السراب
كما أن نجيب محفوظ ابتعد في هذه الرواية، عن أماكنه المألوفة مثل المقاهي والأحياء الشعبية، وأيضًا جعل أبطاله يسكنون بين المنيل ومصر الجديدة، وهذه الرواية مكتوبة حول شخصية حقيقية، عرفه نجيب محفوظ واستمع منه إلى قصته.
ومع بداية الفيلم نرى البيت الثريَّ الذي يسكن فيه كامل مع أمِّه وجده، ونعرف أنه في سنِّ الثالثة والعشرين، وأنه في الصفِّ الأول من كلية الحقوق، وعلى الفور تذكِّره أمُّه أنها تزوجت يومًا واحدًا فقط، وأن زوجها طلقها بعد أربعٍ وعشرين ساعة من الزواج، بما يعني أنها لم تخرج من الدنيا سوى به، وترمي عليه بكل عواطفها المشبوبة «احلف أنك لن تستغني عن أمك.»
رجع كامل في قصته إلى طفولته بالتفاصيل، وفي الفيلم لم نشهد من هذه الطفولة سوى ما ردَّده أن أمَّه دخلت على الخادمة، فوجدتها تغويه؛ لذا فإن كل تلك الصفحات الطويلة حول طفولة وصبا الرواية غير موجودة، باعتبار أننا لم نرَ الرجل إلا وقد صار شابًّا، ترتعد الأمُّ لو أبلغها عن رغبته في الزواج، أمَّا الجَدُّ فإنه يدعوه إلى التعرُّف على العالم «حب واتجوز وخلف، ولا تسأل في أمك.» لكن عمر الجدِّ لن يستمرَّ طويلًا في الفيلم، وإن كانت نصائحه قد أفادت حيث سيخرج كامل إلى الحياة، وكل ما يفعله أن يجلس على المقهى، فتقع عيناه على المعلمة التي تدخِّن الأرجيلة في الشرفة، وسوف يرى رباب لأول مرَّة على محطة المترو.
الرواية تدور أحداثها في المنيل، أمَّا الفيلم فيدور في مصر الجديدة، وفي الرواية يركب الترام الذي يتجه به إلى الجامعة المصرية، ولفت نظره فتاة في الشرفة وصفها بدقة، وخلبت لُبَّه، فراح يتتبَّعها باهتمام على مدَّة أيام، وصارت جزءًا من حياته.
في الفيلم هناك ذلك المشهد الشهير الذي ينظر فيه كامل إلى الخادمة في البيت المقابل، فيشعر بالاستثارة ويمارس العادة السرية، وهذا المشهد غير موجود في الرواية، وقد أسهب الفيلم في وصف تتبُّع كامل لرباب وهي تركب مترو مصر الجديدة، لأيامٍ عديدة، ووسط هذه الأيام يموت الجد، فيغيب كامل عن الذهاب إلى محطة المترو؛ مما يدفع الفتاة أن تنتظره أو تشعر بغيابه، وهذا المشهد كما أشرنا غير موجود في الرواية.
المشهد الذي بدأ به الفيلم أحداثه موجود في الفصل «١٧» بكافَّة التفاصيل، بما يعني أن السيناريو قد تجاهل ستة عشر فصلًا كاملًا من الرواية إلا من بعض السطور «رأيت حياتي كما هي أحلامًا شاردة سخيفة.» وفي الفصل «١٨» فشل الجد في إيجاد وظيفة له بوزارة الحربية وحصل على وظيفة حكومية، فصار يعيش حياة رتيبة «الحياة صحراء قاحلة، مهلهلة، وأنت بها وحدك الواحة الخضراء الرطيبة.» ثُم تعود رباب للظهور كي يستغرق تتبُّعه لها المزيد من الفصول، وبظهورها بدأ أول تمرُّد على الأم، وأحسَّ أن الزواج أولى خطوات التمرُّد.
وإذا كان الجدُّ قد رحل في الدقائق الأولى من الفيلم، فإن رحيله تمَّ في الفصل «٢٥» من الرواية كي يصير كامل هو ربُّ البيت، ونعرف أن الأب لا يزال على قيد الحياة، وتردِّد له الأم: «لعلك لمست الحكمة التي أملت عليَّ أن أرفض أيَّ زواج لا يليق بك.»
في الفصل «٢٦» يحلُّ الخريف، وتتمُّ إعادة افتتاح المدرسة حيث ستعود حبيبته إلى المدرسة، وقد كشف هذا عن بطء إيقاع الرواية، عكس أعمال الكاتب الأخرى الزاخرة بالأبطال المُتوازين، ويكتشف كامل أن هناك رجلين يُعجبان بفَتاته، وفي الفصل «٢٧» يظهر الأب في حياة ابنه. إنه الآن في السبعين، سرعان ما تتولَّد بينه وبين ولده مشاعر مودَّة، وعندما يبلغ كامل أباه برغبته في الزواج يقول الأب: إن الأُسرة لا تنجو أبدًا من هذا الداء الوبيل، وإن أخته قد هربت مع رجل غريب وتزوجته «لا عيب فيك إلا أنك ترغب في الزواج.»
وصف محفوظ تطوُّر الأمور بدقة، وهو الأمر الذي اختصره السيناريو، حيث إن الفصول تتابعت من زيارة بيت العروس، ومحاولة الوصول إلى بركات الأم، وزيارات العريس لبيت خطيبته، إلى الاستعداد للزواج، وتوقَّف الفيلم عند تفاصيل ليلة الزفاف، فكامل مرتبك، يطلب منها الوقوف قليلًا في النافذة، يعانقها، لكنه لا يفعل شيئًا. وفي الفيلم يطلب منها أن يلعبا الكوتشينة، وتقول الزوجة: فوق السرير. وعندما يزداد الخوار بالعريس، فإنه في الفيلم يذهب إلى أحد الأضرحة، ويتوسَّل منحَه الرجولة، وهو لا يخبر أمَّه بما حدث في الفراش، ويصف كامل حبيبته في الرواية أنها «عطف ورحمة»، وقد طالعتني في الصباح بالابتسامة المشرقة. ويظل كامل في حالة أرق إلا أنه يذهب إلى الطبيب في الفصل «٤٤» كما يفعل ذلك في الرواية أيضًا.
عندما يذهب كامل إلى الطبيب في الرواية يكون قد مرَّ على زواجه شهر ونصف، وفي الفيلم يحدث ذلك بعد ثلاثة أشهر، ويحوِّله الطبيب إلى العيادة النفسية، وفي الرواية يبدأ شجار في النشوب بين رباب وحماتها؛ مما يزيد من المشاكل الزوجية التي يحسُّها كامل «بدأت أشعر في حياتي الزوجية بفراغ! ولم يداخلني شكٌّ في أن زوجتي تشاركني هذا الشعور.» وتبدأ رباب في قضاء وقتها خارج البيت، في الفيلم والرواية؛ مما يؤرق الحماة ويزيد من الشِّقاق داخل البيت، بينما كامل يبدو مسالمًا، وهو يلتمس العذر لزوجته.
في الفيلم يمرُّ الزوجان بحالاتٍ من الصعود والهبوط، حيث يذهبان إلى الحدائق وتكرِّر أجوبتها على أسئلته بأنها ما تزال تحبُّه. وهو يعِدها أن أمره سوف يصلح «عاملين لي عمل، بنات كتير كانوا عايزين يتجوزوني.»
وشيئًا فشيئًا تبدأ الشكوك في التسرُّب إلى عقل وقلب كامل، وعندما يخرج معها في الترام تنتابه الشُّكوك من الركاب أن يلمسوا زوجته، وفي الفصل «٥٠» من الرواية يقول إنهما عندما ركبا الترام «لعلَّ كثيرين يرمقوننا بعين الحسد، فهل يتصوَّرون كيف نحيا معًا؟» وتتسرَّب الشُّكوك إلى كامل في الرواية، بسبب أوراقٍ تحملها في يديها، تدَّعي أنها أوراق خاصة بالتدريس، ويتكرَّر وصول خطاب آخر.
حسب الحكْي على لسان البطل فإنه لا يمكن لكامل أن يعرف أن زوجته قد وقعت في الخطيئة مع الطبيب الذي تذهب إليه، في الفيلم كان الطبيب هو الذي نصحها أن تتحمَّل كافَّة تصرُّفات زوجها العصيبة؛ مما حسَّن من أدائها حتى ضربها فهربت من البيت، وذهبت إلى بيت الطبيب وأخطأت معه وحملت.
وفي الفصل «٥٢» يبدأ كامل في التعرُّف على المرأة القصيرة البدينة التي بدأ يرقبها، والتي اصطحبته في الفيلم بعربة حنطور إلى الهرم، ومارست معه الجنس هناك، وذلك يعني أن عاشقين عند نجيب محفوظ مارسا الجنس على سطح الهرم، قبل أن يحدث ذلك في نصٍّ أدبيٍّ بسنواتٍ عديدة.
أمَّا كامل في الرواية فيغادر البيت دون أيِّ تمرُّد، أو أن يرى أحدًا من أهله. وتنتقل الأحداث إلى ميدان الإسماعيلية، وفي بيت أمِّه يدور حوار مليء بالقسوة مع أمِّه، ويعرف أن رباب قد ماتت وهي حامل: «اذهبي إلى أختي أو إلى أخي، واحسبيني منذ اليوم في عداد الأموات.»
في الفيلم، كان للأمِّ ثلاثة أبناء، وحين يُصاب كامل بغيبوبة، فإنه يلازم الفراش زهاء شهر، وتتولَّى أخته راضيةً رعايته لمدَّة أسبوع، وذات صباح جاءته امرأة لزيارته في بيته، وتنتهي الرواية بصوتٍ أقرب إلى الاستغاثة: أنت! ونفهم دون أن يخبرنا المؤلِّف أن المقصودة هي عنايات.