الخيال العاقل
إلى أخي الزيات
أعرفت قط خيالًا عاقلًا أيها الأخ العزيز؟ أما أنا فقد عرفته أمس، ولم أتكلف في معرفته مشقة ولا جهدًا، ولم أنفق في البحث عنه قوة ولا وقتًا، بل لم أبحث عنه وإنما سعى إليَّ، أو قل هممت أن أدعوه فاستجاب لي قبل الدعاء، ولكني لم أدعه لأعرفه؛ فإن عهدي به بعيد، بعيد جدًّا لا أكاد أذكر أوله، وإنما أعلم أنه رفيقي منذ بدأت أفكر، بل منذ استقبلت الحياة، ما أكثر ما زين لي الأشياء حتى كلفت بها ورغبت فيها! وما أكثر ما بغَّض إليَّ الأشياء حتى نفرت منها وضقت بها! وما أسرع ما اخترع لي أشياء لم أكن أعرفها ولا أقدرها، فإذا هي تملأ قلبي أملًا ورجاء، وتدفعني إلى العمل والنشاط، وإذا هي تملأ قلبي يأسًا وقنوطًا، وتدفعني إلى الفتور والخمود والانزواء!
لقد خلق لي عالمًا كاملًا بعيد الآماد، متنائي الأرجاء، مختلف الألوان، قضيت فيه أيام الصبا وما أكثر ما تمنيت أن أعود إليه! ثم خلق لي عالمًا آخر ليس أقل من ذلك العالم سعة وتنوعًا واختلافًا، ولكنه مزاج من الجمال والقبح، ومن اللذة والألم، ومن اليأس والأمل، قضيت فيه أيام الشباب وما زلت أتمنى أن أعود إليه. ثم هو يرافقني الآن فيزين لي الحياة قليلًا، ويقبحها في نفسي كثيرًا، ويحاول أن يخلق لي ما يسر، ويحاول أن يخلق لي ما يسوء، فأطيعه حينًا، وأعصيه أحيانًا، ولكنه وفيٌّ لي دائمًا كلما أردت استعانته على الكتابة والإنشاء، وأعترف أيها الأخ العزيز بأني كنت مقتصدًا أشد الاقتصاد في الالتجاء إليه والاستعانة به؛ لأني أعرفه جريئًا مُسرفًا في الجراءة، نشيطًا غاليًا في النشاط، يخترع من الصور وفنون المعاني ما لا أطيق أن أعرضه على بيئاتنا الاجتماعية التي تقتصد في الاطمئنان إلى وحي الخيال.
عرفته وفيًّا نشيطًا متأهبًا دائمًا للمعونة كلما دعوته أو فزعت إليه، مقدمًا من هذه المعونة أكثر مما أسأله، وأعظم جدًّا مما أقترح عليه. وقد دعوته أمس فاستجاب لي مسرعًا غير مُبطئ ولا متثاقل، بل أشهد لقد كان يكاد يتمزح نشاطًا ومرحًا، ولقد كنت أتهيأ للكبح من جماحه والرد من نشاطه، وأخذه بكثيرٍ جدًّا من الأناة والقصد كما تعودت دائمًا، ولكني لم أكد أعرض عليه ما كنت أريد أن يعينني على الأخذ فيه حتى كفكف من نشاطه، واتَّأد في غُلَوَائِه، وابتسم ابتسامة الهادئ المطمئن، وقال في صوت الراضي الرزين في غير عجز مؤلم، ولا قصور موئس: «إليك عني، فلست مما تريد في شيء». ذلك أني كنت أريده على أن يمدني بما أصور به فصلًا من حياة النبي الكريم في هذه الأيام التي يذكر فيها المسلمون أكبر حدث من أحداثهم، وأعظم عبرة من عبرهم، والتي يعود فيها المسلمون قرونًا طوالًا من الزمان ليشهدوا ذلك اليوم العظيم الذي خرج فيه النبي وصديقه الصدِّيق من مكة مهاجريْن إلى الله بآمال سيفنى الزمان قبل أن تفنى، وإيمان سيزول هذا العالم قبل أن يدركه ضعف ويسعى إليه فتور، وثقة بنصر الله عاشت عليها الأجيال التي لا تحصى، وستعيش عليها الأجيال التي لا تحصى، وسيستمد المسلمون منها أبدًا قوة على الجد والكد، واستقبال الحياة بما فيها من خيرٍ وشر، ومن حلوٍ ومر، ومن محنةٍ ونعمة.
نعم، دعوته أيها الأخ العزيز إلى أن يلهمني بعض ما تعوَّد أن يُوحي إليَّ من الصور، فأعرَض في غير غضب، وامتنع في غير بخل، وألحَّ في الإعراض والامتناع، فلما ألححت عليه تبينت منه الاستحياء وإيثار العافية، والضن بنفسه على ما لا يحسن، وتجنيبها ما لا يطيق، وإذا هو يقول لي في لهجة الهادئ المطمئن: استعنِّي فيما شئت، فقد عرفت قدرتي على الاختراع والابتكار، وحسن بلائي في لبس الحق بالباطل حتى يصبح زينة كله، ولكن من الحق ما هو أرفع من أن أسمو إليه مهما أكن قوي الجناح، وأوضح من أن أجلِّيَه مهما أكن قوي النور، وأسطع من أن أوضحه مهما أكن نافذًا بعيد الهم، وأنصع من أن أزينه مهما أكن ماهرًا في اختراع الزينة وابتكار الجمال.
ولئن حدثتك عن هذا الرجل الكامل لأحدثنك حديث العقل، أستغفر الله! فما يستطيع العقل أن يحدثك عنه كما يجب؛ لأنه أكرم وأرفع وأرقى من أن يبلغه العقل، كما أنه أكرم وأرفع وأرقى من أن يبلغه الخيال. اجتهد في أن تتمثل ما أتيح للناس أن يعرفوا من حياته، ثم انظر فيه واستمد منه فلستَ مُحتاجًا مع ذلك إلى معونة عقل أو خيال.
انظر إلى الناحية الحزينة من حياته، واقصص على نفسك أطرافًا منها، فإن لم تملأ قلبك عبرة وعظة وجمالًا وحبًّا وإكبارًا دون استعانة بعقلٍ أو خيال، فلست إنسانًا ولست من الإنسانية في شيء.
انظر إلى هذا الذي ذاق اليتم جنينًا إن كان للأجنَّة أن يذوقوا المعاني والآلام، ثم لم يكد يستقبل الحياة ويتقدم في الصبا حتى ذاق اليتم مرة أخرى، ففقد أمه بعد أن فقد أباه، ثم لم يكد يتقدم خطوات أخرى في الصبا حتى ذاق اليتم مرة ثالثة ففقد جده بعد أن فقد أبويه، ثم ألحَّت عليه حياة فيها شدة وجهد، وفيها حرمان وفقر، وفيها ضيق وضنك، ثم تظاهرت هذه الآلام كلها على نفسه الكريمة الناشئة فلم تستطع أن تبلغها ولا أن تنال منها؛ لأن الله قد قطع الأسباب بين هذه النفس المُصفَّاة وبين البؤس والشقاء. ثم امضِ معه خارجًا من الصبا داخلًا في الشباب متقدمًا فيه، فإذا الحياة كما هي شديدة شاقة ثقيلة ضيقة، ولكنه مبتسم الشباب كما كان مبتسم الصبا، وادع النفس رجلًا كما كان وادع النفس طفلًا. إنه يجدُّ ويعمل، إنه يكدُّ ويكدح، إن الحياة تبسم له أحيانًا، إن الناس من حوله يحبونه ويقدرونه ويكبرونه ويثقون به، ويطمئنون إليه ويلتمسون به العافية والسلم، ويحكمونه فيما يشجر بينهم من خلاف، فلا يعرِّضه ذلك لبطرٍ ولا لأشر؛ لأن الله قد قطع الأسباب بين نفسه المُصفَّاة وبين ما يشوب حياة الناس من الأشر والبطر والغرور. ثم انظر إليه وقد اختاره الله لخير ما يؤثر به عبدًا من عباده، وحمَّله أثقل أمانة حمَّلها أحدًا من خلقه، فإذا هو يَلْقَى هذا العبء الثقيل جلدًا له، صبورًا عليه، ناهضًا به ماضيًا فيه، لا يعرف كلالًا ولا ملالًا ولا فتورًا؛ لأن الله قطع الأسباب بين نفسه المُصفَّاة وبين ما يشوه حياة الناس من الكلال والملال والفتور.
ثم انظر إليه يذوق الثُّكل بعد أن ذاق اليتم، ويُمتحن في نفسه وسمعته، ويمتحن في صحبه وأولي نصره، ويمتحن في بنيه، ثم يمتحن في زوجه التي جعلها الله رحمة يسكن إليها ويعتز بها، ثم يمتحن في دينه، ثم يمتحن في كل شيء، ثم يمتحن في كل إنسان، فإذا هو كما هو، باسم الكهولة كما كان باسم الشباب وكما كان باسم الصبا، لا يعرف الضعف ولا اليأس ولا هذا الاكتئاب العقيم إليه سبيلًا؛ لأن الله قطع الأسباب بين نفسه المُصفَّاة وبين الضعف واليأس والاكتئاب العقيم.
ثم انظر إليه وقد أنكر قومه وأنكره قومه، وقد ضاقت به مكة وضاق به ما حول مكة، وقد لقي المحن التي لا تُحتمل والمكروه الذي لا يُطاق، فلم يدركه نُكول ولا استسلام، وإنما فُتحت له أبواب الأمل، وفرَّج عنه تأييد الله له ما تضايق من الأمر، فإذا هو يهاجر إلى يثرب، أفتراه اطمأن فيها إلى الدعة ونعم فيها بالخفض واللين؟ كلا، ما هذه الحروب التي لا تنقضي، والتي يمتحنه الله فيها بالنصر حينًا وبغير النصر حينًا آخر؟ ما هذا الجهد الذي لا ينقضي؟ ما هذا الضيق الذي يضطره أحيانًا إلى الجوع؟ ما هذه الخيانات تأتيه من المنافقين؟ ما هذه الخيانات تأتيه من حلفائه من يهود؟ ما هذا الموت يتخطف أعز أصحابه عليه وآثرهم عنده؟ أفتراه يئس لذلك أو ضعف عن احتماله، أو اضطره شيء من ذلك إلى أن يحيد عن طريقه المستقيمة قِيد شعرة؟ كلا، لأن الله جعل نفسه الكريمة مضاء كلها، وإباء كلها، وصبرًا كلها، وثقة بالله كلها. ثم انظر إليه وقد تقدمت به السن، ولم يبقَ له من بنيه وبناته إلا فاطمة — رحمها الله — وإذا الأيام تبسم له، وإذا الأمل يشرق أمامه، وإذا المبشرات يُنبئنه بأن الله قد رزقه غلامًا فيسميه باسم أبيه إبراهيم، وإذا قلبه مسرور محبور، وإذا هو يُشرك المسلمين معه في سروره وحبوره فيبشرهم بما بُشِّر به، ويجد المسلمون أن عينه قد قرت فتقر عيونهم، وأن نفسه قد طابت فتطيب نفوسهم، وأن قلبه الكريم يتفتح للأمل فتتفتح قلوبهم للآمال، ولكن الله يأبى إلا أن يمتحنه شيخًا كما امتحنه صبيًّا وشابًّا وكهلًا وإذا إبراهيم يُنزع منه ولمَّا يتم الرضاع، أفتراه جزع لذلك أو أدركه ما يدرك الشيوخ من وهنٍ وضعف؟ كلا، إن الله قد قطع الأسباب بين نفسه المصفَّاة وبين الوهن والضعف، لم يتم إبراهيم رضاعه في الدنيا، فسيُتِمُّه في الجنة. وانظر إلى أبيه وإنه ليسعى في جنازته محزونًا، ولكن حزن الكرام لا حزن اليائسين ولا حزن القانطين، وإنه ليقوم على قبره وإنه ليُعنَى بتسوية القبر وترويته وصب الماء عليه، وإنه لينصح للمسلمين إذا عملوا عملًا أن يتموه وإن لم يكن لذلك غَناء ظاهر؛ لأن من كمال العقل أن يُحسن الرجل ما يعمل. ثم انظر إليه يعلن إلى ربه أنه راضٍ بقضائه، مُذعنٌ لأمره، مؤمن بحكمته، ويعلن إلى ابنه أنه محزون لفقده. ثم انظر إليه، إن عينيه الكريمتين لتدمعان! وما يمنعه أن يبكي وإن البكاء ليتم مروءة الرجل أحيانًا؟ ولكن انظر إليه، أترى شيئًا من حياته قد تغير؟ أترى شيئًا من رأيه في الحياة قد تغير؟ كلا، ما كان للأحداث في هذه الدنيا أن تغير نفسًا هي أكبر من الدنيا.
قلت لهذا الخيال: ما رأيت كاليوم خيالًا عاقلًا رشيدًا؛ إن في حديثك لعبرة لمن أراد أن يعتبر. قال: وأي غرابة في أن يعقل الخيال ويرشد إذا تحدث عن محمد، وإن كان من طبعه الطموح والجموح؟ قلت: لأنقلن حديثك هذا إلى صديقٍ محزون جزع. قال: انقله راشدًا إلى صديقك وإلى كل محزون جزع، فما أرى أن مسلمًا يتمثل حياة محمد من هذه الناحية من نواحيها ثم يعرف اليأس أو الجزع إلى قلبه سبيلًا.