ثرثرة فوق النيل
من ناحيةٍ أخرى فإن أبطال هذه الروايات يتمثلون في الموظف قليل الحيلة الروتيني الذي يفتقد التمرُّد، ولا يبقى من الدنيا سوى لحظات متعة، وتأتي الثرثرة والحشيش فوق قمة هرم المتعة، حيث إنهما يأتيان في الصدارة قبل أشياء أخرى مهمة مثل الجنس والحلم بالثراء أو الطموح الأخرق.
لذا في الرواية، فبعد أن عنَّف المدير موظفه، وخصم من مرتبه يومين، فإن أنيس ملأ القلم بالحبر، وراح يُعد البيان من جديد.
ويأخذ الفيلم طابع النقد الاجتماعيِّ حين يعلِّق أنيس على مسألة الحفر والردم: «يا ما جاري في الدنيا يا ما جاري.» ثُم يذهب إلى عمله ليتلقَّى وعدًا من مديره الذي امتلأ وجهه بالإمضاءات، ونعرف أن أنيس يأتي كل يوم متأخرًا، ويجلس يدوِّن التقرير بالقلم الذي نفد حبره، وهو سوف يعرض على وكيل الوزارة، ويتمُّ تحويله إلى التحقيق.
وفي أثناء هذا الدوران للجوزة يعطي محفوظ الاهتمام لأنيس الذي تتراءى له خيالات، كما يردِّد كلمات ذوات معنى: «إذا أردت أن تضحك من القلب حقًّا، فانظر إلى الأرض من فوق.»
إذن فالفصول الأولى من الرواية والمشاهد الأولى من الفيلم بمثابة مدخل للتعرُّف على المثرثرين في العوامة، ففي الفصل «٤» تدخل سناء لأول مرَّة، إنها إحدى المعجبات بالممثِّل الشابِّ «دعيني أقدِّم لك الأصدقاء الذين سيصيرون منذ الليلة أُسرتك.» ثُم نتعرف على سنية كامل التي حضرت لتوِّها؛ من بنات المير دي دييه، زوجة وأم، امرأة ممتازة حقًّا. سيدة مجرِّبة عرفت الأنوثة عذراءَ وزوجًا وأمًّا. أمَّا ليلى فهي خريجة الجامعة الأمريكية، مترجمة بالخارجية، جمال وثقافة، ومركز باهر، وذات شعر ذهبي حقيقي، أمَّا أنيس فهو موظف بوزارة الصحة، بينما أحمد نصر مدير حسابات، ومصطفى راشد محامٍ معروف، وعلي السيد ناقد فنيٌّ معروف، وخالد عزوز من كُتَّاب القصة القصيرة.
إذن لقد قدَّم محفوظ أبطاله بهذه الطريقة، أمَّا في الفيلم فكما أشرنا، فقد تعارفوا على أنيس لأول مرَّة، وفي البداية نرى الرجال؛ أحدهم ناقد، والثاني مؤلِّف سينمائي، وهم ينتقدون أسلوب السينما المصرية وقصصها «يلطشون فلوس المؤسسة»، ويتمُّ ذلك وهم يتناولون الجوزة فيما بينهم، في البداية يسخرون من أنيس الذي يثبت لهم كفاءته الشديدة في أخذ نفسٍ عميق ونفث الهواء «أنت بتلعب جوزة كويس قوي.»
في الرواية يدور التعارف والتواصل والتحاور، يتكلمون في أمورٍ تافهة، وأحيانًا جادة «الغيرة ليست غريزة كما يقول الجاهلون، ولكنها تراث إقطاعي.» وقد استخدم الكاتب آليَّته القديمة في المونولوج الداخليِّ بشكلٍ مختصر، كأن تتكلم ليلى نفسها: «لست بغيًّا، هل أنا وحدي بين هؤلاء المساطيل الذي يضاحك هذه الموجة المستهترة؟» وهذا النوع من الحوار الداخليِّ غير موجود في الفيلم، والغريب أن أنيس يردِّد في آخر الجلسة في الفصل «٤»: «أنا ذاهب لصلاة الفجر.»
الفصل «٥» يبدأ عند غروب آخر يوم في الأسبوع، حيث يأتي الأصدقاء تباعًا، حيث يتلازم رجب وسناء منذ أسبوع، ورغم أنها صغيرة فهو ليس أول فنان في حياتها؛ مما يدفع بليلى أن تردِّد: «الويل لمن تحترم الحب في عصرٍ لا يكنُّ للحب احترامًا.» ويدور حوار يجعلنا أمام رواية مليئة بالرؤية والسخرية على غرار:
جميل أن تُدعى ساقطة الأمس بفيلسوفة اليوم.
وباعتبار عنوان الفيلم والرواية فإن الفصول مثل المشاهد؛ مليئة بالثرثرة والحوار، مثل رأي روَّاد العوَّامة حول حضور سمارة، ومنذ اللحظة الأولى لوجودها ترفض الجوزة، وفي الفصل «٦» يتحدثون حول الاشتراكية بشكلٍ عابر، وقد بدا كأن دخول الصحفيَّة إلى العوَّامة بمثابة حدٍّ فاصل في المصائر، سواءٌ في الفيلم أو الرواية، فهذه الزائرة «مثيرة من قبل أن تتكلم، جميلة، ورائحتها حلوة، والليل أكذوبة بما هو نهار سلبي»، وهي تأتي إلى العوَّامة بينما كل روَّادها نماذج سيئة، ابتداءً من الممثِّل وأنيس والمحامي والصحفي؛ لذا فإن هناك شعورًا بالإحباط لوجودها، خاصةً في الفيلم، باعتبار أن سناء تخاف على علاقتها برجب من وجودها، وبالفعل تمتثل الصحفيَّة لبعض إغراءات الممثِّل، خاصةً أنه في الفيلم يبدو مثقفًا قارئًا لأدباء العالم رغم فحولته.
في الفيلم فإن سناء «ألمظية» تعود إلى بيتها، وتعاتب زوجها الذي يغازل خادمته، بينما هي قادمة من العوَّامة عاشقة لعلي السيد، وهذا الزوج غير موجود في الرواية إلا من خلال الحوار، أمَّا سمارة بهجت فلم تأتِ إلى العوَّامة لعمل ريبورتاج صحفي، بقدر ما جاءت برغبتها للدخول إلى هذا العالم. وفي الفيلم هناك إشارات متكرِّرة عن سبب حضور النساء؛ فليلى ابنة أُسرة فقيرة رغم أنها مترجمة بوزارة الخارجية، لكنها في الفيلم تحصل على النقود من عشيقها خالد عزوز، لتدَّخرها طمعًا في الحصول على شقَّة في الزمالك.
في الفيلم قامت سناء بضرب سمارة، بدافع الغيرة، فوقعت منها حقيبتها، وتمكن أنيس من العثور على مفكرة كتبت فيها سمارة مدوَّنتها حول الشخصيات التي تتردَّد على العوَّامة، وقالت إن أنيس نصف مجنون نصف ميت، هذا الوصف شجَّع أنيس على الخروج من صمته، وتنبَّه إلى شيء مُهم ليس موجودًا في الرواية، وهو أنه وافق على الذهاب إلى الجبهة لرؤية ما يحدث من هناك، وقد حدث بالنسبة له ما يُسمَّى ﺑ «نقطة تحوُّل»، أمَّا في الرواية، فإن أنيس تنبَّه إلى حقيبة سمارة البيضاء، فخطر له أن يأخذ منها نصف جنيه ليعطيه للفتاة التي سيجيء بها عم عبده، ويكتشف وجود مسرحية كتبتها فكرتها تدور عن الجديَّة في مواجهة العبث، والعبث عند محفوظ هنا هو فقدان المعنى، معنى أيِّ شيء؛ انهيار الإيمان، الإيمان بأيِّ شيء، والسير في الحياة بدافع الضرورة وحدها، ودون انقطاع وبلا أمل حقيقي، وقد دار هذا الحوار على لسان سمارة، وهي أفكار وجودية كان لها تأثير قويٌّ في الأجيال المصرية والعالمية في تلك المرحلة، وقد بزغ جانب الفيلسوف عند نجيب محفوظ في الفصل «١٠»، وهو يتحدث عن معنى العبث بإسهاب قبل أن يتحدث عن المسرحية التي تزمع الفتاة كتابتها، وقد كتبت المؤلِّفة أشخاص المسرحية، وانطباعاتها حول أبطالها رواد العوَّامة بأسمائهم الحقيقية وهم ستَّة أشخاص، ومن الواضح أن الفيلم قد حذف شخصية أحمد نصر، ليبقى في العوَّامة خمسة رجال، أمَّا المؤلِّفة فلم تكتب كلمة واحدة عن النساء الثلاث الأخريات، وقد كتبت عن أنيس زكي أنه «يمكن أن تصفه بأيِّ شيء أو ألَّا تجد له صفة على الإطلاق.»
هذه القراءة للمفكِّرة أو المسرحية، نبَّهت أنيس إلى صفات من حوله، تتحدث إلى خالد قائلةً: «إنك إباحيٌّ مُنحل لأنك بلا عقيدة، وربما أنك بلا عقيدة لأنك مُنحل.» ثُم يواجه كلٌّ منهما بما فيه، لقد دفعته المفكِّرة أن ينطق.
في الفيلم عرفت سمارة أن أنيس قرأ مفكِّرتها، أمَّا في الرواية فإنها رجعت عند الفجر كي تستردَّ المفكرة، فينكر عثوره عليها: «المدوَّن في المذكِّرة لا يمثِّل رأيي، ولكنه جملة الأداء التي أعدها للمسرحية.» وبعد حوارٍ طويل تأخذ المذكِّرة، وتذهب وتستحلفه ألا يفشي ما بها.
في الفصل «١٣» جاءت سناء ومعها الشابُّ رءوف كبديل لرجب، وقد حدث الأمر نفسه في الفيلم، لكننا لم نرَه إلا مرةً واحدة، كما أن السيناريو توقَّف عند ما يحدث في العوَّامة ليلة رأس السنة الميلادية، ليعطي المؤلِّف مساحةً من المعرفة حول عم عبده حارس العوامة، الرجل المؤمن، ونعرف أنه هارب من جريمة ارتكبها عام ١٩١٩م، ولذا فإنه يرضى بهذه الوظيفة، وهذه المعلومات غير موجودة في الفيلم، وفي الرواية هناك إشارة إلى رحلة قامت بها سمارة التي عادت إلى العوَّامة، أمَّا الفيلم فقد أوقف الأحداث تمامًا، وذهب ببطليه سمارة وأنيس إلى مدينة السويس التي دمرتها قنابل العدو الإسرائيلي، فاستند انتباه أنيس إلى الواقع المرير، ورأى الوطن خارج العوَّامة، وانتبه إلى جريمة دهس الفلَّاحة بالسيارة، وهو الحادث الذي تأخَّر ظهوره في الرواية، أيْ إن الحادث في الفيلم ظهر قبل الحضور الأول لسمارة إلى العوَّامة، أمَّا في الرواية فإن السيارة حملت كلًّا من رجب وسمارة وأحمد نصر في المقعد الأمامي، وتكدَّس الباقون في المقعد الخلفي كجسد مفلطح ذي خمسة رءوس؛ أيْ إن هناك ثمانية أشخاص كانوا في السيارة التي انطلقت في الظلام، ولعل هذا أول خروج جماعيِّ لهم، وقد أسهب الفيلم في وصف هذا الخروج؛ حيث مارسوا كافَّة نزقهم في الأماكن الأثرية، خاصةً تمثال رمسيس النائم، وقاد رجب السيارة بسرعة جنونية دفعت الخوف في قلب ليلى، وفجأةً طار شبح أسود في الهواء وارتجَّت السيارة، وكان القرار هو: «يجب أن نهرب؛ هو الحل الوحيد.» ثُم هربوا بالفعل.
في الفيلم، في السويس، ينتبه أنيس بعد عدَّة أشهر إلى الفلَّاحة التي ماتت، وهي في سنِّ التاسعة عشرة، فيردِّد قائلًا لسمارة: «إحنا اللي موتنا الفلاحة.» وهناك فارق ملحوظ في الحديث هنا، فسمارة — الفيلم — لم تكُن في السيارة القاتلة، عكس الرواية، وعندما تعود سمارة إلى العوَّامة مع أنيس، فإنهم يُفاجئون بأن أنيس يردِّد جملته الشهيرة: «الفلَّاحة ماتت ولازم نسلِّم نفسنا.» ويدور حوار ساخر بين روَّاد العوَّامة وأنيس، ويردِّدون في سخرية: إن الفلاحة كان لها أن تموت من الجوع، ويردِّد مصطفى أنه كمحامٍ كان يمكنه أن يرفع قضية على أهل الفتاة إلا أنه اختصر الإجراءات وذهبوا. وبدا المشهد في الفيلم أقرب إلى الذروة المسرحية، ويتمُّ تبرير الموت، ويتحدثون عن القضاء والقدر، وبينما يخرج أنيس مع سمارة من العوَّامة فإن عم عبده يفكُّ الجنزير الذي يربط العوَّامة بالبر، بينما يغني الجميع في شِبه هستريا ومزاح: «الفلاحة ماتت ولازم …»
في الفصل «١٦» فإن أنيس يخرج إلى الطريق مُفيقًا لأول مرَّة، ويدرك أن لكل عوَّامة شخصيتها، وأنه لم يقرأ جريدة منذ دهرٍ طويل، ويذهب إلى مكتبه في الوزارة، ويغرق في نومٍ عميق، ويحلم حلمًا طويلًا إلى أن يتمَّ استيقاظه ويُطلب منه التوجُّه إلى المدير العام، وتدور بين الاثنين مشادَّة، حيث إن المدير رآه وهو نائم «يؤسفني أن أخبرك بأن أمرًا قد صدر بوقفك عن العمل وإحالتك إلى النيابة الإدارية.» وهذا المشهد غير موجود في الفيلم.
يعود أنيس إلى العوَّامة، ويجد سمارة هناك، وتخبره أن القتيل رجل في الخمسين، «يا للبلاء، تراكمت المصائب.»
وقد اختلفت النهاية تمامًا ما بين الفيلم والرواية؛ حيث هناك خطر على العوَّامة، حيث قرار المدير العام في وزارة الصحة درء هذا الخطر، كما أن سمارة تمثِّل الوجه الآخر من الخطر. ويقررون التخلُّص من الحشيش الذي معهم، وفي الفصل الأخير تنشب مشاجرة بالأيدي بين رجب وأنيس بعد أن صفع الأول الثاني، «مَن يصدق أن يحدث هذا في عوامتنا»، ولا يكفُّ أنيس عن ترديد: «كلُّ شيء يهون إلا جريمة القتل.» ويردِّد: «إن العدالة يجب أن تتحقق أكثر من مرَّة.» ويحسُّ لأول مرَّة أنه في كامل وعيه؛ مما أغضب رجب باعتبار أن هذا يهدِّد مستقبله، بينما يزداد إصرار أنيس على إبلاغ العدالة، ويعترف لسمارة أن ما قرأه في المفكرة قد غيَّره بشكلٍ غير مباشر: «قد تتوهَّمين أن إحدى شخصيات مسرحيتك قد تطورت إلى النقيض بتأثير كلامك أو بدافع من حدَّة التجربة.»
ويعترف أنيس لها أنه يحبُّها، وأن الغَيرة كانت باعثًا من بواعث سلوكها الغريب، ويدور حوار غريب حول العقل والإرادة، ويخرج من العوَّامة معبِّرًا عن نهاية مفتوحة شديدة الغموض؛ قبض على غصن شجرة بيدٍ وعلى حجرٍ بيد، وتقدَّم في حذرٍ وهو يمدُّ بصره إلى طريقٍ بلا نهاية.