في نوادر الخليفة المهدي
أبو دلامة والمهدي
ولد لأبي دلامة ابنة ليلًا فأوقد السراج وجعل يخيط خريطة من شقيق، فلما أصبح طواها بين أصابعه وغدا بها إلى المهدي واستأذن عليه وكان لا يمنعه الدخول فأنشده:
قال له المهدي: أحسنت والله أبا دلامة، فما الذي غدا بك إلينا؟ قال: ولدت لي جارية يا أمير المؤمنين، قال: فهل قلت فيها شعرًا؟ قال: نعم، قلت:
فضحك المهدي وقال: فما تريد أن أعينك به في تربيتها، قال: تملأ هذه يا أمير المؤمنين وانهار إليه بالخريطة بين إصبعيه، فقال المهدي وما عسى أن تحمل هذه، قال: من لم يقنع بالقليل لم يقنع بالكثير، فمر أن تملأ مالًا، فلما نشرت أخذت عليه صحن الدار، فدخل فيها أربعة آلاف درهم، فضحك المهدي حتى استلقى على قفاه.
أبو دلامة والمهدي
وكان المهدي قد كسا أبا دلامة ساجًا فأخذ به وهو سكران، فأتى به إلى المهدي فأمر بتمزيق الساج عليه وأن يُسجن في بيت الدجاج، فلما كان في بعض الليل وصحا أبو دلامة من سكره ورأى نفسه بين الدجاج صاح: يا صاحب البيت، فاستجاب له السجان وقال: ما لك يا عدو الله؟ قال: ويلك من أدخلني مع الدجاج؟ قال: أعمالك الخبيثة أتى بك أمير المؤمنين وأنت سكران فأمر بتمزيق ساجك وحبسك مع الدجاج، قال له: ويلك أوقد لي سراجا وجئني بدواة وورق فكتب أبو دلامة إلى المهدي:
ثم قال: أوصلها إلى أمير المؤمنين، فأوصلها إليه السجان، فلما قرأها أمر بإطلاقه وأدخله عليه فقال له: أين بتَّ الليلة أبا دلامة؟ قال: مع الدجاج يا أمير المؤمنين، قال: فما كنت تصنع؟ قال: كنت أقوقي معهن حتى أصبحت، فضحك المهدي وأمر له بصلة جزيلة وخلع عليه كسوة شريفة.
المهدي وأبو دلامة الشاعر
لما اتصل بالمهدي خبر وفاة والده بمكة المكرمة اشتد منه الحزن واغرورقت عيناه بالدموع وقال: إن رسول الله قد بكى عند فراق الأحبة، ولقد فارقت عظيمًا وقلدت جسيمًا، وبينما كان المهدي جالسًا للتعزية بوالده والتهنئة بمبايعته، دخل عليه أبو دلامة فأنشد:
فأجزل له العطاء وكان أول من وصله.
المهدي والأعرابي
قيل: إن المهدي قعد قعودًا عامًّا للناس، فدخل رجل في يده نعل ومنديل فقال: يا أمير المؤمنين هذه نعل رسول الله ﷺ قد أهديتها إليك، قال: هاتها فدفعها إليه فقبل باطنها ورفعها على عينيه وأمر للرجل بعشرة آلاف درهم، فلما أخذها وانصرف قال لجلسائه: أترون أني لم أعلم أن رسول الله ﷺ لم يرَها، فضلًا عن أن يكون لبسها، ولو كذبناه لقال للناس: أتيت أمير المؤمنين بنعل رسول الله ﷺ فردَّها عليّ، فكان من يصدقه أكثر ممن يدفع خبره، إذ كان من شأن العامة وأشكالها النصرة للضعيف على القوي، فاشترينا لسانه وقبلنا هديته وصدقنا قوله ورأينا فعلنا أنجح وأرجح.
كرم المهدي
نزل المهدي بمنزل بعيساباذ لما بناها وأمر أن يكتب له أبناء المهاجرين وأبناء الأنصار، فكتبوا ودعي بنقبائهم وجلس مجلسًا عامًّا لهم، ففرق ثلاثة آلاف درهم فأغنى كل فقير وجبر كل كسير وفرج عن كل مكروب، ثم قامت الخطباء ودخل الشعراء فأنشدوه ففرق فيهم خمسمائة ألف درهم، فكثر الداعي له في الطرقات والبوادي وقام في هذا اليوم مروان بن أبي حفصة فأنشده:
المهدي والواقدي
قال الواقدي: دخلت على المهدي بمحبرة ودفتر وكتب عني أشياء أحدثه بها ثم نهض وقال: كن مكانك حتى أعود إليك، ودخل دار الحريم ثم خرج متنكرًا ممتلئا غضبًا، فلما جلس قلت: يا أمير المؤمنين خرجت على خلاف الحال التي دخلت عليها، قال: نعم دخلت على الخيزران فوثبت إليّ ومدت يدها وخزقت ثوبي وقالت لي: يا قشاش وأي خير رأيت منك؟ وإنما اشتريتها من نخاس ورأت مني ما رأت وعقدت لابنيها بولاية العهد، ويحك، وأنا قشاش، قال: قلت يا أمير المؤمنين قال رسول الله ﷺ: «إنهن يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام»، وقال: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»، وقال: «خُلقت المرأة من ضلع أعوج إن قومته كسرته»، وحدثته من هذا الباب بكل ما حضر لي فسكن غيظه وأسفر وجهه وأمر لي بألفي دينار، وقال أصلح بهذه من حالك وانصرفت، فلما وصلت إلى منزلي وافاني رسول الخيزران فقال تقرئك السلام سيدتي وتقول: يا عم قد سمعت جميع ما كلمت به أمير المؤمنين فأحسن الله جزاءك وهذا ألفا دينار إلا عشرة بعثت بها إليك لأني لم أحب أن أساوي صلة أمير المؤمنين، ووجهت لي بأثواب.
المهدي وأحد العبيد
أهدى له بعض العبيد عصيدة، فاشترى الضيعة التي فيها ذلك العبد والعبد بألف دينار، وأعتقه ووهبه الضيعة وأقدمه المهدي بغداد ثم رده المدينة لمنام رآه.
المهدي والمؤمل
قال المؤَمل بن أميل: قدمت على المهدي وهو بالري وهو إذ ذاك ولي عهد فامتدحته بأبيات، فأمر لي بعشرين ألف درهم، فكتب بذلك إلى المنصور وهو بمدينة السلام يخبره فكتب إلى كاتب المهدي أن توجه إليَّ بالشاعر، فطلبت فلم يقدر علي، وكتب إلى أبي جعفر أنه قد توجه إلى مدينة السلام، فأجلس المنصور قائدًا من قواده على جسر النهروان وأمره أن يتصفح الناس رجلًا رجلًا فجعل لا يمر به قافلة إلا تصفح من فيها، حتى مرت به القافلة التي فيها المؤمل بن أميل، فتصفحه فلما سأله من أنت؟ قال: أنا المؤَمل بن أميل المحاربي الشاعر أحد زوار المهدي، قال: إياك طلبت، قال المؤَمل: فكاد قلبي يتصدع خوفًا من أبي جعفر، فقبض عليّ وسلمني إلى الربيع، فدخل على أبي جعفر وقال: هذا الشاعر قد ظفرنا به، قال: أدخلوه إلي، فدخلت إليه وسلمت عليه تسليم مروع، فرد السلام وقال: ليس ههنا إلا خيرًا، أأنت المؤَمل بن أميل، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أتيت غلامًا غرًّا فخدعته، قلت: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين، أتيت غلامًا غرًا كريمًا فخدعته فانخدع، قال: فكأن ذلك أعجبه، فقال: أنشدني ما قلت فيه فأنشدته:
فقال له المنصور: والله لقد أحسنت ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم وأين المال؟ قلت: ها هو ذا، فقال يا ربيع امضِ معه فأعطه ألف درهم وخذ منه الباقي ففعل الربيع ما أمره المنصور؟ قال: ثم إن المهدي ولي الخلافة بعد ذلك وولي ابن يونان المظالم، فكان يجلس للناس بالرصافة، فرفعت إليه قصة فلما وصلت إليه قصتي ضحك، فقال له ابن يونان: أصلح الله أمير المؤمنين ما رأيتك ضحكت من شيء إلا من هذه القصة، فقال: نعم، هذه رقعة أعرف قصتها، ردوا عليه عشرين ألف درهم، فردوها إليّ فأخذتها وانصرفت.
جود المهدي
خرج المهدي ذات يوم متنزهًا إلى الأنبار، وبينما هو في مجلسه دخل عليه الربيع ومعه قطعة من جراب فيه كتابة برماد وخاتم من طين عُجن بالرماد وهو مطبوع بخاتم الخلافة فقال: يا أمير المؤمنين ما رأيت أعجب من هذه الرقعة جاءني بها أعرابي وهو ينادي: هذا كتاب أمير المؤمنين المهدي دلوني على هذا الرجل الذي يسمى الربيع، فقد أمرني أن أدفعها إليه وهذه الرقعة، فأخذها المهدي وضحك وقال: صدق وهذا خطي وهذا خاتمي، أفلا أخبركم بالقصة، قلنا: رأي الأمير أعلى منا في ذلك، قال: خرجت أمس إلى الصيد في غب سماءٍ، فلما أصبحت هاج علينا ضباب شديد وفقدت أصحابي حتى ما رأيت منهم أحدًا، وأصابني من البرد والجوع والعطش ما لا يعلمه إلا الله وتحيرت عند ذلك، فذكرت دعاءً سمعته من أبي يحكيه عن أبيه قال إذا أصبح وإذا أمسى: بسم الله وبالله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقى وشفى وكفى من الحرق والغرق والفرَق والهدم وميتة السوء، فلما قلتها رفع لي ضوء نار فقصدتها، فإذا بهذا الأعرابي في خيمة له يوقد نارًا بين يديه، فقلت: أيها الأعرابي هل من ضيافة؟ قال: انزل، فنزلت، فقال لزوجته: هاتِ ذلك الشعير، فأتت به، فقال: اطحنيه، فابتدأت تطحنه، فقلت له: اسقني ماءً، فأتاني بسقاء فيه مذقة من لبن أكثره ماء، فشربت منها شربة ما شربت أطيب منها، وأعطاني حلسًا له فوضعت رأسي عليه ونمت، ثم انتبهت فإذا هو قد وثب إلى شاة فذبحها، فإذا امرأته تقول له: ويحك قتلت نفسك وصبيتك إنما كان معاشك من هذه الشاة فذبحتها، فبأى شيء تعيش؟ فقلت: لا عليك هات الشاة فشققت جوفها واستخرجت كبدها بسكين في خفى، فشرحتها ثم طرحتها على النار فأكلت، ثم قلت له: هل عندك شيء أكتب فيه؟ فجاءني بهذه القطعة، فأخذت عودًا من الرماد الذي كان بين يديه فكتبت له هذا الكتاب وختمته بها الخاتم وأمرتهُ أن يجيء ويسأل عن الربيع فيدفعها إليه، فإذا في الرقعة خمسمائة ألف درهم، فقال: لا والله ما أردت إلا خمسين ألف درهم، ولكن جرت يدي بخمسمائة ألف درهم ولا أنقص والله منها درهمًا واحدًا، ولو لم يكن في بيت المال غيرها احملوها معه، فما كان إلا قليلًا حتى كثرت إبله وصار منزلًا من المنازل ينزله كل من أراد الحج من الأنبار إلى مكة المكرمة، وسُمي مضيف أمير المؤمنين المهدي.
المهدي والمختبئان
لما فرغ المهدي من بناء عيساباذ ركب في جماعة يسيرة لينظر البلد، فدخله مفاجأة وأخرج من كان هناك من الناس وبقي رجلان خفيا عن أبصار الأعوان، فرأى المهدي أحدهما وقد دُهش بالعقل، فقال: من أنت؟ قال: أنا أنا، فقال: ويلك من أنت؟ قال: لا أدري، قال: ألك حاجة؟ قال: لا لا، قال: أخرجوه أخرج الله نفسك، فدُفع في قفاه، فلما خرج قال لغلام له: اتبعه من حيث لا يعلم فسل عن أمره ومهنته فإني أخاله حائكًا، فخرج الغلام على أثره، ثم رأى الآخر فاستنطقه، فأجاب بقلب جريء، ولسان سليط، فقال: من أنت؟ قال: رجل من أبناء رجال دعوتك، قال: من جاء بك إلى ههنا؟ قال: جئت لأنظر إلى هذا البناء الحسن فأتمتع بالنظر، وأكثر الدعاء لأمير المؤمنين بطول المدة وتمام النعمة ونماء العز والسلامة، قال: أفلك حاجة؟ قال: نعم، خطبت ابنة عم لي فردني أبوها، وقال: لا مال لك والناس يرغبون في المال، وأنا بها مشغوف ولها وامق، قال: قد أمرت لك بخمسين ألف درهم، قال: جعلني الله فداءك يا أمير المؤمنين، لقد وصلت فأجزلت الصلة ومننت فأعظمت المنة، فجعل الله باقي عمرك أكثر من ماضيه وآخر أيامك خيرًا من أولها، ومتعك بما أنعم به عليك وأمتع رعيتك بك، فأمر أن تعجل له الصلة ووجه بعض خاصته وقال: اسأل عن مهنته فإني أخاله كاتبًا، فرجع الرسولان معًا، فقال الأول: وجدنا الأول حائكًا، وقال الآخر: وجدت الرجل كاتبًا، فقال المهدي: لم تخفَ عليَّ مخاطبة الكاتب والحائك.
المهدي وشعبة الشاعر
كان شعبة شاعًرا متشاغلًا بالعلم لا يكسب شيئًا من الدنيا وكان له إخوة يقومون بأموره، واشترى أحد إخوته من السلطان طعامًا فخسر به فحبس، فقدم شعبة على المهدي وكان له على أخيه ستة آلاف دينار، فلما دخل قال: يا أمير المؤمنين، أنشد قتادة وسماك بن حرب لأمية بن أبى الصلت شعرًا في عبد الله بن جدعان التيمي:
فقال: لا يا أبا بسطام لا تذكرها قد عرفناها وقضيناها لك، ادفعوا إليه أخاه ولا تأخذوا منه شيئًا.
المهدي وإبراهيم بن طهمان
كان لإبراهيم بن طهمان جراية من بيت المال فاخرة وكان يفخر بذلك، فسُئل يومًا في مجلس الخليفة، فقال: لا أدري، فقالوا: تأخذ في كل يوم كذا وكذا ولا تحسن مسألةً، فقال: إنما أخذت على ما أُحسن ولو آخذ على ما لا أُحسن لفني بيت المال ولا يفنى ما لا أدري، فأعجب أمير المؤمنين جوابه وأمر له بجائزة فاخرة وزاد في جرايته.
المهدي وأبو العتاهية الشاعر
قال أشجع السلمي الشاعر المشهور: أذن الخليفة المهدي للناس في الدخول عليه، فدخلنا مع أبي العتاهية فأمرنا بالجلوس، فاتفق أن جلس بجنبي بشار بن برد، وسكت المهدي فسكت الناس، فسمع بشار حسًا فقال لي: من هذا، فقلت: أبو العتاهية، فقال: أتراه ينشد في هذا المحفل، فقلت: أحسبه سيفعل، قال: فأمره المهدي فأنشد:
فقال لي بشار: انظر ويحك يا أشجع هل طار الخليفة عن فراشه؟ قال أشجع: فوالله ما انصرف أحد عن ذلك المجلس بجائزة غير أبي العتاهية.