السمَّان والخريف
وقد كان هذا الرحيل هو فاتحة الباب لظهور روايات عديدة كتبها محفوظ، دارت أحداثها عند كورنيش المدينة، وكان أغلب أبطال هذه الروايات «أجانب» بالنسبة للإسكندرية، جاءوا أيضًا من خارجها، ويقيمون في فنادقها، ولا يعرفون عنها سوى طريق الكورنيش المحدود بين منطقة سيدي جابر ومحطة الرمل.
القاهرة كما يجدها عيسى تنفجر كالبركان؛ صراخ جنوني كالعواء، انقضاض على أيِّ قائم على الجانبين، بترول يُراق وحرائق تشتعل، أبواب تُحطَّم، بضائع تنتثر، تيارات تندفع كالأمواج المتلاطمة الجنون نفسه بلا رقيب.
يعترض عيسى قبل قيام الثورة حين يصدر قرار بنقله من وظيفة مدير مكتب الوزير إلى المحفوظات، ونعلم أنها ليست المرَّة الأولى، هو يردِّد أن هذه فرصة ليعتني بشئونه الخاصَّة؛ أيْ إنه في حاجة ماسَّة إلى التطهُّر والالتفات إلى نفسه، باعتبار أن الرحلة الطويلة التي سيقوم بها بعد ذلك ستكون حصارًا للمرحلة.
رمز التمرُّد السياسيِّ هذا، ما إن يستمع إلى بيان الجيش في صباح ٢٣ يوليو، حتى يتوجه إلى الإسكندرية لمقابلة الباشا، ويلتقي هناك بأكثر من شخصية مرموقة تُجمِع أن الملك قد انتهى: «انتهى فاروق، ولكننا نريد أن نطمئنَّ على أنفسنا.» فهذا الحديث مُهمٌّ في حياة عيسى؛ لأنه سوف يؤجِّل زواجه من سلوى، ويعلم أن حسن قد ترقَّى لمنصبٍ حسَّاس، وتتراكم الشكاوى في لجنة التطهير ضدَّ عيسى، وفي لجنة التطهير رأى عيسى شخصًا كان زميلًا معه في المظاهرات، لكن هذا لم يظهر في الفيلم، حيث تُتاح الفرصة لعيسى أن يردَّ على الاتهامات، أمَّا الفيلم فقد تلا الاتهامات وإصدار الأحكام بسرعة «الثورة صادقة العزم على تطهير الجهاز الحكوميِّ من كافَّة أنواع الفساد.»
جاءت الثورة لتهدم المعبد على موظف فاسد، كان أيضًا ثوريًّا متوقِّدًا، شارك في المظاهرات، صار عليه أن يرى ابن عمِّه في وضعٍ أفضل، وها هي سلوى تتركه، وأمام كل هذه الأبواب المغلقة يردد في الفصل «١١» من الرواية: إني أفكر حقًّا في هجر القاهرة.
الإسكندرية هنا هي مهجر، وذهابه إليها ليس للتصييف، بل للإقامة، فقد أصبح عالم عيسى محدودًا للغاية، والعالم كله من خلاله، كأنه يروي علينا روايته على طريقة، لكن محفوظ هو الذي يحكي، فهو لم يُقبل على الهجرة إلا بعد أشهرٍ من التردُّد.
في الرواية نعرف أن عيسى الدباغ له ثلاث أخوات متزوجات يُجمِعن على المعارضة في سفره، وهي إشارة لم يجد الفيلم أيَّ سبب لإظهارها، واكتفى فقط بالأمِّ، فعيسى يرى أن السفر علاج ضروريٌّ، بينما سوف تذهب الأمُّ إلى البيت القديم بالوايلية، حتى وإن كان غير صالح للسكن.
وفي الفصل «١٣» يعود الكاتب إلى سابق عهده ليصف الأشياء بدقة، وهو أمر تحاشاه بشكلٍ ملحوظ طوال الفصول السابقة، فيصف الشقَّة الصغيرة المفروشة والبحر المترامي في الأفق، إنه «غريب في موطن غرباء»، لقد وصل في الخريف، حيث أسراب السمَّان تتهاوى إلى مصيرٍ محتوم عقب رحلة شاقَّة مليئة بالبطولة الخيالية لعلها مثله، وهذا المعنى غير موجود تمامًا في الفيلم، ويساعد هذا في أن يميل إلى التصوُّف مردِّدًا أنه لا فارق بين أن نتصوَّف حيال أزمة سياسية وبين أن نتصوَّف لوجه الله والدنيا مُقبلة علينا.
وتبدو كافَّة أفكار، ولا نقول مشاعر، عيسى الدباغ في هذا الفصل من خلال لقاءٍ تمَّ مع صديقه سمير حيث يردِّد عيسى: «ما أشبهنا بساحل الإسكندرية في الخريف.» ويصف الكاتب حال بطله الوحيد الذي يرتاد البارات، ويتلذَّذ بالتسكُّع في شارع سعد زغلول، وينام إذا حلَّ سلطان النوم، إلى أن يلتقي بفتاة الليل، أتعس بنات الهوى «مائلة للبياض مستديرة الوجه، ممتلئة الوجنتين، ذات جسمٍ صغيرٍ ممتلئ، مقصوصة الشعر كغلام» يخالها في الخامسة عشرة، يتذكر سلوى حين يصحبها معه إلى مسكنه المفروش.
وفي الرواية فإن الكاتب يمنح لبطلته جذورًا يحرمها منها الفيلم، فقد مات أبوها وهي في العاشرة، فعجزت أمُّها عن تأديبها وتهذيبها، ولم تستطع صدَّها عن الصبيان، وعشقت شابًّا وهي دون البلوغ حتى ضربت القرية مثلًا بها، ثُم هربت مع شابٍّ آخر إلى الإسكندرية، سرعان ما تخلص منها، فبدأت حياة الليل.
وأهمية هذه المعلومات، أن السينما لا تهتمُّ كثيرًا بأن تضع جذورًا لمثل هذه الشخصيات، وإن كانت ريري قد حكت بعضًا من سيرتها مع الرجل في الفيلم.
ومع مرور الوقت يزداد إيمان عيسى بأوجه الشبه التي جمعته بريري، ويحسُّ بأنه لا غنًى عنها، خاصةً مع محاكمة رجال ما قبل الثورة، يحسُّ كلاهما أن العلاقة ستنفصل يومًا، وبالفعل فإن اليوم يأتي حين تخبره أنها حامل، وقد أسهب الفيلم في وصف هذا المشهد الذي تعترف له بأمرها، فيضربها ويدفع بها إلى السُّلم باكية، وهي تتوسَّل بلا توقُّف أن يعيدها إلى عرينه.
ما إن دخلت ريري حياته حتى خفَّت حدة السياسة والحياة العامة في الرواية على الأقل، فهو يبحث عن نساء أخريات، وليست هناك إشارة إلى زوجة مثلما رأينا في الفيلم، وصارت ريري تتبعه، حتى إنه يفكر في مغادرة الإسكندرية، وينكر أنه يعرفها مردِّدًا: «يخلق من الشبه أربعين.» ثُم يعود إلى القاهرة.
في القاهرة تبدو المدينة وقد غيَّرت أبناءها بعد الثورة، خاصةً حسن الذي يركب المرسيدس، والذي سيقترن بسلوى التي تناسبه وظيفيًّا على الأقل.
وسط هذه الأحداث وصفَّارات الإنذار انقلبت القاهرة إلى معسكر، واخترقت شوارعها قوافل من العربات المصفَّحة واللوريات، ويغالي إبراهيم خيرت في شماتته، ثُم يشعر بخيبة أمل، حتى إذا انتهت الحرب عاد ليفكر في حياته الخاصَّة، فهو إنسان بلا عمل أو ذريَّة، كثير الشرود، كما تلاحظ عليه امرأته، يذعن للكسل والكبرياء، ينتقل بين رأس البرِّ والإسكندرية، يزداد وزنه مع مرور الأيام، يكثر من الطعام والحلوى، ويتردَّد أحيانًا على المقهى بُغية التحاور مع سمير.
وفي صيف ١٩٥٧م، بعد الغزو الروسي للفضاء، يجد نفسه في الإسكندرية — ملحوظة: محفوظ لا يؤرخ مثلما نفعل، فلا تتغير الحياة كثيرًا — ينزلق عيسى إلى البوكر، وكان سيئ الحظ على المائدة، يردِّد له أحد رفاقه: «أنت لا تتفلسف إلا عندما تتدهور روحك إلى الحضيض.»
يتعرَّض عيسى الدباغ للطرد من امرأتين تباعًا؛ الأولى زوجته عنايات، وهو أمر غير موجود في الفيلم، فهي لا تفتح له الباب في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، فيضرب الأرض بقدمه، ثُم يذهب ليبيت عند إبراهيم.
وفي الفيلم ظهرت ريري أثناء وجوده مع زوجته قدرية، حين وقعت كرة ابنتها إلى جوار الشمسية، وقد اختفى مثل هذا المشهد تمامًا في الرواية، فقد سافر عيسى إلى الإسكندرية مع قدرية، وعاش في ملل ووتيرة واحدة، لدرجة أنه قال لنفسه إن عصره قد انتهى، وأنه لن يندمج في الحياة مرةً أخرى، بنفس الحال التي كان عليها من قبل لدرجة أنه يلجأ إلى قارئ كفٍّ، وفي كامب شيزار يرى وجه ريري وقد جلست على كرسيِّ المديرة أو المالكة وراء صندوق الماركات بمحلٍّ صغيرٍ لبيع الدندرمة، وشطائر الفول والطعمية.
أيْ إن المصادفة هنا اختلفت عن الفيلم، فعندما يراها يتأكد أنها لم تعُد البنت الصغيرة، بل هي امرأة بكل معنى الكلمة، امرأة جادَّة ومديرة حقًّا، ثُم يكتشف أن لها بنتًا صغيرة وخادمة، فيأخذ في تتبُّعها قبل أن يقترب منها، وتنكره، وهو يخبرها أن الصغيرة ابنته، فتصيح به: «ابعد عن وجهي، أنت أعمى ومجنون، ويجب أن تختفي.» ووسط ملل مع زوجته يكرِّر الحوم حول ريري، ويعرف أنها أمُّ ابنته، وأنها نسبتها إلى زوجها صاحب المقهى، تتعامل ريري معه بحدَّة وتهدِّده بالشُّرطة، ويردِّد بنبرة باكية أنها ابنته، فتصرخ وهي تندفع في سبيلها: لست أبًا، أنت جبان، ولا يمكن أن تكون أبًا.
ويكرِّر المحاولة، وفي الفصل الأخير يلتقي في مطعم «على كيفك» برجل، بعد منتصف الليل، يخبره أنه لم ينسه، فقد سبق لعيسى أن اعتقله وحقَّق معه، يبدو بينهما حديث عبثيٌّ يخلو من المعنى، ثُم يمضي إلى حال سبيله حتى يختفي متجهًا إلى شارع صفية زغلول بخطًى واسعة تاركًا وراء ظهره مجلسه الغارق في الوحدة والظلام.
لذا، والكلام أيضًا للمخرج، «تجد الفيلم فيه صراع ثريٌّ وحقيقيٌّ، ومشكلتي أني لا أجد كاتب السيناريو الذي يكتب لي بنفس الإبداع والجودة.»
فعيسى كان واقعًا دومًا بين أطراف لا يجيد التخاطب معها، ابتداءً من خطيبته سلوى إلى زوجته وأمِّه التي ماتت وتركت له ميراثًا، وبالطبع ريري التي لم يلبث الفيلم أن أكسبها دورًا إنسانيًّا أكثر مما في الرواية، فتخلَّت عن ماكياج العاهرة الفاقع، خاصَّةً بعد أن عاودت الظهور في حياة عيسى، فهي عاهرة عزفت عن الرجال وعاشت لابنتها الصغيرة، كما أن عيسى يواجه التحوُّل الوظيفي والاجتماعي لابن عمِّه ببرود سطحيٍّ وغليان داخلي، فحسن هو الذي سوف ينال سلوى، كأن الفتاة تنال الوظيفة وصاحبها الرجل، وليس العكس، وعيسى يذهب ليلة الخِطبة للتهنئة مُخفيًا إهانته.
كانت بداية الفيلم أشبه بما جاء في الرواية، فهناك قطار يدخل محطة القاهرة يوم أن اندلع حريق القاهرة في يناير ١٩٥٢م، وهي البداية نفسها في العملين معًا، ثُم مرحلة القلق الاجتماعيِّ الذي أصاب الناس إلى أن تحاصر الدبابات قصر عابدين ليلة قيام الثورة، أمَّا النهاية فقد اختلفت؛ حيث التقى عيسى بشابٍّ كان شاهدًا ما دار أثناء التحقيق معه قبل فصله من عمله، وبعد حوارٍ طويلٍ بينهما حول الملل والأحلام تردَّد بين الاثنين وقد شربا بعض الكئوس القليلة، وبعد أن ينصرف الشابُّ يتساءل عيسى: لماذا ينظر إلى الأمام بوجهٍ مبتسم، ثُم يقرِّر أن يمضي خلفه: «على شرط ألَّا أضيع ثانيةً في التردُّد.»
وإذا كانت ريري قد رفضت العودة إلى عيسى ردًّا لكرامتها، كما يبدو في الفيلم، وهو الذي أبكاها، فإنها في الرواية تفعل ذلك بقوة، فهي لا تزال متزوجة من العجوز الذي دخل السجن، وهي امرأة عمليَّة تغيَّرت حياتها، ولم تعُد العاهرة التي هربت من أهلها، وتبحث عن غرفة تنام فيها، وهو أساس عودتها الدائمة إليه، أمَّا في الفيلم فإن ريري تبوح لمعلمتها في العُهر: باحبه يا أبلتي. وهي التي صارت خليلة له وحده، وهي شخصية العاهرة الكبيرة غير موجودة في الرواية.
وقد أضاف السيناريو بعض الحوارات، في رواية امتلأت بالحوار، منها جلسة الشماتة التي ضمَّت بعض الذين أضرَّهم قيام الثورة، وهم يتحدثون عن أزمة السويس، فهناك باشوات من العهد البائد، بينما هذا المشهد في الرواية كان ضمن أحداث دارت في المقهى الذي يتردَّد عليه.
الشخصية الرئيسة الثانية هي ريري، تظهر وتختفي من خلال وجوده، هي مجرَّد جسد، سواءٌ للفِراش أو الإنجاب.
نحن إذَن أمام رواية مكتوب أغلبها بجُمل تلغرافية، وهي أشبه بالمونتاج السريع الإيقاع، حتى وإن طال الحوار، إلا أن هذا الحوار يبدو قصيرًا، وكان نجيب محفوظ حين كتب هذه الرواية قد اكتسب خبرة دامت خمسة عشر عامًا في كتابة السيناريو والحوار.