ميرامار
في بعض الأحيان يحاول نجيب محفوظ
الاستفادة من ظواهر أدبية عالمية، وأن يمشي على ركابها إمَّا مرَّة
واحدة أو عدَّة مرَّات، ولا شكَّ أن «رباعية
الإسكندرية» قد استوقفته كثيرًا، علمًا بأن فتحي غانم قد انبهر بها بقوة، قبل محفوظ في
رباعيته «الرجل الذي فقد ظلَّه»، في
رواية ضخمة تحاول أن تقارب رواية لورانس
داريل في حجمها وصياغتها، وكان من الواضح أن نجيب محفوظ لم
يعُد يرغب في كتابة الروايات الطويلة مرَّة أخرى، باستثناء واحد فيما
بعد هو «الحرافيش» فلم يؤثِر أن يكتب
رواية تستهلك منه وقتًا طويلًا مثلما فعل مع ثُلاثيته، كما أن رواية
«ميرامار» التي نشرها عام ١٩٦٧م كانت
تدور في مكانٍ ضيِّقٍ للغاية، وهو بنسيون صغير سعة نزلائه لا تتجاوز
الخمسة؛ لذا كان الشكل الأمثل بالنسبة له هو رواية «ميرامار» التي
نعرفها.
وغير خفيٍّ أن المكان الذي اختاره الكاتب وتم تصوير الفيلم فيه يقع
على مقربة من فندق «سيسل» الذي تدور فيه أغلب حوادث رباعية الإسكندرية،
بل إن حسني علام في الرواية يسكن سيسل، ثُم يقرِّر السكن في «ميرامار» لأسبابٍ اقتصادية، أمَّا في الفيلم
فإنه يرى في «ميرامار» امرأة تخلع
ملابسها، فيقرِّر الانتقال إليه بسرعة ليرمي بشِباكه على المرأة، لكنه
للأسف يجدها تغادر البنسيون وهو يسجل دخوله إليه، كما أن معلوماتي تؤكد
أن اسم ميرامار هو لملهًى ليليٍّ كان إلى جوار برج السلسلة حاليًّا،
ولم يكن اسم بنسيون، وهو مكان كانت، على سبيل المثال، ترقص فيه
هدى شمس الدين في صيف الستينيَّات؛
تلك الفترة التي كتب فيها محفوظ روايته، ويبدو أن الاسم أعجب محفوظ،
فأطلقه على بنسيون من مخيِّلته.
تدور أحداث الرواية على لسان أربعة من رواد البنسيون، من أجيالٍ
مختلفة شهدوا قصة الحُب التي نمَت بين زهرة
وسرحان البحيري، انتهت بمقتل هذا الأخير وقرار الفتاة أن
تذهب بدون رجعة. هؤلاء الأربعة هم الصحفيُّ المتقاعد عامر وجدي الذي تجاوز الثمانين، وطلبة مرزوق الوفدي القديم الساخط على الثورة،
وهو من أصحاب الأملاك التي أمَّمتها الثورة، وحسني علام ابن الإقطاعيين الذي تركت الثورة لأسرته مائة
فدَّان، بعد أن أمَّمت الأفدنة الأخرى، ومنصور
باهي الذي يعمل مذيعًا في إذاعة الإسكندرية، وهو شبه هارب
من زملائه المناهضين للثورة الذين تخلَّى عنهم في القاهرة، علمًا بأن
عامر وجدي سوف يكمل الأحداث في فصلٍ صغيرٍ في نهاية الرواية.
لقد غير محفوظ مدينته المفضلة القاهرة، وانتقل إلى الإسكندرية
المعاصرة حيث كان قد بدأ ينزل هو شخصيًّا إلى الثغر في الصيف، ولم يكُن
يعرف عن المدينة سوى الكورنيش وحكاياته، فدارت أحداث روايته في أحد
المباني التي تطلُّ على هذا الكورنيش، وسوف يفعل ذلك دومًا عندما يكتب
عن الإسكندرية مثل «السمان والخريف»،
و«سمارة الأمير»، وهو يعبِّر عن
إعجابه الشديد بالمدينة في السطور الأولى من الرواية على لسان عامر
وجدي: «الإسكندرية، أخيرًا الإسكندرية، قطر الندى، نفثة السحابة
البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبلَّلة
بالشهد والدموع.»
ومثلما استقبل الكاتب المدينة بهذه الكلمات الجميلة فإن كمال الشيخ بدأ فيلمه بالعناوين فوق البحر، عند
البوغاز، وطلَّة في لقطة بعيدة للمدينة، ثُم نرى زهرة تركب ترام الرمل
وتنزل عند محطة الرمل، وهما أبرز ما في الإسكندرية، والفيلم يدخل
مباشرة في الحدث، فهذه الفتاة جاءت من الزيادية بالبحيرة هربًا من جدها
الذي يودُّ أن يزوِّجها من رجل عجوز، لقد جاءت إلى البنسيون من قبلُ مع
أبيها الراحل، تبيع بعض السلع الريفية للفندق، وهكذا عرَّفت نفسها
لصاحبة البنسيون ماريا ذات الأصول
اليونانية، فألحقتها بالعمل خاصةً أن آخر شغَّالة قد غادرت المكان منذ
فترة.
عندما نزلت زهرة إلى الفندق لم يكُن مشغولًا بنزلاء، عدا عامر وجدي،
وبامرأة واحدة هي التي شاهدها حسني علام تغيِّر ملابسها، والتي ما لبثت
أن غادرت المكان؛ أيْ إنه بوجود زهرة بدأ النزلاء الأساسيون يهبطون
للإقامة لفترة طويلة، ابتداءً من طلبة
مرزوق، ثُم سوف يأتي سرحان البحيري الذي شاهد زهرة في محلِّ
الخمور تشتري، رغمًا عن إرادتها، زجاجةً لحساب طلبة، ثُم سوف
يتتبَّعها، وستلتقي به أكثر من مرَّة كي يقرِّر الإقامة بالفندق من أجل
زهرة، وفيما بعد سيأتي حسني علام لسببٍ شرحناه، ويكون آخر الحاضرين هو
المذيع الشابُّ منصور باهي.
هذا النوع من الروايات تحوَّل إلى أفلام سينمائية، ابتداءً من
«رباعية الإسكندرية» الذي أخرجها
جورج كيوكر عام ١٩٦٨م باسم
«جوستين»، وهو اسم الجزء الأول من
الرباعية، كما أن كمال الشيخ أخرج
«الرجل الذي فقد ظلَّه» عام ١٩٦٧م،
ثُم هو الذي أخرج «ميرامار» عام
١٩٦٩م، وعادةً ما يقرأ كاتب السيناريو الرؤى الأربعة كي نرى رؤيته هو
للأحداث (الخامسة)، لتصير رؤية المُخرج هي السادسة.
لذا فإننا سنرى فيلم «ميرامار»
باعتباره رؤيةً سادسة لحكاية زهرة، حيث إن السيناريو غير متوفر بين
يدينا.
من وجهة نظر الحكْي عند عامر وجدي فإن البنسيون يكاد يكون خاليًا من
النزلاء، حتى تأتي زهرة لأول مرة؛ أيْ إنه عند عامر وجدي تبدأ الأحداث،
وفي الصفحات الأولى من حكْيه يفرد الحديث عن علاقته بصاحبة الفندق، فهو
أول الذين جاءوا بعد عشرين عامًا من الغياب، يستطرد الرجل في وصف
الفندق وصاحبته وتاريخها، وعن علاقته بها، وباعتباره أول مَن جاء إلى
المكان؛ فهو الشاهد الأطول مساحةً على كل ما حدث، حتى بعد مصرع سرحان
ورحيل زهرة المأساوي، ويتبادل الرجل والمرأة ذكريات الأمس البعيد، حتى
نعيش أكثر في أجواء المدينة التي لم تعُد كما كانت في أيامهما.
هذا الجانب من الرواية حول تاريخ البنسيون وصاحبته وزوجيها لم يتوقف
الفيلم عندهما بالمرة؛ حيث تمَّ تكثيف الأمر كله في زهرة التي غيَّرت
من واقع المكان بحضورها، وفي الفيلم حين يأتي طلبة مرزوق يبدو كأنه
الشخصية الرئيسة رغم أنه لم يروِ القصة من وجهة نظره، فسرعان ما طلب من
زهرة شراء زجاجة خمر، وتحسَّس كتفها، وتعمَّد التمارض، وما إن دخلت
زهرة غرفته حتى أغلق الباب عليهما وحاول مغازلتها، لكنها صرخت «يا عجوز
اختشي»، فيضطر إلى إطلاقها ويردِّد: دي عايزة تتدردح شوية، وتتحوَّل
إلى ماريانا، لكنه لن يستطيع أن ينهي معها، ويردِّد في أسًى: «الحراسة
خدت اللي ورانا واللي قدامنا.» بما في الجملة من معانٍ أخرى.
عامر وجدي صحفيٌّ سابق، وابن شيخ كان خادمًا لمسجد سيدي أبي العباس
المرسي، وهو لا يكفُّ عن تلاوة القرآن الكريم، ثُم يأتي طلبة مرزوق،
كان وكيل وزارة الأوقاف ومن الأعيان الكبار، ولا تختلف صفات هؤلاء
الرجال، وزهرة، بين الفيلم والرواية، حيث نعرف أن ابنة طلبة في الكويت
مع زوجها المقاول، وهو الأداة الأولى لانتقاد الثورة حيث يقول عن
سعد زغلول: «منذ دأب على إثارة
المِحن بين الناس، والتطاول على الملك، وتملق الجماهير، رمى في الأرض
بذرة خبيثة ما زالت تنمو وتتضخَّم كسرطان لا علاج له حتى قضى علينا.»
المساحة الدرامية التي يرويها عامر وجدي هي الأطول، باعتبار أن حسني
علام عندما يأتي للبنسيون يجد زهرة تفتح له الباب «أجمل ما يليق
بخادمة»، أمَّا منصور باهي فحين يأتي بعد ذلك دون أخيه، حيث جاء الأخ
الأكبر اللواء في الفيلم بصحبته إلى البنسيون، وفي الرواية فإن منصور
ذهب مباشرةً دون أخيه إلى البنسيون، ونعرف ن أخاه حدَّثها في
الهاتف.
أمَّا سرحان البحيري فهو يصف كيف خلبته الفلاحة حين رآها في البقالة
اليونانية «طوبى للأرض التي غذَّت وجنتيك ونهديك.»
إذن فقد جمع الفيلم بين الزوايا الأربع، كما حكاها شهودها إلى طريقة
كاتب السيناريو والمُخرج، وقد اصطبغ الفيلم والرواية بالجرأة
الانتقادية السياسية التي تميَّز بها نجيب محفوظ، وكان أول مَن فعلها،
على حد علمي، فجاءت روايته مثيرة للجدل، وجاء الفيلم ليعبِّر عما يودُّ
الناس أن يقولوه بشكلٍ عملي، ويبدو ذلك في كلمة «طظ» التي يردِّدها
طلبة مرزوق، بينما يعدِّد سرحان البحيري وظائفه: عضو اللجنة السياسية،
اللجنة المركزية في الاتحاد الاشتراكي، وكيل حسابات شركة الغزل.
وفي الفيلم تتلاحم الآراء؛ سرحان رمز الاشتراكية يرى أن الدولة تعتمد
على المهندسين والمحاسبين، ويردِّد عامر وجدي: «في أيامنا اعتمدنا على
الخُطب، كان هدفنا أن نصحِّي الشعب بالكلام.»
يردِّد سرحان: «عندي اجتماع مُهمٌّ في الاتحاد الاشتراكي.» فيردُّ
طلبة: «الناس دي بتجتمع كتير ليه؟»
إذن استجمع السيناريو كافَّة الشخصيات الأخرى الموجودة في حياة هؤلاء
النزلاء خارج البنسيون مثل الراقصة صفية التي يقيم عندها سرحان البحيري، ودرية الزميلة التي
تحبُّ منصور، وقد تركت زوجها زميل النضال من أجل أن تأتي إلى
الإسكندرية وراء منصور.
تُرى هل هي زهرة، أم «ميرامار»؟
فلا شكَّ أن أحدًا لم يكُن ينتبه إلى بنسيون دون أن تصبح زهرة بؤرة
أنظار أربعة رجال، منهما رجلان يتنافسان عليها؛ سرحان، وحسني، والثالث
حاول إغواءها، والرابع يعاملها كأب، أما الخامس فهو يروق له أن يحكي
لها بعضًا من مشاكله رغم المسافة بين الاثنين.
وقد خرج الفيلم من خلال بعض أبطاله عن البنسيون، فعامر وجدي مقيم
أكثر الوقت في البنسيون، أمَّا طلبة فينزل إلى محلِّ تريانون يتحدث في
السياسة، ومنصور نراه في محطة قطار الإسكندرية، كما يقوم بركل منصور
بُغية قتله، أمَّا حسني فهو في أغلب الوقت خارج البنسيون يصطاد
الفتيات، ويخترق شوارع المدينة بسيارته وشبابه ونزقه، فإذا أقام في
البنسيون فإنه إمَّا أن يحاول مغازلة زهرة، أو أن يشارك النزلاء سهرة
أمِّ كلثوم التي يحب الجميع سماعها في الحفل الشهري، كما أن هناك أماكن
أخرى مثل بيت المدرسة علية، والشركة
التي سوف تتمُّ سرقة بعض إنتاجها.
إذَن حاول الفيلم تكثيف كل هذه الحوادث الموجودة في الرواية، مع
الاحتفاظ بجوهر الحدث وهوية الشخصيات، ففي الوقت الذي صدَّت فيه طلبة
وحسني، فإنها تخرج مع سرحان وإن كانت قد رفضت الذهاب إلى غرفته، كما
أنها ترفض أن يخطبها بائع الصحف محمود أبو
العباس، بما يعني أنها فتاة ذات موقف، يقول لها: «نِسيب
البنسيون سوا، ونتجوز.» ورغم كل هذه العروض فإنها تظلُّ على
موقفها.
أعطى السيناريو مساحة لا بأس بها للأخ اللواء الذي جاء بأخيه منصور
باهي كي يقيم في الإسكندرية، ويقول: «ما فيش داعي إنك تحرجني تاني،
كلهم تحت مراقبة البوليس.» ونفهم أن منصور قد غيَّر أفكاره.
في الفيلم والرواية كانت عينا حسني علام على النساء، وقد نافس منصور
البحيري في اصطياد النساء الثلاث اللاتي ارتبط بهنَّ، ابتداءً بالراقصة
صفية، ففي الفيلم جاءت صفية للتشاجر مع عشيقها؛ لأنه تركها من أجل
الفلاحة، وقد قام حسني علام بفكِّ الاشتباك وأخذها معه، وصارت عشيقته
خارج البنسيون، كما أنه نافس على قلب زهرة، لكنه لم يقُل شيئًا، وفي
الرواية أغراها، حين عرف أنها تتعلم، أن يعيِّنها سكرتيرة في أحد
مشاريعه التي سيقيمها، كما أنه قام بمطاردة المدرسة سعاد، ففي إحدى
جولاته على حيِّ محرم بك، حيث تقع مدرستها، رآها واقفة في محطة الباص،
فأوقف السيارة ودعاها إلى الركوب، فأوصلها إلى العمارة التي تسكن بها،
علمًا بأن المدرِّسة تقيم في نفس عمارة البنسيون في الرواية، وهذا
يختلف عن الفيلم.
في الرواية تقوم شقيقة زهرة وزوجها بزيارة البنسيون، ويدعوان الفتاة
إلى العودة إلى قريتها بمحافظة البحيرة، فرفضت بشدة، ومثل هذا الحدث
أيضًا غير موجود في الفيلم.
الفصل الخاص بعامر وجدي فيه وصفٌ عامٌّ للأحداث، وتعرَّفنا على جانب
خفيٍّ من جوانب حياة الرجل الذي يميل إلى النساء في الأحياء الشعبية،
وقد تنازل العجوز بدون رغبته عن ماريانا إلى العجوز طلبة، لكنه لم يدخل
إلى غرفة نومها، وبالتالي فإن ما حدث داخل غرفة طلبة هو من رؤى كاتب
السيناريو.
كان «حكْي» عامر وجدي عن الأشخاص الذين حوله أقرب إلى المحايدة؛ فهو
لا يكاد يحب أو يكره، هو يحاور ويتكلم ويستمع ويتبادل الحديث السياسي،
وهذا الفصل بمثابة صفحات كي يعبِّر كلٌّ من نزلاء البنسيون عن إرادتهم،
قد يقول حسني علام كلامًا يتنافى مع قناعاته عندما يقول عن الثورة إنه
مقتنع بها تمامًا: «لذا أُعتبر ثائرًا على وظيفتي التي جاءت الثورة
لتصفيتها.»
أما الفصل الخاص بحسني علام فإنه يعبِّر عن آرائه في الآخر، هو يكره
سرحان البحيري، لكن من مخاطبته وتوصيله بسيارته على طريقة الإفادة
والاستفادة، كما أنه يصف منصور باهي بأنه «من الرَّعاع المصقولين»،
ويطلق على عامر وجدي اسم «قلاوون» بينه وبين نفسه، وهو شامت في تحوُّل
سرحان من الخادمة إلى المدرِّسة علية: «أيْ يوم بهيج يا إسكندرية،
لتحيَ الثورة، ولتحيَ قوانين يوليو.»
في الرواية لم يكُن البنسيون هو كل عالم حسني علام مثلما رأينا الأمر
بالنسبة لعامر وجدي، فهناك مشاريعه التي يحلم بها، وصفية التي طلبت منه
أن يقيم عندها، وهو الأقل حضورًا في المكان، وفي نهاية حكْيه كان في
نيَّته أن يخبر ماريانا بما استقرَّ عليه رأيه من الانتقال من
البنسيون، أمَّا في الفصل الخاص بمنصور باهي فقد ظهرت شخصيات أخرى مثل
درية التي جاءته من القاهرة إلى
البنسيون، وهي زوجة أستاذه إلا أنها تحبه، ويتراجع عن الزواج بها بعد
أن تمَّ اعتقال الزوج «أعز صديق رغم كل شيء»، ومساحة اهتمام منصور
بدُرية، أكبر من إقامته بالبنسيون: «أرهقني السفر ذهابًا وإيابًا،
فقرَّرت البقاء في البنسيون.» وهو هناك يعبِّر عن كراهيته الشديدة
للانتهازي سرحان، كما أنه يكنُّ احترامًا ملحوظًا لزهرة، وهو مؤرَّق
لفكرة الخيانة؛ خيانة سرحان لزهرة مع الراقصة صفية، ثُم خيانته لها مع
المدرِّسة، وأيضًا خيانة منصور نفسه لأستاذه، وقد اختصر السيناريو
اللقاء الذي يقابل فيه منصور زميلًا له في محطة مصر يحدِّثه عن علاقته
بدرية؛ لذا فهو يُصدم عندما تقول له زهرة: «حب الخائن بخس
مثله.»
وفي الرواية فإن منصور باهي يعرض على زهرة أن تتزوج منه، فتخبره أنه
يحب واحدة أخرى «أنت كريم نبيل، وعطفك يدفعك في طريقه بلا تفكير، كلا
لن أقبل ذلك.»
وفي الرواية والفيلم فإن حسني حمل مقصًّا كي يقتل سرحان البحيري،
وطعنه، كان هذا نوعًا من التخيُّل والتمني في النصِّ الأدبيِّ، أمَّا
في الفيلم فقد طعنه بالفعل، لكن سرحان كان قد مات، ولم ينجح منصور في
أن يكسب صفة البطل. وفي نهاية الفصل الخاص به «انهلت عليه بطرف الحذاء
في شتَّى أطرافه، حتى أفرغت غضبي وهياجي مردِّدًا: لقد قضيت
عليه.»
هناك شخصيات عديدة في عالم سرحان البحيري، أبرزها من خارج البنسيون
علي بكير الذي يلازمه منذ بداية
حديثه، عندما رأى زهرة واقفة تستبضع، وهو شاهد على كافَّة علاقاته
(أدَّى الدور أحمد توفيق)، وهو
يلازمه عند صفية، ويشجعه على الاختلاس والسرقة في الفيلم.
وعلى هذا يكاد يكون الشخص الثالث بين صفية وسرحان هو الذي يدبِّر
السرقة، وفي النصِّ الأدبيِّ فإن سرحان يذهب إلى المقرِّ العامِّ
للاتحاد الاشتراكي، وهذا غير موجود في الفيلم، وقد تغيَّر اسم الشركة
التي يعمل فيها سرحان، وبعد المحاضرة خرج مع زميلٍ له إلى الكورنيش
«اليوم نحن الدولة.» وهو يصف نفسه أنه ثوريٌّ اشتراكي، كل هذا قبل أن
ينتقل إلى البنسيون. وفي الفصل الخاص بسرحان نسمع الجملة التي ردَّدها
عامر وجدي: «الشعوب تستيقظ بالكلمات، لا بالمهندسين ولا بالاقتصاديين.»
وينظر سرحان إلى حضور كلٍّ من منصور وسرحان إلى البنسيون بأنه فيه
فائدة مهما كان الشابَّان يمثلان.
في الرواية فإن الحوادث الرئيسة متتابعة يرويها كل راوية على طريقته،
لكن بأسلوب نجيب محفوظ سواء في السرد أو مفردات الحوار، وقد يمكن إلقاء
بعض التفاصيل على حدث هنا أكثر من هناك، وفي الفصل الخاص بسرحان فإنه
يروي كيف طلب منه بائع الجرائد خِطبة زهرة، وفي الفيلم فإنه بعد أن
يخدع زهرة يقوم محمود أبو العباس
بنهر البحيري بعد أن كان يحدِّثه في المشاهد الأولى من الفيلم أنه
الأمل، وأنه يعقد عليه الكثير من تطوُّر الوطن. وفي الرواية فإن السائق
أراد الفوز بالغنيمة وحده، فوقع في شرِّ أعماله، أمَّا الفيلم فإن هذا
لم يحدث، يحسُّ سرحان أنه تمَّ القضاء عليه، فيشتري موسي حلاقة «كنت
يائسًا، يائسًا، يائسًا.»
على خلاف الروايات الرباعيات المعروفة المُشار إليها في البداية فإن
عامر وجدي يستكمل الحكْي عما حدث بعد الحكْي على لسان الشخصيات
الرئيسة، إنه اليوم الأخير من السنة، ختمها أسوأ ختام. لم يبقَ بالمكان
سوى منصور وعامر وطلبة، وفجأة يعترف منصور أنه قاتل سرحان البحيري،
وأنه سيذهب إلى الشُّرطة بنفسه، وتعلن ماريانا أن زهرة يجب أن تذهب،
وارتدت ماريانا ثوبًا أبيض كأنها تبغي مغازلة من طلبة، وظلت معه حتى
الساعة الثانية من العام الجديد، وتعترف أن العجوز فشل معها، وتقول
الصُّحف في اليوم التالي إن الوفاة نتجت عن قطع شرايين رسغ الفخذ
اليسرى بموسي حلاقة، وليس بضرب الحذاء كما اعترف منصور.
في الرواية تغادر زهرة البنسيون وقد صارت أكثر وعيًا، تعلَّمت، ولم
يضِع وقتها سدًى مثلما حدَّثها عامر وجدي «إن مَن يعرف مَن لا يصلحون
له فقد عرف بطريقة سحرية الصالح المنشور.» ومن شرفة البنسيون، في
الفيلم، ينظر عامر وجدي إلى زهرة وهي في محطة الرمل، ينتظرها محمود أبو
العباس، يسير إلى جوارها، يخبرها أنه سوف يتعلم، وسوف يغيِّر من ملابسه
(الجلباب)، وسيكون مؤهَّلًا لها، ويحمل عنها الحقيبة التي غادرت
البنسيون، ثُم تتجه الكاميرا إلى البوغاز والأفق مثل مشهد البداية حيث
جاءت الكاميرات من هذا البوغاز.