أزمة الجامعة
لست أُحسن التنبؤ بما سيكون في غد، ولا حظ لي من القدرة على التحدث بالغيب، ولم أتعلم قط ضرب الرمل ولا استشارة الودع، ولا قراءة خطوط الكف، ولا استنباء الورق عما سيكون. ومع ذلك فقد كنت مُتنبئًا أو كالمتنبئ حين كتبت مُتحدثًا عن الجامعة، فقد كنت أقدر في ذلك الفصل أن الجامعة بعد أن رُدَّ إليها استقلالها وبعد أن تم لها تكوينها بضم المدارس العليا إليها قد أصبحت أعظم قوة عقلية ومعنوية في مصر. ولم أكن في حاجةٍ إلى شيء من هذه المؤهلات التي أشرت إليها آنفًا، بل لم أكن في حاجةٍ إلى ذكاء ممتاز لأتنبأ بهذه الحقيقة التي أثبتتها الأيام بعد أن أذعتها في الناس بشهرٍ ونصف شهر، ذلك أن طبيعة الأشياء تفرض هذه الحقيقة على مصر فرضًا، فالعقليون في كل أمة متحضرة هم مصدر القوة الصحيحة؛ لأنهم هم الذين يفكرون ويقدرون، وهم الذين يعدون ويدبرون، منهم تصدر الآراء والخواطر التي ينبعث عنها العمل في كل بيئة من بيئات العمل، وإليهم تعود هذه الآراء والخواطر بعد أن تتصل بالعاملين في بيئاتهم التطبيقية فيدركها، التمحيص الذي يصلح ما قد يكون فيها من خطأ ويُقوِّم ما قد يكون فيها من عوج، ويُكمل ما قد يكون فيها من نقص، ويحذف ما قد يكون فيها من زيادة، ويُهدئ ما قد يكون فيها من غلوٍ أو إسراف. وخذ أي مظهر من مظاهر الحياة العاملة في أي بيئةٍ من بيئات النشاط القومي ثم حلله وعلله فسترى أنه صدر عن العقليين فبعث نشاط العاملين وأنه عاد إلى العقليين فمكنهم من إصلاح آرائهم وتقويم نظرياتهم ثم عاد بعد ذلك إلى العاملين فمنحهم قوةً إلى قوة، ونشاطًا إلى نشاط، وإنتاجًا إلى إنتاج.
ذلك حقٌّ واقع في كل بلدٍ من بلاد الأرض يستمتع بحظٍّ ولو قليل من الحرية. على أن ظواهر الأشياء قد تخدع الناس أحيانًا عن هذا الحق الواقع فتصور لهم تكوين الجماعة على أنه مؤلَّف من عناصر مختلفة، فرجال العقل يعملون من ناحية، ورجال الاقتصاد والمال يعملون من ناحيةٍ أخرى، ورجال السياسة والحرب يعملون من ناحيةٍ ثالثة، والطبقات العاملة في الحياة المادية اليومية طبقات الزراع والصناع والتجار تعمل من ناحيةٍ رابعة.
ولكن هذه كلها ظواهر تنتهي عند أيسر التروية والبحث إلى أن هؤلاء جميعًا مهما يكن بينهم من الاختلاف وتباين النشاط إنما يصدرون فيما يعملون عن الفكرة التي تنشأ في مكتب الأستاذ من أساتذة الجامعة أو من أساتذة المدارس الفنية الخاصة أو في معملٍ من معامل التجربة والاستقصاء عن العقل، إذن تصدر القوة فتبعث على العمل وإلى العقل، إذن تعود القوة فيدركها التمحيص والإصلاح والتهذيب. فالذين يلغون من حسابهم في سياسة الأمم وتدبير الشعوب رجال العقل والتفكير، يخطئون خطأ فاحشًا ويأثمون إثمًا شنيعًا. وحياة العقليين مُغرية لغير العقليين بإهمالهم والإعراض عنهم، فالعقليون مبهورون بروعة البحث وجمال العلم، منصرفون إليهما عن أي شيءٍ آخر. لا يكادون يفكرون في النتائج العملية والآثار المادية لحياتهم العقلية العليا. هم يُحسنون إلى الناس ويلقون منهم العقوق والإعراض ولا يحسون هذا العقوق والإعراض؛ لأنهم في شغلٍ بحقائق العلم عن صغائر الأمور، وكل ما ليس علمًا فهو عندهم من صغائر الأمور، ولكن حياة الأمم ليست أمنًا كلها وكثيرًا ما يعرض فيها الخوف وكثيرًا ما يعرض فيها الفزع، والخوف والفزع أبغض الأشياء إلى العقليين؛ لأنهما يحولان بينهم وبين الاستمتاع بروعة البحث وجمال العلم.
فالعقليون مُعرِضون عن كل شيء إذا أمنوا على نشاطهم العقلي فإذا لم يأمنوا فهم كغيرهم من الناس، بل هم أكثر من غيرهم من الناس قلقًا واضطرابًا، ثم سخطًا وإنكارًا ثم ثورة واندفاعًا في الثورة. وتستطيع أن تبحث في تاريخ الأمم المتحضرة كلها فستجد حياة العقليين فيها ملائمة كل الملاءمة لهذه الصورة التي أعرضها عليك. فإذا قال قائلٌ إن الجامعة في مصر بعد أن تم لها استقلالها، وتم لها تكوينها القوي قد أصبحت أعظم قوة معنوية في هذا البلد، فهو لم يقل شيئًا غريبًا، ولم يستكشف شيئًا يحتاج استكشافه إلى الذكاء. ولقد استأنفت الجامعة المصرية حياتها هادئة ولكنها لم تكد تمضي في هذه الحياة أسابيع حتى أحست قلقًا من حولها أخذ يعظم ويشتد، ثم أخذ يسعى إليها سعيًا، ثم أخذ يستقر فيها استقرارًا إن أمكن أن يستقر القلق.
فهذه القصة التي ثارت حول قبول الطلاب في بعض الكليات، ثم العدول بهم عن هذه الكليات ثم الرجوع بهم إليها، لم تترك الجامعيين وما كانوا يحبون من دعة وهدوء، بل لم يقف أمر هذا القلق الجامعي عند هذه القصة وإنما كانت هذه القصة مظهرًا من مظاهره. وليس سرًّا من الأسرار أن الجامعيين قضوا الشهر الأول من ذلك العام قلقين أشد القلق، ضيقين أشد الضيق، يكاد التشاؤم يكون أظهر ما يساور نفوسهم من عاطفة أو شعور. وكانت الجامعة في هذا القلق والتشاؤم مرآة للشعب كله، فهؤلاء الآلاف من الأساتذة والطلاب صورة لأسرهم الكثيرة المنبثة في أقطار مصر، وكل منهم يحس ما تحسه أسرته من أمن وخوف ومن قلق واستقرار، فلما كانت الأزمة السياسية صادفت جامعيين قلقين لا يجدون من حولهم ما يمكنهم من الفراغ الآمن بما يحبون من بحث ودرس. فاضطربوا ثم اتصل اضطرابهم، ثم اشتد ثم استمر، ثم لم يحفل بالنذر ولم يكترث للوعيد، ثم مضى في طريقه وقد أبى إلا أن يقول الجامعيون رأيهم واضحًا صريحًا حازمًا مهما يكلفهم ذلك من هول، وقد قال الجامعيون رأيهم حازمين مخلصين، وقد اضطربت من حولهم الأمور وجاءتهم النذر يسعى بعضها في أثر بعض، فلم يغيروا من موقفهم شيئًا، وإنما مضوا أمامهم حتى انتهوا إلى ما انتهوا إليه. وقد يكون من الحق أن يسجل للجامعيين أنهم كانوا قوام هذه الحركة الأخيرة، بدأت في جامعتهم ثم مضت معهم في جميع الأنحاء والأرجاء، قوية حازمة ماضية لا تلوي على شيء. وقد يكون من الحق أيضًا أن يسجل للجامعيين أنهم رأوا في اجتماع الكلمة وسيلة إلى الاحتفاظ بكرامة مصر والذود عن حقها، فاعتزموا أن يصلوا إلى جمع هذه الكلمة ووُفِّقوا من ذلك إلى ما أرادوا. ولو لم يكن للجامعيين إلا أنهم قد وحدوا الكلمة بعد اختلافها، وجمعوا الرأي بعد افتراقه، وأنبَئوا العالم كله بأن مصر لم تنسَ حقها ولم تطمئن إلى الضيم ولم ترضَ العنف والخنوع؛ لكان هذا وحده خليقًا أن يُسجَّل على أنه فصلٌ من أروع فصول التاريخ لهذه الجامعة الناشئة.
وقد يُلاحظ على الجامعيين أنهم أقحموا أنفسهم وجامعتهم في السياسة، وما ينبغي للجامعيين ولا للجامعة أن يكون بينهم وبين السياسة سبب من قريب أو بعيد. وقد سجل مجلس الوزراء هذا اللوم تسجيلًا في القرار الذي أصدره فأغلق به الجامعة إلى أجلٍ غير مُسمَّى، وأظنني أصف رأي الجامعيين أصدق الوصف إن قلت إنهم يكرهون السياسة أشد الكره ويكرهون أن يُدفعوا إليها، ويتمنون دائمًا لو استقامت الأمور ومضت على وجهها ففزعوا لدرسهم وبحثهم وانصرفوا إليهما عن غيرهما من أعراض الحياة. ولكن الجامعيين كغيرهم من المصريين مكلفون الذود عن وطنهم حين يتعرض للخطر والدفاع عن كرامة وطنهم حين تُهان. أفلو اعتدى معتدٍ على مصر واضطر حكومتها إلى أن تعلن الحرب يُعفى الجامعيون من حمل السلاح والسعي إلى الميدان؟ كلا إن الذود عن الوطن لا يعرف جامعيًّا ولا غير جامعي، وإذا تعرض الوطن للخطر فالمصريون جميعًا سواء، يجب عليهم أن يشتركوا في التضحية حتى يأمن الوطن بعد خوف.
وإنما يُلام الجامعيون إن دخلوا في السياسة الحزبية أو أعانوا فريقًا من المصريين على فريقٍ، فأما أن يدخل الأجنبي في شئونهم فينكروا عليه ذلك ويردوه عنه أشد الرد فواجبٌ وطني لا يسعهم التقصير فيه إلا أن ينكروا مروءتهم ورجولتهم. وويلٌ للجامعة إن كان من برنامجها قبول أبنائها للضيم وإذعانهم للسلطان الأجنبي!