قبل أن نقارن
شكرًا نجيب محفوظ!
فقد أتاحت لي الفترة التي قمت فيها بإعداد هذا الكتاب، أن أعاود
قراءة إبداعك الجميل، مرَّةً واحدة، في فترة متقاربة، وأن أشاهد
الأفلام المأخوذة عن بعض هذا الإبداع، من روايات وقصص قصيرة؛ مما جعلني
أعايش عالم الكاتب البالغ الاتساع، رغم ضِيق المكان فيه، وذلك من خلال
شخصيَّاته، والأماكن التي يعيشون فيها، والمصائر التي تنتظرهم،
بالإضافة إلى مواقفهم من الحياة، والكون، والمسائل القدريَّة.
جاءت فكرة هذا الكتاب، من خلال اهتمامي بالمقارنة دومًا بين النصوص
الأدبية، والأفلام السينمائية المأخوذة عنها، سواءً في الآداب
العالميَّة أو المحليَّة، وهو أمر مُهمٌّ للغاية؛ حيث لاحظت دومًا أن
الكثيرين من المُهتمين بالسينما المصرية، ومنهم نقاد، لا يقرءون الآداب
إلا قليلًا، وأن أدباء ينظرون إلى السينما في بعض الأحيان، نظرةً
دُونيَّة، فلا يتابعون الجديد منها، وإن كان بعض الأدباء قد صاروا
نجومًا في السينما بفضل إبداعاتهم؛ لذا فإن الدراسات المقارنة الحقيقية
بين الآداب والسينما قليلة للغاية، رغم هذا الكمِّ الكبير من الأفلام
الجيدة، والمتميزة المأخوذة في كل أنحاء الكون عن الأدب. مهما قِيل إن
الفيلم صورة، فهو أيضًا قصة وحوار.
وكم قِيل في هذه العلاقة بين الفيلم والنَّص الأدبي، وكم نُوقِشت
مسألة الالتزام، أو الخروج عن النَّص الأدبي، وقد كانت أعمال نجيب محفوظ هي الأكثر جدلًا في هذا الأمر، ليس
فقط لأن أعمال الكاتب كانت الأكثر أهمية، ولكن أيضًا لأن محفوظ هو أقدم
الروائيِّين ارتباطًا بالسينما، سواءً ككاتب سيناريو منذ بدايته عام
١٩٤٧م، أو منذ أن تم الانتباه إلى إنتاج رواياته، عام ١٩٦٠م، وحتى
الآن. فليس هناك أديب آخر ظلَّت له هذه العلاقة بالسينما طوال هذه
السنوات الطويلة، بالإضافة إلى أنه تعاون في كتاباته للسيناريو مع أبرز
المُخرجين، وفي مُقدِّمتهم صلاح أبو
سيف، الذي كان يفخر دومًا أنه علَّم نجيب محفوظ حِرفيَّة
كتابة السيناريو.
لذا فإن مناقشة مسيرة محفوظ في السينما، ستظل أمرًا متجددًا في مسألة
الدراسات والبحوث السينمائية، خاصةً المقارنة منها.
وقد لفتت هذه العلاقةُ الكثيرَ
من الباحثين، فقدَّموا العديد من الدراسات والمقالات في هذا الشأن،
ولعل الموسوعة التي أعدَّها الدكتور مدكور
ثابت عن نجيب محفوظ والسينما في أكاديمية الفنون، تكشف قوة
هذه العلاقة، رغم أنه ليس كل ما كُتب عن الكاتب والسينما مرصود في هذه
الموسوعة. كما أن الكتب التي تناولت إبداع محفوظ في السينما لم تتوقف
إلا عند أفلامٍ بعينها؛ حيث بدا إلى أيِّ حدٍّ صار من الصعب على أيِّ
باحثٍ أن يرصد هذه العلاقة.
ومن هنا جاء شكل الكتاب الذي نقدِّمه اليوم عن العلاقة بين الفيلم
والرواية عند الكاتب، أو بشكلٍ عام بين النَّص الأدبي، أيًّا كان
روايةً أو قصةً قصيرة، وبين النَّص السينمائي، إنه كتاب مقارنة في
المقام الأول بين الطرفين؛ الفيلم، الرواية. وبالعكس. هو قراءة لكلا
النَّصَّين معًا؛ أيْ قراءة النَّصِّ السينمائي، مع أصله النَّصِّ
الأدبي، ماذا لفت كاتب السيناريو في النَّصِّ الأدبي؟ وماذا توقف عنده؟
وماذا حذف من النَّص؟ ثُم إضافات السيناريو؛ حيث لُوحِظ أن هناك
كُتَّاب سيناريو تعاملوا مع النَّصِّ الأدبيِّ بالتزام واضح في أفلامٍ
عديدة، منها «اللِّصُّ والكلاب»،
و«أهلُ القمة»، و«الحبُّ فوق هضبة الهرم»، و«بين القصرين»، وبدرجاتٍ مختلفة في «السمان والخريف»، و«الطريق»، و«السُّكَّرية»، و«الحبُّ تحت
المطر»، و«ميرامار»،
و«القاهرة ٣٠»، و«الحرافيش»، وراحت أفلام أخرى تأخذ بعض السطور
أو الفصول، مثل «الخادمة»،
و«نور العيون»، و«وصمة عار»، و«ليل
وخَوَنة»، بينما من الصعب جدًّا أن نرى أيَّ علاقة بين
أفلام كتب في أفيشاتها أنها مأخوذة عن نجيب محفوظ، دون أن تكون مأخوذة
حقيقةً عن أيٍّ من أعمال نجيب محفوظ، مثل «الشريدة» لأشرف فهمي،
و«أميرة حبي أنا» لحسن الإمام، و«فتوَّات
بولاق» ليحيى العلمي،
و«المذنبون» لسعيد مرزوق.
لذا، فإننا توقَّفنا عند المقارنة بين النَّصِّ الأدبي، والسينمائي،
وعندما لم نجد أيَّ شيء لا يستدعي لا المقارنة، أو التحليل، مثل
الأفلام السابقة الذكر، التي استبعدنا الحديث عنها تمامًا، تجاهلنا
الكتابة والمقارنة عن هذه الأفلام، فمثلًا بالبحث عن الأصل الأدبي
لفيلم «فتوَّات بولاق»، فإن معركةً مفتعلةً قد قيلت في بداية
الثمانينيَّات أن الأصل هو «الشيطان يعظ»، علمًا أن هذا الاسم هو للمجموعة، وليس للقصة
المأخوذ عنها الفيلم، وقد قِيل آنذاك إن القصة بِيعَت مرَّتين، كما
ادَّعى البعض أنها مأخوذة من إحدى قصص «أولاد
حارتنا»، وهذا ليس صحيحًا، كما أن البعض ذكر أن الفيلم
مأخوذ من الحكاية رقم «٢٢» في رواية «حكايات
حارتنا»، وبقراءة الحكاية التي لا تزيد عن صفحتين، اتضح
أنها لا علاقة لها بقصة الفيلم، والأرجح أنها مأخوذة من «الشيطان يعظ».
أمَّا «أميرة حُبي أنا» فالفيلم
مأخوذ عن واحدة من قصص «المرايا»،
وهناك تشابهٌ واهٍ للغاية بين بطلة القصة وبين أميرة، كما أن كاتب
السيناريو أحمد صالح قد كتب سيناريو
مختلفًا تمامًا عن أقصوصة «الشريدة»،
المنشورة في أول مجموعة قصصية للكاتب باسم «همس
الجنون» عام ١٩٣٩م، وقد كتب مقالًا في أخبار اليوم حول هذه
الظاهرة، بعد أن كتبت عن الفيلم بمناسبة تكريمه في مهرجان الإسكندرية
عام ٢٠٠٩م.
إذن، فهذا كتاب قوامه الأساسيُّ هو المقارنة بين النَّصَّين، دون
الرجوع إلى أيِّ مراجع أخرى وبشكلٍ متعمَّد، سوى النَّصِّ الأدبيِّ
كقراءة، والفيلم كمشاهدة، كما لن نرجع إلى ما كان يردِّده محفوظ عن عدم
تدخُّله في الفيلم، باعتباره وسيلةً مختلفة، ونحن لم نرَ في العالم
كاتبًا يتدخَّل بالمرَّة في حذف أو إضافة لفيلم مأخوذ عن رواية أدبية
له؛ فالكاتب لم يشارك قطُّ في كتابة أيٍّ من الأفلام المأخوذة عن نصوصه
الأدبية، ولا نعلم ماذا كان سيئول إليه النصُّ لو قام بذلك، لكننا نذكر
أن كُتَّابًا عديدين تركوا زميلهم محفوظ يكتب لهم سيناريوهات أفلام
مأخوذة عن قصصهم، مثل إحسان عبد
القدوس، في «أنا حُرة»،
و«بئر الحرمان».
ولعل تدخُّل أيِّ كاتب في روايته قد تجلَّى بشكل واضح في تجربة
صبري موسى، وهو يقوم بكتابة سيناريو
فيلم «حادث النِّصف متر»، فبدا كأنه
يكتب سيناريو لرواية مختلفة تمامًا عن روايته. والأمر يحتاج إلى بحوثٍ
عديدة عن السينما في كل أنحاء الدنيا.
ومن هنا، نقدِّم هذا الكتاب، الذي يعتمد على قراءة ومقارنة
النَّصَّين معًا؛ النَّص الأدبي والنَّص السينمائي، كنوع من التسجيل،
دون اللجوء إلى التأصيل أو التحليل؛ لأن هذا ليس دورنا في هذا الكتاب
بشكل خاص.
في آخر الفصول، تعمَّدنا تقديم قائمتين لكافَّة البيانات عن الأفلام
التي كتبها نجيب محفوظ مباشرةً إلى السينما، وأخرى عن الأفلام المأخوذة
مباشرةً من نصوصه الأدبية، في أول تجميعة من نوعها.