في نوادر الأمين والمأمون
الأمين مع جعفر بن موسى
حكي أن جعفر بن موسى الهادي كانت له جارية عوادة اسمها البدر الكبير، ولم يكن في زمانها أحسن منها وجهًا ولا أعدل قدًا ولا ألطف معنًى ولا أعرف بصناعة الغناء وضرب الأوتار، وكانت في غاية الجمال، ونهاية الظرف والكمال، فسمع بخبرها محمد الأمين بن زبيدة والتمس من جعفر أن يبيعها له، فقال له جعفر: أنت تعلم أنه لا يليق بمثلي بيع الجواري والمساومة على السراري، ولولا أنها تربية داري لأرسلتها هدية إليك ولم أبخل بها عليك، ثم إن محمدًا الأمين بن زبيدة توجه يومًا لقصد الطرب إلى دار جعفر فأحضر له ما يحسن حضوره بين الأحباب، وأمر جاريته البدر الكبير أن تغني له وتطربه، فأصلحت الآلات وغنت بأطيب النغمات، فأخذ محمد الأمين بن زبيدة في الشراب والطرب وأمر السقائين أن يكثروا الشراب على جعفر حتى يسكروه، ثم أخذ الجارية معه وانصرف إلى داره.
فلما أصبح الصباح أمر باستدعاء جعفر، فلما حضر قدم بين يديه الشراب وأمر الجارية أن تغني له من داخل الستارة، فسمع جعفر صوتها فعرفها فاغتاظ لذلك ولكنه لم يُظهر غيظًا لشرف نفسه وعلو همته، ولم يبدِ تغيرًا في منادمته، فلما انقضى مجلس الشراب أمر محمد الأمين بن زبيدة بعض أتباعه أن يملأ الزورق الذي ركب فيه جعفر إليه من الدراهم والدنانير وأصناف الجواهر واليواقيت والثياب الفاخرة والأموال الباهرة، ففعل ما أمر به حتى إنه وضع في الزورق ألف بدرة وألف درة قيمة الدرة عشرون ألف درهم، ولم يزل يضع فيه أصناف التحف حتى استغاث الملاحون وقالوا: ما يقدر الزورق أن يحمل شيئًا آخر وأمر بحمله إلى دار جعفر.
أبو النواس والأمين
قال أبو النواس يمدح الأمين ويذكر فضل البرامكة:
أبو النواس والأمين وسليمان بن المنصور
حصلت عداوة بين أبي النواس وسليمان بن المنصور فأمر الأمين بحبس أبي النواس، فلما طال حبسه كتب إليه بهذه الأبيات:
فلما قرأ محمد الأبيات قال: أخرجوه وأجزوه ولو غضب أولاد المنصور كلهم.
النضر والمأمون
قال النضر: دخلت ليلةً على المأمون للمسامرة بمرو وعلي قميصٌ مرقوع، فقال: يا نضر ما هذا القشف؟ قلت: يا أمير المؤمنين أنا رجل كبير ضعيف وحرّ مرو شديد أتبدل بهذه الثياب الخليقة، قال: لا ولكنه تَنسُّك، ثم تجاوبا في الحديث فقال المأمون: حدثني هشيم عن النبي ﷺ قال: «إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سَدَاد عن عون»، قلت: صدق فوك عن هشيم يا أمير المؤمنين، حدثني عوف بن أبي جميلة الأعرابي عن النبي ﷺ قال: «إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سِدَاد عن عون»، وكان المأمون متكئًا فانتصب وقال: كيف قلت يا نضر سِداد بكسر السين، فقلت: يا أمير المؤمنين السداد بفتح السين هنا لحن، قال: أو تلحنني يا نضر؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين ولكن لحن هشيم وكان لحانًا، فتبع أمير المؤمنين لفظه وقد تتبع الفقهاء، فقال: ما الفرق بينهما، قلت: السَّداد القصد في الدين والسبيل، والسِّداد البلغة وكل شيء سددت به شيئًا هو سِداد، قال: أوتعرف العرب هذا؟ قلت: نعم هذا العربي يقول وهو من ولد عثمان بن عفان:
فأطرق المأمون مليًّا ثم قال: قبَّح الله من لا أدب له، ثم قال: أنشدني يا نضر أخلب بيت قاله العرب، فقلت: قول ابن بيض في الحكم بن مروان:
فقال المأمون: لله درك، فكأنما فتح لك قلبي، أنشدني ألطف بيت للعرب، قلت: قول ابن أبي عروبة المديني:
فقال: أحسنت يا نضر، أنشدني أقنع بيت قالته العرب فأنشدته:
قال: أحسنت يا نضر فعندك ضدها؟ قلت: نعم أحسن منها، قال: هات، فأنشدته:
قال: أحسنت يا نضر، ما تملك؟ قلت: أريضة تمر وأنصابها، قال: أوَلا نزيدك مع ذلك مالا؟ فقلت: إني إليه لمحتاج، فأخذ قرطاسًا فكتب ولم أدرِ ما يكتب، ثم قال: كيف تقول من التراب إذا أمرت أن يترب؟ قلت: أتربه، قال من الطين؟ قلت: طنه، قال: فهو ماذا؟ قلت: مترب ومطين، فقال: هذا أحسن من الأولى، ثم قال للغلام: أتربه وطنه — أي: هبه أرضًا وطينًا — ثم قام وصلى بنا العشاء فلما فرغ قال لخادمه: تسير معه إلى الفضل بن سهل، فلما وصلنا إليه وقرأ الورقة قال: يا نضر إن أمير المؤمنين قد أمر لك بخمسين ألف درهم فما كان السبب، فأفدته ولم أكذب، فقال: ولحنت أمير المؤمنين، قلت: لا، ولكن لحن هشيم وكان لحانًا، فتبع أمير المؤمنين لفظته وقد تتبع الفقهاء، فأمر لي الفضل من عنده بثلاثين ألف درهم أخرى فقبضت ثمانين ألفًا بكلمة استفادها.
المأمون وابن الأعرابي
قال المأمون لابن الأعرابي: أخبرني عن أحسن ما قيل في الشراب، فقال: يا أمير المؤمنين قوله:
قال: أشعر منه الذي يقول يعني أبا نواس:
فقلت فائدة يا أمير المؤمنين، فقال: أخبرني عن قول هند بنت عتبة:
من طارق هذا؟ فنظرت في نسبها فلم أجده، فقلت: يا أمير المؤمنين لا أعرف طارقًا في نسبها، فقال: إنما أرادت النجم، فانتسبت إليه بحسنها من قوله تعالى: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (الطارق: ١) فقلت: فائدتان يا أمير المؤمنين، فقال: أنا لؤلؤ هذا الأمر وابن لؤلؤَة. ثم رمى إليَّ بعنبرة كان يقلبها في يده فبعتها بخمسة آلاف درهم.
المأمون ومحمد بن الجهم
قال محمد بن الجهم: دعاني المأمون فقال: أنشدني بيت مدح نادر فأنشدته:
فقال: قد وليتك همذان، فأنشدني بيت هجاء نادر فأنشدته:
قال: قد وليتك الدينور، فأنشدني بيت مرثية نادرًا فأنشدته:
فقال: قد وليتك نهاوند، فأنشدني بيت غزل نادرًا فأنشدته:
تهنئة العباس للمأمون
ولما ولد جعفر بن المأمون هنئوه بصنوف التهاني، وكان فيمن دخل العباس بن الأحنف، فمثل قائمًا بين يديه ثم أنشأ يقول:
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
كرم المأمون
قال القاضي يحيى بن أكثم: وقد رآه وقع في يوم واحد بثلاثمائة ألف دينار وعرض عليه من القصص ما يزيد عن الحد، فوقع في الجميع ولم يضجر، فقلت يا أمير المؤمنين:
فقال له: يا قاضي إنما تطلب الدنيا لتملك فإذا ملكت فلتَهِب.