أحاديث الأسبوع
كان جو القاهرة قلقًا مضطربًا أثناء الأسبوع، يذكر الشتاء المدبر فيستحضر بعض أرواح البرد، ويلمح الصيف المقبل فيسرع إلى بعض بشائر القيظ. وكان النهار ضعيف الذاكرة جدًّا، مُحِي الشتاء من نفسه محوًا على قرب عهد الشتاء، وكان الليل وفيًّا بعض الشيء، قوي الذاكرة إلى حدٍّ ما، رفيقًا بالناس بعض الرفق، كأنما كان يشفق عليهم من قسوة النهار ونسيانه للعهد، وزهده في الأمس وتهالكه على غد، فكان يثير لهم بعض هذه النسمات الهادئة الحلوة التي تغرق أحيانًا في الهدوء والخفة حتى توشك أن تكون لاذعة، وحتى تلفت الناس إلى أن من الخطر أن يخونوا عهد الشتاء كما خانه النهار، وأن يتهالكوا على عهد الصيف كما تهالك عليه النهار، وأن يتخففوا من ثيابهم، ويتهاونوا في الاحتياط والحذر من هذه الأرواح القليلة الخفية المغرقة التي تتعلق بشعاعٍ من أشعة القمر، أو بنفسٍ من أنفاس النسيم، والتي لا تكره أحيانًا أن تمس المهملين مسًّا خفيفًا، فتعرضهم للأذى، وتحملهم من الآلام جهدًا ثقيلًا.
وكان الناس، أو بعبارة أدق، كان الأدباء يُسايرون الزمان كدأبهم في كل حينٍ وفي كل بيئة، كانوا يفترون للنهار وينشطون لليل، كانوا يثقلون للظهر، ويخفون لمغرب الشمس، كانوا يؤدون أعمالهم خامدين هامدين في الضحى، أو يتخذون شكل الذين يؤدون أعمالهم وهم لا يؤدون منها شيئًا، فإذا ألقت الشمس يدًا في كافر كما كان يقول لبيد، خفت الأجسام، ونشطت النفوس، واتسعت الرئات للهواء، وتفتحت العقول والأذهان للخواطر، وانطلقت الألسنة بالحديث، ولم تكن أحاديث الأدباء في هذا الأسبوع قليلة الخطر، ولا ضئيلة الشأن، ولا هينة الأمر على المتحدثين بها من الأدباء، والمتناقلين لها من غير الأدباء، فهم قد بدءوا أحاديث الأسبوع بهذا الاجتماع الذي كان عند جماعة «الأسيست»، وقصد به لا أقول إلى إحياء ذكر مختار، بل أقول إلى ذكر مختار ليس غير. وكان حديث الأدباء عن هذا الاجتماع طريفًا؛ لأنه لم يزد على أن ذكره وألم به دون أن يفسره أو يعلق عليه. وهل أحاديث غير الأدباء في مصر الآن خير من أحاديث الأدباء؟ فأنت تستطيع أن تلتمس النشاط عند رجال السياسة، أو عند أصحاب المال، أو عند غير أولئك وهؤلاء من طبقات الناس، فإن استطعت أن تجد صورة من صوره فأنت منصفٌ حين تلوم الأدباء على القصور، وتعيبهم بالفتور. على أن شيئين لم يهملهما الأدباء حين تحدثوا عن هذا الاجتماع، إن كانوا قد تحدثوا عنه بالفعل أو خاضوا فيه حقًّا، ولم يكن هذا الحديث الذي أنقله عنهم خيالًا فاترًا فتور حياة الأدباء كلها في هذه الأيام. فأما أول هذين الشيئين: فهو أن هذا الاجتماع إنما كان أثرًا من آثار الشباب وحدهم، هم الذين فكروا فيه، وهم الذين دعوا إليه، وهم الذين ألحوا في الدعوة، فوفقوا إلى إكراه جماعة من الكهول والشيوخ على الاستجابة لدعوتهم، وظفروا من جماعةٍ أخرى بالوعود والأماني التي لم يُقدَّر لها الوفاء ولا التحقيق، ولم يظفروا من جماعة آخرين بوعدٍ ولا أمنية، فضلًا عن الوفاء أو التحقيق.
وأما الشيء الثاني فهو أن هذا الاجتماع لم يحدث في الأدب حدثًا، ولم ينتج له جديدًا، إلا كلمة طريفة قيمة مؤثرة قالها صديقنا مصطفى عبد الرازق. فأما ما دون هذه الكلمة فلم يكن شيئًا، حتى إن صديقنا مطران لم يستطع إلا أن يعيد على السامعين قصيدة رائعة بارعة من غير شك، ولكنها قديمة، أُنشئت وأُنشدت لاستقبال مختار حين عاد ظافرًا يستقبل المجد، ثم استخرجت وأُنشدت لوداع مختار حين استأثر به الموت، فولَّى يودع المجد ويودع الحياة. والغريب أن هذا الاجتماع كان لتكريم الفن، ولتأبين المثَّال الأول في تاريخ مصر الحديثة، المثال الذي ابتكر من الآثار ما يُقال إنه جميل رائع ينطق البكم ويثير حس الذين لا يثور لهم حس، ويفيض شعور الذين لا يفيض لهم شعور، ومع ذلك فهو لم ينطق أدباءنا، وما أكثر ما كانوا ينطقون! ولم يثر حسهم، وما أكثر ما كان يثور! ولم يفض شعورهم، وما أكثر ما كان يفيض! تساءل الأدباء عن مصدر هذا في السر أو في الجهر؟ في النوم أو في اليقظة؟ في الحقيقة أو في الخيال؟ فكان الجواب أن مصر الآن نائمة تستريح.
ثم مضى من الأسبوع يوم ويوم ويوم، وإذا الأدباء ينسون حديث مختار إن كانوا قد ذكروه؛ لأن حديثًا آخر قد فُتحت لهم أبوابه، ومُدت لهم أسبابه، وهو حديث صحيفة اضطرها حكم القضاء إلى الصمت، فتفرق كتابها، وانتشر أصحابها في الأرض يبتغون من فضل الله عليهم وعلى الناس، وسكت هذا الصوت، أو هذه الأصوات التي كانت تُسمع مع الصباح في كل يوم، والتي كانت تفتح للساسة والأدباء وأصحاب الاقتصاد والذين يلتمسون الأنباء فنونًا من القول وألوانًا من الحديث. تحدث الأدباء عن هذا الحدث الأدبي السياسي، في السر أو في الجهر، في النوم أو في اليقظة، في الحقيقة أو في الخيال، وتساءلوا ما باله لم ينطق الأدباء بشيء؟ فكان الجواب أن مصر الآن نائمة تستريح.
ثم مضى من الأسبوع يوم ويوم ويوم، وإذا حفلٌ يقام واجتماعٌ يحتشد له الناس في ملعب من ملاعب التمثيل، وإذا خطب تُلقى مختلفة ألوانها، متباينة أشكالها. وإذا شاعر يُكرم بهذا الاجتماع الضخم، وبهذا الاحتفال الرائع، وبهذه الخطب الطوال. وإذا الأدباء — أستغفر الله — بل الشعراء منهم خاصة، يتحدثون بهذا الحدث الأدبي، ويتناقلون أنباءه، ويفسرونها ويؤولونها، في السر أو في الجهر، في النوم أو في اليقظة، في الحقيقة أو في الخيال، ثم يتساءلون ما بال الشعر لم يأخذ بحظه من تكريم الشعر؟ وما بال الشعراء لم يشاركوا في تكريم الشاعر؟ فكان الجواب أن مصر الآن نائمة تستريح.
وأنا أعترف بأني لم أكره هذا الجواب، ولم أضِقْ به، فحب النوم والإغراق في الراحة شر، ولكن بعض الشر أهون من بعض، وأنا أعترف بأني أوثر هذا الجواب على جوابٍ آخر بغيض، لا أحب أن أسمعه ولا أن يسمعه غيري، ولا أن يكون هو المصور لحقيقة الأمر، وقد كان يهمس به بعض الناس الذين يفترون الكذب على الله وعلى الناس، فكانوا يقولون وليتهم لم يقولوا: إنما تثاقل الأدباء والمثقفون من ذكر مختار لأن ذكر مختار شيء يُخاف، وكانوا يقولون وليتهم لم يقولوا: إنما سكتت أصوات الأدباء عن صمت أولئك الكتاب لأن التعرض لصمت أولئك الكتاب أو نطقهم شيء يُخاف، وكانوا يقولون وليتهم لم يقولوا: إنما ثقل الشعر على تكريم العقاد لأن تكريم العقاد شيء يُخاف من جهة، وشيء يشق على الشعراء من جهة أخرى. وقد استقر الخوف على أحد جناحي الشعر، واستقرت المنافسة على جناحه الآخر، فظل المسكين جاثمًا على الأرض، لا يستطيع أن يرقى في الجو، ولا أن يسبح في الهواء.
أما أنا فلم يعجبني الجواب الأول؛ لأني رجلٌ لا أحب النوم، ولا أستريح إلى الراحة، ولم يعجبني الجواب الثاني؛ لأنه كذب كله، أملاه سوء الظن وحب الكيد. ولهذا أعرضت عن أحاديث الأدباء في هذا الأسبوع، وتحدثت إلى نفسي، وإلى نفسي وحدها، بحديثٍ لا صلة بينه وبين الأدب، ولا صلة بينه وبين السياسة، ولا صلة بينه وبين شيء مما يُعنى به الناس الممتازون في هذه البلاد الآن، وهو حديث المنجمين. لا تعجب ويأخذك الدهش، فقد فكرت في المنجمين وأطلت التفكير، ألم تزعم لنا الصحف أن السلطان يطارد التنجيم والمنجمين في مصر؟ فما يمنعني أن أفكر في التنجيم والمنجمين وأنا أقرأ في الصحف الأوربية أن التنجيم ينهض في أوربا بعد كبوته ويستيقظ بعد نومه الطويل، ويسترد مكانته العليا في قصور الملوك ودواوين الوزراء، أستغفر الله! بل في ميادين القتال، بل في الجامعات أيضًا، فهذه صحيفة فرنسية — النوفيل ليترير — تحدثنا بأن صاحب الجلالة جورج الملك الإمبراطور، قد عُني بالتنجيم وحديث المنجمين، فأبى أن يسافر ابنه إلى أستراليا في يوم كان المنجمون يخافون منه الشر، واحترقت فيه طيارة فرنسية كانت تحمل حاكم الهند الصينية العام.
والصحيفة نفسها تحدثنا بأن الزعيم الإيطالي العظيم يحفل بالتنجيم والمنجمين، كما يحفل بالسياسة والساسة، وهي تحدثنا بأن الألمانيين كانوا قد ألحقوا بقيادتهم العليا أثناء الحرب مُنجمين، وكانت كلمة هؤلاء المنجمين مسموعة، وكانت وعود المنجمين لقواد الألمان أصدق من وعيد المنجمين للمعتصم بن الرشيد. والصحيفة نفسها تحدثنا بأن الألمانيين أنشَئوا كرسيًّا للتنجيم في جامعة برلين سنة ١٩١٨. ثم الصحيفة نفسها تلوم فرنسا لأنها لا تُعنى بالتنجيم والمنجمين عناية الإنجليز والإيطاليين والألمان، فكيف لو علمت هذه الصحيفة أن المصريين يعدون التنجيم إثمًا، ويرون المنجمين جماعة من المتشردين؟ ألا يؤذن لنا في أن نلفت السلطان إلى أنه ليس من الضروري أن يكون بيننا وبين الأوربيين هذا الأمد البعيد فنحارب التنجيم ونعرض عنه حين يؤيده الأوربيون ويقبلون عليه؟ أليس من الخير أن يكون لكل وزارة منجمها؟ بل ما لنا وللوزارات ومنجميها؟ ألسنا نرى أن التحدث إلى النفس في التنجيم والمنجمين خيرٌ من التحدث إليها في الأدب والأدباء؟