نوادر متفرقة في الكرم
الهادي وإسحاق الموصلي
ذكر إسحاق الموصلي أن الهادي قال له: أنشدني وأطربني بإنشادك ما شئت فأنشدته:
فاستطابه وأمر أن أدخل بيت المال وآخذ منه ما أردت، فأخذت منه سبع بدر وانصرفت.
جعفر بن أبي طالب وأبو هريرة
قال أبو هريرة: ما وددت أمًّا تلدني غير أم جعفر بن أبي طالب، تبعته يومًا وأنا جائع فلما بلغ الباب التفت فرآني فقال لي: ادخل، فدخلت ففكر حينًا فما وجد في بيته شيئًا إلا وعاء فيه قليل من السمن، فأنزله من رف لهم، ففتحه بين أيدينا فجعلنا نلعق ما كان فيه من السمن وهو ينشد ويقول:
سوار القاضي وعبد الله بن طاهر
دخل سوار القاضي على عبد الله بن طاهر — صاحب خراسان — فقال: أصلح الله الأمير وأنشد:
كعب بن مامة الإيادي
أشهر ما جاد به أنه كان يومًا مع رفيقه السعدي وقد اشتد الظمأ فآثره على نفسه وأعطاه ما عنده من الماء، فنجا السعدي ومات كعب ضحية كرمه ومروءته، وفيه يقول حبيب الشاعر:
ولخبيب أيضًا يمدح كعبًا وحاتمًا الطائي
عبد الله بن العباس والحسين بن علي
حبس معاوية عن الحسين بن علي صلاته حتى ضاقت عليه حاله، فقيل: لو وجهت إلى ابن عمك عبيد الله فإنه قدم بنحو من ألف ألف درهم، فقال الحسين: وأين تقع ألف ألف من عبيد الله، وفوالله لهو أجود من الريح إذا عصفت وأسخى من البحر إذا ذخر، ثم وجه إليه مع رسوله بكتابٍ ذكر فيه حبس معاوية عنه صلاته وضيق حاله وأنه يحتاج إلى مائة ألف درهم، فلما قرأ عبيد الله كتابه وكان رقيق الفؤاد لين العطف انهملت عيناه، ثم قال: ويلك يا معاوية ما اجترحت يديك من الإثم حين أصبحت لين المهاد رفيع العماد والحسين يشكو ضيق الحال وكثرة العيال، ثم قال إلى قهرمانه: احمل إلى الحسين نصف ما أملكه من فضة وذهب وثياب ومواشٍ وأخبره أني شاطرته مالي فإن أقنعه ذلك وإلا فارجع واحمل إليه الشطر الآخر، فقال له القيم: فهذه المؤن التي عليك من أين تقوم بها؟ قال: إذا بلغنا دللتك على أمر يقيم حالك، فلما أتى الرسول برسالته إلى الحسين قال: إنا لله حملت والله على ابن عمي وما حسبته يجود علينا بهذا كله وأخذ المال جميعه.
عبيد الله بن العباس وأحد الأنصار
جاءه رجل من الأنصار فقال: يا ابن عم رسول الله، ولد لي في هذه الليلة مولود وإني سميته باسمك تبركًا مني به وإن أمه ماتت، فقال عبيد الله: بارك الله لك في الهبة وأجزل لك الأجر على المصيبة، ثم دعا بوكيله فقال: انطلق الساعة فاشتر للمولود جارية تحضنه، وادفع إليه مائتي دينار للنفقة على تربيته، ثم قال للأنصاري: عد إلينا بعد أيام فإنك جئتنا وفي العيش يبس وفي المال قلة، قال الأنصاري: لو سبقت حاتمًا بيوم واحد ما ذكرته العرب أبدًا ولكنه سبقك فصرت له تاليًا.
سعيد بن العاص ومعاوية ومروان
كان معاوية بديلًا بينه وبين مروان بن الحكم في ولاية المدينة فكان مروان يعارضه، فلما دخل معاوية قال له: كيف تركت أبا عبد الملك أي مروان، قال: تركته منفذًا لأمرك مصلحًا لعملك، قال معاوية: إنه كصاحب الخبزة كُفي إنضاجها فأكلها، قال: كلَّا يا أمير المؤمنين، إنه من قوم لا يأكلون إلا ما حصدوا ولا يحصدون إلَّا ما زرعوا، قال: فما الذي باعد بينك وبينه، قال: خفته على شرفي وخافني على مثله، قال: فأي شيء كان له عندك؟ قال: أسوؤه حاضرًا وأسره غائبًا، قال: يا أبا عواد، تركتنا في هذه الحروب، قال: حملت الثقل وكفيت الحزم، قال: فما أبطأك، قال: غناؤك أبطأني عنك، وكنت قريبًا لو دعوت لأجبناك ولو أمرت لأطعناك، قال: ذلك ظننا بك، فأقبل معاوية على أهل الشام، فقال: يا أهل الشام هؤلاء قومي وهذا كلامهم، ثم قال: أخبرني عن مالِك فقد نبئت أنك تتحرى فيه، قال يا أمير المؤمنين لنا مال يخرج لنا منه فضل، فإذا كان ما خرج قليلًا أنفقناه على قلته، وإن كان كثيرًا فكذلك غير أنَّا لا ندخر منه شيئًا عن معسر ولا طالبٍ ولا محتاج ولا نأثر عليه شيئًا من المآكل اللذيذة والمناظر البهيجة، قال: فكم يدوم لك هذا؟ قال: من السنة نصفها، قال: فما تصنع في باقيها؟ قال: نجد من يسلفنا ويسارع في معاملتنا، قال: ما أحد أحوج أن يصلح من شأنه منك، قال: إن شأننا لصالح يا أمير المؤمنين ولو زدت في مالي مثله ما كنت إلا بمثل هذا الحال، فأمر له معاوية بخمسين ألف درهم وقال: اشتر بها ضيعة تعينك على مروَّتك، فقال: بل أشتري بها حمدً وذكرًا باقيًا أطعم بها، وأفك بها العاني، وأواسي بها الصديق وأصلح بها حال الجار، فلم تأتِ عليه ثلاثة أشهر وعنده منها درهم، فقال معاوية: ما فضيلة بعد الإيمان بالله هي أرفع في الذكر ولا أنبه في الشرف من الجود، وحسبك أن الله تعالى جعل الجود آخر صفاته.
عبيد الله بن معمر وأحد أهالي البصرة
من جوده أن رجلًا أتاه من أهل البصرة مع جارية له نفيسة، قد استأدبها بأنواع الأدب حتى برعت وفاقت في جميع الصفات الحميدة، ثم إن الدهر قعد بسيدها ومال عليه، وقدم عبيد الله بن معمر البصرة من بعض وجوهه، فقالت لسيدها: إني أريد أن أذكر لك شيئًا وأخشى أن يكون فيه بعض الجفاء غير أنه يسهل ذلك علىَّ ما أرى من ضيق حالك وقلة مالك وزوال نعمتك، وما أخافه عليك من الاحتياج وضيق الحال، وهذا عبيد الله بن معمر قدم وقد علمت شرفه وقدرته وسعة كفه وجود نفسه، فلو أذنت لي فأصلحت من شأني ثم تقدمت بي إليه وعرضتني عليه هدية رجوت أن يأتيك من مكافأته ما يقلك الله به وينهضك إن شاء الله، قال: فبكى وجدًا عليها وجزعًا لفراقها ثم قال لها: لولا ما نطقت بهذا ما ابتدأتك به أبدًا، ثم نهض بها حتى أوقفها بين يدي عبيد الله، فقال: أعزك الله هذه جارية ربيتها ورضيت بها لك فاقبلها مني هدية، فقال: مثلي لا يستهدى لمثلك، فهل لك في بيعها، فأجزل لك الثمن عليها حتى ترضى؟ قال: الذي تراه، قال: يقنعك مني عشر بدر في كل بدرة عشرة آلاف درهم، قال: والله يا سيدي ما امتد أملي إلى عشر ما ذكرت ولكن هذا فضلك المعروف وجودك المشهور، فأمر عبيد الله بإخراج المال حتى صار بين يدي الرجل وقبضه، وقال للجارية: ادخلي الحجاب، فقال سيدها: أعزك الله لو أذنت لي في وداعها قال: نعم، فوقفت وقام وقال لها وعيناه تدمعان:
قال عبيد الله بن معمر: قد شئت ذلك فخذ جاريتك وبارك الله لك في المال، فذهب بجاريته وماله فعاد غنيًّا.
يزيد بن المهلب وأحد بني ضبة
قدم علَى يزيد بن المهلب قومٌ من قضاعة من بني ضبة فقال رجل منهم:
فأمر له بألف دينار. فلما كان في العام المقبل وفد عليه فقال:
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
ابن طوق وأحد الشعراء
عرض رجلٌ لابن طوق وقد خرج في طلب النزهة، فناوله رقعة فيها جميع حاجته ومصدرة بهذا البيت:
فقال: والله لأصدقن ظنك، فأعطاه حتى أغناه.
عبد الله بن طاهر ودعبل الشاعر
عرض دعبل بن علي الشاعر لعبد الله بن طاهر الخراساني وهو راكبٌ في حراقة له في دجلة فأشار إليه برقعة، فأمر بأخذها فإذا فيها:
فأمر له بخمسة آلاف درهم وجارية وفرس.
وخرج عبد الله بن طاهر فتلقاه دعبل برقعة فيها هذه الأبيات:
فأمر له بخمسة آلاف.
هشام ونصيب بن رياح
دخل نصيب بن رياح على هشام فأنشده:
فقال هشام: بلغت غاية المدح فسلني، فقال: يا أمير المؤمنين، يداك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة، قال: لا بد أن تفعل، قال: لي ابنة نفضت عليها من سوادي فكسدها فلو أسعفها أمير المؤمنين بشيء يجعله لها، قال: فأقطعها أرضًا، وأمر لها بحليٍّ وكسوةٍ فنفقت السوداء.
ليلى الأخيلية والحجاج
دخلت ليلى الأخيلية على الحجاج فأنشدته:
فقال لها: لا تقولي غلام ولكن قولي همام، ثم قال: أي النساء أحب إليك لأنزلك عندها، قالت: ومن نساؤك أيها الأمير، قال: أم الجلاس ابنة سعيد بن العاص الأموية وهند ابنة إسماعيل بن خارجة الفزارية وهند ابنة المهلب بن أبي جفرة العتكية، قالت: الحيثية أحب إليَّ، فلما كان من الغد دخلت عليه، قال: يا غلام أعطها خمسمائة، قالت: أيها الأمير أحسبها إبلًا، قال قائل: إنما أمر لك بشاءٍ، قالت: الأمير أكرم من ذلك، قال: اجعلوها إبلًا ولا تخيبوا ظنها بنا.
الحسن بن سهل وعلي بن جبلة
قال الحسن بن رجاء الكاتب: قدم علينا علي بن جبلة إلى عسكر الحسن بن سهل والمأمون هناك عند خديجة ابنة الحسن بن سهل ونحن إذ ذاك نجري على نيف وسبعين ألف ملاح، ونحن في غاية من الانهماك فنزل بي فقلت له: قد كثر شغل الأمير، فقال: ألا تخبرنه بقدومي، قلت: أجل، فدخلت على الحسن بن سهل في وقت ظهوره فأعلمته مكانه قال: ألا ترى ما نحن فيه؟ قلت: لست بمشغول عن الأمر، فقال: يعطى عشرة آلاف إلى أن نتفرغ له، فأعلمت علي بن جبلة فقال لي كلمة له:
المعتصم وأبو تمام
دخل أبو تمام الطائي على المعتصم بعد فتوحه عمورية والفوز على محاربيه فامتدحه بقصيدة بليغة أولها:
وهي قصيدة طويلة عددها ثلاثة وسبعون بيتًا، فأعطاه جائزة عليها ثلاثة وسبعين ألف دينار على كل بيتٍ ألف دينار.
امتداح أبي البختري على كرمه
كان وهب بن منبه أبو البختري كثير العطاء أليف الندى وفيه قال الشاعر:
كثيِّر وعمر بن عبد العزيز
دخل كثيِّر على عمر بن عبد العزيز، فاستأذن في الإنشاد، فقال: قل ولا تقل إلا حقًّا فقال:
فقال له: يا كثير، إنك تسئل عما قلته، ثم أجازه بأثمن العطايا.
مروان الشاعر والمتوكل
أمر المتوكل لمروان بن أبي الحبوب الشاعر بمائة وعشرين ألفًا وخمسين ثوبًا ورواحل كثيرة، فقال أبياتًا في شكره فلما بلغ قوله:
فقال: والله لا أمسك حتى أغرقك بجودي وأمر له بضياعٍ تقوَّم بألف ألف.
يزيد بن المهلب والحلاق
حج يزيد بن المهلب فطلب حلاقًا يحلق رأسه، فجاؤوه بحلاق فحلق رأسه، فأمر له بخمسة آلاف درهم، فدُهش الحلاق وقال: آخذ هذه الخمسة آلاف وأمضي إلى أم فلان أخبرها أني قد استغنيت، فقال: أعطوه خمسة آلاف أخرى، فقال: امرأتي طالق إن حلقت رأس أحد بعدك، وصادف أن الحجاج أمر بسجن يزيد على خراج وجب عليه مقداره مائة ألف درهم، فجمعت له وهو في السجن، فجاءه الفرزدق يزوره فقال للحاجب: استأذن لي عليه.
فقال: إنه في مكان لا يمكن الدخول عليه فيه، فقال الفرزدق: إنما أتيت متوجعًا لما هو فيه ولم آتِ ممتدحًا، فأذن فلما أبصره قال:
فقال يزيد للحاجب: ادفع إليه المائة ألف درهم التي جمعت لنا، ودع الحجاج ولحمي يفعل فيه ما يشاء، فقال الحاجب للفرزدق هذا الذي خشيته حين منعتك من الدخول عليه، ثم دفعها إليه فأخذها وانصرف.
يزيد بن المهلب والعجوز
مر يزيد بن المهلب بعد خروجه من السجن بعجوز أعرابية فذبحت له عنزًا، فقال لابنه: ما معك من النفقة؟ قال: مائة دينار، قال: ادفعها إليها، فقال: هذه يرضيها اليسير وهي لا تعرفك، قال: إن كان يرضيها اليسير فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي.
أبو جعفر وأزهر الشاعر
وفد أزهر الشاعر على أبي جعفر فقال له: ما حاجتك، قال جئتك طالبًا، فأمر له باثني عشر ألف درهم وقال: لا تأتنا بعد طالبًا، فأخذها وانصرف، ولما كان بعد سنة أتاه، فقال له أبو جعفر: ما حاجتك يا أزهر، قال: جئت مسلِّما فقال: لا والله بل جئت طالبًا، وقد أمرنا لك باثني عشر ألفًا فلا تأتنا طالبًا ولا مسلِّما، فأخذها ومضى ولما كان بعد سنة أتاه فقال: ما حاجتك يا أزهر قال: أتيت عائدًا، فقال: لا والله بل جئت طالبًا، وقد أمرنا لك باثني عشر ألفًا فاذهب ولا تأتنا بعد طالبًا ولا مسلِّما ولا عائدًا، فأخذها وانصرف، فلما مضت السنة أقبل، فقال له: ما حاجتك يا أزهر، قال: يا أمير المؤمنين دعاء كنت أسمعك تدعو به جئت لأكتبه فضحك أبو جعفر وقال: الدعاء الذي تطلبه غير مستجاب فإني دعوت الله به أن لا أراك فلم يستجب لي، وقد أمرنا لك باثني عشر ألفا. وتعالَ إذا شئت فقد أعيتنا الحيلة فيك.
السائل وعبيد الله
من جود عبيد الله بن عباس أنه أتاه سائل وهو لا يعرفه فقال له: صدِّق، فإني نبئت أن عبيد الله بن عباس أعطى سائلًا ألف درهم فاعتذر إليه، فقال له: وأين أنا من عبيد الله، قال: أين أنت منه في الحسب أم في كثرة المال، قال فيهما، قال: أما الحسب في رجل فمروءته وفعله وإذا شئت فعلت وكنت حسيبًا، فأعطاه ألفي درهم واعتذر إليه من ضيق الحال، فقال له السائل: إن لم تكن عبيد الله بن عباس فأنت خير منه، وإن كنت هو فأنت اليوم خيرٌ منك أمس، فأعطاه ألفًا أخرى، فقال السائل: هذه هزة كريم حسيب، والله لقد جذبت قلبي بكريم الخصال التي قلما توجد في سواك من الرجال.
•••
قال أحمد بن مطير: أنشدت عبد الله بن طاهر أبياتًا كنت مدحت فيها بعض الولاة وهي:
فقال لي عبد الله: كم أعطاك؟ قلت: خمسة آلاف، قال: فقبلتها، قلت: نعم، قال لي: أخطأت؛ فما ثمن هذه إلا مائة ألف.
العتبي وعمه
قال العتبي: سمعت عمي ينشد لأبي عباس الزبيري:
فقلت له: كم أعطى عليها؟ قال: عشرين ألفًا.
خزيمة وعكرمة الفياض
كان في أيام خلافة سليمان بن عبد الملك رجل يقال له خزيمة بن بشر من بني أسد مشهورٌ بالمروءة والكرم والمواساة، وكانت نعمته وافرة، فلم يزل على تلك الحالة من الكرم حتى احتاج إلى إخوانه الذين كان يؤَاسيهم ويتفضل عليهم، فآسوه حينًا ثم ملُّوه، فلما لاح منهم ذلك أتى امرأته وقال لها: يا ابنة العم رأيت من إخواني غير ما عهدته فيهم وقد عزمت على لزوم بيتي إلى أن يأتيني الموت، ثم إنه أغلق بابه وأقام يتقوت بما عنده حتى نفد جميعه وبقي حائرًا في أمره، وكان يومئذ عكرمة الفياض واليًا على الجزيرة. فبينما هو جالس في ديوانه وعنده جماعة من أهل البلد من معارفه إذ جرى ذكر خزيمة بن بشر، فسألهم عكرمة عن حاله فقالوا له: إنه في أشقى حالٍ من الفقر وقد أغلق بابه ولزم بيته، فقال عكرمة الفياض: أفما وجد خزيمة بن بشر مواسيًا أو مكافيًا، فقالوا له: لا، فأمسك عكرمة عن ذلك، وكان بمنزلة عظيمة من الكرم وسمِّي الفياض لزيادة كرمه وجوده، فانتظر إلى الليل وعمد إلى أربعة آلاف دينار جعلها في كيس ثم ركب دابته وخرج سرًّا من عند أهله لا يصحبه إلا غلام واحد يحمل المال، فلم يزل سائرًا حتى وصل إلى باب خزيمة، فنزل عن دابته إلى ناحية وأمسكها لغلامه وأخذ منه الكيس وأتى به وحده إلى الباب وقرعه، فخرج خزيمة فقال له عكرمة وقد أنكر صوته: خذ هذا أصلح به شأنك، فتناوله خزيمة فرآه ثقيلًا فوضعه وقبض على ذيل عكرمة وقال له: أخبرني من أنت جعلت فداك؟ فقال له عكرمة: ما جئتك في مثل هذا الوقت وأريد أن تعرفني، فقال له خزيمة: والله لا أقبله ما لم تخبرني من أنت، فقال له عكرمة: أنا جابر عثرات الكرام، فقال خزيمة: زدني إيضاحًا، فقال له عكرمة: لا والله، وانصرف، فدخل خزيمة بالكيس إلى امرأته وقال له: أبشري فقد أتى الله بالفرج فقومي أسرجي، فقالت: لا سبيل إلى السراج لأنه ليس لنا زيت، فبات خزيمة يلمس الكيس فيجد خشونة الدنانير، ولما رجع عكرمة إلى منزله سألته امرأته فيمَ خرج بعد هدأة من الليل منفردًا، فأجابها: ما كنت لأخرج في وقت كذا وأريد أن يعلم أحد بما خرجت إليه إلا الله فقط، فقالت له: لا بد لي أن أعلم ذلك، وصاحت وناحت وألحت عليه بالطلب، فلما رأى أنه ليس له بدٌّ قال لها: أخبرك بالأمر فاكتميه إذًا، قالت له: قل ولا تبال بذلك، فأخبرها بالقصة على وجهها، أما ما كان من خزيمة فإنه لما أصبح صالح غرماءه وأصلح شأنه وتجهز للسفر يريد الخليفة سليمان بن عبد الملك، فدخل الحاجب وأخبر سليمان بوصول خزيمة بن بشر، وكان سليمان يعرفه جيدًا بالمروءة والكرم فأذن له، فلما دخل خزيمة وسلم عليه بالخلافة قال له سليمان: يا خزيمة ما أبطأك عنا، قال: سوء الحال يا أمير المؤمنين، قال: فما منعك النهضة إلينا، قال خزيمة: ضعفي يا أمير المؤمنين وقلة ما بيدي، قال: فكم أنهضك الآن، قال خزيمة: لم أشعر يا أمير المؤمنين بعد هدأة من الليل إلَّا والباب يطرق فخرجت فرأيت شخصًا وكان منه كيت وكيت، وأخبره بقصته من أولها إلى آخرها، فقال له: أما عرفته، فقال خزيمة: ما سمعت منه يا أمير المؤمنين إلَّا حين سألته عن اسمه قال: أنا جابر عثراث الكرام، فتلهف سليمان بن عبد الملك على معرفته وقال: لو عرفناه لكافأناه على مروءته، ثم قال: علي بالكاتب فحضر إليه، فكتب لخزيمة الولاية على الجزيرة وجميع عمل عكرمة وأجزل له العطاء وأحسن ضيافته، وأمره بالتوجه من وقته إلى الولاية فقبل الأرض خزيمة وتوجه من ساعته إلى الجزيرة، فلما قرب منها خرج عكرمة وكان قد بلغه عزله وأقبل لملاقاة خزيمة مع جميع أعيان البلد، وسلموا عليه وساروا جميعا إلى أن دخلوا به البلد، فنزل خزيمة في دار الإمارة وأمر أن يؤخذ عكرمة ويحاسب، فحوسب ففضل عليه مال كثير فطلبه جزية منه، فقال له عكرمة: والله ما إلى درهم منه سبيل ولا عندي منه دينارًا، فأمر خزيمة بحبسه وأرسل يطالبه بالمال، فأرسل عكرمة يقول له: إني لست ممن يصون ماله بعرضه فاصنع ما شئت، فأمر خزيمة بقيده وضربه، فكبل بالحديد وضرب وضيق عليه، فأقام كذلك شهرًا فأضناه ذلك وأضر به، فبلغ امرأته ضره فجزعت لذلك واغتمت غمًّا شديدًا، فدعت جارية لها ذات عقل وقالت لها: اذهبي الساعة إلى باب خزيمة وقولي للحاجب: إن عندي نصيحة للأمير فإذا طلبها منك فقولي: لا أقولها إلا للأمير خزيمة، فإذا دخلت عليه فسليه الخلوة فإذا فعل فقولي له: ما كان هكذا جزاء جابر عثرات الكرام منك بمكافأتك له بالضيق والحبس والحديد ثم بالضرب، ففعلت جاريتها ذلك، فلما سمع خزيمة قولها قال: واسوأتاه جابر عثرات الكرام غريمي، قالت: نعم، فأمر لوقته بدابته فأسرجت وركب إلى وجوه أهل البلد فجمعهم وسار بهم إلى باب الحبس متغيرًا وقد أضناه الضر، فلما نظر عكرمة إلى خزيمة ووجوه أهل البلد أحشمه ذلك فنكس رأسه، فأقبل خزيمة وأكب على رأسه فقبله، فرفع عكرمة رأسه وقال: ما أعقب هذا منك، قال خزيمة: كريم فعالك بسوء مكافأتي، فقال له عكرمة: يغفر الله لنا ولك، ثم إن خزيمة أمر بقيوده أن تفك وأن توضع في رجليه نفسه، فقال له عكرمة: ما مرادك بذلك، قال مرادي أن ينالني من الضر ما نالك، فقال له عكرمة: أقسم عليك بالله أن لا تفعل، وبعد ذلك خرجا جميعًا وجاء إلى دار خزيمة فودعه عكرمة وأراد الانصراف فلم يمَكِّنه من ذلك، ثم أمر خزيمة بالحمام فأخلي ودخلا جميعًا، وقام خزيمة نفسه فتولى خدمة عكرمة، ثم خرج فخلع عليه وحمل إليه مالًا كثيرًا وسأله أن يسير معه إلى أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك، وكان يومئذ في الرحلة، فسار معه حتى قدما على سليمان، فدخل الحاجب وأخبره بقدوم خزيمة بن بشر، فراعه ذلك وقال في نفسه: والي الجزيرة يقدم علينا بدون أمرنا مع قرب العهد به، ما هذا إلا لحادث عظيم، فلما دخل عليه قال: ما وراءك يا خزيمة؟ قال: خير يا أمير المؤمنين، قال: فما أقدمك، قال: يا أمير المؤمنين إني ظفرت بجابر عثرات الكرام فأحببت أن أسرك لما رأيت من شوقك إلى رؤيته، قال: ومن هو؟ قال: عكرمة الفياض، فأذن له في الدخول فدخل وسلم عليه بالخلافة، فرحب به وأدناه من مجلسه وقال له: اكتب حوائجك وما تختاره في رقعة، فكتبها فقُضيت على أتم وجه، ثم أمر له بعشرة آلاف دينار وأضاف له شيئًا كثيرًا من التحف والظرف وولاه على الجزيرة وإرمينية وما جاورهما، وقال له: أمر خزيمة بيدك إن شئت عزلته، قال: بل رده إلى عمله مكرمًا يا أمير المؤمنين، ثم إنهما انصرفا جميعًا ولم يزالا عاملين لسليمان مدة خلافته.
المرأة الكريمة
بينما كان عبد الله بن عباس قادمًا من الشام يقصد الحجاز عرج على منزل فطلب من غلمانه طعامًا فلم يجدوا، فقال لوكيله: اذهب في هذه البرية فلعلك تجد راعيًا أو حيًّا فيه لبن أو طعام، فمضى بالغلمان فوقعوا على عجوز في حي، فقالوا لها: عندك طعام نبتاعه، قالت: أما طعام البيع فلا، ولكن عندي ما يكفيني وأولادي، قالوا: فأين أولادك؟ قالت: في رعي لهم وهذا أوان عودتهم، قالوا: فما أعددت لك ولهم؟ قالت: خبزة مبتلة بالماء، قالوا: وما هو غير ذلك؟ قالت: لا شيء، قالوا: فجودي لنا بشطرها، فقالت: أما الشطر فلا أجود به وأما الكل فخذوه، فقالوا لها: تمنعين النصف وتجودين بالكل، فقالت: نعم؛ لأن إعطاء الشطر نقيصة وإعطاء الكل كمال وفضيلة، فإني أمنع ما يضعني وأمنح ما يرفعني، فأخذوها ولم تسألهم من هم ولا من أين جاءوا، فلما وصلوا إلى عبد الله وأخبروه بخبرها عجب من ذلك، ثم قال لهم: احملوها إليَّ الساعة فرجعوا إليها، وقالوا لها: انطلقي معنا إلى صاحبنا فإنه يريدك، فقالت: ومن صاحبكم، قالوا: عبد الله بن عباس، قالت: هو والله عنوان الشرف وأسماه فما يريد مني، قالوا: مكافأتك، قالت: أواه والله لو كان ما فعلت معروفًا ما أخذت له بدلًا فكيف وهو يجب على الخلق أن يشارك فيه بعضهم بعضًا، فلم يزالوا بها حتى أخذوها إليه، فسلمت عليه فرد عليها السلام، وقرب مجلسها ثم قال لها: ممن أنت؟ قالت: من بني كلب، قال: فكيف حالك؟ قالت: أسهر اليسير وأهجع أكثر الليل وأرى قرة العين في شيء، فلم يكن من الدنيا شيء إلا وقد وجدته، قال: فما ادخرت لبنيك إذا حضروا، قالت: أدخر لهم ما رُوي عن حاتم طيء حيث قال:
فازداد عبد الله تعجبًا، وقال: لو جاءك بنوك وهم جياع ما كنت تصنعين؟ قالت: يا هذا لقد عظمت عندك هذه الخبزة حتى أشغلت بها بالك، دع عنك هذا فإنه يفسد النفس ويؤثر في العواطف، فقال عبد الله: علي بأولادها فأحضروهم فلما دنوا منه رأوا أمهم وسلموا، فأدناهم إليه وقال: إني لم أطلبكم وأمكم لمكروه، وإنما أحب أن أصلح من شأنكم، فقالوا: إن هذا قلَّ أن يكون إلا عن سؤال أو مكافأة لفعل قديم، فقال: ليس شيء من ذلك ولكن جاورتكم الليلة فوددت وضع شيء من مالي عندكم، قالوا: يا هذا نحن في خفض عيش وكنان من الرزق فوجهه نحو من يستحق، وإن أردت النوال مبتدئًا من غير سؤال فتقدم فمعروفك مشكور وبرك مقبول، فقال: نعم هو ذاك، وأمر لهم بعشرة آلاف درهم وعشرين ناقة، فقالت العجوز لأولادها: لقل كل واحد منكم شيئًا وأنا أتبعكم في شيء منه، فقال الأكبر:
وقال الأوسط:
وقال الأصغر:
وقالت العجوز:
جود ملك
قيل: إن الملك خسرو بن برويز كان يحب أكل السمك وكان يومًا جالسًا في المنظرة وشيرين عنده فجاءه صيادٌ وعنده سمكة كبيرة، وأهداها لخسرو ووضعها بين يديه، فأمر له بأربعة آلاف درهم، فقالت شيرين: بئس ما صنعت، فقال الملك: لم؟ فقالت: لأنك إذا أعطيت بعد هذا لأحد من حشمك هذا القدر قال: قد أعطاني مثل عطية الصياد، قال: لقد صدقت ولكن يقبح بالملوك أن يرجعوا في هباتهم وقد فات الأمر، فقالت شيرين: أنا أدبر هذا الحال، فقال: وكيف ذلك؟ فقالت: تدعو الصياد وتقول له: هذه السمكة ذكرٌ هي أم أنثى؟ فإن قال: ذكر، فقل: إنما طلبت أنثى، وإن قال: أنثى، فقل: إنما طلبت ذكرًا، فنودي الصياد فعاد، وكان الصياد ذا ذكاء وفطنة، فقال له خسرو: هذه السمكة ذكر أم أنثى، فقبل الصياد الأرض وقال له: هذه السمكة خنثى لا ذكر ولا أنثى، فضحك خسرو من كلامه وأمر له بأربعة آلاف درهم؛ فمضى الصياد إلى الخازن وقبض منه ثمانية آلاف درهم ووضعها في جراب كان معه وحملها على عنقه وهمَّ بالخروج فوقع من الجراب درهم واحد، فوضع الصياد الجراب عن كاهله وانحنى على الدرهم فأخذه والملك وشيرين ينظران إليه، فقالت شيرين لخسرو: أرأيت خسة هذا الرجل وسفالته سقط منه درهم واحد، فألقى عن كاهله وانحنى على الدرهم فأخذه ولم يسهل عليه أن يتركه ليأخذه غلام من غلمان الملك، فحرد خسرو من ذلك وقال: صدقت يا شيرين، ثم أمر بإعادة الصياد وقال له: يا ساقط الهمة لست بإنسان وضعت هذا المال عن عنقك لأجل درهم واحد وأسفت أن تتركه في مكانه، فقبل الصياد الأرض، وقال: أطال الله بقاءك أيها الملك إنني لم أرفع ذلك الدرهم لخطره عندي وإنما رفعته عن الأرض لأن على وجهه صورة الملك وعلى الوجه الآخر اسم الملك، فخيشت أن يأتي أحد بغير علمٍ يضع عليه قدميه فيكون ذلك استخفافًا باسم الملك وأكون أنا المؤاخذ بهذا، فعجب خسرو من كلامه واستحسن ما ذكره فأمر له بأربعة آلاف درهم، فعاد الصياد ومعه اثنا عشر ألف درهم، وأمر خسرو مناديًا ينادي لا يتدبر أحد برأي النساء، فإنه من تدبر برأيهن خسر درهمه.
الوفاء والفضل والمعروف عند بعض الكرماء
بينما كان عمر بن الخطاب جالسًا في بعض الأيام وعنده أكابر الصحابة، وأهل الرأي والإهابة، وهو في القضايا يحكم بين الرعايا، إذ أقبل عليه شاب من أحسن الشباب، نظيف الأثواب، يكتنفه شابان من أحسن الشباب أيضًا، وقد جذباه وسحباه، وأوقفاه بين يدي أمير المؤمنين ولبَّياه، فلما وقفوا بين يديه، نظر إليهما وإليه، فقالا: يا أمير المؤمنين نحن أخوان شقيقان، جديران باتباع الحق حقيقان كان لنا أب شيخ كبير، حسن التدبير، معظم في قبائله، منزه عن رذائله، معروف بفضائله، ربانا صغارًا، وأولادنا مننا غزارًا، كما قيل في المعنى:
فخرج اليوم إلى حديقة له يتنزه في أشجارها، ويقتطف يانع أثمارها، فقتله هذا الشاب، وعدل عن طريق الصواب، فنسألك القصاص عما جناه، والحكم فيه بما أمرك الله، فنظر عمر إلى الشاب، وقال له: قد سمعت فما الجواب، والغلام مع ذلك ثابت الجنان، خالٍ عن الاستيحاش، فخلع ثياب الهلع ونزع لباس الجزع، فتبسم عن مثل الجمان وتكلم بأفصح لسان وحيا بكلمات حسان، ثم قال: يا أمير المؤمنين، والله لقد وعيا فيما أدعياه وصدقا فيما نطقا وأخبرا بما جرى وعبرا عم طرا، وسأنهي قصتي بين يديك والأمر فيها إليك، اعلم أني عريم من العرب العرباء نبتُّ في منازل البادية وصحبت أسود السنين العادية، فأقبلت إلى ظاهر هذا البلد بالأهل والمال والولد، فأفضت بي بعض طرائقها إلى المسير بين حدائقها نياق إليَّ حبيبات عليَّ عزيزات بينهن فحل كريم الأصل، كثير النسل، مليح الشكل، حسن النتاج، يمشي بينهن كأنه ملك عليه تاج، فدنت النوق إلى حديقة قد ظهر من الحائط شجرها، فتناولتها بمشفرها، فطردتها عن تلك الحديقة فإذا شيخ قد ظهر، وتسور الحائط وزفر، وفي يده اليمنى حجر، يتمادى كالليث إذا خطر، فضرب الفحل بذاك الحجر فأصابه فقتله وأباده، فلما رأيت الفحل سقط إلى جنبه وانقلب، وتوقدت فيَّ جمرات الغضب، فتناولت ذلك الحجر بعينه فضربته به، فكان سبب حتفه ولقي سوء منقلبه، المرء مقتول بما قتل به، بعد أن صاح صيحة عظيمة، وصرخ صرخة أليمة، فأسرعت هاربًا من مكاني، فلم أكن بأسرع من هذين الشابين فأمسكاني، وأحضراني كما تراني، قال عمر: وقد اعترفت، بما اقترفت، ويعذر الخلاص ووجب القصاص، ولات حين مناص، فقال الشاب سمعًا وطوعًا لما حكم الإمام، ورضيت بما اقتضته شريعة الإسلام، ولكن لي أخ صغير كان له أب خبير، خصه قبل وفاته بمال جزيل، وذهب جليل، وأحضره بين يدي، وسلم أمره إليَّ، وأشهد الله عليَّ، وقال: هذا لأخيك عندك، فاحفظه جهدك، فاتخدت لذلك مدفنًا، ووضعته فيه ولا يعلم بذلك أحدٌ إلا أنا، فإن حكمت الآن بقتلي ذهب الذهب، وكنت أنت السبب وطالبك الصغير بحقه، يوم يقضي الله بين خلقه، وإن انتظرتني ثلاثة أيام أقمت من يتولى أمر الغلام، وعدت وافيًا بالذمام، ولي من يضمنني على هذا الكلام، فأطرق عمر ساعة ثم نظر إلى من حضر، وقال: من يقوم على ضمانه، والعود إلى مكانه، فنظر الغلام إلى وجوه أهل المجلس الناظرين، وأشار إلى أبي ذر دون الحاضرين وقال هذا يكفلني، وهو الذي يضمنني، فقال عمر: أتضمنه يا أبا ذر على هذا الكلام؟ قال: نعم أضمنه إلى ثلاثة أيام، فرضي الشابان بضمان أبي ذر، وانتظراه ذلك القدر، فلما انقضت مدة الإمهال وكان وقتها يزول أو زال، حضر الشابان إلى مجلس عمر والصحابة حوله كالنجوم حول القمر، وأبو ذر قد حضر، والخصم ينتظر، فقال: أين الغريم يا أبا ذر وكيف يرجع من قد فرّ؟ فلا تبرح من مكاننا، حتى تفي بضماننا، فقال أبو ذر: وحق الملك العلام، إن انقضى تمام الأيام، ولم يحضر الغلام، وفيت بالضمان، وأسلمت لنفسي وبالله المستعان، فقال عمر: والله إن تأخر الغلام لأفعلن في أبي ذر ما اقتضته شريعة الإسلام، فهملت عبرات الحاضرين، وأرفضت زفرات الناظرين، وعظم الضجيج وتزايد الكلام، فعرض كبار الصحابة على الشابين أخذ الدية، لكف الأذية، فأصرا على عدم القبول، وأبيا إلا الأخذ بثأر المقتول، فبينما الناس يموجون تلهفًا لما مرَّ، ويصيحون تأسفًا على أبي ذر، إذ أقبل الغلام، ووقف بين يدي الإمام وسلم عليه أتم سلام، ووجهه يتهلل مشرقًا، ويتكلل عرقًا، وقال: قد أسلمت الصبي إلى أخوالي، وأطلعتهم على مكان مالهم وأموالي ثم اقتحمت هاجرات الحر، ووفيت وفاء الحر الأغر، فعجب الناس من صدقه ووفائه وإقدامه على الموت واجترائه، فقال: من غدر لم يعف عنه من قدر، ومن وفى رحمه الطالب وعفاه وتحققت أن الموت إذا حضر لم ينجُ منه احتراس، وبادرت كي لا يقال ذهب الوفاء من الناس، فقال أبو ذر: والله يا أمير المؤمنين لقد ضمنت هذا الغلام ولم أعلم من أي قوم، ولا رأيته قبل ذلك اليوم، ولكنه نظر إلى من حضر فقصدني وقال: هذا يضمنني فلم أستحسن رده، وأبت المروءة أن تخيب قصده إذ ليس في القصد من بأس، كي لا يقال ذهب الفضل من الناس، فقال الشابان عند ذلك: يا أمير المؤمنين قد وهبنا لهذا الغلام دم أبينا فلتبدل وحشته بإيناس، كي لا يقال ذهب المعروف من الناس، فاستبشر الإمام بالعفو عن الغلام وعجب من صدقه ووفائه واستغزر مروءة أبي ذر دون جلسائه واستحسن اعتماد الشابين في اصطناع المعروف، وأثنى عليهما أحسن ثناء وتمثل بهذا البيت:
ثم عرض عليهما أمير المؤمنين أن يصرف لهما من بيت المال دية أبيهما فقالا: يا أمير المؤمنين إنما عفونا عنه ابتغاء لوجه الله، ومن نيته كذا، لا يتبع إحسانه منٌّ ولا أذى.
مرثية أبي الحسن الأنباري للوزير أبي طاهر
لما استعرت الحرب بين عز الدولة ابن بويه وابن عمر عضد الدولة ظفر عضد الدولة بوزير عز الدولة أبي طاهر محمد بن بقية، فسلمه وشهره وعلى رأسه برنس، ثم طرحه للفيلة فقتلته، ثم صلبه عند داره بباب الطاق وعمره نيف وخمسون سنة، ولما صُلب رثاه أبو الحسن محمد بن عمران يعقوب الأنباري أحد العدول ببغداد بهذه القصيدة الغراء، فلما وقف عليها عضد الدولة قال: وددت لو أني المصلوب وتكون هذه القصيدة فيَّ:
وقال فيه حين أُنزل عن الصليب:
جود عبيد الله بن العباس
من جوده أنه أتاه رجل وهو في داره فوقف بين يديه، وقال: يا ابن عباس، إن لي عندك يدًا وقد احتجت إليها، فنظر إليه عبيد الله وأحدق فيه بصره فلم يعرفه فقال: ما يدك عندنا، قال: رأيتك واقفًا بزمزم وغلامك يملأ من مائها والشمس ضربت أشعتها عليك فظللتك بطرف كسائي حتى شربت، فقال: نعم إني أذكر لك ذلك، ثم قال لغلامه: ما عندك، قال: مائتا دينار وعشرة آلاف درهم، قال: ادفعها إليه وما أراها تفي بحق يده عندنا.
علي بن أبي طالب والأعرابي
كان علي بن أبي طالب رضى الله عنه يقول: من كان له إليَّ حاجة فليرفعها لي في كتاب لأصون وجهه عن المسألة، ففي ذات يوم جاء أعرابي فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي إليك حاجة يمنعني من ذكرها الحياء، فقال: خطها في الأرض، فكتب: «إني فقير»، فقال: يا قنبر اكسه حلتي، فقال الأعرابي:
فقال: يا قنبر زده مائة دينار، فقال: يا أمير المؤمنين لو فرقتها على الناس لأصلحت بها من شأنهم، فقال: رضي الله عنه: مه يا قنبر، فإني سمعت رسول الله ﷺ: يقول «اشكروا لمن أثنى عليكم وإذا أتاكم كريم قوم فاكرموه».
ابن عامر والرجل
أراد ابن عامر أن يكتب لرجل بخمسين ألف درهم فجرى القلم بخمسمائة ألف درهم فراجعه الخازن في ذلك فقال: أنفذه فما بقي إلا نفاذه فإن خروج المال أحب إليّ من الاعتذار، فنظر إليه الخازن، فقال: إذا أراد الله بعبد خيرًا صرف القلم عن مجرى إرادة كاتبه إلى إرادته، وأنا أردت شيئًا وأراد الجواد الكريم أن يعطي عبده عشرة أضعافه، فكانت إرادة الله الغالبة وأمره النافذ.
خالد بن يزيد والشاعر
قصد شاعرٌ خالد بن يزيد فأنشده شعرًا يقول فيه:
فقال: يا غلام أعطه مائة ألف درهم وقل له: إن زدتنا زدناك فأنشد يقول:
فقال: يا غلام أعطه مائة ألف درهم وقل له: إن زدتنا زدناك، فأنشد:
فقال: يا غلام أعطه مائة ألف درهم وقل له: إن زدتنا زدناك، فقال: حسب الأمير ما سمع وحسبي ما أخذت وانصرف.
خالد بن عبيد الله وأحد الشعراء
قدم أحد الشعراء على خالد بن عبيد الله وهو راكب للغزو، فقال له: قد قلت فيك بيتين من الشعر، قال: أنشدنيهما فقال:
فقال: يا غلام أعطه عشرين ألف دينار فأخذها وانصرف.
بذل الدراهم لجمع الدرهمين
دخل رجل على المهدي وامتدحه، فأمر له بخمسين ألف درهم فسأله أن يأذن له في تقبيل يده، فأذن له فقبلها وخرج، فما انتهى إلى الباب حتى فرق المال بأسره فعوتب على ذلك فاعتذر وأنشد يقول:
حسن الوفاء
كان الوزير محمد المهلبي قبل اتصاله بالسلطان ركيك الأحوال فسافر متطلبًا ما يسد به أوده واشتهى اللحم يومًا ولم يكن عنده درهم يشتري به لحمًا فأنشأ متأسفًا يقول:
فسمعه رفيق كان معه فرقَّ له واشترى له بدرهم ما سد رمقه وحفظ الأبيات وتفارقا فراق الزمان، ثم بعد مدة قصد رفيقه ببغداد وكتب للوزير برقعة بعثها إليه:
فلما وقف الوزير على ذلك بعث للرجل بسبعمائة درهم وكتب له على الرقعة: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ (البقرة: ٢٦١) ثم دعاه وخلع عليه وقربه إليه.
ابن العباس وعمر بن الخطاب
ذكر ابن العباس، قال: خرجت ليلة حالكة قاصدًا دار أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فما وصلت إلى نصف الطريق إلا ورأيت شخصًا أعرابيًا جذبني بثوبي وقال: الزمني يا عباس، فتأملت الأعرابي فإذا هو أمير المؤمنين عمر وهو متنكر، فتقدمت إليه وسلمت عليه وقلت له: إلى أين يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد جولة بين أحياء العرب في هذا الليل الدامس، فتبعته فسار وأنا وراءه وجعل يجول بين خيام الأعراب وبيوتهم ويتأملها إلى أن أتينا على جميعها، وأوشكنا أن نخرج منها فنظرنا، وإذا هناك خيمة وفيها امرأة عجوز وحولها صبية يعولون عليها ويبكون وأمامها قدر تشتعل من تحتها النار وهي تقول للصبية: رويدًا رويدًا بنيَّ قليلًا ينضج الطعام فتأكلون، فوقفنا بعيدًا من هناك وجعل عمر يتأمل العجوز تارةً وينظر إلى الأولاد أخرى.
ولما طال الوقت، قلت: يا أمير المؤمنين ما الذي يوقفك سر بنا، فقال: والله لا أبرح حتى أراها قد صبت للصبية فأكلوا واكتفوا، فوقفنا وقد طال وقوفنا جدًّا ومللنا المكان خوفًا من أن تستريب بنا العيون، والصبية لا يزالون يصرخون ويبكون والعجوز تقول لهم مقالتها: «رويدًا رويدًا بنيَّ قليلًا ينضج الطعام فتأكلون»، فقال لي عمر: ادخل بنا عندها نسألها فدخل ودخلت وراءه، فقال لها: السلام عليك يا خالة، فردت عليه السلام أحسن رد، فقال: ما بال هؤلاء الصبية يتصارخون ويبكون؟ فقالت له: لما هم فيه من الجوع، فقال لها: ولِمَ لَم تطعميهم مما في القدر، فقالت له: وماذا في القدر لأطعمهم؟ ليس هو إلا علالة فقط إلى أن يضجروا من العويل فيغلبهم النوم، وليس لي شيء لأطعمهم، فتقدم عمر إلى القدر ونظرها، فإذا فيها حصى وعليها الماء يغلى فتعجب من ذلك وقال لها: ما المراد بذلك، فقالت: أوهمهم أن فيها شيئًا يُطبخ فيؤكل فأعللهم به حتى إذا ضجروا وغلب النوم عيونهم ناموا، فقال لها: ولماذا أنت هكذا؟ فقالت له: أنا مقطوعة لا أخ لي ولا زوج ولا قرابة، فقال لها: لِمَ لَم تعرضي أمرك على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فيجعل لك شيئًا من بيت المال، فقالت له: لا حيا الله عمر ونكس أعلامه والله إنه ظلمني.
فلما سمع مقالتها ارتاع من ذلك وقال لها: يا خالة بماذا ظلمك عمر بن الخطاب، قالت له: نعم والله ظلمنا، إن الراعي عليه أن يفتش عن كل حال من رعيته لعله يوجد فيها من هو مثلي ضيق اليد كثير الصبية ولا معين ولا مساعد له فيتولى لوازمه، ويسمح له من بيت المال بما يقوته وعياله أو صبيته، فقال لها: ومن يُعلم عمر بحالك وما أنت به من الفاقة مع كثرة الصبية؟ كان يجب عليك أن تتقدمي وتعلميه، فقالت: لا والله إن الراعي الحر يجب عليه أن يفتش عن احتياجات رعيته خصوصًا وعمومًا، فلعل ذلك الشخص الفقير الحال الضيق اليد غلبه حياؤه ومنعه من التقدم إلى راعيه ليعلمه بحاله، فعلى عمر السؤال عن حال فقراء رعيته أكثر من تقدم الفقير إلى مولاه لإعلامه بحاله، والراعي الحر إذا أهمل ذلك فيكون هذا ظلمًا منه، وهذه سنة الله ومن تعداها فقد ظلم، فعند ذلك، قال لها عمر: صدقت يا خالة ولكن عللي الصبية والساعة آتيك.
ثم خرج وخرجت معه وكان قد بقي من الليل ثلثه الأخير، فمشينا والكلاب تنبحنا وأنا أطردها وأذبها عني وعنه إلى أن انتهينا إلى بيت الذخيرة، ففتحه وحده ودخله وأمرني فدخلت معه فنظر يمينًا وشمالًا فعمد إلى كيس من الدقيق يحتوي على مائة رطل وينيف، فقال لي: يا عباس حوِّل على كتفي، فحمَّلته إياه، ثم قال لي: احمل أنت هاتيك جرة السمن، وأشار إلى جرة هناك، فحملتها وخرجنا، وأقفل الباب وسرنا وقد انهار من الدقيق على لحيته وعينيه وجنبيه فمشينا إلى أن أنصفنا، وقد أتعبه الحمل لأن المكان كان بعيد مسافة، فعرضت نفسي عليه وقلت له: بأبي وأمي يا أمير المؤمنين حول الكيس عنك ودعني أحمله، فقال: لا والله أنت لا تحمل عني جرائمي وظلمي يوم الدين، واعلم يا عباس أن حمل جبال الحديد وثقلها خير من حمل ظلامة كبرت أو صغرت ولا سيما هذه العجوز تعلل أولادها بالحصى، يا له من ذنب عظيم عند الله، سر بنا وأسرِع يا عباس قبل أن تضجر الصبية من العويل فيناموا كما قالت.
فسار وأسرع وأنا معه وهو يلهث من التعب إلى أن وصلنا خيمة العجوز، فعند ذلك حول كيس الدقيق عن كتفه ووضعت جرة السمن أمامه، فتقدم هو بذاته وأخذ القدر وأكب ما فيها ووضع فيها السمن وجعل بجانبه الدقيق ثم نظر فإذا النار قد كادت تطفأ، فقال للعجوز: أعندك حطب، قالت: نعم يا بني، وأشارت له إليه، فقام وجاء بقليل منه، وكان الحطب أخضر فوضع منه في النار ووضع القدر على الأثافي وجعل ينكس رأسه إلى الأرض وينفخ بفمه تحت القدر، فوالله إني رأيت دخان الحطب يتصاعد من خلال لحيته وقد كنس بها الأرض، إذ كان يطأطئ رأسه ليتمكن من النفخ، ولم يزل هكذا حتى اشتعلت النار وذاب السمن وابتدأ غليانه فجعل يحرك السمن بعود في يده الواحدة ويخلط من الدقيق مع السمن في يده الأخرى إلى أن أنضج والصبية حوله يتصارخون، فلما طاب الطعام طلب من العجوز إناء فأتته به فجعل يصب الطبيخ في الإناء وهو ينفخه بفمه ليبرده ويلقم الصغار، ولم يزل يفعل هكذا معهم واحدًا بعد واحد حتى أتى جميعهم وشبعوا واكتفوا وقاموا يلعبون ويضحكون مع بعضهم إلى أن غلب عليهم النوم فناموا، فالتفت عمر عند ذلك إلى العجوز، وقال لها: يا خالة أنا من قرابة أمير المؤمنين عمر وسأذكر له حالك، فآتيني غدًا صباحًا في دار الأمان فتجديني هناك فأرجي خيرًا، ثم ودعها وخرج وخرجت معه فقال لي: يا عباس إني حين رأيت العجوز تعلل صبيانها بحصى حسست أن الجبال قد زُلزلت واستقرت على ظهري حتى إذا جئت بما جئت وأطعمتهم ما طبخت لهم واكتفوا وجلسوا يلعبون ويضحكون فحينئذ شعرت أن تلك الجبال قد سقطت عن ظهري، ثم أتى عمر داره وأمرني فدخلت معه وبتنا ليلتنا، ولما كان الصباح أتت العجوز فاستغفرها وجعل لها ولصبيتها راتبًا شهرًا فشهرًا.
المروءة والوفاء
سقط القائد فديرال يوم اشتدت نيران الحرب في فرجينيا أمام صفوف الأعداء مثخنًا بالجراح مخضبًا بالدماء يصرخ مستغيثًا لجرعة ماء، فعطف عليه جندي من عساكر الأعداء اسمه جمس مور من ولاية برك شمالي كارولينا وأتاه بالماء ونيران المدافع وكراتها تتساقط كالأمطار الغزيرة في الفريقين، فأخذ أصحاب جمس يحذرونه من الخطر ويردعونه عن أن يلقي بيده إلى التهلكة، فلم يلتفت إليهم وظل يسرع إلى عدوه المستغيث في معمعة الموت الأحمر حتى بلغ إليه وكأس الماء بيده فسقاه، وكان مع ذلك القائد الصريع ساعة ذهبية فقدمها للمنعم إليه فأبى ذاك أخذها، فسأله القائد فديرال عن اسمه، فقال له: إنه جمس مور، ثم رجع مور إلى مركزه ولم يرَ أحدهما الآخر بعد ذلك، ثم جُرح جمس مور وفقد بعض أعضائه في إحدى وقائع فرجينيا فرجع إلى بيته في ولاية برك، ثم مضى عليه سنين عديدة وفي هذه المدة بلغه خبر من القائد فديرال الذي سقاه كأس الماء في ساحة الحرب أنه وهب له عشرة آلاف دينار جزاءً لصنيعه يعطاها مدة أربع سنين أي يعطى كل سنة ألفين وخمسمائة دينار.
المتوكل وعبيد الله بن يحيى
أبطأ عبيد الله بن يحيى عن الديوان، فأرسل إليه المتوكل يتعرف خبره فكتب إليه:
فبعث إليه بألف دينار.
المستعطى بالحلم
دخل ابن دعبل على بشر بن مروان لما ولي الكوفة، فقعد بين السماطين ثم قال: أيها الأمير إني رأيت رؤيا فأذن لي في قصها، فقال: قل، فقال:
قال له بشر بن مروان: كل شيء رأيت فهو عندي إلا البغلة فإنها دهماء فارغة قال: صحيح ما تقول إلا أني غلطت.
البطين الشاعر وابن يحيى الأرميني
قال البطين الشاعر: قدمت على ابن يحيى الأرميني فكتبت إليه:
فوقع لي في أسفل كتابي، أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، ثم أمر لي بكل شيء ذكرته في أبياتي ورأيته في منامي.
التيمي والفضل بن الربيع
دخل التيمي إلى الفضل بن الربيع في يوم عيد فأنشده:
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
الصانع وصائغ الخليفة
حكي أن رجلًا من أبناء الناس كانت له يد في صناعة الصياغة، وكان واحد أهل زمانه، فساء حاله وافتقر بعد غناه، فكره الإقامة في بلده فانتقل إلى بلد آخر، فسأل عن سوق الصاغة فوجد دكانًا لمعلم السلطنة وتحت يده صناع كثيرون يعلمون الأشغال للسلطنة، وله سعادة ظاهرة ما بين مماليك وخدم وقماش وغير ذلك، فتوصل الصائغ الغريب إلى أن بقي من أحد الصناع الذين في دكان هذا المعلم، وأقام يعمل عنده مدة، وكلما فرغ النهار دفع له درهمين من فضة وتكون أجرة عمله تساوي عشرة دراهم فيكسب عليه ثمانية دراهم في كل يوم، فاتفق أن الملك طلب المعلم وناوله فردة سوار من ذهب مرصعة بفصوص في غاية من الحسن قد عُملت في غير بلاده، كانت في يد إحدى حظاياه فانكسرت، فقال له: الحمها، فأخذها المعلم وقد اضطرب عليه في عملها، فلما أخذها وأراها للصناع الذين عنده وعند غيره، فما قال له أحدهم أنه يقدر على عملها، فازداد المعلم لذلك غمَّا ومضت مدة وهي عنده لا يعلم ما يصنع، فاشتد الملك على إحضارها، وقال: هذا المعلم نال من جهتنا هذه النعمة العظيمة ولا يحسن أن يلحم سوارًا، فلما رأى الصائغ الغريب شدة ما نال المعلم قال في نفسه: هذا وقت المروءات أعملها ولا أؤاخذه ببخله عليَّ وعدم إنصافه، ولعله يُحسن إلي بعد ذلك، فحط يده في درج المعلم وأخذها وفك جواهرها وسبكها، ثم صاغها كما كانت ونظم عليها جواهرها، فعادت أحسن مما كانت، فلما رآها المعلم فرح فرحًا شديدًا، ثم مضى بها إلى الملك فلما رآها استحسنها وادعى المعلم أنها صنعته، فأحسن إليه وخلع عليه خلعة سنية، فجاء وجلس مكانه فبقي الصانع يرجو مكافأته عما عامله به فما التفت إليه المعلم، ولما كان النهار ما زاده على الدرهمين شيئًا، فما مضت إلا أيام قلائل وإذا الملك اختار أن يعمل زوجي أساور على تلك الصورة، فطلبه ورسم شكل ما يحتاج إليه وأكد عليه في تحسين الصنعة وسرعة العمل، فجاء إلى الصانع وأخبره بما قال الملك، فامتثل مرسومه ولم يزل منتصبًا إلى أن عمل الزوجين وهو لا يزيده شيئًا على الدرهمين في كل يوم ولا يشكره ولا يعده بخير ولا يتجبل معه، فرأى المصلحة أن ينقش على زوج منهما أبياتًا يشرح فيها حاله ليقف عليها الملك، فنقش في باطن أحدهما هذه الأبيات نقشًا خفيًّا يقول:
وعزم الصانع على أنه إن ظهرت الأبيات للمعلم شرح له ما عنده، وإن غم عليه ولم يرها كان ذلك سبب توصله إلى الملك، ثم لفهما في قطن وناولهما للمعلم فرأى ظاهرهما ولم يرَ باطنهما لجهله بالصنعة، ولما سبق له في القضاء فأخذهما المعلم ومضى بهما فرحًا إلى الملك وقدمهما إليه، فلم يشك في أنهما صنعته فخلع عليه وشكره، ثم جاء فجلس مكانه ولم يلتفت إلى الصانع وما زاده في آخر النهار شيئًا عن الدرهمين، فلما كان اليوم الثاني خلا خاطر الملك فاستحضر الحظية التي عمل لها السوارين الذهب، فحضرت وهما في يديها فأخذهما ليعيد نظره فيهما وفي حسن صنعتهما، فقرأ الأبيات فتعجب وقال: هذا شرح حال صانعهما والمعلم يكذب، فغضب عند ذلك وأمر بإحضار المعلم، فلما حضر قال له: من عمل هذين السوارين، قال: أنا أيها الملك، قال فما سبب نقش هذه الأبيات، قال: لم يكن عليهما أبيات، قال: كذبت ثم أراه النقش، وقال: إن لم تصدقني الحق لأضربن عنقك، فأصدقه الحق، فأمر الملك بإحضار الصانع، فلما حضر سأله عن حاله فحكى له قصته وما جرى له مع المعلم، فرسم الملك بعزل المعلم وأن تسلب نعمته وتُعطى للصانع وأن يكون عوضًا عنه في الخدمة، ثم خلع عليه خلعة سنية وصار مقدمًا سعيدًا، فلما نال هذه الدرجة وتمكن عن الملك تلطف به حتى رضي عن المعلم الأول وصارا شريكين ومكثا على ذلك إلى آخر العمر.
إحسان كريم إلى عدوه
كان بين غسان بن عباد وبين علي بن موسى عداوة عظيمة، وكان علي بن موسى ضامنًا أعمال خراج كضياع وغيره، فبقيت عليه بقية مقدار أربعين ألف دينار، فألح عليه المأمون بطلبها وشدد بها إلى أن قال لعلي بن صالح حاجبه، أمهله ثلاثة أيام فإن أحضر المال وإلا فاضربه بالسياط حتى يدفع المال أو يتلف، فانصرف علي بن موسى من دار المأمون وقد ارتاع وهو لا يعرف وجهًا يتجه إليه، فقال له كاتبه: إذا عرجت على غسان بن عباد وعرفته خبرك رجوت أن يعينك على أمرك، فقال له: إن بيني وبينه من العداوة ما عرفت، فقال له: نعم، ولكن الرجل ريحي كريم لا تمنعه العداوة التي بينكما عن فعل المعروف الذي هو من شيم الكرام، فقام علي بن موسى ومضى إلى أن جاء ودخل مع كاتبه على غسان بن عباد، فلما رآه غسان قام إليه وتلقاه جميلًا ووفاه حقه في الخدمة، وقال له: دع الأمر الذي بيني وبينك على حاله ولكن دخولك إلى داري توجب حرمته بلوغ ما رجوته مني، فاذكر إن كان لك حاجة، فقص كاتبه عليه القصة، فقال له غسان: أرجو أن يكفيك الله تعالى حقيقة أمرك، ولم يزد على ذلك شيئًا، فقام علي بن موسى من عنده وهو نادم على قصده غسان، ويئس من أمره وقال لكاتبه ما أفدتني بدخولي على غسان سوى تعجيل الشماتة والهوان، فلم يصل علي بن موسى إلى داره حتى حضر إليه كاتب غسان ومعه البغال وعليها المال، فتقدم علي بن موسى وتسلمه وبات فرحًا مسرورًا، وعند الصباح بكر إلى دار أمير المؤمنين ليدفع المال، فوجد غسان قد سبقه هناك ودخل على المأمون وقال له: يا أمير المؤمنين، إن لعلي بن موسى بحضرتك حرمة وخدمة وسابق أصل، وقد لحقه من الخسران في ضمانه ما تعارفه الناس، وقد توعدته من الضرب بالسياط ما أطار عقله وأذهب لبه، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجزيني من حسن كرمه ببعض ما عليه فهي صنيعة بي من إحسانه، ولم يزل يتلطف بالمأمون حتى حطَّ عنه نصف ما عليه واقتصر منه بالنصف عشرين ألف دينار، فقال غسان للمأمون: سمعًا وطاعًة، ولكن على أن يجدد أمير المؤمنين له الضمان ويخلع عليه لكي تقوى نفسه ويعرف بها مكان الرضى عليه من أمير المؤمنين أبقاه الله، فأجاب المأمون إلى ذلك، فقال له غسان: إن شاء أمير المؤمنين فلتحمل الدواة إلى حضرته لتوقيع ما سمح به فيما قال، قال: افعل فحملت الدواة إلى المأمون وقدمها عنان له فوقع حينئذ لعلي بن موسى، وخرج علي بن موسى والخلع على كتفيه والتوقيع بيده، فلما حضر إلى داره حمل من المال عشرين ألف دينار وأرسلها إلى غسان وشكره على جميل فعله، فقال غسان لكاتبه: والله ما شفعت به عند أمير المؤمنين إلا لتتوفر عليه العشرون ألف دينار وينتفع بها هو، فامضِ بها إليه وردها فلست والله آخذها فهي له، فلما رجع الكاتب إلى علي بن موسى مولاه وبلغه ما قال، عرف عند ذلك قدر ما فعله غسان من الجميل، ولم يزل يخدمه ويوقره إلى آخر العمر.
الأصمعي وأحد الكرماء
حكى الأصمعي قال: قصدت في بعض الأيام رجلًا كنت آتيه أحيانًا كثيرة لكرمه وجوده، فلما أتيت داره وجدت على بابه بوابًا فمنعني من الدخول إليه وقال لي: والله يا أصمعي ما أوقفني على بابه لأمنع مثلك إلا لرقة حاله وقصور يده وما هو فيه من الضيق، فقلت له: أريد أن أكتب له رقعة أتوصلها إليه، فقال: سمعًا وطاعة، فأحضر لي قرطاسًا وقلمًا ودواة فأخذت وكتبت له شعرًا:
ثم طويت الرقعة ودفعتها إلى الحاجب وقلت له: أوصل هذه الرقعة إليه، ففعل ومضى بالرقعة قليلًا ثم عاد إليَّ بالرقعة عينها، وقد كتب تحت شعري جوابا شعرًا:
ومع الرقعة صرة فيها خمسمائة دينار، فتعجبت من سخائه مع قلة ما بيده، فقلت في نفسي: والله لأتحفنَّ هارون الرشيد بهذا الخبر، فانطلقت حتى أتيت قصر الخلافة، فاستأذنت ودخلت فسلمت عليه بالخلافة، فلما رآني قال لي: من أين يا أصمعي؟ قلت: من عند رجل من أكرم الأحياء من بعد أمير المؤمنين، قال: ومن هو؟ فدفعت له الصرة وسردت عليه الخبر، فلما رأى الصرة قال: هذه من بيت مالي ولا بد لي من الرجل، فقلت: والله يا أمير المؤمنين إني أستحي أن أكون سبب روعه بإرسالك إليه، فقال: لا يغمك ذلك، ثم التفت إلى بعض خاصته وقال له امضِ مع الأصمعي، فإذا أراك دارًا فادخل وقل لصاحبه: أجب أمير المؤمنين، وليكن دعاؤك له بلطافة من غير أن تزعجه، قال الأصمعي: فمضينا ودعونا الرجل فجاء ودخل على أمير المؤمنين وسلم بالخلافة، فقال له هارون الرشيد: ألست أنت الذي وقفت لنا بالأمس وشكوت لنا رقة حالك وقلت: إنك في ضيق شديد من الاحتياج فرحمناك ووهبنا لك هذه الصرة لتصلح بها حالك، وقد قصدك الأصمعي ببيت من الشعر فدفعتها له، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، والله ما كذبت فيما شكوته لأمير المؤمنين من رقة حالي وشدة احتياجي، ولكنني استحييت من الله تعالى أن أعيد قاصدي إلا كما أعادني أمير المؤمنين، فقال هارون الرشيد: لله در بطن أتاك فما ولدت العرب أكرم منك، ثم بالغ بإكرامه وخلع عليه وجعله من خاصته.
والي البصرة والخيزران
لما ولِي محمد بن سليمان البصرة أهدى إلى الخيزران مائة وصيف بيد كل وصيف جامٌ من ذهب مملوءًا مسكًا، فقبلت ذلك وكتبت إليه وقالت: «عافاك الله إن كل ما وصل إلينا منك ثمن رأينا فيك فقد بخستنا بالقيمة وإن كان وزن ميلك إلينا فظننا فيك فوقه».
إكرام ثلاثة أصدقاء مخلصين بعضهم بعضًا
نُقل عن الواقدي قال: كان لي صديقان أحدهما هاشمي وكنا في الصداقة كنفس واحدة، فنالتني ضيقة شديدة وقد حضر العيد، فقالت لي امرأتي: يا مولاي أمَّا نحن فقد نصبر على البؤس والشدة، وأمَّا صبياننا هؤلاء فقد تقطَّع قلبي عليهم حزنًا ورحمةً لأنهم يرون صبيان جيراننا ومعارفنا وقد تزينوا في العيد وهم فرحون، فلا بأس إذا احتلنا في ما يمكننا أن نصرفه في كسوتهم، فرأيت كلامها صوابًا وقد قطعت فؤادي من هذا الحديث، ففكرت في الحيلة وكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة عليَّ بما يمكنه ويحضره، فوجه إليَّ كيسًا فيه ألف درهم، فما استقر قراره حتى كتب لي صديقي الآخر يشكو إليَّ مثلما شكوت أنا إلى صديقي الهاشمي، فوجهت إليه بالكيس على حاله، وخرجت إلى المسجد وأنا مستحي من امرأتي، فلما دخلت عليها وقد علمت بما فعلت لم تعنفني، فبينما أنا كذلك إذ دخل عليَّ صديقي الهاشمي ومعه الكيس وهو باقٍ بختمه فقال: اصدقني عما فعلته بما وجهت به إليك، فأخبرته بالحكاية على حقيقتها، فقال: إنك أرسلت تطلب مني التوسعة وأنا والله ثم والله لا أملك شيئًا سوى هذا الكيس الذي بعثت به إليك، ثم إني بعدما أرسلته لك كتبت إلي صديقنا أسأله المواساة إن كان يمكنه فوجه إليَّ الكيس بذاته وهو بختمي وها أنا ذا أتيت به إليك، وبحيث إننا كلنا في ضيق ولا يوجد عند أحدنا غير هذا الكيس فهلم نقتسمه، ثم إنه فتحه وأخرج منه مائة درهم للمرأة وفرق علي كلٍّ منا أنا وصديقي ثلاثمائة ألف درهم وأخذ هو مثلنا ثلاثمائة، وبلغ المأمون ذلك فأرسل استدعاني وسألني عن القضية فشرحتها له كما هي، فاستدعى صديقي وأمر لكل منا بألفي دينار ولامرأتي بألف دينار.
قيل في إسحاق بن عبد الرحمن
كان في بغداد رجل من أهل السخاء رفيع القدر رقيق الجانب قال فيه أحد الشعراء:
رثاء إسحاق بن عزيز
أنشد الزبير الشاعر يرثي إسحاق بن عزيز:
عمارة بن حمزة وأيوب المكي
بعث أيوب المكي بعض أولاده إلى عمارة بن حمزة فأدخله الحاجب، قال: ثم دنا إلى ستر مسبل، فقال: ادخل فدخلت، فإذا عمارة مضطجع محول وجهه إلى الحائط فقال لي الحاجب: اذكر حاجتك، فقلت: لعله نائم، قال: لا، فقلت: جعلني الله فداك، أخوك يقرئك السلام ويذكر دينًا عليه ويقول: بهظني وسد وجهي ولولاه كنت موضع رسولي تسأل أمير المؤمنين قضاءه عني، فقال: وكم دين أبيك، قلت: ثلاثمائة ألف درهم، فقال: وفي مثل هذا القدر أكلم أمير المؤمنين، يا غلام احملها معه، وما التفت إليَّ ولا كلمني بغير هذا.
عمارة والفضل بن الربيع
قال الفضل بن الربيع: كان أبي يأمرني بملازمة عمارة، فاعتل عمارة وكان المهدي سيئ الرأي فيه، فقال له يومًا: يا أمير المؤمنين إن مولاك عمارة عليل وقد أفضى إلى بيع فرشه وكسوته، قال: غفلت عنه وما كنت أظن أنه بلغ إلى هذه الحالة، احمل إليه خمسمائة ألف درهم يا ربيع وأعلمه أن له عندي بعدها ما يحب، فحملها أبي من ساعته، وقال لي: اذهب بها إلى عمك وقل له: أخوك يقرئك السلام، ويقول: أذكرت أمير المؤمنين أمرك فاعتذر عن غفلته عنك وأمر لك بهذه الدراهم، وقال لك: عندي بعدها ما تحب، فأتيته بالمال ووجهه إلى الحائط فسلمت، فقال لي: من أنت، فقلت: ابن أخيك الفضل بن الربيع، فقال: مرحبًا بك، وأبلغته الرسالة، فقال: قد كان طال لزومك لنا وقد كنا نحسب أن نكافئك على ذلك، ولم يمكنا قبل هذا الوقت انصرف فهي لك، فهبته أن أردها عليه فتركت البغال على بابه وانصرفت إلى أبي فأعلمته، فقال: يا بني خذها بارك الله لك فيها، عمارة ليس ممن يهب فيرد، وكان أول مالٍ ملكته.
الحجاج والرجل
خطب الحجاج فأطال، فقام رجل فقال: الصلاة فإن الوقت لا ينتظرك والرب لا يعذرك، فأمر بحبسه فأتاه قومه وزعموا أنه مجنون وسألوه أن يخلي سبيله، فقال: إن أقر بالجنون خليته، فقال: معاذ الله لا أزعم أن الله ابتلاني وقد عافاني، فبلغ ذلك الحجاج فعفا عن صدقه.
عفو عبد الملك
تغيظ عبد الملك بن مروان على رجاء بن حيوة، فقال: والله لئن أمكنني الله منه لأفعلن به كذا وكذا، فلما صار بين يديه، قال له رجاء بن حيوة: يا أمير المؤمنين قد صنع الله ما أحببت فاصنع ما أحب الله، فعفا عنه وأمر له بصلة.
مدعي النبوة والملك
حكي أن رجلًا ادعى النبوة أيام أحد الملوك، فلما حضر بين يديه قال له: أنت نبيٌّ، قال: نعم، قال: وإلى من بعثت، قال: إليك، قال: أشهد أنك سفير أحمق، قال: إنما يبعث لكل قوم مثلهم، فضحك الملك وأمر له بشيء.
الحجاج والشيخ
خرج الحجاج يومًا للتنزه فصرف عنه أصحابه وانفرد بنفسه فلاقى شيخًا من بني عجل فقال له: من أين أنت يا شيخ؟ قال: من هذه القرية، قال: ما رأيكم بحكام البلاد، قال: كلهم أشرار يظلمون الناس ويختلسون أموالهم، قال: وما قولك في الحجاج، قال: هذا أنجس الكل سوَّد الله وجهه ووجه من استعمله على هذه البلاد، قال الحجاج: أتعرف من أنا؟ فقال: لا والله، قال: أنا الحجاج، قال: أنا فداك وأنت تعرف من أنا، قال: لا، قال أنا زيد بن عامر مجنون بني عجل أُصرع كل يوم مرة في مثل هذه الساعة، فضحك الحجاج وأجازه.
قيس بن سعد والأعرابي
قيل لقيس بن سعد: هل رأيت قط أسخى منك، قال: نعم، نزلنا بالبادية على امرأة فحضر زوجها فقالت: إنه نزل بك ضيفان، فجاء بناقة فنحرها، وقال: شأنكم، فلما جاء الغد جاء بأخرى ونحرها، وقال: شأنكم، فقلت: ما أكلنا من التي نُحرت لنا البارحة إلا اليسير، فقال: إني لا أُطعم أضيافي الغاب، فأقمنا عنده أيامًا والسماء تمطر وهو يفعل كذلك، فلما أردنا الرحيل وضعنا في بيته مائة دينار وقلنا للمرأة: اعتذري لنا منه، ومضينا، فلما تواسط النهار إذا رجل يصيح خلفنا: قفوا أيها الركب اللئام أعطيتمونا ثمن القرى، لتأخذنها وإلا طعنتكم برمحي، فأخذناها وانصرف.
حجظة البرمكي
قال أبو الحسن المعروف بجحظة البرمكي:
وصف المعروف والكرم
قال رجل من فزارة يصف المعروف والكرم:
وقال أبو دلف العجلي:
المتوكل وإبراهيم بن المدبر
قال إبراهيم بن المدبر: مرض المتوكل مرضًا خيف عليه منه، ثم عوفي وأذن للناس في الوصول إليه فدخلوا على طبقاتهم كافة ودخلت معهم، فلما رآني استدناني حتى قمت وراء الفتح ونظر إليَّ مستنطقًا فأنشدته:
فقال المتوكل للفتح: إن إبراهيم ينطق عن نية خالصة وودٍّ محض وما قضينا حقه، فتقدم بأن يحمل إليه الساعة خمسون ألف درهم.
أبو سعيد وأبو تمام الشاعر
قال أبو تمام يمدح أبا سعيد وكان قد أجازه وأكرم مثواه:
الواثق وحسين بن الضحاك
حدث إبراهيم بن الحسن بن سهل، قال: كنا مع الواثق بالفاطول وهو يتصيد فصاد صيدًا حسنًا من الأوز والدراج وطير الماء وغير ذلك، ثم رجع فتغذى ودعا بالجلساء والمغنين وطرب، وقال: من ينشد؟ فقام الحسين بن الضحاك فأنشده:
حتى انتهى إلى قوله:
فقال الواثق: ما بعد الراحة ولذة الدعة شيءٌ، فلما انتهى إلى قوله:
فطرب الواثق وضرب الأرض بمخصرة كانت في يده وقال: لله درك يا حسين ما أقرب قلبك من لسانك، فقال: يا أمير المؤمنين جودك ينطق المفحم بالشعر والجاحد بالشكر، فقال له: لن تنصرف إلا مسرورًا وأمر له بخمسين ألف درهم.
المتوكل وإبراهيم بن العباس
لما عقد المتوكل لولاة العهود من ولده ركب بسر من رأى ركبة لم يرَ أحسن منها وركب ولاة العهود بين يديه والأتراك بين أيديهم الطبرزينات المحلاة بالذهب، ثم نزل في الماء فجلس فيه والجيش معه في الجوانحيات وسائر السفن، وجاء حتى نزل في القصر الذي يقال له العروس وأذن للناس فدخلوا إليه، فلما تكاملوا بين يديه مثل إبراهيم بن العباس بين الصفين فاستأذن في الإنشاد فأذن له فأنشد:
ثم أقبل على ولاة العهود فقال:
الملك المؤيد وصفي الدين الحلي
حمل الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل إلى صفي الدين الحلّي تحفًا وكسوات البيت ومهماته، فقال يمدحه ويشكر فضله:
البحتري وأبو تمام
قال البحتري: قال لي أبو تمام: بلغني أن بني حميد أعطوك مالًا جليلًا فبم مدحتهم؟ فانشدني شيئًا منه، فأنشدته، فقال لي: كم أعطوك؟ فقلت: كذا، فقال لي: لقد ظلموك وما وفوك حقك، والله فإن بيتًا منها خير مما أخذت، ثم أطرق قليلًا فقال: لعمري لقد مات الكرم وذهب الناس وغاضت المكارم وكسدت أسواق الأدب، أنت والله يا بني أمير الشعراء، غدًا بعدي، فقمت فقبَّلت رأسه ويديه ورجليه، وقلت: والله إن هذا القول أسرُّ إليَّ مما وصل منهم.
طاهر بن محمد والبحتري
من أخبار البحتري أنه كان بحلب شخص يقال له طاهر بن محمد الهاشمي مات أبوه وخلف له مقدار مائة ألف دينار فأنفقها على الشعراء والزوار في سبيل الله، فقصده البحتري من العراق فلما وصل إلى حلب، قيل له: إنه قعد في بيته لديون ركبته، فاغتم البحتري لذلك غمًّا شديدًا وبعث المدح إليه مع بعض مواليه، فلما وصلته ووقف عليها بكى ودعا بغلام له، وقال: بع داري، فقال له: أتبيع دارك وتبقى على رءوس الناس، فقال: لا بد من بيعها، فباعها بثلاثمائة دينار، فأخذ صرة وربط مائة دينار وأنفذها إلى البحتري وكتب إليه معها رقعة فيها هذه الأبيات:
فلما وصلت الرقعة إلى البحتري رد الدنانير وكتب إليه:
فلما عادت الدنانير إليه حلَّ الصرة وضم إليها خمسين دينارًا أخرى وحلف أن لا يردها عليه وأرسلها، فلما وصلت إلى البحتري أنشأ يقول:
رب المروءة والفقير
حُكِي أن أحد أصحاب المروءة كان له جار فقير، فبينما كان ذات يوم مارًّا بدار ذاك الرجل إذ سمع ابنته تقول لأمها: يا أمي ليس عندنا الليلة ما نأكله، فقالت لها أمها: صبرًا لعل الله يشفق علينا فينقذنا من مخالب الجوع، فلما سمع الرجل ذلك بكى من الحنان، وقال لابنةٍ له: خذي هذه الدراهم إلى بيت فلان جارنا ولا تدعي أحدًا يراك أو يعلم بما تفعلين، فذهبت الابنة إلى بيت الفقير فرأت بنته في الباب فأعطتها الصرة وقالت ساترة وجهها: خذي هذه الدراهم، فسألتها عن اسمها فلم تجب، فعادت إلى أمها بتلك الصرة، فقالت لها: من أعطاك هذه؟ فقالت: لا أعلم لأن الذي دفعها إليَّ كان متنكرًا، فأخذت تدعو وأهل البيت لذلك الرجل المحسن الذي بعثه الله إليهم من حيث لا يدرون.
عنترة وشداد وسمية
غضب شداد يومًا على ابنه عنترة وكان قد وشي به إليه أحد حاسديه، فهمَّ بضربه وكان فتًى صغيرًا، فمنعته سمية فلم يمتنع بل نزل عليه بسوط كان في يده، فلما رأت سمية ذلك فاض دمعها وتحدر وأمسكت السوط بيدها فدفعها شداد في صدرها وأراد أن يضربها، فألقت نفسها على عنترة فجذبها فوقع الرداء عن رأسها وبقيت مكشوفة الرأس منزعجة الحواس وقالت: والله ما أمكنك من ضربه حتى تضربني قبله، فرمى السوط من يده، وقال: ويلك يا سمية تهتكين نفسك لأجل هذا العبد ولا تدعيني أصل إليه وقد كنت قبلًا تحرضيني عليه، فما الذي أوجب هذه المحبة، فخجلت سمية وأنشدت تقول:
ثم قالت له: لقد هاجمنا بنو قحطان فسبوا نساءنا وكادوا أن يقتلونا لولا عنترة البطل الهمام، أفيحمل في شرع المروءة أن نعامله على ما فعل بهذه المعاملة القاسية ثم أنشدت:
فرق قلبه لعنترة وفكه من الوثاق وقد عجب من كتمانه ذلك وانقياده إلى الكتاف ثم اعتذر له وأطلقه.
عنترة بن شداد عند كسرى
كان عنترة بن شداد عند كسرى أنوشروان وكان مكرمًا عنده فحسده بعضهم وهَمَّ بقتله، فلما بلغ كسرى ذلك غضب وأمر بقتل ذاك الرجل، وقال لمن حوله: إن هذا يُفْدَى بألوف من البشر ويستحق أن يُكرم ويعتبر، فامتثل عنترة بين يديه، وقال: مولاي بالله لا تفعل فإن إحسانك قد سبق والعفو بمثلك أليق وأنا قد عزمت على الرحيل، وما أشتهي أن يَذْكُرَنِي أحد إلا بالجميل، فعجب كسرى من حسن أدبه وبَشَّ في وجهه ثم عفا عن الرجل، وبعد قليل دخل كسرى إلى بستان حافل بالأشجار مزدان بأحاسن الأزهار فنصب له فيه خيمة فجلس، وعنترة إلى جانبه وقد قدم لهم الشراب، وجهزت الأطعمة، فنهض المنذر وقال: أنشدنا يا أبا الفوارس شيئًا من الشعر فأنشد:
فطرب كسرى ومن حضر، وقال له المنذر: حياك الله يا شاعر العرب، ما أرق شعرك وأعذب، ولما أراد عنترة الرحيل قال له كسرى: لو أعطيك يا عنترة على كل بيت ألف دينار لكان قليًلا في مقابلة أبياتك الحسان، لأن العطايا تنفد ومدحك يبقى على طول الزمان، فاطلب ما شئت وأطلق في ميدان الطلب لسانك، فشكره عنترة، وقال: لقد كفيت أيها الملك بجودك عن طلب المال، ولكن إذا تلطف الملك وتكرم انطلق لسان العبد وتكلم، فإني قد بلغت بإحسانك هذه الرتب العليا ولا أعود إلا بما أفتخر به على الغير وأزين به ابنة عمي عبلة بنت مالك فأمر له كسرى بتاج من الذهب وجواهر كريمة وحلي.
عنترة والأسد عند كسرى
لما أسر كسرى عنترة في أحد حروبه وأشار عليه الوزير بقتله أمر أن يؤتى له بأسد كان قد ذخره لمثل هذه الحال، وبينما كان عنترة ينتظر ذاك الأسد وإذا به قد أقبل رافلًا بالزناجير ومن حوله رجال كثيرة تقوده إليه، فهجم عليه عنترة مشهرًا الحسام وأنشد يقول:
وما زال يجاوله حتى استمكن منه فأهوى عليه بسيفه فخرَّ صريعًا، فعجب كسرى من شجاعته وقبَّلهُ بين عينيه ثم أطلقه وأمر له بأحسن الهدايا وأجمل التحف.
عنترة بن شداد وسمية
مر عنترة يومًا بأرض بني غيلان وقد اشتد الحرُّ وسطعت الشمس فعكف على شجرة يستظل بها مع أخيه شيبوب، فما لبث أن سمع أنين حزن وقائلًا يقول: «قاتلك الله يا مالك ما أقساك»، ثم سمع صوتًا أقوى ورجلًا يترنم بهذه الأبيات:
فلما سمع عنترة ذلك ظن نفسه في حلم ومال إلى الصوت ميل الآسف الحنون فرأى بجانب نهر أمة سوداء بين يديها غلام شاب تارةً يغمض عينيه وطورًا يشير بيديه والأمة قاعدة إلى جانبه تبكي وتقبل وجهه حزنًا وحنانًا، فدنا منها عنترة، وقال: يا أمة الله، ما بال هذا الفتى خامد الأنفاس لا يسمع مقالًا ولا يلتفت يمينًا ولا شمالًا، فقالت له الأمة: والله يا وجه العرب ما كانت هذه حاله وإنما الأيام تأتي بالعجب فقال: ومن يكون هذا الفتى، قالت: عنترة واسم أمه زبيبة، وبينما كان يومًا يرعى الجمال إذ رأى فتاة حسناء تدعى عبلة فوقع حبه في قلبها، فهجم على أحيائها يومًا الأمير يقظان بن جياش بن مزاحم فقتل أهلها وأخذها سبية له وهو مقيم في ذاك السواري وغادر هذا المسكين هائمًا حزينًا لا يعرف هداه ولا يرى له ناصرًا على أعداه، فعجب عنترة من ذي المشابهة وتوارد الأسماء والحوادث ووعدها خيرًا، ومضى نحو ذاك الفارس وإذا به يشرب الخمر والجارية لديه تبكي وتنتحب وقد همت أن تلقي نفسها حزنًا إلى الأرض وهي تصيح بأعلى صوتها: «لن تنال أيها النذل مني منالًا، فوالله لا خنت ابن عمي عنترة ولو قطعتني إربًا».
فلما سمع عنترة كلامها خيل له أن عبلة تناديه من فمها فهجم عليه هجمة الأسد وقتله شر قتلة وأنقذ الفتاة من شره وردها إلى حبيبها.
مارية أم الحارث وحسان بن ثابت
قال حسان بن ثابت الشاعر يمدح مارية وآل جفنة بهذه الأبيات:
عفو عمرو بن الحارث
حارب عمرو بن الحارث قومًا من العرب وسبى نساءهم وأولادهم، وكان من جملة من سبى أخت عمرو بن الصعق العدواني، فلم يشعر إلا وأخوها قد وقف به وأنشد:
فوقعت هذه الأبيات في قلبه، وقال له: أمنك الله على من لك عندي وأمن كل الناس على من وقع لهم من السبايا وجنح عن عزمه.
عروة بن الورد
ويلقب أيضًا بعروة الصعاليك لأنه كان يعول الضعيف والمريض في دياره ويقضي حوائجهم ومن قوله في المعروف:
زهير وبنو عامر
لما بلغ زهيرًا خبر قتل ابنه شاس في أحياء بني عامر زحف بعسكر جرار لمحارتبهم وأخذ الثأر، فلما بلغوا ديارهم تقدم إلى الملك زهير ملاعب الأسنة غشم بن مالك أمير بني عامر، وقال: أيها الملك فيم أتيت أرضنا؟ فإن كنت زائرًا فعلى الرحب والسعة، وإن جئت متصيدًا فأهلًا وسهلًا بك، فقال زهير: لا والله ما جئتكم زائرًا ولا متصيدًا، إنما جئت لأخذ الثأر ممن قتلوا ولدي شاسًا، قال: وما الذي غير ما بيننا من الوداد، قال: قتل شاس ولدي في أحيائكم، قال غشم: ومن قتل ولدك وأحرق عليه كبدك؟ ومن أعلمك بذلك الخبر؟ قال: عبده سالم بن مسهر، قال: وهل تريد أن تأخذ البريء بالسقيم وتصدق فينا قول عبد زنيم؟ ولو فرضنا أنه صادق فكم يجوز أرضنا ليلًا من سلال وسارق وربما أدرك ولدك برجل غريب ففعل به ما فعل ولم يخشَ محذورًا، فإن شئت أن تعاملنا بالجفاء بعد الوداد والصفاء فمعاذ الله أن نغير ما بيننا وبينك من المحبة والوفاء، فكن بنا متلطفًا وارحم الأرامل والضعفاء، فلما سمع الملك زهير قوله رق لهم وعفا عنهم خوفًا من عاقبة البغي وعاد على أعقابه.
الجود والأجواد
قيل لأعرابي: ما القرى؟ فقال: نار يعلو شرفها وخيمة يوطأ كنفها، وقيل: تلقى النزيل بالوجه الجميل، وقال الله تعالى في مدح قوم: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (الإنسان: ٨)، وقال النبي ﷺ: «إذا نزل الضيف بقومٍ نزل برزقه وإذا ارتحل عنهم ارتحل بذنوبهم». وقيل لبعضهم: ما الكرم؟ فقال: طعام مبذول ونائل موصول ووفاءٌ لا يحول، وقال الإمام علي: لأن أختبز صاعًا أو صاعين فأدعو إليه نفرًا من إخواني أحب إليَّ من أن أعتق رقبة. وقال الواثق يومًا لأحمد بن أبي داود تضجرًا لكثرة حوائجه: قد خلت بيوت المال لطلباتك للائذين بك والمتوسلين إليك، فقال: يا أمير المؤمنين هي نتائج شكرها متصل بك وذخائر أجرها مكتوب لك وما لي من ذلك إلَّا أن أخلد المدح فيك، فقال: أحسنت وشفعه. وقيل للأحنف: ما السخاء؟ قال: الاحتيال للمعروف، قيل: فما اللؤم؟ قال: الاستقصاء على الملهوف. وقيل: السخي من كان بماله متبرعًا وعن مال غيره متورعًا. وقيل للصوفي: مَن الجواد من الناس؟ فقال: الذي يؤدي ما افترض عليه، وقيل للحسن: مَن السخي؟ فقال: من لو كانت الدنيا له فأنفقها لرأى عليه بعد ذلك حقوقًا. وقال بعضهم: الناس أربعة: جوادٌ وهو الذي يعطى حظ دنياه وآخرته، بخيل وهو الذي لا يعطى واحدًا منها، مسرف وهو الذي جعل ماله لدنياه، مقتصد وهو الذي أعطى كلًا بقدره. وقال الله تعالى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ (البقرة: ١٩٧). وقال النبي ﷺ: «أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة»، وقال: «السخاء شجرة من أشجار الجنة أغصانها متدلية في الدنيا فمن أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى الجنة والبخل شجرة من أشجار النار فمن أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى النار». وقال ابن عباس: صاحب المعروف لا يقع وإن وقع وجد متكأ. وقيل لأحد الحكماء ما الذي يشبه فعل الله من أفعال العباد؟ فقال: الإحسان إلى الناس. وقال النبي ﷺ: (تجافوا عن ذنب السخي فإن الله تعالى آخذ بيده). وقال: سادة الدنيا في الدنيا الأسخياء وفي الآخرة الأتقياء. وقيل: من بذل الدراهم أحبه الناس طوعًا أو كرهًا، وقيل لحكيم: هل شيء خير من الدراهم؟ قال: معطيها. وقيل للحسن: كيف نزلت بالأطراف؟ فقال: هي منازل الأشراف يتناولون من أرادوا بالقدرة عليه ويتناولهم من أرادهم بالحاجة إليهم. وقيل لبعض من اتخذ دعوة: أسرفت، فقال: ليس في الشرف إسراف. وقال المزني: إذا أتاك ضيف فلا تدعه ينتظر ما ليس عندك وتمنعه ما هو عندك بل قدم إليه وأحضر، وقيل: الضيف إلى القليل العاجل أحوج منه إلى الكثير الآجل. وقال النبي ﷺ لبعض نسائه: (آكلي ضيفك فالضيف يستحي أن يأكل وحده)، وقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، ونزل ضيف بجعفر بن أبي طالب متنكرًا، فعاونه غلمانه عند نزوله، فلما أراد الارتحال لم يعنه غلامٌ، فشكاهم فقال: إن غلماننا لا يعينون على الارتحال عنا. وقال ابن عون: ما رأيت أسخى بالطعام من الحسن وابن سيرين لأن الحسن يقول: الطعام أهون من أن يحلف عليه، وابن سيرين يقول: أقسمت لتأكلن. وقال ابن عباس: ما من داخل إلا وله حيرة فأبدؤه بالسلام،وما من مدعو إلى طعام إلا وله حشمة فأبدؤه بالملاطفة. وقيل: محادثة الإخوان تزيد لذة الضيف الآكل، وقال النبي ﷺ: (شركم من أكل وحده وضرب عبده ومنع رفده). وقيل لأعرابي: ممن أنت؟ قال: ممن لا يزجر وفودهم ولا يُسِّر وقودهم، وسُئل آخر. فقال: ممن يهتدي برأيه الصحب ويستدلُّ بناره الركب. وقال أحدهم يصف قومًا كرامًا: لهم نار وإربه الزناد قديمة الولاد تضيء لها البلاد ويحيا بها العباد. قال الأصمعي لبعض الأعراب: ما تعرفون من مكارم الأخلاق، قال: نضيء نارنا للضيف ولا تنبح كلابنا ونقريه وجوهنا قبل طعامنا. قال النبي ﷺ: (من كان عليه يد فليكافئ عليها فإن لم يفعل فليثنين عليه فإن لم يفعل فقد كفر النعمة). وقال البحتري:
ولبعض الأدباء:
بعث المنصور إلى شيخ من بطانة هشام فاستحضره وسأله عن تدبير هشام وأحواله، فأقبل الشيخ يقول: فعل رحمه الله وقال يوم كذا رحمه الله، فقال المنصور: قم لعنك الله أتطأ بساطي وتترحم على عدوي، فقال الشيخ: إن نعمة عدوك لقلادة في عنقي لاينزعها ممر الأيام، فقال المنصور: ارجع إلى حديثك فإني أشهد أنك غرس شريف وابن حرة كريم، وأجازه.
لما قتل مسلمةُ بن عبد الملك يزيدَ بن المهلب أمر بأن يحضر الشعراء ليقولوا في ذلك، فلم يألوا أن ذكروه بأقبح ما قدروا عليه ما خلا رجلًا من بني دارم فإنه قال: لا أذم رجلًا لا أملك ربعًا ولا مالًا ولا أثاثًا إلا منه ولو قُطعت إربًا إربًا، ولقد رثيته بأحسن ما يُرثى به رجل وأنشد الأبيات. فجزاه سليمان خيرًا، وقال: إذا اصْطُنع فليصطنع مثل هذا.
وقال أحدهم يمدح كريمًا أجازه:
وقد أجاد أبو نواس في هذا المعنى:
وقد أبدع البحتري في قوله:
وقال:
وقال الشمردلي يمدح كريمًا:
وقال آخر:
ولغيره:
وللسموءل:
ولآخر:
لما جعل ابن الزيات في التنور قال له خادمه: يا سيدي قد صرت إلى ما صرت وليس لك حامد، قال: وما نفع البرامكة، قال: ذكرك لهم الساعة، فقال: صدقت، وقال أشجع يمدح قومًا كرامًا:
وقال ابن الحجاج الشاعر:
وقال: نصيب الأصغر يمدح الفضل بن يحيى:
وقيل لذي الرمة: لم خصصت ملالًا بمدحك؟ قال: لأنه وطأ مضجعي وأكرم مجلسي فاستولى بذلك على شكري ومدحي.
وقال أحدهم يمدح كريمًا:
وأنشد المتنبي:
وذكر أعرابي رجلًا كريمًا فقال: كأن الألسن والقلوب ربطت له فما تعقد إلا على وده ولا تنطق إلا بحمده، وغاية المدح أن يمدحك من لا معرفة له بك ضرورة إلى مدحك وأن يسلفك حسن الثناء من عسى أن لا يصل منك إلى نفع.
وقال ابن أبي طاهر:
ولابن الرومي:
وله أيضًا:
وأنشد عمارة بن عقيل يمدح خالدًا:
قال بعض الأكابر لأبي هفان: ما لك لا تمدحني؟ فقال:
وسئل رجل عن بعض الأكابر، فقال: أما ترى ازدحام الناس على بابه وكثرة قصاده وطلابه. وقال الشاعر:
وقال أعرابي: قصدت فلانًا فوجدت بابه كعرصة المحشر يهوي إليه كل معشر فداره مجمع العفاة ومربع المكرمات حاضرة الجود والحسب وهب.
دخل رجل على أبان بن الوليد فقال: أصلح الله الأمير أحفيت إليك الركاب وقطعت الهضاب وأخلقت الثياب، فقال أبان: ما دعاك إلى ذلك؟ أقرابة أم جوار أم عشرة متقدمة أم صلة سابقة فقال: لم يكن من ذلك شيء ولكني سمعت الناس ينشدون بيتًا قلته فيك فعلمت فيك خيرًا وهو:
فأمر له بجمال ومال.
وأنشد بشار بن برد يمدح كريمًا:
وأنشد الموسوي:
ولآخر:
وقال أبو النواس:
وقال آخر يمدح أميرًا:
وقال المتنبي يمدح كافورًا ويثني على كرمه:
وأنشد ابن الرومي:
•••
حصلت في عهد هشام مجاعة عظيمة، فدخل إليه وجوه الناس من الأحياء وفي جملتهم درواس بن حبيب العجلي وعليه جبة صوف مشتمل عليها بشملة قد اشتمل بها الصماء، فنظر هشام إلى صاحبه نظرة لائم في دخول درواس إليه وقال: أيدخل علي كل من أراد الدخول، وكان درواس مفوهًا فعلم أنه عناه، فقال درواس: يا أمير المؤمنين ما أخل لك دخولي عليك، ولقد شرفني ورفع قدري تمكني من مجلسك، وقد رأيت الناس دخلوا لأمر أحجموا عنه فإن أذنت في الكلام تكلمت، فقال هشام: لله درك تكلم، فما رأى صاحب القوم غيرك، فقال: يا أمير المؤمنين تتابعت علينا سنون ثلاث — أما الأولى فأذابت الشحم، وأما الثانية فأكلت اللحم، وأما الثالثة فانتقت المخ ومصت العظم ولله في أيديكم أموال فإن تكن لله فاعطفوا بها على عباد الله وإن تكن لهم فعلام تحجبونها عنهم؟! وإن تكن لكم فتصدقوا بها عليهم فإن الله يجزي المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين، فقال هشام: لله أنت ما تركت واحدة من ثلاث، وأمر بمائة ألف دينار فقُسمت في الناس، وأمر لدرواس بمائة ألف درهم، فقال: يا أمير المؤمنين ألكل رجل من المسلمين مثلها، قال لا ولا يقوم بذلك بيت المال، فقال: لا حاجة لي فيما يبعث على ذمك، فلما عاد إلى داره أمر بذلك فبعث إليه فقسم تسعين ألف درهم في تسعة من أحياء العرب وأبقى عشرة آلاف درهم فبلغ ذلك هشامًا فقال: لله دره إن صنيعة مثله تبعث على الاصطناع.
وقال ابن الرومي مفتخرًا:
وأنشد جرير الشاعر:
قال أعرابي: أشد الأشياء مؤونة إخفاء الفاقة وأشد من ذلك السؤال إلى من يجبرها، وقال خالد بن صفوان: أشد من فوت الحاجة طلبها إلى غير أهلها وقال الأعشى:
وقال آخر:
وقيل: السؤال وإن قل ثمرة لكل نوال وإن جل، وقال الشاعر:
وكان يجري على أبي العيناء رزق فتأخر عنه فتقاضاه مرارًا ثم تركه وقال: لا حاجة لي فيه فهو رقٌّ لا رزقٌ وبلاءٌ لا عطاء، ومحنة لا منحة.
وقال الشاعر:
قال النبي ﷺ: «اعتمد لحوائجك الصباح الوجوه فإن حسن الصورة أول نعمة تلقاك من الرجل». كلم أعرابي خالد بن عبد الله وتلجلج في كلامه فقال: لا تلمني على الاختلاط فإن معي ذل الحاجة ومعك عز الاستغناء. وقال سعيد بن العاص: موطنان لا أعتذر من العي فيهما إذا سألت حاجة لنفسي وإذا كلمت جاهلًا. وسار الفضيل بن الربيع إلى أبي عباد في نكبة يسأله حاجة فارتج عليه، فقال له: يا أبا العباس بهذا اللسان خدمت خليفتين، فقال: إنا تعودنا أن نُسْألَ لا أن نَسأل وأنشد ابن الرومي:
قال الإمام عمر بن الخطاب: إذا سألتمونا حاجةً فعاودونا فيها فإنما سميت القلوب لتقلبها، وأنشد بشار بن برد:
تواطأ أبو دلامة مع أم دلامة على أن يأتي هو المهدي فينعيها وتأتي على الخيزران فتنعيه، فأتى أبو دلامة المهدي وهو يبكي وأنشد:
فقال له: ما بالك؟ فقال: ماتت أم دلامة وإني أحتاج إلى تجهيزها فدفع له مالًا، وأتت أم دلامة الخيزران وقالت: إن أبا دلامة مضى لسبيله، فاغتمت وأمرت لها بمال وأعطتها ثيابًا وطيبًا، ولما دخل المهدي على الخيزران قالت له: يا أمير المؤمنين إن أبا دلامة مضى لسبيله أبقى الله أمير المؤمنين وأم دلامة كانت عندي الساعة فأعطيتها التجهيز لزوجها، فقال المهدي: إن أم دلامة مضت لسبيلها وكان عندي أبو دلامة الساعة وأعطيته نفقة تجهيزها، فعجبًا ولم يصدقا حتى ذهبا إليهما فنظر المهدي فإذا بهما طريحين في أرض الدار فقال: لا بد أن أم دلامة ماتت قبل زوجها، قالت: بل أبو دلامة يا أمير المؤمنين، قال: وكيف ذلك وقد رأيته الساعة، فلما اشتد الخصام قال المهدي: أقسم بشرفي إنَّ لمن أطلعني على الحقيقة خمسة آلاف درهم، فنهض أبو دلامة، وقال: أم دلامة ماتت قبلي يا أمير المؤمنين، فضحك المهدي ودفع إليه المال.
كان لأبي الأسود جبة خز قد تقطعت، فقال له معاوية: ما تمل لبسها، فقال: رب مملول لا يستطاع فراقه، فأمر له بمال.
قصد أبو الحسن الوراق سيفَ الدولة في جملة الشعراء فناوله درجًا يوهم أنه شعر له، فنشره سيف الدولة، فقال: ليس فيه شيء مكتوب. فقال سيدي يكتب فيه لعبده، فضحك وأمر له بمال.
قسم عبد الله بن عبيد مالًا بين بنيه، فقال له عبد صغير: أعطني أولًا، فقال له ولم؟ قال لأن الله تعالى يقول:الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (الكهف: ٤٦) فبدأ بالمال وأنا مالك، فأعطاه وقدمه.
وسأل أعرابي عبد الملك، فقال له: سل الله، فقال: سألته فأحالني عليك، فضحك منه وأعطاه.
وقال الشاعر:
قال شريح: من سأل حاجة فقد عرض نفسه على الرق فإن قضاها المسئول استعبده بها وإن رده رجع حرًّا وهما ذليلان هذا بذل اللؤم وهذا بذل السؤال. وقال سعيد بن العاص: ما رددت أحدًا عن حاجة إلا تبينت العز في قفاه والذل في وجهي. وأدخل ابن السماك رجلًا إلى الفضل بن الربيع فقال: إن هذا يذل لك ماء وجهه فأكرم وجهك عن رده، وأنشد أبو تمام:
وقيل: العجب لمن يشتري العبيد بالأموال ولا يشتري الأحرار بالنوال والأفضال، وقيل: ليس للأحرار ثمن إلا الإكرام فأكرمهم تملكهم.
وسئل خالد بن يزيد ما الجود؟، قال أن تعطي من سألك، فقال ابنه: يا أبتِ هذا هو كد المسألة إنما الجود أن تعطي من سألك ومن لم يسألك.
وقال محمد بن أبي عمران:
وقيل: أهنأ المعروف عاجله، وقال أحدهم: إذا أوليتني نعمة فعجلها فإن النفس مولعة بحب العاجل، وقال مروان بن أبي حفصة:
أقام أحدهم بباب ملك مدةً فلم يحظَ منه بشيء فكتب أربعة أسطر في رقعة، الأول: (الأمل والضرورة أقدماني عليك)، الثاني: (ليس على العدم صبر)، الثالث: (الرجوع بلا فائدة شماتة الأعداء). والرابع: (إما (نعم) مثمرة وأما (لا) ميئسة)، فكتب تحت كل سطر يعطى لكل منها أربعة آلاف درهم.
وأنشد المتنبي:
ومدح المتنبي كريمًا قد نأى عنه فقال:
وقال ابن الحجاج في كريم سأله:
وفد أحد الشعراء على أمير من العرب فلم يلتفت إليه فأنشد:
فضحك الأمير وأجازه.
قال أعرابي لمعاوية أقمني على البصرة، قال: ما أريد بعاملها بدلًا، قال: أقطعني البحرين، قال ما لي إلى ذلك سبيل، قال: فمر لي بألف درهم، فأمر له، فقيل له: قد بالغت أولًا ثم انحططت، فقال: لولا طلبي كثيرًا ما أعطاني قليلًا.
قال خالد بن عبد الله لأعرابي قال فيه:
سل ما بدا لك، فقال: مائة ألف درهم، قال: أسرفت، قال: ألف درهم، فقال خالد لا أدري أمن إسرافك أتعجب أم من حطك، فقال: إني سألتك على قدرك فلما أبيت سألت على قدري، فقال: إذًا والله لا تغلبني على معروفي، ودفع إليه ما طلب.
قال عبد الله بن جعفر: لا تستحي من إعطاء القليل فإن المنع أقل منه.
مدح مطيع بن إياس معن بن زائدة، فقال له: إن شئت أجزناك وإن شئت مدحناك، فاستحيا مطيع أن يختار الثواب وكره العدول إلى المدح فقال:
فضحك معن وأجازه.
قال بعض الخلفاء لسائل احتكم، فقال: يد أمير المؤمنين أبسط من لساني بالمسألة، فأجزل له العطية.
دخل أشعري على الرشيد وسأله، فقال: احتكم، فقال: أشعري يحتكم بعد أبي موسى، فضحك منه وأجازه.
دخل أعرابي على بائع تمر بالكوفة فقال:
فأعطاه قوصرة تمر، وقال: أحب أن تتركني من هذه الرؤيا فإن رؤيا يوسف صدقت بعد أربعين سنة.
قال رجل لابن عباس أتيتك في حاجة صغيرة، فقال: هاتها فالحر لا يصغر عن كبير أخيه ولا يكبر عن صغيره.
قيل لبعضهم: أي الناس أحب إليك؟، قال: من أولاني معروفًا، قيل: فإن لم يكن، قال: من أوليته معروفًا، قال رجل لهشام: إن الله تعالى جعل العطاء محبة والمنع مبغضة فأعني على حبك، قال النبي ﷺ: «من اتصلت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه فمن لم يحتمل تلك المؤن عرّض لزوال النعم». قال خالد بن عبد الله: حوائج الناس إليكم نِعمٌ من الله عليكم فلا تملوا النعم فتتحول نقمًا، وأفضل الأموال ما أكسب أجرًا وأورث ذكرًا، قيل لحاتم: كيف تجد الجود في قلبك، فقال: إني لأجده كما يجده الناس ولكن أحمل نفسي على خطط الكِرام، وقيل: من جاد بماله فقد جاد بنفسه، وإن لم يجد بها فقد جاد بما لا قوام له إلا بها.
وصف رجل خالد بن عبد الله القسري بالشجاعة، فقال بعض من حضره: إن خالدًا لم يلقَ حربًا قط، فقال: الصبر على السخاء أشد من الصبر في الهجاء.
قال ابن أبي خالد: لا تعدَّن نفسك شجاعًا حتى تكون جوادًا فإنك إن لم تقوَ على أن تقاتل نفسك على البخل لم تقدر على عدوك بالقتل، وقيل: السخي شجاع والبخيل شجاع الوجه، وقال أبو تمام:
قالت امرأة لابنها: إذا رأيت المال مقبلًا فأنفق فإنه يحتمل، وإذا رأيته مدبرًا فأنفق فإن ذهابه فيما تريد أجدى من ذهابه فيما لا تريد.
قال وهب بن منبه: اتخذوا عند المساكين سيرًا فإن لهم دولة يوم القيامة. كان محمد بن كعب أصاب مالًا فقيل له: ادخره لولدك من بعدك، فقال: لا والله أدخره لنفسي وأدخر ربي لولدي.
وقال بشار بن برد في الجود:
وقال ابن مقبل:
قال أحدهم: أفضل الناس عيشًا من عاشت الناس في فضله.
قال المتنبي فيمن لا يكفه قول العاذل عن إنفاق المال:
لما مات حاتم الطائي تشبه به أخوه فقالت له أمه: لا تتعبن فيما لا تناله، فقال: وما يمنعني وقد كان شقيقي وأخي من أمي وأبي، فقالت: إني لما ولدته كنت كلما أرضعته أبَى أن يرضع حتى آتيه بمن يشاركه فيرضع الثدي الآخر، وكنت إذا أرضعتك ودخل صبي بكيت حتى يخرج، قال الشاعر:
كانت أخت حاتم سخية لا تبقي شيئًا، فحظر عليها إخوتها وحبسوها حتى ذاقت طعم الجوع والفقر، فظنوا أنها قد وجدت ألم الضيق والفقر فأطلقوها ودفعوا إليها صرَّة، فأتتها سائلة، فقالت: دونك الصرة فقد نابني من الجوع ما لا أمنع بعده سائلًا أبدًا.
مدح رجل هشام بن عبد الملك، فقال: يا هذا إنه قد نُهي عن مدح الرجل في وجهه، فقال: ما مدحتك ولكن ذكرتك نعم الله عليك لتجدد شكرًا، فقال هشام: هذا أحسن من المدح فوصله وأكرمه.
قال بعض الأعراب: قدم علينا الحكم بن المخزومي ولا مال لنا فأغنانا عن آخرنا، فقلت له: كيف؟ فقال: علمنا مكارم الأخلاق فعاد أغنياؤنا على فقرائنا فصرنا كلنا أجوادًا.
قال مسلم بن قتيبة: إني لأعجز عن مكافأة من رآني لحاجته أهلًا، فقال أبو العطاء: أيها الأمير فاجعل فضلك ابتداءً حتى ترفع عن نفسك ثقل المكافأة.
سُئل بعض الأدباء عن جعفر بن يحيى بعدما قتل، فقال: تركني مقطوع الآمال زاهدًا بعده في طلب الأموال.
قال ابن خارجة: لا أرد سائلًا فإنما هو كريم أسد خلته أو لئيم أشتري عرضي منه.
كان العباس بن محمد يجري على رجل شيئًا فغضب عليه، وكان ابنه كتب إطلاقات رفعت إليه فترك اسم المغضوب عليه، فقال: فأين ذكر رزق فلان، فقال: إنك قد كنت غضبت عليه، فقال: يا بني غضبي لا يسقط هبتي إن أباك لا يغضب في النوال.
قال الحجاج يومًا: قلَّ السائلون؟ فقال رجل: أصلح الله الأمير إنك أكثرت خير البيوت فاستغنى الناس بما يصل إليهم عن الترحال، فسُّر الحجاج، وقال: بارك الله فيك وأحسن إليه.
مدح رجل كريمًا فقال: كيسه محلول وماله مبذول يطعمك نفسه إن أكلتها ويسقيك روحه إن شربتها.
قيل للحسن بن سهل وقد كثر عطاؤه على اختلال حاله: ليس في السرف خير، فقال: ليس في الخير سرف.
لما دخل الفضل بن يحيى الرقة قال لوكلائه: أحصوا منزل من يغنيهِ ألف درهم، فأحصوا ثلاثمائة منزل، فوجه إليهم ثلاثمائة ألف درهم، ثم وضع له الطعام فقال ما أكلت طعامًا أهنأ من اليوم وقد علمت أني أغنيت ثلاثمائة ألف بيت.
دخل هشام بن عروة على المنصور فشكا إليه دينًا، فأعطاه عشرة آلاف درهم، فقال: يا أمير المؤمنين روي عن النبي ﷺ أنه قال: «من أعطى عطية وهو طيب النفس بورك للمعطي والمعطى منها» أفنفسك طيبة بها؟ قال: نعم.
فرَّق علي بن موسى الرضي ماله بخراسان كله في يوم عرفة، فقال له الفضل بن سهل: ما هذا المغرم؟ فقال: بل هو المغنم، لا تعدَّن مغرمًا ما ابتعت به أجرًا وكرمًا.
قال الحسن بن علي لرجل سأله شيئًا فلم يمكنه: لو أمكنني لكان الحظ فيه لنا دونك فإنا حرمنا شكرك فلا تحرمنا سعة عذرك.
وإليك بعض أبيات في مدح الجود والأجواد:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
الحلم والحلماء
قيل: الحلم تجرع الغيظ ودعامة العقل، وقيل: ليس الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر انتصر، ولكن الحليم من ظلم فحلم فإذا قدر غفر، وقالت الفلاسفة: الحلم فضيلة النفس يكسبها الطمأنينة ولا يحركها الغضب، وقيل: الحلم والأناة توأمان ينتجهما علو الهمة، وقيل لعمر بن الأهتم: من أشجع الناس؟، فقال: من ردَّ جهلَه حلمُه، وقيل: ليس التاج الذي يفتحر به العلماء والملوك فضة أو ذهبًا لكنه الوقار المكلل بجواهر الحلم.
دفع أزدشير بن بابك ثلاثة كتب إلى رجل يقوم على رأسه، وقال له: إذا رأيتني قد غضبت فادفع إليَّ الأول، وكان فيه «أمسك فلست بإله وإنما أنت جسد يوشك أن يأكل بعضه بعضًا»، فإن لم أندم، فادفع إليَّ الثاني، وكان فيه «ارحم عباد الله يرحمك الله»، وإلا فالثالث وكان فيه: «احمل عباد الله على حقه».
ومر النبي ﷺ بقوم يربعون حجرًا فقال: «إن أشدكم من ملك نفسه عند الغضب»، وقيل: الكظم يدفع محذور الندم كالماء يطفيء حر الضرم. وقال أحدهم: كظم يتردد في حلقي أحب إليَّ من نقص أجده في خلقي، وقال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (الأعراف: ٢٠١)، قيل لحكيم: أي الأحمال أثقل؟ فقال: الغضب. وقيل لأبي عباد: أيٌّ أبعد من الرشاد السكران أم الغضبان؟ فقال: الغضبان لا يعذره أحد في ذنب يجترمه وما أكثر ما يغدر السكران. وقيل: من غضب من غير ذنب رضي من غير عذر. وقيل: من فاته الدين والمروءة فرأس ماله الغضب. وقال حكيم: إياك وعزة الغضب، فإنها تصير بك إلى ذل الاعتذار، وقيل: أسرع الناس رضًى أسرعهم غضبًا كالحطب أسرعه خمودًا أسرعه وقودًا. وشتم حليم سفيهًا وهو ساكت، فقال: إياك أعني، فقال: وعنك أغضي. وقيل: من كرم أصله لان قلبه. وقيل: مِن أمارات الكرم الرحمة، ومن أمارات اللؤم القسوة، وقال الله تعالى في العفو: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ (النور: ٢٢)، وقال أيضًا: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (الأعراف: ١٩٩). وقال الأحنف: إياكم وحمية الأوغاد، قيل: وما حميتهم؟ قال: يرون العفو مغرمًا والبخل مغنمًا، وقيل: من شكر الموهوب العفو عن الذنوب والاحتمال قبر العيوب، وقيل: لذة العفو أطيب من لذة التشفي لأن لذة العفو يتبعها حمد العاقبة ولذة التشفي يتبعها غم الندامة، وقيل للإسكندر: أي شيء أنت به أسرُّ مما ملكت؟ قال: مكافأة من أحسن إليَّ بأكثر من إحسانه وعفوي عمن أساء بعد قدرتي عليه. وقال المأمون: الحلم يحسن بالملوك إلَّا في ثلاثة قادح — في ملك ومتعرض لحرمة ومذيع لسرٍّ. وقال السفاح: الحلم يحسن إلَّا ما أوضع الدين وأوهن السلطان. وقال الإمام عمر: لئن يخطئ الإمام في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة. وقال الإمام علي: إذا قدرت على العدو فاجعل العفو شكر قدرتك. ظفر الإسكندر ببعض الملوك فقال له: ما أصنع بك، قال: ما يجمل بالكرام أن يصنعوه إذا ظفروا، فخلى سبيله وردَّه إلى مملكته. ولما ظفر أنوشروان ببزرجمهر، قال: الحمد لله الذي أظفرني بك، فقال: كافئْ من أعطاك ما تحب بما يحب.
وقال معاوية: العقوبة ألأم حالات ذي القدرة. وقال حكيم: من شفى غيظه لم يجب شكره. وقيل: التَّشَفِّي طرف من الجزع فمن رضي أن لا يكون بينه وبين الظالم إلا ستر رقيق وحجاب ضعيف فلينصف. وقيل: عفو العزيز أعز له وعفو الذليل أذل له. وقال بعض الملوك: إنما نملك الأجساد دون النيات ونحكم بالعدل لا بالهوى ونفحص عن الأعمال لا عن السرائر، وقال النبي ﷺ: «ألا أخبركم بشركم من أكل وحده وضرب عبده ومنع رفده، ألا أخبركم بشر من ذلك، من لا يقبل معذرة ولا يقبل عثرة». وقيل: لا عيب مع إقرار ولا ذنب مع استعفاء. سمع حكيم رجلًا يقول: ذنب الإصرار أولى بالاغتفار، فقال: صدق والله ليس فضل من عفا عن السهو القليل كمن عفا عن العمد الجليل. وقال ابن المعتز: تجاوز عن مذنب لم يسلك بالإقرار طريقًا حتى اتخذ من رجائك رفيقًا، وقال الفضل بن مروان لرجل عاتبه: بلغني أنك تبغضني، فلم ينكر الرجل وقال: أنت كما قال الشاعر:
أتي المنصور برجل أذنب فقال: إن الله يأمر بالعدل والإحسان فإن أخذت في غيري بالعدل فخذ فيَّ الإحسان؛ فعفا عنه.
قال الشعبي لابن بسرة وقد كلمه في قوم حبسهم: إن حبستهم بالباطل فالحق يخرجهم وإن حبستهم بحق فالعفو يكفهم، فأمر بإطلاقهم.
قال رجل لمعن: ما على المذنب أكثر من الرجوع فهل على من لم يذنب أكثر من الاعتذار.
وقال الرشيد لمذنب: لأضربنك حتى تقر بالذنب، فقال: هذا خلاف ما أمر الله تعالى به لأنه أمر أن يضرب الناس حتى يقروا بالإيمان وأنت تضربني حتى أقر بالكفر، فخجل الرشيد وعفا عنه.
انقطع عبد الملك عن أصحابه فانتهى إلى أعرابي فقال: أتعرف عبد الملك؟ قال: نعم جائرٌ بائرٌ، قال: ويحك أنا عبد الملك، قال: لا حياك الله ولا بيَّاك ولا قربك، أكلت مال الله وضيعت حرمته، قال: ويحك أنا أضر وأنفع، قال: لا رزقني الله نفعك ولا دفع عني ضرك، فلما وصلت خيله علم صدقه، فقال: يا أمير المؤمنين اكتم ما جرى فالمجالس بالأمانة.
عثر جعفر بن سليمان برجل سرق درة فباعها فلما بصر بالرجل استحيا، فقال له: ألم تكن طلبت هذه الدرة مني فوهبتها لك، فقال: نعم فخلى سبيله.
كان ركن الدولة يومًا في الدار بحيث لا يُرى، فدخل فرَّاش فرأى طاسًا من ذهب ولم يكن بصر به أحد فتناوله وخرج، فرآه ركن الدولة ولم يعلم به، فلما استقصى عليه الخدم قال: دعوه فإن من أخذه لم يأخذه على أن يرده ورائية لا يريد أن يذكره، فبينما كان الفرَّاش يومًا يصب ماء على يده وعليه ثياب فاخرة، قال له ركن الدولة: هذه الثياب من ذلك الطاس، وكان الفراش صبورًا، فقال: نعم أيها الأمير، وغير ذلك من أثر النعم، فعفا عنه.
قال غلام هاشمي أراد عمه أن يجازيه لسهو منه: يا عم إني قد أسأت وليس معي عقلي فلا تسيء ومعك عقلك.
اعتذر رجل إلى المنتصر، فقال: أتراني أتجاوز بك حكم الله؟ حيث يقول: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (الأحزاب: ٥).
قال هاشمي للمأمون: من حصل له مثل التي ولبس ثوب حرمتي وأسلف مثل مودتي وغفر له فوق زلتي، فقال: صدقت وعفا عنه.
غضب عبد الملك على رجل فلما أتى به قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال: لا سلام الله عليك، فقال: ما هكذا أمر الله، إنما قال تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا (النساء: ٨٦)، وقال: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ (الأنعام: ٥٤) فعفا عنه.
وكان عمر رضي الله عنه يعس ليلةً فسمع غناء رجل من بيت فتسور عليه فرأه مع امرأة يشربان الخمر، فقال: يا عدو الله أرأيت أن يسترك الله وأنت على معصية، فقال: يا أمير المؤمنين لا تعجل، إن كنت عصيت الله في واحدة فقد عصيت الله في ثلاث فقد قال الله تعالى: وَلَا تَجَسَّسُوا (الحجرات: ١٢) وقد تجسست، وقال: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا (البقرة: ١٨٩) وقد تسورت عليّ،وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا (النور: ٢٧) وقد دخلت بغير سلام، فقال عمر: أسأت فهل تعفو؟ فقال: نعم وعلى أن لا تعود.
أتي الحجاج برجل من أصحاب ابن الأشعث فقال له: أفيك خير أن عفوت عنك، فقال: لا، قال: ولم؟ قال: لأني كنت خاملًا فرفعتني وألحقتني بالناس فخرجت مع ابن الأشعث لا لدين ولا لدنيا ومعي الحماقة التي لا تفارقني أبدًا ولا أفلح معها سرمدًا، فضحك منه وخلى سبيله.
أتي معن بن زائدة بأسرى فأمر بضرب أعناقهم، فقام غلام منهم فقال: أنشدك الله أيها الأمير أن لا تقتلنا ونحن عطاش، فقال: اسقوهم، فلما شربوا قال: ناشدتك الله أن قتلت ضيفانك، قال: أحسنت وخلى سبيلهم.
همّ الأزارقة بقتل رجل، فقال: أمهلوني لأركع، فنزع ثوبه واتزر ولبى وأظهر الإحرام، فخلوا سبيله لقوله تعالى: أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ (المائدة: ٢).
ولما أتي عمر رضى الله عنه بالهرمزان أراد قتله، فاستسقى ماءً، فأتوه بقدح فأمسكه بيده فاضطرب، وقال: لا تقتلني حتى أشرب هذا الماء، فقال: نعم، فألقى القدح من يده، فأمر عمر بقتله، فقال: أو لم تؤمنني، وقلت: لا أقتلك حتى تشرب هذا الماء، فقال عمر: قاتله الله أخذ أمانًا ولم نشعر به.
غضب رجل على عبده، فقال: أسألك بالله إن علمت أني لأطوع لك منك لله فاعفُ عني عفا الله عنك، فعفا عنه.
وقال رجل لأمير غضب عليه: أسألك بالذي أنت أذل بين يديه غدًا مني بين يديك إلَّا ما عفوت عني، فعفا عنه.
جنى غلام للحسن بن علي فأمر بعقابه، فقال: يا مولاي إن الله تعالى قد مدح قومًا فكن منهم، فإنه يقول: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ فقال: خلوا سبيله، قال: وقد قال: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ قال: قد عفوت عنك، قال: وقد قال: وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران: ١٣٤) قال: أنت حر لوجه الله تعالى ولك من المال كذا.
استعفى رجل من مصعب بن الزبير فعفا عنه، فقال: اجعل ما وهبت لي من حياتي في خفض، فأعطاه مائة ألف، فقال الرجل: إني قد جعلت نصفها لابن قيس الرقيات لقوله:
فقال له مصعب: هذا لك وعلينا أن نعطيه ذلك.
أُتِيَ عبد الله بن زياد بخارجي فأمر بقتله، فقال: إن رأيت أن تؤخرني إلى غد فأمر بتأخيره، فقال:
فعفا عنه.
غضب المأمون على عليِّ بن الجهم، فقال: لآخذنَّ مالك ولأقتلنك اقتلوه، فقال أحمد بن أبي داود: إذا قتلته فمن أين تأخذ المال يا أمير المؤمنين، قال: من ورثته، فقال: حينئذٍ تأخذ مال الورثة وأمير المؤمنين يأبى ذلك، فقال: يؤخر حتى يستصفى ماله، وانفض المجلس وسكن غضبه وتوصل إلى خلاصه.
غضب الرشيد على رجل فقال له جعفر: غضبت لله فأطع الله في غضبك بالوقوف إلى حال التبيُّن كما غضبت له.
قيل: ما عفا عن الذنب من قرَّع به، والعفو مع العذل أشد من الضرب على ذي العقل، فرب قول أنفذ من صول وعفو أشد من انتقام، وقال بعض الأدباء: من غرس شجرة الحلم اجتنى ثمرة السلم، وقال أبو الدرداء لرجل أسمعه كلامًا: يا هذا لا تغرقن في سبنا ودع للصلح موضعًا، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله عز وجل فيه، وشتم رجل الشعبي، فقال: إن كنت كما قلت فغفر الله لي وإن لم أكن كما قلت فغفر الله لك، وقال النبي ﷺ: «إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو شكرًا للقدرة عليه». وقال بعض البلغاء: أحسن المكارم عفو المقتدر وجود المفتقر، وقال بعض الحكماء: احتمال السفيه خير من التحلي بصورته والإغضاء عن الجاهل خير من مشاكلته، وقيل للإسكندر: إن فلانًا وفلانًا ينقصانك ويثلبانك فلو عاقبتهما، فقال: هما بعد العقوبة أعذر في تنقصي وثلبي، فكان هذا تفضلًا منه وتألفًا.
وقال الأحنف: ما عاداني أحد قط إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال إن كان أعلى مني عرضت له قدره، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان نظيرًا بي تفضلت عليه.
وقيل في منثور الحكم: الحلم حجاب الآفات، وأكرم الشيم أرعاها للذمم، ومن ظهر غضبه قل كيده. وقال بعض الأدباء: غضب الجاهل في قوله وغضب العاقل في فعله. وقال بعض الحكماء: إذا سكت عن الجاهل فقد أوسعته جوابًا وأوجعته عقابًا. وقالت الحكماء: ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن: لا يعرف الجواد إلا في العسرة والشجاع إلا في الحرب والحليم إلا في الغضب. وقال بعض الحكماء: العفو يفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم. وقال عمرو بن العاص: أكرموا سفهاءكم فإنهم يسومونكم العار والشنار. قال سلمان لعلي بن أبي طالب: ما الذي يباعدني عن غضب الله عز وجل، قال: لا تغضب. وقال بعض البلغاء: من ردَّ غضبه هدَّ من أغضبه. وقال رجل لبعض الحكماء: عظني، قال: لا تغضب فينبغي لذي اللب السوي والحزم القوي أن يتلقى قوة الغضب بحلمه فيصدها ويقابل دواعي شره بحزمه فيردها ليحظى بأجل الخير وليسعد بحميد العاقبة.
شكا رجل إلى النبي ﷺ القسوة، فقال: «اطلع في القبور واعتبر بالنشور». وكان بعض الملوك إذا غضب ألقى عنده مفاتيح ترب الملوك فيزول غضبه. وقال عمر بن الخطاب: من أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير. وكتب أبرويز إلى ابنه شيرويه: «إن كلمة منك تسفك دمًا وأخرى منك تحقن دمًا وإن نفاذ أمرك مع كلامك فاحترس في غضبك من قولك أن تخطئ ومن لونك أن تتغير ومن جسدك أن يخف فإن الملوك تعاقب قدرة وتعفو حلمًا». وقال بعض الحكماء: الغضب على من لا تملك عجز وعلى من تملك لؤم. وقال النبي ﷺ: «ينادي مناد يوم القيامة من له أجر على الله عز وجل فليقم فيقوم العافون عن الناس، ثم تلا: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ (الشورى: ٤٠). وقال رجاء بن حيوة لعبد الملك بن مروان في أسارى ابن الأشعث: إن الله قد أعطاك ما تحب من الظفر فأعطِ الله ما يحب من العفو. وقال النبي ﷺ: «الخير في ثلاث خصال فمن كن فيه فقد استكمل الإيمان: من إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل وإذا غضب لم يخرجه غضبه من حق وإذا قدر عفا». وأسمع رجل عمر بن عبد العزيز كلامًا فقال عمر: أردت أن يستفزني الشيطان لعزَّة السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غدًا انصرف رحمك الله. قال النبي ﷺ: «ما ازداد أحد بعفو إلا عزًّا فاعفوا يعزكم الله». وقال بعض البلغاء: ليس من عادة الكرام سرعة الانتقام ولا من شرط الكرم إزالة النعم، وقال المأمون لإبراهيم بن المهدي: إني شاورت في أمرك فأشاروا علي بقتلك إلا أني وجدت قدرك فوق ذنبك فكرهت القتل للازم حرمتك، فقال: يا أمير المؤمنين إن المشير أشير بما جرت به العادة في السياسة إلا أنك أبيت أن تطلب النصر إلا من حيث ما عودته من العفو فإن عاقبت فلك نظير وإن عفوت فلا نظير لك وأنشد:
المروءة وأربابها
قال النبي ﷺ: «من عامل الناس فلم يظلمهم وحدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته ووجبت أخوته». وقال بعض البلغاء: من شروط المروءة أن يتعففَ عن الحرام ويتصلفَ عن الآثامِ وينصف في الحكم ويكف عن الظلم ولا يطمع فيما لا يستحق ولا يستطيل على من لا يسترق ولا يعين قويًّا على ضعيف ولا يؤثر دنيًّا على شريف ولا يسر ما يعقبه الوزر والإثم ولا يفعل ما يقبح الذكر والاسم. وسُئل بعض الحكماء عن الفرق بين العقل والمروءة، فقال: العقل يأمرك بالأنفع والمروءة تأمرك بالأجمل. وقال النبي ﷺ: «إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره دنيها وسفسافها». وقال عمر بن الخطاب: لا تصغرن هممكم فإني لم أرَ أقعد عن المكرمات من صغر الهمم. وقيل: الهمة راية الجد. وقال بعض البلغاء: علوا الهمم بذر النعم. وقال بعض العلماء: إذا طلب رجلان أمرًا ظفر به أعظمهما مروءة. وقال بعض الأدباء: من طلب التماس المعالي بسوء الرجاء لم ينل جسيمًا. وقال النبي ﷺ: «ما هلك امرؤٌ عرف قدره». وقيل لبعض الحكماء: من أسوأ الناس حالًا؟ فقال: من بعدت همتهُ واتسعت أمنيته وقصرت آلته وقلت مقدرته. وقال بعض الحكماء: تجنبوا المنى فإنها تذهب ببهجة ما خولتم وتستصغرون بها نعمة الله عليكم. وقيل: الحظوظ كالسحاب الذي يمسك عن منابت الأشجار إلى مغايص البحار وينزل إلى حيث يصادف من خبيث وطيب فإن صادف أرضًا طيبة نفع وإن صادف أرضًا خبيثة ضرَّ كذلك الحظ إن صادف نفسًا شريفة نفع وكان نعمة عامة وإن صادف نفسًا دنية ضرّ وكان نقمة طامة. دعا موسى بن عمران على قوم بالعذاب فأوحى إليه قد ملكت أسفلها على أعلاها، فقال: يا رب كنت أحب لهم عذابًا عاجلًا؛ فأوحى الله تعالى إليه: أو ليس هذا كل العذاب العاجل الأليم، وقيل: شرف النفس مع الهمة أولى من علو الهمة مع دناءة النفس؛ لأن من علت همته مع دناءة نفسه كان متعديًا إلى طلب ما لا يستحقه ومتخطيًا إلى التماس ما لا يستوجبه ومن شرفت نفسه مع صغر همته فهو تارك لما يستحق ومقصر عما يجب له والفضل بينهما ظاهر وإن كان لكليهما من الذم نصيب.
وقيل لبعض الحكماء: ما أصعب شيء على الإنسان؟، قال: أن يعرف نفسه ويكتم الأسرار فإذا اجتمع الأمران واقترنا بشرف النفس وعلو الهمة كان الفضل بهما ظاهرًا وافرًا ومشاق الحمد مسهلة وشروط المروءة بينهما متينة.
وتقسم شروط المروءة إلى قسمين، شروط المروءة في النفس وشروطها في الغير، فأما شروطها في النفس ففي ثلاثة أمور وهي العفة والنزاهة والصيانة، فأما العفة فنوعان أحدهما العفة عن المحارم والثاني العفة عن المآثم وفي ذلك يقول الشاعر:
والداعي إلى ذلك شيئان إرسال الطرف وإتباع الشهوة. قال عيسى ابن مريم عليه السلام: إياكم والنظرة بعد النظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة وكفى بها لصاحبها فتنة. وقال الإمام علي: العيون مصايد الشيطان، وقال حكيم: من أرسل طرفه استدعى حتفه.
قيل: شرُّ الناس من لا يبالي أن يراه الناس مسيئًا، وقيل: من يزرع خيرًا يحصد زرعه غبطة، وقال بعض الحكماء: إنما هلك الناس بفضول الكلام وفضول المال، وجاء في الحديث: «المؤمن غرٌّ كريم والفاجر خبٌّ لئيم».
وأما العفة عن المآثم فنوعان أحدهما الكف عن المجاهرة بالظلم، والثاني زجر النفس عن الإسرار بخيانة، فأما المجاهرة بالظلم فعتو مهلك وطغيان متلف، وهو يؤول إن استمر إلى فتنة أو جلاء، فأما الفتنة في الأغلب فتحيط بصاحبها وتنعكس عن البادئ بها فلا تنكشف إلا وهو بها مصروع كما قال الله تعالى: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ (فاطر: ٤٣)، وجاء في الحديث: «الفتنة نائمة فمن أيقظها صار طعامًا لها». وقال جعفر بن محمد: الفتنة حصاد للظالمين. وقال بعض الحكماء: صاحب الفتنة أقرب شيء أجلًا وأسوأ شيء عملًا، والظالم كالنار إذا وقعت في يابس الشجر فلا تبقي معها مع تمكنها شيئًا حتى إذا أفنت ما وجدت أضمحلت وخمدت فيكون الظالم مهلكًا ثم هالكًا، وجاء في الحديث: «اطلبوا الفضل والمعروف عند الرحماء من أن تعيشوا في أكنافهم فترون آثار الله تعالى في الظالمين فإن له فيهم غيرًا وتتصورن عواقب ظلمهم فإن فيها مزدجرًا». ورد في الحديث: «من أصبح ولم يفِ ظلم أحد غفر الله ما اجترم»، وورد عن النبي ﷺ أنه خاطب عليًّا قائلًا: «يا عليُّ اتق دعوة المظلوم فإنه إنما يسأل الله حقه وإن الله لا يمنع ذا حق حقه». وورد في منثور الحكم: ويل للظالم من يوم المظالم. وقال بعض الحكماء: من جار حكمه أهلكه ظلمه، والاستسرار بالخيانة بذاء مهينة ولو لم يكن من ذم الخيانة إلا ما يجده الخائن في نفسه من المذلة لكفاه زاجرًا، ولو تصور عقبى أمانته وجدوى ثقته لعلم أن ذلك من أربح بضائع جاهه وأقوى شفعاء تقدمه مع ما يجده في نفسه من العز ويقابل عليه من الإعظام، وورد في الحديث: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك». وقيل: الأمانة مؤداة إلى البر. وقال بعض الحكماء: من التمس أربعًا بأربعٍ التمس ما لا يكون، من التمس الجزاء بالرياء التمس ما لا يكون، ومن التمس مودة الناس بالغلظة التمس ما لا يكون، ومن التمس وفاء الإخوان بغير وفاء التمس ما لا يكون ومن التمس العلم براحة الجسد التمس ما لا يكون، والداعي إلى الخيانة شيئان المهانة وقلة الأمانة، وإذا حسمها عن نفسه بما ذكر ظهرت مروءته.
وأما النزاهة فنوعان: أحدهما: النزاهة عن المطامع الدنية، والثاني: النزاهة عن مواقف الريبة.
فأما المطامع الدنية فلأن الطمع ذل والدناءة لؤم وهما أدفع شيء للمروءة، والباعث على ذلك شيئان، والشره وقلة الأنفة فلا يقنع بما أوتي وإن كان كثيرًا لأجل شرهه ولا يستنكف مما منع وإن كان حقيرًا لقلة أنفته، وقال أحدهم: يا رسول الله أوصني، قال: عليك باليأس مما في أيدي الناس وإياك والطمع فإنه فقر حاضر وإذا صليت صلاة فصل صلاة مودع وإياك وما يُعتذر منه.
وقال النبي ﷺ: «إن نفسًا لا تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم إبطاء الرزق على طلبه بالمعاصي فإن الله عز وجل لا يدرك ما عنده إلا بطاعته».
وسئل محمد بن علي عن المروءة فقال: أن لا تعمل في السر عملًا تستحي منه في العلانية، وقف رسول الله ﷺ ليلة مع زوجته صفية على باب مسجد يحادثها وكان معتكفًا فمرَّ به رجلان من الأنصار فلما رأياه أسرعا فقال لهما: على رسلكما إنها صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله أوفيك شك يا رسول الله، فقال: «رأيت أن الشيطان يجري من أحدكم مجرى لحمه ودمه فخشيت أن يقذف في قلبيكما سوءًا».
وأما الصيانة وهي الثالث من شروط المروءة فنوعان: أحدهما: صيانة النفس كفايتها وتقدير مادتها، والثاني صيانتها عن عمل المنن من الناس، وأما التماس الكفاية وتقدير المادة فلأن المحتاج إلى الناس كَلٌّ منهضم ذليل مشتغل وهو لما فطر عليه محتاج إلى ما يستمده ليقيم أود نفسه ويدفع ضرورة وقته.
وقد قالت العرب في أمثالها: كلب جوال خير من أسد رابض، وما يستمده نوعان لازم وندب، فأما اللازم فهو ما أقام بالكافية وأفضى إلى سد الخلة، وعليه في طلبه ثلاثة شروط: أحدها استطابته من الوجوه المباحة وتوقى المحظورة، فإن المواد المحرمة مستخبئة الأصول ممحوقة المحصول إن صرفها في بر لم يؤجر وإن صرفها في مدح لم يشكر، وقد ورد في الحديث: «لا يعجبك رجل كسب مالًا من غير حله فإن أنفق لم يقبل منه وإن أمسكه فهو زاده إلى النار»، وقال بعض الحكماء: شر المال ما لزمك إثم مكسبه وحرمك أجر إنفاقك، ونظر بعض الخوارج إلى رجل من أصحاب السلطان يتصدق على مسكين فقال: انظر إليهم حسناتهم من سيئاتهم، والثاني طلبه من أحسن جهاته التي لا يلحقه فيها غصن ولا يتدنس له بها عرض، فإن المال يراد لصيانة الأعراض لا لابتذالها ولعز النفوس لا لإذلالها. وقال عبد الرحمن بن عوف: يا حبذا المال أصون به عرضي وأرضي به ربي. وقال أبو شبر الضرير:
وجاء في الحديث: «اطلبوا الحوائج من حسان الوجوه».
والثالث أن يتأنى في تقدير مادته وتدبير كفايته بما لا يلحقه خلل ولا يناله زلل فإن يسير المال على حسن التقدير، وإصابه التدبير أجدى نفعًا وأحسن موقفًا من كثيره مع سوء التدبير، وفساد التقدير كالبذر في الأرض إذا روعي يسيره زكا وإن أهمل كثيره اضحمل. وقال محمد بن علي رضي الله عنه: الكمال في ثلاثة، العفة في الدين، والصبر على النوائب، وحسن التدبير في المعيشة. وقيل لبعض الحكماء: فلان غني، فقال: لا أعرف ذلك ما لم أعرف تدبيره في ماله، فإذا استكمل هذه الشروط فيما يستمده من قدر الكفاية فقد أدى حق المروءة في نفسه. وسُئل الأحنف بن قيس عن المروءة فقال: العفة والحرفة، وقيل: لا تأسف لمال كان فذهب، ولا تعجز عن الطلب لوصب ولا نصب.
- أولًا: جهد المضطر، أحدهما: أن يتجافى ضرع السائلين وأبهة المستقلين فيذل بالضرع ويحرم بالأبهة، وليكن من التحمل على ما يقتضيه حال مثله من ذوي الحاجات، وقد قيل لبعض الحكماء: متى يفحش زوال النعم؟ قال: إذا زال معها التجمل.
- ثانيًا: أن يقتصر في السؤال على ما دعته إليه الضرورة وقادته إليه الحاجة ولا يجعل ذلك ذريعة إلى الاغتنام فيحرم باغتنامه ولا يعذر في ضرورته، وقد قال بعض الحكماء: من ألف المسألة ألفه المنع.
- ثالثًا: أن يعذر في المنع ويشكر على الإجابة فإنه إن منع فعما لا يملك وإن أجيب فإلى ما لا يستحق.
- رابعًا: أن يعتمد على سؤال من كان للمسألة أهلًا وكان أنجح عنده مأمولًا؛ فإن
ذوي المكانة كثير والمعين منهم قليل، ولذلك قال النبي ﷺ: «الخير
كثير وقليل فاعله»، والمرجو للإجابة من تكاملت فيه خصالها وهي ثلاث:
إحداهن كرم الطبع فإن الكريم مساعد واللئيم معاند، وقد قيل: المخذول من
كانت له إلى اللئام حاجة. والثانية: سلامة الصدر فإن العدوّ ألب على
نكبتك وحرب على نائبتك. وقد قيل: من أوعز صدره استدعيت شره فإن رق لك
بكرم طبعه ورحمك بحسني ظفره فأعظم بها محنة أن يصير عدوك لك راحمًا وقد
قال الشاعر:
وحسبك من حادث بامرئترى حاسديه لهف راحمينا
والثالث: ظهور المكنة فإن من سأل ما لا يمكن فقد أحال وكان كمستنهض المسجون ومسعف المديون وكان بالرد خليقًا وبالحرمان حقيقًا، وقد قال الإمام علي: من لا يعرف (لا) حتى يقال له لا فهو أحمق، ووصى عبد الله بن الأهتم ابنه فقال: يا بني لا تطلب الحوائج من غير أهلها ولا تطلبها في غير حينها ولا تطلب ما لست له مستحقًا فإنك إن فعلت ذلك كنت حقيقًا بالحرمان.
أما شروط المروءة في الغير فثلاثة: المؤازرة، والمباشرة، والإفضال. أما المؤازرة فنوعان: أحدهما الإسعاف بالجاه، والثاني: الإسعاف في النوائب، فأما الإسعاف بالجاه فقد يكون من الأعلى قدرًا والأنفذ أمرًا، فقد قال بعض الحكماء: اصنع الخير عند إمكانه يبقى لك حمده عند زواله، وأحسن والدولة لك يحسَن لك والدولة عليك واجعل زمان رخائك عدة لزمان بلائك. وقال بعض البلغاء: من علامة الإقبال اصطناع الرجال. وقال بعض الأدباء: بذل الجاه أحد الحبائين. وجاء في الحديث: «من عظمت نعمة الله عليه عظمت مؤونة الناس عليه فمن لم يحتمل تلك المؤونة عرض تلك النعمة للزوال». وقيل لحكيم اليونان: من أضيق الناس طريقًا وأملهم صديقًا؟ قال: من عاشر الناس بعبوس وجهه واستطال عليهم بنفسه، وقال عدي بن حاتم:
وقال النبي ﷺ: «خير من الخير معطيه، وشر من الشر فاعله». وقيل لبعض الحكماء: هل شيء خير من الذهب والفضيلة؟ قال: معطيهما.
والإسعاف في النوائب نوعان واجب ومبدع، فأما الواجب فما اختص بثلاثة أصناف وهم الأهل والإخوان والجيران، سُئل الأحنف بن قيس عن المروءة، فقال: صدق اللسان ومؤاساة الإخوان وذكر الله تعالى في كل مكان. وقال بعض حكماء الفرس صفة الصديق أن يبذل لك مالَه عند الحاجة ونفسه عند النكبة ويحفظك عند المغيب. ورأى بعض الحكماء رجلين مصطحبين لا يفترقان، فسأل عنهما فقيل: هما صديقان، فقال: ما بال أحدهما فقير والآخر غني. وقال الإمام علي: ليس حسن الجوار كف الأذى بل الصبر على الأذى، وقال بعض الحكماء: من أجار جاره أعانه الله وأجاره، وقال بعض الشعراء:
وقال بعض الشعراء:
وأما التبرع فإن كان بفضل الكرم وفائض المروءة فقد زاد على شروط المروءة وتجاوزها. وقيل لبعض الحكماء: أي شيء من أفعال الناس يشبه أفعال الإله؟ قال: الإحسان إلى الناس. قال بعض الأدباء: ثلاث خصال لا تجتمع في كريم حسن المحضر واحتمال الزلة وقلة الملال. وقال بعض العلماء: من هجر أخاه من غير ذنب كان كمن زرع زرعًا ثم حصده في غير أوانه، وقال أبو العتاهية:
وقال بعض الحكماء: لا تقطع أخاك إلا بعد عجز الحيلة عن استطلاحه، وقال الأحنف: حق الصديق أن تحتمل له ثلاثًا ظلم — الغضب وظلم الدالة وظلم الهفوة، وقال أبو نواس:
وقال بعض الحكماء: لا يفسدك الظن على صديق أصلحك اليقين له. وقال النبي ﷺ: «إياكم والمشارة فإنها تميت الغيرة وتحيي الغرَّة».
وقال بعض الحكماء: من فعل ما شاء لقي ما لم يشأ. وقال بعض الأدباء: من نالته إساءتك همه مساءتك. وقال بعض البلغاء: من أولع بقبح المعاملة أوجع بقبح المقابلة. وقال بعض الحكماء: من كنت سببًا لبلائه وجب عليك التلطف له في علاجه من دائه. قال لقمان لابنه: يا بني كذب من قال: إن الشر بالشر يُطفأ، فإن كان صادقًا فليوقد نارين ولينظر هل تُطفأ إحداهما الأخرى وإنما يطفئ الخيرُ الشر كما يطفئ الماء النار، وقال البحتري:
وقال النبي ﷺ: «الناس كشجرة ذات جنى ويوشك أن يعودوا كشجرة ذات شوك إن ناقدتهم ناقدوك وإن هربت منهم طلبوك وإن تركتهم لا يتركوك، قيل: وكيف المخرج يا رسول الله؟ قال: أقرضهم من عرضك ليوم فاقتك».
وقال عبد الله بن العباس: العاقل الكريم صديق كل أحد إلا من ضره، والجاهل اللئيم عدو كل أحد إلا من نفعه، وقال: شر أعدائك داؤك وفي البعد عنهم شفاؤك. وقال بعض الحكماء: شرف الكريم تغافله عن اللئيم، وقيل: دواء المودة كثرة التعاهد. وقال بعض الحكماء: رغبتك فيمن يزهد فيك ذل نفس، وزهدك فيمن يرغب فيك صغر همة. وقال بزرجمهر: من تغير عليك في مودته فدعه حيث كان قبل معرفته. وقال لقمان لابنه: يا بني لا تترك صديقك الأول فلا يطمئن إليك الثاني، يا بني اتخذ ألف صديق والألف قليل ولا تتخذ عدوًا واحدًا والواحد كثير. وقيل للمهلب بن أبي صفرة: ما تقول في العفو والعقوبة؟ قال: هما بمنزلة الجود والبخل فتمسك بأيهما شئت، وقال الشاعر:
وقيل في منثور الحكم: لا تأمنن لملول وإن تحلى بالصلة وعلاجه أن يترك على ملله فيمل الجفاء كما مل الإخاء، وإن كان لزلل لوحظت أسبابه، فقد حكي عن خالد بن صفوان أنه مر به صديقان له فعرج عليه أحدهما وطواه الآخر، فقيل له في ذلك، فقال: نعم عرج علينا هذا بفضله وطوانا ذلك بثقته بنا، وقال مسلم بن قتيبة لرجل اعتذر إليه: لا يدعونك أمر تخلصت منه إلى الدخول في أمر لعلك لا تخلص منه. وقال بعض البلغاء: من لم يقبل التوبة عظمت خطيئته ومن لم يحسن إلى التائب قبحت إساءته. وقال بعض الحكماء: الكريم أوسع المغفرة إذا ضاقت بالمذنب المعذرة، وقال بعض الشعراء:
وقال بعض الحكماء: شافع المذنب خضوعه إلى عذره، وقال بعض الشعراء:
وقد قيل: من سل سيف البغي أغمده في رأسه. وقال بعض الحكماء: مَن عاشر إخوانه بالمسامحة دامت له موداتهم.
وقال النبي ﷺ: «أجملوا في طلب الدنيا فإن كلًا ميسر لما كتب له منها» وقال: «ألا أدلكم على شيء يحبه الله تعالى، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: التغابن للضعيف».
وحكى ابن عون أن عمر بن عبيد الله اشترى للحسن البصري إزارًا بستة دراهم ونصف فأعطى التاجر سبعة دراهم، فقال: ثمنه ستة دراهم ونصف، فقال: إني اشتريته لرجل لا يقاسم أخاه درهمًا.
حكي أن فتى من بني هاشم تخطى رقاب الناس عند ابن أبي داود، فقال: يا بني إن الآداب ميراث الأشراف ولست أرى من عندك من سلفك إرثًا.
وأما الإفضال فنوعان: إفضال اصطناع، وإفضال استكفاف ودفاع، فأما إفضال الاصطناع فنوعان: أحدهما: ما أسداه جودًا في شكور، والثاني: ما تألف به نبوة نفور، وقال بعض الحكماء: أقل ما يجب للمنعم بحق نعمته أن لا يتوصل بها إلى معصية، وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
وأما إفضال الاستكفاف فلأن ذا الفضل لا يعدم حاسد نعمة ومعاني فضيلة فإن غفل عن استكفاف السفهاء، وأعرض عن استدفاع أهل البذاء صار عرضه هدفًا للمثالب وحاله عرضة للنوائب، وقال النبي ﷺ: «ما وقى المرء به عرضه فهو صدقة». وامتدح رجل الزهري فأعطاه قميصه، قال رجل: أتعطي على كلام الشيطان؟ فقال: من ابتغى الخير اتقى الشر، وقال النبي ﷺ: «اغتنم خمسًا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك».
وقال الشاعر:
وقال أبو تمام:
وقال الراعي:
وإليك بعض أبيات في وصف المروءة وأربابها:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
قال معاوية لقرشي: ما المروءة؟ قال: إطعام الطعام وضرب الهام، وقيل: المروءة أن تعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك، وجاء في القرآن: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل: ٩٠)، وقيل: الحسب إحصاء المكارم والنسب إحصاء الآباء. وقال عمرو بن معدي كرب في مدح قوم كرام: نعم القوم عند السيف المسلول والخير المسئول والطعام المأكول.
وقف أعرابي على قبر عامر بن الطفيل، فقال: لقد كنت سريعًا إذا وعدت بطيئًا إذا أوعدت وكانت هدايتك هداية النجم وجرأتك جرأة الشهم، وأخبر بعض الحكماء عن صاحب له، فقال: عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه فكان لا يشتهي ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد.
وقال رجل للمهدي: إنك ليوسفي العفو إسماعيلي الصدق شُعَبي الرفق سليماني المُلك داودي الفضل، وقال الشاعر:
الوعد والإنجاز والمطل
قال المهلب يوصي ابنه: يا بني إياك والسرعة عند المسألة بنعم، فإن مدخلها سهل ومخرجها وعرٌ، واعلم أن (لا) وإن قبحت فربما أفرحت فإذا سئلت ما قدرت عليه فاطمع ولا توجب وإذا علمت معذرة فاعتذر فالإتيان بالعذر الجميل خير من المطلب الطويل.
قيل: مَن كثر وعده ووعيده اجترأ عليه عدوه وصديقه، وقال العتابي:
وقال المتنبي:
وعد أبو الصفر أبا العيناء بشيء، فتقاضاه، فقال: غدًا، فقال له: إن الدهر كله غد فهل عندك وعد يخلو من المعاريض.
وللخوارزمي في مماطل:
لابن الرومي:
قيل من بذلَ لك حلوٌ مقاله ومرٌ نواله فهو عدوك المبين، وقيل لأبي العيناء كيف تركت فلانًا مع قومه؟ قال: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (النساء: ١٢٠)، وقال الشاعر:
وقال الصاحب: سأنجز الوعد حتى ترى الطل وابلًا والهلال بدرًا كاملًا.
وقف بعضهم على أبي داود وأنشد:
فقضى حاجته.
وقيل: أورقت نعمك فليثمر كرمك، وقال جحظة البرمكي:
وللمتنبي:
وقيل: وعد الكريم نقد وتعجيل، ووعد اللئيم مطل وتعليل.
سأل رجل أبا عمرو بن العلاء حاجة فوعده ثم لم ينجزه، فقال: أخلفت، فقال أبو عمرو: فمن أولى بالغم، قال الرجل: أنا، فقال: بل أنا لأني وعدتك فأُبت بفرح الوعد وأنا أُبت بهمِّ الإنجاز، ثم عاق القَدَرُ عن بلوغ الإرادة فلقيتني مدلًّا ولقيتك محتشمًا.
قيل لبعضهم: كيف حالك مع فلان؟ فقال: لا أحصل منه إلا على دق الصدر والجبهة، فقيل: كيف، قال إذا سألته دق صدره، وقال: (أفعل) وإذا عاودته وتقاضيته دق جبهته، وقال: (لا قوة إلَّا بالله نسيت).
الشفاعة والشفعاء
قال الله تعالى: مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا (النساء: ٨٥)، وقال: «الشفاعة زكاة ونصرة اللسان فوق نصرة السنان». وكان زياد يقول لأصحابه: اشفعوا لمن وراءكم فليس كل من أراد السلطان وصل إليه ولا كل من وصل استطاع أن يكلمه، وقال أبو تمام:
قيل لشعبة: أفنيت مالك وأخلقت جاهك في حوائج الناس، فقال: أصونهما للتراب، وقال أحدهم يصف شفيعًا:
وقال آخر:
وقال جحظة البرمكي: