مثل ما حويت قديمًا، فقلت: سبحان الله العظيم فتصنع ماذا، قال: قم حتى ألقي عليك صوتًا صنعته يفوق ذلك الصوت، فقمت وجلست بين يديه فألقى عليَّ:
فلما ألقى عليَّ الصوت سمعت ما لم أسمع مثله قط وصغر عندي الأول فأحكمته، ثم قال: انهض الساعة إلى الفضل بن يحيى فإنك تجده لم يأذن لأحد بعد وهو يريد الخلوة مع أهله اليوم فاستأذن عليه وحدثه بحديثنا أمس وما كان من أبيه إلينا وإليك، وأعلمه أني قد صنعت هذا الصوت وكان عندي أرفع منزلة من الصوت الذي صنعته بالأمس وإني ألقيته عليك حتى أحكمته ووجهت بك قاصدًا لتلقيه على فلانة جاريته، فصرت إلى باب الفضل فوجدت الأمر على ما ذكر، فاستأذنت فوصلت وسألني ما الخبر، فأعلمته بخبري في اليوم الماضي وما وصل إليَّ وإليه من المال، فقال: أخزى الله إبراهيم فما أبخله على نفسه ثم دعا خادمًا فقال: اضرب الستارة، فضربها فقال لي: ألقِهِ، فلما غنيته لم أتمه حتى أقبل يجر بطرفه ثم جلس على وسادة دون الستارة وقال: والله لقد أحسنت وأستاذك يا مخارق، فلم أخرج حتى أخذته الجارية وأحكمت، فسرَّ بذلك سرورًا شديدًا وقال: أقم عندي اليوم، فقلت: يا سيدي إنما بقي لنا يوم واحد ولولا أني أحب سرورك لم أخرج من منزلي، فقال: يا غلام احمل مع أبي المهنا عشرين ألف درهم واحمل إلى إبراهيم مائتي ألف درهم، فانصرفت إلى منزلي بالمال، ففتحت بدرة نثرت منها على الجواري وشربت وسررت أنا ومن عندي يومنا، فلما أصبحت بكرت إلى إبراهيم أتعرَّف خبره وأعرفه خبري فوجدته على الحال التي كان عليها أولًا وآخرًا، فدخلت أترنم وأصفق فقال لي: ادنُ، فقلت: ما بقي؟ فقال: اجلس وارفع سجف هذا الباب، فإذا عشرون بدرة مع العشرة الأول فقلت: ما تنتظر الآن، فقال: ويحك ما هو والله إلا أن حصلت حتى جرت مجرى ما تقدم، فقلت: ما أظن أحدًا نال في هذه الدولة ما نلته فلم تبخل على نفسك بشيء عنيته دهرًا وقد ملكك الله أضعافه، ثم قال: اجلس فخذ هذا الصوت، وألقى عليَّ صوتًا إنسانيًا — والله — صَوتَيِّ الأوَّليْن:
ثم قال لي: هل سمعت مثل هذا؟ فقلت: ما سمعت قط مثله، فلم يزل يرد عليَّ حتى أخذته، ثم قال لي: امضِ إلى جعفر فافعل به كما فعلت بأخيه وأبيه، قال: فمضيت ففعلت مثل ذلك وخبرته ما كان منهما وعرضت عليه الصوت فسرَّ به ودعا خادمًا فأمره بضرب الستارة وأحضر الجارية وقعد على كرسي، ثم قال: هات مخارق، فاندفعت فألقيت الصوت عليها حتى أخذته، فقال: أحسنت والله يا مخارق وأحسن أستاذك، فهل لك في المنام عندنا اليوم؟ فقلت: يا سيدي هذا آخر أيامنا، وإنما جئت لموقع الصوت مني حتى ألقيته على الجارية، فقال: يا غلام احمل معه ثلاثين ألف درهم وإلى الموصلي ثلاثمائة ألف درهم، فصرت إلى منزلي بالحال فأقمت ومن معي مسرورين نشرب بقية يومنا ونطرب، ثم بكرت إلى إبراهيم فتلقاني قائمًا وقال لي: أحسنت يا مخارق، فقلت: ما الخبر، فقال: اجلس، فجلست، فقال لمن خلف الستارة: خذوا فيما أنتم فيه ثم رفع السجف فإذا المال، فقلت: ما خبر الضيعة، فأدخل يده تحت مسورة هو متكئ عليها فقال: هذا صك الضيعة ثم سئل عن صاحبها فوجد ببغداد، فاشتراها منه يحيى بن خالد وكتب إليَّ: قد علمت أنك لا تسخو نفسًا بشراء الضيعة من مال يحصل لك ولو حيزت لك الدنيا كلها، وقد ابتعتها لك من مالي ووجهت لك بصكها ووجه إلي بصكها — وهذا المال كما ترى، ثم بكى وقال لي: يا مخارق إذا عاشرت فعاشر مثل هؤلاء، وإذا مدحت فامدح مثلهم، هذه ستمائة ألف وضيعة بمائة ألف وستون ألف درهم لك حصلنا ذلك أجمع، وأنا جالس في مجلسي لم أبرح منه فمتى يدرك مثل هؤلاء؟!
قيل في محمد بن يحيى بن خالد البرمكي:
يحيى بن خالد وأحد الشعراء
دخل أحد الشعراء على يحيى بن خالد البرمكي فأنشده:
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
الفضل بن يحيى والأعرابي
روى الأصمعي عن الفضل بن يحيى قال: خرج يومًا للصيد والقنص، وبينما هو في موكبه إذ رأى أعرابيًا على ناقة قد أقبل من صدر البرية يركض في سيره، قال: هذا يقصدني فلا يكلمه أحدٌ غيري، فلما دنا الأعرابي ورأى المضارب تضرب، والخيام تنصب والعسكر الكثير، الجمُّ الغفير، وسمع الغوى والضجة ظن أنه أمير المؤمنين، فنزل وعقل راحلته وتقدم إليه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، قال: اخفض عليك ما تقول: فقال: السلام عليك أيها الأمير، قال: الآن قاربت اجلس، فجلس الأعرابي، فقال له الفضل: من أين أقبلت يا أخا العرب؟ قال: من قضاعة، قال: من أدناها أو من أقصاها؟ قال: من أقصاها، فقال: يا أخا العرب: مثلك من يقصد من ثلاثمائة فرسخ إلى العراق لأي شيء، قال: قصدت هؤلاء الأماجد الأنجاد الذين قد اشتهر معروفهم في البلاد، قال من هم؟ قال: البرامكة، قال الفضل: يا أخا العرب، إن البرامكة خلق كثير، وفيهم جليل وخطير، ولكلٍّ منهم خاصة وعامة، فهل أفرزت منهم لنفسك من اخترته لنفسك وأتيته لحاجتك؟ قال: أجل أطولهم باعًا وأسمحهم كفًّا، قال: من هو؟ قال: الفضل بن يحيى بن خالد، فقال له: الفضل يا أخا العرب، إن الفضل جليل القدر عظيم الخطر، إذا جلس للناس مجلسًا عامًّا لم يحضر مجلسه إلا العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء والكتَّاب والمناظرون للعلم، أعالم أنت؟ قال: لا، قال: أوردت على الفضل بكتاب وسيلة، قال: لا، فقال: يا أخا العرب غرتك نفسك، مثلك يقصد الفضل بن يحيى وهو ما عرفتك عنه من الجلالة، بأي ذريعة أو وسيلة تقدم عليه، قال: والله يا أمير ما قصدته إلا لإحسانه المعروف، وكرمه الموصوف، وبيتين من الشعر قلتهما فيه، فقال الفضل: يا أخا العرب أنشدني البيتين، فإن كانا يصلحان أن تلقاه بهما أشرت عليك بلقائه، وإن كانا لا يصلحان أن تلقاه بهما بررتك بشيء من مالي ورجعت إلى باديتك، وإن كنت لا تستحق بشعرك شيئا، قال: أفتفعل أيها الأمير، قال: نعم، قال: فإني أقول:
قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك: هذان البيتان قد مدحنا بهما شاعر وأخذ الجائزة عليهما فأنشدني غيرهما، فما تقول؟ قال: أقول:
قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك: ممتحنًا، هذا البيتان أخذتهما من أفواه الناس، فأنشدني غيرهما، فما تقول وقد رمقتك الأدباء بالأبصار وامتدت الأعناق إليك وتحتاج أن تناضل عن نفسك، قال: إذن أقول:
قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: هذان البيتان مسروقان أنشدني غيرهما، فما تقول؟ قال: إذن أقول:
قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: هذا البيتان مسروقان أيضًا، أنشدني غيرهما، فما تقول؟ قال أقول:
قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: أنشدني غيرهما، فما تقول؟ قال: أقول أيها الأمير:
قال: أحسنت، فإن قال: قد ضجرنا من الفاضل والمفضول أنشدني بيتين على الكنية لا على الاسم، فما تقول؟ قال: إذن أقول:
قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: أنشدنا غير الاسم والكنية والقافية، قال: والله لئن زادني الفضل وامتحنني بعد هذا لأقولن أربعة أبيات ما سبقني إليهن أعرابي ولا أعجمي، ولئن زادني بعدها لأجمعن قوائم ناقتي هذه وأجعلها في فم الفضل، ولأرجعنَّ إلى قضاعة خاسرًا ولا أبالي، فنكس الفضل رأسه وقال للأعرابي: يا أخا العرب أسمعني الأبيات الأربعة، قال: أقول:
قال: فأمسك الفضل عن فيهِ وسقط على وجهه ضاحكًا، ثم رفع رأسه وقال: يا أخا العرب أنا والله الفضل بن يحيى سل ما شئت، فقال: سألتك بالله أيها الأمير إنك لهوَ، قال نعم، قال له: فأعطني الأمان، قال: عليك الأمان، اذكر حاجتك، قال عشرة آلاف درهم، قال الفضل: ازدريت بنا وبنفسك يا أخا العرب، تعطى عشرة آلاف درهم في عشرة آلاف، وأمر بدفع المال، فلما صار المال إليه حمده وزير الفضل وقال: يا مولاي هذا إسراف، يأتيك جلف من أجلاف العرب بأبيات استرقها من أشعار العرب فتجزيه بهذا المال، فقال: استحقه بحضوره إلينا من أرض قضاعة، قال الوزير: أقسمت عليك إلَّا أخذت سهمًا من كنانتك وركبته في كبد قوسك وأومأت به إلى الأعرابي، فإن رد عن نفسه ببيت من الشعر، وإلا فاستعطف مالك ويكون له في بعضه كفاية، فأخذ الفضل سهمًا وركبه في كبد قوسه وأومأ به إلى الأعرابي وقال له: ردَّ سهمي ببيتٍ من الشعر فأنشأ يقول:
فضحك الفضل وأنشأ يقول:
ثم قال الفضل لوزيره: أعطِ الأعرابي مائة ألف درهم لقصده وشعره ومائة ألف درهم ليكفينا شر قوائم ناقته، فأخذ الأعرابي المال وانصرف وهو يبكي، فقال له الفضل: صمّ بكاءك يا أعرابي، أاستقلالًا للمال الذي أعطيناك؟ قال: لا، ولكني أبكي على مثلك يأكله التراب وتواريه الأرض، وتذكرت قول الشاعر:
ثم انصرف الأعرابي مسرورًا.
مروان بن أبي حفصة وجعفر البرمكي
دخل مروان بن أبي حفصة على جعفر بن يحيى فأنشده:
فقال جعفر: أنشدني مرثيتك في معن بن زائدة، فأنشده:
حتى فرغ من القصيدة، وجعفر يرسل دموعه على خديه فقال: هل أثابك على هذه المرثية أحد من أهل بيته وولده؟ قال: لا، قال: فلو كان معنٌ حيًّا ثم سمعها منك كم كان يثيبك عليها، قال: أربعمائة دينار، قال: ما كنا نظن أنه يرضى لك بذلك، وقد أمرنا لك عن معنٍ رحمه الله بالضعف مما ظننته وزدناك مثل ذلك، فاقبض من الخازن ألفًا وستمائة دينار قبل أن تخرج، فقال: مروان يذكر جعفرًا وما سمح به عن معن:
إسحاق الموصلي عند الكرماء
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: دعاني يحيى بن خالد فدخلت عليه، وكان عنده الفضل وجعفر ولداه فقال لي: أصبحت اليوم مهمومًا فأردت الصبوح لأتسلى، فغنِّ صوتًا لعلي أرتاح إليه فغنيته:
فسرَّ وأمر لي بمائة ألف درهم، وأمر لي كل واحد من ولديه بمثل هذا المبلغ، فحملت المال وانصرفت.
كرم يحيى بن خالد
من مكارمه أن الرشيد لما نكب البرامكة واستأصل شأفتهم، حرَّم على الشعراء أن يرثوهم، وأمر بالمؤاخذة على ذلك، فاجتاز بعض الحرس ببعض الخربات، فرأى إنسانًا واقفًا وفي يده رقعة فيها شعر يتضمن رثاء البرامكة وهو ينشده ويبكي، فأخذه الحرس وأتى به إلى الرشيد وقص عليه الصورة، فاستحضره الرشيد وسأله عن ذلك فاعترف به، فقال له الرشيد: أما سمعت تحريمي إرثائهم لأفعلن بك وأصنعن؟ فقال: يا أمير المؤمنين إذا أذنت لي في حكاية حالي حكيتها ثم بعد ذلك أنت ورأيك، قال: قل، قال: إني كنت من أصغر كتَّاب يحيى بن خالد وأرقهم حالًا، فقال لي: أريد أن تضيفني في دارك يومًا، فقلت: يا مولانا أنا دون ذلك، وداري لا تصلح لهذا، قال: لا بد من ذلك، قلت: فإن كان لا بد فأمهلني مدة حتى أصلح شأني ومنزلي، ثم بعد ذلك أنت ورأيك، قال: كم أمهلك؟ قلت: سنة، قال: كثير، قلت: فشهورًا، قال نعم، فمضيت وشرعت في إصلاح المنزل وتهيئة أسباب الدعوة، فلما تهيأت الأسباب أعلمت الوزير بذلك: فقال: نحن غدًا عندك، فمضيت وتهيأت في الطعام والشراب وما يحتاج إليه، فحضر الوزير في غد ومعه ابناه جعفر والفضل وعدة يسيرة من خواص أتباعه، فنزل عن دابته ونزل ولداه جعفر والفضل ومن معه وقال: يا فلان أنا جائع فعجل لي بشيء، فقال لي الفضل ابنه: الوزير يحب الفراريج المشوية فعجل منها ما حضر، فدخلت وأحضرت شيئًا، فأكل الوزير ثم قام يتمشى في الدار وقال: يا فلان فرِّجنا في دارك، فقلت: يا مولانا هذه هي داري ليس لي غيرها، قال: بلى لك غيرها، قلت: والله لا أملك سواها، فقال: هاتوا بنَّاءً، فلما حضر قال له: افتح في هذا الحائط بابًا، فمضى ليفتح فقلت: يا مولانا كيف يجوز أن يُفتح بابٌ إلى بيوت الجيران والله أوصى بحفظ الجار، قال: لا بأس في ذلك، ثم فتح الباب، فقام الوزير وأبناؤه فدخلوا فيه وأنا معهم فخرجوا منه إلى بستان حسن كثير الأشجار والماء يتدفق فيه وبه من المقاصير والمساكن ما يروق كل ناظر، وفيه من الآلات والفرش والخدم والجواري كل جميل بديع، فقال: هذا المنزل وجميع ما فيه لك، فقبَّلت يده ودعوت له وتحققت الفضة، فإذا هو من يوم حادثني في أمر الدعوة قد أرسل واشترى الأملاك المجاورة لي وعمرها دارًا حسنة، ونقل إليها من كل شيء وأنا لا أعلم، وكنت أرى العمارة وأحسبها لبعض الجيران، فقال لابنه جعفر: يا بني هذا منزل وعمال، فالمادة من أين تكون له؟ قال جعفر: قد أعطيته الضيعة الفلانية بما فيها وسأكتب له بذلك كتابًا، فالتفت إلى ابنه الفضل وقال له: يا بني فمن الآن إلى أن يدخل دخل هذه الضيعة ما الذي ينفق؟ قال الفضل: عليَّ عشرة آلاف دينار أحملها إليه، فقال: عجلًا له ما قلتما، فكتب لي جعفر بالضيعة وحمل الفضل إليّ المال، فأثريت وارتفعت حالي وكسبت بعد ذلك معه مالًا طائلًا أنا أتقلب فيه إلى اليوم، فوالله يا أمير المؤمنين ما أجد فرصة أتمكن فيها من الثناء عليهم والدعاء لهم إلا انتهزتها مكافأة لهم على إحسانهم ولن أقدر على مكافأته، فإن كنت قاتلي على ذلك فافعل ما بدا لك، فرقَّ الرشيد لذلك وأطلقه وأذن لجميع الناس في رثائهم.
رثاء امرأة لجعفر
قال أبو زيد الرياحي: كنت جالسًا عند خشبة جعفر بن يحيى البرمكي أفكر في زوال ملكه وحاله التي صار إليها إذ أقبلت امرأة لها هيئة حسنة، فوقفت على جعفر وبكت واحترقت وتكلمت فأبلغت وقالت: أما والله لئن أصبحت للناس آية لقد بلغت الغاية، ولئن زال ملكك وخانك دهرك ولم يطل به عمرك فلقد كنت المغبوط الناعم بالًا، يحسن بك الملك فاستعظم الناس فقدك، إذ لم يستخلفوا ملكًا بعدك، فنسأل الله الصبر على عظيم الفجيعة وجليل الرزيئة الذي لا يستعاض بغيرك، والسلام عليك، وداعٍ غير قالٍ ولا ناسٍ لذكرك ثم أنشأت تقول:
ثم سكتت ساعة وتأملته ثم أنشأت تقول:
المأمون وراثي البرامكة
قال خادم المأمون: طلبني أمير المؤمنين ليلة وقد مضى من الليل ثلثه فقال لي: خذ معك فلانًا وفلانًا وسماهما لي — أحدهما علي بن محمد والآخر دينار الخادم —، واذهب مسرعًا لما أقول لك فقد بلغني أن شيخًا يحضر ليلًا إلى آثار دور البرامكة وينشد شعرًا يذكرهم ويندبهم ويبكي عليهم ثم ينصرف، فامض أنت وعلي ودينار حتى تردوا تلك الخرابات، فاستتروا وراء بعض جدرانها فإذا رأيتم الشيخ قد جاء وندب وأنشد أبياتًا فأتوني به. فأخذتهما ومضينا حتى أتينا الخرابات فإذا بغلام قد أتى ومعه بساط وكرسي جديد برفقته شيخ جميل الطلعة لطيفًا مُهابًا فجلس على الكرسي وجعل يبكي وينتحب ويقول هذه الأبيات:
مع أبيات أطالها؛ فلما فرغ قبضنا عليه: وقلنا له: أجب أمير المؤمنين، ففزع فزعًا شديدًا وقال: دعوني حتى أوصي بوصية فإني لا أوقن بعدها بحياة، ثم تقدم إلى بعض الدكاكين واستفتح وأخذ ورقة وكتب فيها وصية وسلمها إلى غلامه، ثم سرنا به، فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين قال له: من أنت؟ وبما استوجبت منك البرامكة ما تفعله في خرائب دورهم؟ قال الشيخ: يا أمير المؤمنين إن للبرامكة أياد خطيرة عندي، فأذن لي أن أحدثك بحالي معهم، قال: قل، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا المنذر بن المغيرة من أولاد الملوك، وقد زالت عني نعمتي، فلما ركبني الدين واحتجت إلى بيع مسقط رأسي أشار علي الأهل بالخروج إلى البرامكة.
فخرجت من دمشق مع ثلاثين رجلًا من أهلي وليس معنا ما يباع أو يوهب، ثم دخلنا بغداد ونزلنا في بعض المساجد فاستترت بثياب أعددتها، وتركتهم جياعًا لا شيء عندهم ودخلت شوارع بغداد سائلًا عن البرامكة فإذا أنا بجامع مزخرف يغص بالجلوس وفي جانبه شيخ بأحسن زي وزينة وعلى الباب خادمان، فطفت في القوم ودخلت المسجد وجلست بين أيديهم وأنا أُقدِّم رِجلًا وأُؤَخر أخرى والعرق يسيل مني لأنها لم تكن صنعتي، وإذا بالخادم مقبلًا يدعو القوم فقاموا وأنا معهم، فدخلوا دار يحيى بن خالد فدخلت معهم، وإذا بدكة له وسط بستان فسلمنا وهو يعدنا مائة وواحدًا وبين يديه عشرة من أولاده، وإذا بمائة واثني عشر خادم قد أقبلوا ومع كل خادم صينية، فرأيت القاضي والمشايخ يصبون الدنانير في أكمامهم ويجعلون الصواني تحت آباطهم، ويقوم الأول فالأول حتى بقيت وحدي لا أجسر على أخذ الصينية، وتغمزني الخادم فجسرت وأخذتها وجعلت الذهب في كمي والصينية في يدي وقمت ولا أتلفت إلى ورائي مخافة أن أمنع من الذهاب، فوصلت إلى صحن الدار ويحيى يلاحظني فقال للخادم: ائتني بهذا الرجل: فأتى بي، فقال: ما لي أراك تتلفت يمينًا وشمالًا فقصصت عليه قصتي، فقال للخادم: ائتني بولدي موسى، فأتاه به، فقال له: يا بني هذا رجل غريب خذه إليك واحفظه بنفسك ونعمتك، فقبض موسى ولده على يدي وأدخلني إلى دار له، فأكرمني غاية الإكرام وأقمت عنده يومي وليلتي في ألذ عيش وأتم سرور، فلما أصبح دعا بأخيه العباس وقال له: الوزير أمرني بالعطف على هذا الفتى وقد علمت اشتغالي في بيت أمير المؤمنين فاقبله عندك وأكرمه، ففعل ذلك وأكرمني غاية الإكرام، ثم وفي الغد سلمني لأخيه أحمد ولم أزل في أيدي القوم يتداولونني تباعًا مدة عشرة أيام لا أعرف شيئًا عن عيالي أمواتًا هم أم أحياء، فلما كان اليوم الحادي عشر جاءني خادم ومعه جماعة من الخدم، فقالوا: قم فاخرج إلى عيالك بسلام، فقلت: ويلاه سُلبت الدنانير والصينية وأخرج على هذه الحالة، إنا لله وإنا إليه راجعون، فرفع الستر الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع، فلما رفع الخادم الأخير قال لي: مهما كان لك من الحوائج فارفعها إليّ فإني مأمور بقضاء جميع ما تأمرني به، فلما رفع الستر الأخير رأيت حجرة كالشمس حسنًا ونورًا، واستقبلني منها رائحة الند والعود ونفحات المسك، وإذا بصبياني وعيالي يتقلبون في الحرير والديباج وحمل إليِّ عشرة آلاف دينار ومنشورًا بضيعتين وتلك الصينية التي كنت أخذتها بما فيها من الدنانير، وأقمت يا أمير المؤمنين مع البرامكة في دورهم ثلاث عشرة سنة لا يعلم الناس أمن البرامكة أنا أم رجل غريب، فلما دهمتهم البلية ونزل بهم ما نزل من الرشيد ألزمني عمرو بن مسعدة بدفع خراج على هاتين الضيعتين لا يفي دخلهما به فلما تجامل علي الدهر كنت في آخر الليل أقصد خرابات دورهم فأندبهم وأذكر حسن صنعهم إلي وأبكي على إحسانهم، فدعا المأمون بعمرو بن مسعدة، فلما أتى به قال له: أتعرف هذا الرجل؟ قال يا أمير المؤمنين: هو بعض صنائع البرامكة، قال: كم ألزمته في ضيعتيه، قال كذا وكذا، فقال له: رد إليه كل ما أخذته منه في مدته ليكون له ولعقبه من بعده، وللحال علا نحيب الرجل.
فلما رأى المأمون كثرة بكائه قال له: يا هذا قد أحسنا إليك فما يبكيك، قال يا أمير المؤمنين وهذا أيضًا من صنيع البرامكة، لو لم آتِ خراباتهم فأبكيهم وأندبهم لما اتصل خبري إلى أمير المؤمنين ففعل بي ما فعل، فما كاد ينتهي من كلامه حتى فاضت عبرات المأمون وظهر عليه الحزن وقال: لعمري هذا من صنيع البرامكة، فعلى مثلهم يبكى وإياهم يشكر ولهم يوفى ولإحسانهم يذكر.
مقتل البرامكة
قال إسماعيل بن يحيى الهاشمي: كنت مع الرشيد يومًا من الأيام راكبًا إلى الصيد فبينما نحن نسير إذ نظرنا إلى موكب بالبعد اعترضنا فقال لي: يا إسماعيل لمن هذا، فقلت لأخيك جعفر بن يحيى فالتفت يمينًا وشمالًا إلى من معه في موكبه فإذا هي شرذمة يسيرة، ثم نظر إلى الموكب الذي فيه جعفر فلم يره فقال: يا إسماعيل ما فعل جعفر وموكبه، فقلت: يا سيدي قد مضى في طريقه ولم يعلم بموضعك، فقال: ما رآنا أهلًا أن يزيننا بموكبه ويجملنا بجيشه، فقلت: العفو يا أمير المؤمنين لو علم بمكانك ما تعداك وما سار إلَّا بين يديك واعتذرت بما حضر لي من الكلام، ثم سرنا حتى انتهينا إلى ضيعة عامرةٍ ومواشٍ كثيرة وكان الطريق يدور عليها فدرنا حتى رأينا باب القرية، فنظر الرشيد إلى البيدر وإلى كثرة الغلال والمواشي ويسار أهلها فالتفت إليَّ وقال: يا إسماعيل لمن هذه الضيعة، قلت: لأخيك جعفر بن يحيى، فسكت ثم تنفس الصعداء ثم سرنا، ولم يزل يمر بكل ضيعة أعمر من الأخرى، وكلَّما مرَّ وسألني عن ضيعة قلت: لجعفر بن يحيى، حتى سرنا ووصلنا إلى المدينة، فلما أردت وداعه والانصراف إلى منزله نظر إلى من كان حواليه نظرة فعلموا ما أراد، فتفرقوا وبقيت أنا وهو فقال: يا إسماعيل، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، فقال: انظر إلى البرامكة أغنيناهم وأفقرنا أولادنا وغفلنا أمرهم، فقلت في نفسي: بلية والله، ثم قلت: لماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: نظرت لهؤلاء وغفلت هؤلاء لأني لا أعرف لولد من أولادي ضيعة من مثل ضياعهم فإنك ترى ضياع البرامكة على طريق واحد قرب هذه المدينة، فكيف بما هو لهم غير ذلك على غير هذا الطريق في سائر البلدان؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إنما البرامكة عبيدك وخدمك والضياع وأموالهم وكل ما يملكونه لك، فنظر إليَّ نظرة جبارٍ عنيد ثم قال: ما عدَّ البرامكة بني هاشم إلا عبيدهم وإنهم هم الدولة وأن لا نعمة لبني العباس إلا وهم أنعموا عليهم بها، فقلت: أمير المؤمنين أبصر من غيره بخدمه ومواليه، فقال: والله يا إسماعيل إنك لتعلم أني قلت هذا وكأني أراك أن تعلمهم بكلامي فتتخذ لك عندهم يدًا، وإني أود تكتم هذا الأمر فإنه ما علم به أحد غيرك ومتى بلغهم شيءٌ مما جرى علمت أنه ما أفشاه إلا أنت، فقلت: يا أمير المؤمنين أعوذ بالله أن يكون مثلي يفشي سرك، قال: وكان هذا القول أول ما ظهر من أمر البرامكة، ثم ودعته وانصرفت متفكرًا في إيقاع الحيلة عنهم، فلما كان من الغد بكرت إليه وجلست بين يديه، وكان في محل يشرف على دجلة من شرق مدينة باب السلام وبإزائه، فنزل جعفر من الجانب الغربي، وكانت المواكب مع جميع الأصناف من قائد وأمير وعامل يردون في كل يوم إلى قصر جعفر، فالتفت إليَّ وقال: يا إسماعيل هذا ما كنا فيه بالأمس انظر كم على باب جعفر من الجيوش والغلمان والمواكب وأنا ما على باب داري أحد، فقلت: يا أمير المؤمنين ناشدتك الله أن لا تعلق نفسك بفكرك هذا وإن جعفرًا إنما هو عبدك وخادمك ووزيرك وصاحب جيوشك إذا لم يكن الجيش على بابه فعلى باب مَن يكون؟ وإنما بابه باب من أبوابك، فقال: يا إسماعيل انظر إلى دوابهم ألست ترى أعجازهم إلى قصري وتروث بإزائنا ونحن ننظر إليها، والله هذا هو الاستخفاف بعينه، والله لا أصبرن على ذلك، ثم غضب غضبًا شديدًا وامتلأ غيظًا فأمسكت عن الكلام وقلت: والله هذا قضاء من الله سابق وحكم لا محالة واقع، ثم استأذنته في الانصراف وعدت إلى منزلي، فلقيني جعفر في الطريق يريد الرشيد فتواريت عنه حتى مضى، فدخل إليه وسلم عليه فأجلسه عن يمينه وأكرمه غاية الإكرام وبشَّ في وجهه وحادثه ساعة ووهب له خادمًا من خاصة خدمه وأنبلهم وأوضحهم وجهًا وأكملهم ظرفًا كاتبًا حاسبًا لبيبًا، فسُّر جعفر سرورًا كاملًا ووقع في قلبه أجل موقع، وكان دسيسًا عليه وبلية لديه يرفع أخباره إلى الرشيد ويحصي عليه أنفاسه ساعةً بساعة ووقتًا بوقت، فخلا به جعفر يومه ذلك وليلته واحتجب من أجله عن الناس، فلما كان بعد ثلاثة أيام سِرت إلى جعفر فسلمت عليه، فلما خلا مجلسه ولم يبقَ عنده غيري وذلك الخادم واقف فعلمت أن الخادم يحصي علينا أخبارنا، فقلت: أيها الوزير نصيحة أفتأذن لي في الكلام، وكان الرشيد ولاه كورة خراسان كلها وما يضاف إليها وما ينسب لها قبل هذا الكلام بأيام وخلع عليه وعقد له لواءً وعسكرًا بالنهروان، وضرب الناس مضاربهم بها وهم متأهبون للسفر، فقلت: يا سيدي أنت عازم على الخروج إلى بلدة كثيرة الخير واسعة الأقطار عظيمة المملكة فلو صيرت بعض ضياعك لولد أمير المؤمنين لكان أحظى لمنزلتك عنده، فلما قلت هذا نظر إلي مغضبًا وقال: والله يا إسماعيل ما أكل الخبز ابن عمك أو قال صاحبك إلا بفضلي ولا قامت هذه الدولة إلا بنا، أما كفى أني تركته لا يهتم بأمر شيء من نفسه وولده وحاشيته ورعيته، وقد ملأت بيوت أمواله أموالًا ولا زلت للأمور الجليلة أدبرها حتى يمد عينه إلى ما ادخرته وأخذته لولدي وعقبي من بعدي وداخله حسد بني هاشم ودبَّ فيه الطمع، وقال: والله لئن سألني شيئًا من ذلك ليكونن وبالًا عليه سريعًا، فقلت: والله يا سيدي ما كان مما ظننت شيء ولا تكلم أمير المؤمنين بحرف قال: فما هذا الفضول منك، فجلست بعدها هنيهة ثم قمت إلى منزلي ولم أركب إليه ولا إلى الرشيد لأني صرت بينهما في حالة شبهة، وقلت في نفسي: هذا الخليفة وهذا وزيره وأي شيء لي بالدخول بينهما، وعلمت عند ذلك أن الخادم الذي وهبه الرشيد لجعفر كتب إلى الرشيد بما كان بيني وبينه وما تكلم به من الكلام الغليظ.
فلما قرأ الكتاب وفهم الخبر احتجب ثلاثة أيام متفكرًا في إيقاع الحيلة على البرامكة، فدخل في اليوم الرابع على زبيدة فخلا بها وشكا لها ما في قلبه وأطلعها على الكتاب الذي رفعه إليه الخادم، وكان بين جعفر وزبيدة شرٌ وعداوةٌ قديمة فلما تملكت الحجة عليه بالغت في المكر بهم واجتهدت في هلاكهم، وكان الرشيد يتبرك بمشورتها فقال: عليَّ برأيك الموفق الرشيد فإني خائف أن يخرج الأمر من يدي إن تمكنوا من خراسان وتغلبوا عليها، فقالت: يا أمير المؤمنين مثلك مع البرامكة كمثل رجل سكران غريق في بحر عميق، فإن كنت قد أفقت من سكرتك وتخلصت من غرقتك أخبرتك بما هو أصعب عليك وأعظم من هذا بكثير، وإن كنت على الحالة الأولى تركتك، فقال: قد كان ما كان والآن أسمع منك، فقالت: إن هذا الأمر أخفاه عنك وزيرك وهو أصعب مما أنت فيه وأقبح وأشنع، فقال لها: ويحك ما هو؟ فقالت: أنا أجلُّ من أن أخاطبك به ولكن تحضر أرجوان الخادم وتشدد عليه وتوهنه ضربًا فإنه يعرفك الخبر، وكان الرشيد قد أحل جعفرًا محلًا لم يحله أخوه ولا أبوه وفوض له أن يرى كل جواريه سوى امرأته زبيدة فإنه لم يكن رآها، فلما فسد قلب الرشيد وعزم على هلاك البرامكة وجدت عليهم سبيلًا ومالت على جعفر، وكان جعفر يدخل إلى الحريم في غياب الرشيد فلا يستترن منه وكان ذلك بأمر الرشيد.
وقيل: إنه كان للرشيد مجلس بالليل مع جعفر البرمكي فقال له يومًا: لا يطيب لي ذلك إلا بمحضر أختي العباسة، ولكن لا يجوز إلَّا أن نكتب لك عليها لإباحة النظر من غير أن تقربها، فاتفقا على ذلك وعقد له عليها ثم أحضرها فكانت تحضر ذلك المجلس إلا أنه زاد غرامها وعشقها فيه، وكان لجعفر البرمكي امرأة تزين له الجواري كل ليلة، فجاءتها العباسة ورشتها بالمال فزينتها له وأدخلتها عليه فظن أنها جارية.
فلما أصبحوا قالت له: أنا العباسة وقد كنت أسألك أن تساعدني على مودتك فتأبى، فلما أيست منك احتلت عليك بما رأيت في هذه الليلة وإن لم تواظب لأكونن سببًا في سلب نعمتك وهل أنت إلا زوجي؟
فطار السُّكْرُ من رأس جعفر وقال لها: أهلكتني وأهلكت نفسك فوالله لقد بعتيني رخيصًا.
فلما بلغ الرشيد الخبر خرج واستدعى بأرجوان الخادم وأحضر السيف والنطع وقال: برأت من المنصور إن لم تصدقني حديث جعفر لأقتلنك، فقال: الأمان يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم لك الأمان، قال: أعلم أن جعفرًا قد خانك في أختك العباسة وقد دخل بها منذ سبع سنين وولدت منه ثلاثة بنين الأول له ست سنين والاثنان قد أنفذهما إلى مدينة الرسول ﷺ وهي حامل بالرابع وأنت أذنت له بالدخول على أهل بيتك وأمرتني أن لا أمنعه في أي وقت شاء ليلًا ونهارًا، قال: أمرتك أن لا تحجبه فحين حدثت هذه الحادثة لِمَ لَمْ تخبرني، ثم أمر بضرب عنقه وقام من وقته ودخل على زبيدة وقال لها: أرأيت ما عاملني به جعفر وما ارتكب من هتك ستري ونكس رأسي، وفضحني بين العرب والعجم، فقالت: هذه شهوتك وإرادتك عمدت إلى شباب جميل الوجه حسن الثياب طيب الرائحة جابر في نفسه، أدخلته على ابنة خليفة من خلفاء الله وهي أحسن منه وجهًا وأنظف منه ثوبًا وأطيب منه رائحة لكنها لم ترَ رجلًا قط غيره، فهذا جزاء مَن جمع بين النار والحطب، فخرج من عندها مكروبًا، فدعا بخادمه مسرور وكان قاسي القلب فظًّا غليظًا قد نزع الله الرحمة من قلبه فقال: يا مسرور إذا ادْلَهَمَّ الظلام فأتني بعشرة من أقوياء الفَعَلة ومعهم خادمان، قال: نعم، فلما كان بعد العتمة جاء مسرور ومعه الفعلة والخادمان، فقام الرشيد وهم بين يديه حتى أتى المقصورة التي فيها أخته فنظر إليها وهي حامل فلم يكلمها بشيء ولم يعاتبها على ما فعلت وأمر الخادمين بإدخالها في صندوق كبير في مقصورتها بعد قتلها، ووضعها بحليها وثيابها كما هي وقفل عليها، وقد علمت أنه بعد قتل أرجوان لاحقها به، فلما علم أنه استوثق بها دعا الفعلة ومعهم المعاول والزنابيل فحفروا وسط تلك المقصورة حتى بلغوا الماء وهو قاعد على كرسي ثم قال: حسبكم هاتوا الصندوق فدلوه إلى تلك الحفرة، ثم قال: ردُّوا التراب عليه، ففعلوا وسدوا الموضع كما كان، ثم أخرجهم وأقفل الباب وأخذ المفتاح معه وجلس في موضعه والفعلة والخادمان بين يديه ثم قال: يا مسرور خذ هؤلاء القوم وأعطهم أجرتهم، فأخذهم مسرور وجعلهم في حد السيف وضبط عليهم بعد أن أثقلهم بالصخر والحصى ورماهم في وسط دجلة ورجع من وقته، فوقف بين يديه فقال: يا مسرور، فعلت ما أمرتك به؟ قال: دفعت لهم أجورهم، فرفع إليه مفتاح البيت وقال: احفظه حتى أسألك عنه وامضِ الآن وانصب في المحل القبة التركية، ففعل ذلك ووافاه قبل الصبح ولم يعلم أحد ما يريد.
فلما جلس في مجلسه وكان عصر الخميس يوم موكب جعفر: قال: يا مسرور لا تتباعد عني، ودخل الناس فسلموا عليه ووقفوا على مراتبهم، ودخل جعفر بن يحيى البرمكي فسلم عليه، فردَّ عليه السلام أحسن ردٍّ ورحب به وضحك في وجهه وجلس في مرتبته، وكانت مرتبته أقرب المراتب إلى أمير المؤمنين، ثم حدَّثه ساعة وضاحكه فأخرج جعفر الكتب الواردة عليه من النواحي فقرأها عليه وأمر ونهى ومنع، وأنفذ الأمور، وقضى حوائج الناس، ثم استأذن جعفر في الخروج إلى خراسان في يومه ذاك، فدعا الرشيد بالمنجم وهو جالس بحضرته، فقال الرشيد: كم مضى من النهار، قال ثلاث ساعات ونصف، وحسب له الرشيد بنفسه ونظر في نجمه فقال: يا أخي هذا يوم نحوسك، وهذه ساعة نحس ولا أرى إلا أنه يحدث فيها حادث، ولكن تصلي الجمعة وترحل في صعودك وتبيت في النهروان، وتبكر يوم السبت وتستقبل الطريق بالنهار فإنه أصلح من اليوم، فما رضي جعفر بما قاله الرشيد حتى أخذ الإصطرلاب من يد المنجم وقام فأخذ الطالع وحسبه لنفسه وقال: والله صدقت يا أمير المؤمنين إن هذه الساعة ساعة نحس وما رأيت نجمًا أشد احترامًا ولا أضيق مجرى من البروج في مثل هذا اليوم، ثم قام وانصرف إلى منزله والناس والقوَّاد والخاص والعام من كل جانب يعظمونه ويبجِّلونه إلى أن وصل إلى قصره في جيش عظيم، وأمر ونهى وانصرف الناس، فلم يستقر به المجلس حتى بعث إليه الرشيد مسرورًا وقال له: امضِ إلى جعفر وائتني به الساعة وقل له: وردت كتب خراسان، هذا دخل الباب الأول أوقف الجند، وإذا دخل الباب الثاني أوقف الغلمان، وإذا دخل الباب الثالث فلا تدع أحدًا يدخل معه من غلمانه بل يدخله وحده، فإذا دخل في صحن الدار فمل به إلى القبة التركية التي أمرتك بنصبها، فاضرب عنقه وائتني برأسه، ولا توقف أحدًا من خلق الله على ما أمرتك به ولا تراجعني في أمره، وإن لم تفعل ما ذكرت أمرت من يضرب عنقك ويأتيني برأسك ورأسه جملةً، وفي دون هذا كفاية وأنت أعلم، وأسرع قبل أن يبلغه الخبر من غيرك. فمضى مسرور واستأذن على جعفر فدخل وقد نزع ثيابه وطرح نفسه ليستريح، فقال: سيدي أجب أمير المؤمنين، فانزعج وارتاع منه وقال: ويلك يا مسرور أنا في هذه الساعة خرجت من عنده فما الخبر؟ قال: وردت كتب من خراسان يحتاج أن تقرأها، فطابت نفسه ودعا بثيابه فلبسها وتقلد بسيفه وذهب معه، فلما دخل من الباب الأول أوقف الجند، وفي الثاني أوقف الغلمان، فلما دخل من الباب الثالث التفت فلم يرَ أحدًا من غلمانه ولا الخادم الفرد، فندم على ركوبه تلك الساعة ولم يمكنه الرجوع، فلما سار بإزاء تلك القبة المضروبة في صحن الدار مال به إليها وأنزله عن دابته، وأدخله القبة فلم يرَ فيها إلا سيفًا ونطعًا فاستحس بالبلاء وقال لمسرور: يا أخي ما الخبر؟ فقال له مسرور: أنا الساعة أخوك وفي منزلك تقول لي: ويلك أنت تدري ما القضية وما كان الله ليهملك ولا لينفعك، فقد أمرني أمير المؤمنين بضرب عنقك وحمل رأسك إليه الساعة، فبكى جعفر وجعل يقبل يدي مسرور ويقول: يا أخي يا مسرور قد علمت كرامتي لك دون جميع الغلمان والحاشية، وإن حوائجك عندي مقضية في سائر الأوقات، وأنت تعرف موضعي ومحلي من أمير المؤمنين وما يوحيه إليَّ من الأسرار، ولعل أن يكونوا بلغوه عنِّي باطلًا وهذه مائة ألف دينار أحضرها لك الساعة قبل أن أقوم من موضعي هذا ودعني أهيم على وجهي، فقال: لا سبيل إلى الحياة أبدًا، قال: توقف عني ساعة وارجع إليه وقل له: قد فرغت مما أمرتني به واسمع ما يقول وعد فافعل ما تريد، فإن فعلت ذلك وحصلت لي السلامة فإني أشهد الله وملائكته أني أشاطرك في نعمتي مما ملكته يدي وأجعلك أمير الجيش وأملكك أمر الدنيا، ولم يزل به وهو يبكي حتى طمع في الحياة، فقال له مسرور: ربما يكون ذلك، وحل منطقته وأخذها ووكل به أربعين غلامًا من السودان يحفظونه، ومضى مسرور ووقف بين يدي الرشيد وهو جالس يقطر غضبًا وفي يده قضيب الولع ينكت به في الأرض، فلما رآه قال له: ثكلتك أمك ما فعلت في أمر جعفر؟ فقال: يا أمير المؤمنين قد أنفذت أمرك فيه، فقال: فأين رأسه، فقال: في القبة، قال: فأتني برأسه الساعة، فرجع مسرور وجعفر يصلي وقد ركع ركعة فلم يمهله أن يصلي الثانية حتى سل سيفه الذي أخذه منه وضرب عنقه وأخذ رأسه بلحيته، فطرحه بين يدي أمير المؤمنين وهو يشخب دمًا.
فنظر الرشيد إلى الجلاد وقال: ائتني باثنين من الجنود، فأتاه بهما فقال لهما: اضربا عنق مسرور فإني لا أقدر أن أرى قاتل جعفر، ثم تنفس الصعداء وبكى بكاءً شديدًا وجعل ينكت في الأرض في أثناء كل كلمة ويقرع أسنانه بالقضيب ويخاطبه ويقول: يا جعفر ألم أحلك محل نفسي؟ يا جعفر ما كافأتني ولا عرفت حقي ولا تفكرت في صروف الدهر ولا حسبت تقلب الأيام واختلاف أحوالها، يا جعفر خنتني في أهلي وفضحتني بين العرب والعجم، يا جعفر أسأت إليَّ وإلى نفسك وما تفكرت في عواقب أمرك ولم يزل على هذا الحال طورًا ينكت الأرض، وتارة يخاطب رأس جعفر إلى أن آن وقت صلاة الظهر، فخرج إلى الجامع وصلى بالناس جماعة ثم التفت إلى قصور جعفر ودوره وأقبل على أبيه وأخيه وجميع أولاد البرامكة ومواليهم وغلمانهم واستباح مالهم، وأمر بسلب جميع ما لهم من المضارب والخيام والسلاح وغير ذلك، فلما أصبح يوم السبت إذا هو قد قتل من البرامكة وحاشيتهم نحو ألف إنسان وترك من بقي منهم لا يرجع إلى وطنه وشتت شملهم في البلاد ولم يقدر أحد منهم على كسرة خبز.
ثم وجه إلى مدينة الرسول ﷺ فأتى بالصبيين ولدي جعفر من أخته العباسة فأدخلا عليه في بيته، فلما رآهما أعجب بهما وكانا في نهاية من الحسن والجمال فاستنطقهما فوجد لغتهما مدنية وفصاحتهما هاشمية وفي ألفاظهما عذوبة وبلاغة، فقال لكبيرهما: ما اسمك يا قرة عيني؟ قال: الحسن، وقال للصغير: ما اسمك يا حبيبي؟ قال: الحسين، فنظر إليهما وبكى بكاءً شديدًا، ثم قال: يعز علي حسنكما وجمالكما لا رحم الله من ظلمكما، ولم يدريا ما أراد بهما ثم أمر الجلاد بأخذهما إلى الأودة المعهودة وبقتلهما ودفنهما مع أمهما في الحفرة وهو مع ذلك يبكي بكاءً شديدًا حتى ظن أنه رحمهما، وأمر بعد ذلك ألا تذكر البرامكة في مجلس لأن ذلك كان مثيرًا لأشجانه مجددًا في قلبه عوامل الأسى، وكان قتل جعفر بن يحيى في ليلة السبت أول ليلةٍ من صفر سنة ١٨٧هـ وهو ابن سبعٍ وثلاثين سنة.
مقتل خالد بن جعفر
قال أبو عبيدة: كان الذي هاج الأمر بين الحارث بن ظالم وخالد بن جعفر أن خالد بن جعفر أغار على قوم الحارث بن ظالم وهم في وادٍ يقال له حراض، فقتل الرجال والحارث يومئذ غلام، وكانت نساء بني ذبيان لا يحلبن النعم، فلما قتلت رجالهن طفقن يدعون الحارث فيشد عصاب الناقة ثم يحلبنها ويبكين رجالهنَّ ويبكي الحارث معهنَّ، فنشأت في قلبه العداوة والبغضاء.
وأما خالد بن جعفر فإنه مكث برهةً من دهره إلى أن أتى النعمان بن المنذر — ملك الحيرة — لينظر ما قدره عنده وأتاه بفرس، فلقي عنده الحارث بن ظالم وقد أهدى له فرسًا، فقال: أبيت اللعن نعم صباحك وأهلي فداؤك، هذا فرس من خيل بني مرة لن يؤتى بمثله، ولقد كنت أرتبطه لغزو بني عامر بن صعصعة، فلما كرمت خالدًا أهديته إليك، وقال الربيع بن زياد العبسي فقال: هذا فرس من خيل بني عامر ارتبطت أباه عشرين سنة لم يخفق في غزوة ولم يتعب في سفر وفضله في هذين الفرسين كفضل بني عامر على غيرهم، فغضب النعمان عند ذلك، وقال: يا معشر قيس أي خيلكم أشباهنا، أين التي أذنابها كالكلاب تعالك اللجم في أشداقها تدور على مذاودها كأنما يقضمن حصًى؟ قال خالد: زعم الحارث أبيت اللعن أن تلك الخيل خيله وخيل آبائه، فغضب النعمان عند ذلك على الحارث بن ظالم، فلما أمسوا اجتمعوا يشربون فقال خالد لقينةٍ تغني:
وهن خالات الحارث بن ظالم، فغضب الحارث بن ظالم حتى امتلأ غيظًا وغضبًا وقال: ما تزال تتبع أولى بأخرة، ثم إن النعمان بن المنذر دعاهم بعد ذلك وقدم لهم تمرًا، فطفق خالد بن جعفر يأكل ويلقي نوى ما يأكل من التمر بين يدي الحارث، فلما فرغ القوم قال خالد بن جعفر: أبيت اللعن انظر إلى ما بين يدي الحارث بن ظالم من النوى فما ترك لنا تمرًا إلا أكله.
فقال الحارث: أما أنا فأكلت التمر وألقيت النوى، وأما أنت يا خالد فأكلته بنواه، فغضب خالد وكان لا ينازع، فقال: تنازعني يا حارث وقد قتلت قومك وتركتك يتيمًا في حجور النساء، فقال الحارث: ذلك يوم لم أشهده وحسبي ما أنا عليه الآن، فقال خالد: فهلا تشكر لي إذا قتلت زهير بن جزيمة وجعلتك سيد غطفان، قال: بلى أشكرك على ذلك، فخرج الحارث بن ظالم إلى بنت عفزر فشرب عندها وقال لها أنشدي:
فبلغ خالد بن جعفر قوله فلم يحفل به، فقال عبد الله بن جعدة وهو ابن أخت خالد، وكان رجل قيس رأيًا لابنه: يا بني ائت أبا جزء فأخبره أن الحارث بن ظالم سفيهٌ موتورٌ فأخف مبيتك الليلة، فإنه قد غلبه الشراب، فإن أبيت فاجعل بينك وبينه رجلًا ليحرسك، فوضعوا رجلًا بإذائه، ونام ابن جعدة دون الرجل، وعرف أن عروة وابن جعدة يحرسان خالدًا، فأقبل الحارث فانتهى إلى ابن جعدة فتعداه، ومضى إلى الرجل وهو يحسبه خالدًا فأكب عليه حتى أعدمه الرشاد ثم مال إلى خالد وهو نائم فضربه بالسيف فقتله، فقال لعروة: أخبر الناس أني قتلت خالدًا، وقال في ذلك:
موت يحيى بن خالد البرمكي
لما طالت مدة سجن يحيى بن خالد كتب إلى هارون الرشيد كتابًا نصه: «إلى أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين هارون الرشيد من عبد أسلمته ذنوبه وأوبقته عيوبه ومال به الزمان ونزل به الحدثان، فعالج البؤس بعد الدعة وافترش السخط بعد الرضى، واكتحل السهاد بعد الهجود ساعته شهر وليلته دهر قد عاين الموت وشارف الفوت جزعًا لموجدتك يا أمير المؤمنين وأسفًا على ما فات من قربك لا على شيء من المواهب؛ لأن الأهل والمال إنما كانا لك وبك يا مولاي، وأما ما جناه ولدي خالد على نفسه فذاك أمر قدر فكان وأنت براء منه يا أمير المؤمنين، فانظر في أمري جعلت فداك وليمل هواك بالعفو عن ذنبي ولسوف تبدي لك الأيام براءة ساحتي وحقيقة أمري والسلام»، ثم اختتمها بهذه الأبيات:
فلما بلغ كتابه أمير المؤمنين أهمله ولم يجبه عليه، فاعتل يحيى وزادت آلامه حتى شعر بدنو الأجل فكتب رقعة إلى الرشيد أوصى السجان بأخذها بعد مفارقة روحه الجسد وفيها ما يأتي: «قد تقدم الخصم إلى موقف الفصل، وأنت على الأثر، والله حكم عدل»، فلما مات يحيى وبلغ الرشيد تلك الرقعة حزن عليه غاية الحزن وندم على ما بدا منه.