صور ممنوعة
كتب نجيب أقصوصة «صورة» في الفترة
التي سعى فيها إلى التجريد، متأثرًا بفكرة «حسب
تقديرك» عند بيرانديللو، وقد اتضحت هذه السمة بكل قوة في
هذه الأقصوصة المنشورة ضمن مجموعة «خمارة القطِّ
الأسود» عام ١٩٦٩م، والتي تضمُّ العديد من القصص القصيرة
التي تحولت إلى أفلام روائية، ومن بينها أقصوصة «المسطول والقنبلة».
وكما أشرنا فإن القصة تقع تحت تفسير «حسب
تقديرك»، فقد نظر كل شخص شاهد صورة الفتاة القتيلة في
الصُّحف على أنها تخصُّه هو؛ أيْ إن الفتاة المقتولة موجودة في حياة
كلٍّ من هؤلاء القرَّاء الرجال، وحسب تقدير كلٍّ منهم، ابتداءً من
يسري عبد المطلب الذي كان يتناول
فطوره ومعه زوجته التي انهمكت في مطالعة الجريدة، هو رجل له أبناء
تزوجوا، أُحيل إلى التقاعد، تردِّد امرأته: «مسكينة.» وهي تقرأ في صحفة
الحوادث. الموضوع هو جثَّة ملقاة على الرمال؛ الوجه واضح المعالم، وسيم
يافع، مغمض العينين إلى الأبد، إنها قتيلة تمَّ العثور عليها في
الصحراء وراء الهرم، مؤخر الرأس مهشَّم، مجهولة، لم يُسرق منها شيء،
تعلِّق: «يا قلب أمها.» وتستنكر السبب الذي من أجله يقتل الإنسان أخاه،
فيردِّد الزوج العجوز أن القتل موجود في الحروب، «والمسكينة ذهبت مع
القاتل، وهي مطمئنة»، يتساءل الزوج: عليها اللعنة، ولماذا ذهبت معه؟
فتردُّ: الله أعلم، الله غفور.
هذا هو الانطباع أو الحدث الأول لزوجين طالعا الخبر، أمَّا الحدث
الثاني فقد دار في شقَّة بالعمارة رقم ٥٠ بشبر، حيث نظرت فتاة إلى صورة
القتيلة بذهول وهُرعت إلى أمها، وقالت إنها شلبية التي كانت تعمل خادمة منذ خمس سنوات، وتذكرها الأمُّ
والابنة بخير، فقد طُردت بلا سبب، ونفهم من الحوار أن «بابا» لعلَّه
كان السبب، وتقرِّر الأمُّ بحزم عدم الاستجابة للإدلاء بمعلومات عن
القتيلة التي غادرت منذ خمس سنوات.
التقدير الثالث خاصٌّ بأنور أحمد
الذي طالع الحادث، وهو في عمله بإدارة التفتيش، إنها شلبية العاملة
بالمشغل، الجميلة العذراء التي اضطرَّ آخرَ الأمر أن يتزوج منها
عرفيًّا، ولمَّا حملت اغتصب منها موافقة على الإجهاض، ثُم سرَّحها فيما
بعد، وكان الشاهد على سرِّه هو زميله عبيد رئيس الحسابات الذي انتقل إلى حجرته، وأطلعه على
الجريدة وراحا يتحدثان عنها، ويقرِّر أنور أحمد عدم إبلاغ الشرطة؛ لأنه
قادم على زواج.
إذن فهناك حقيقة مشتركة؛ أن اسم القتيلة شلبية، وأن مَن شاهدها
يعرفها، أمَّا حسونة المغربي فلم
يقرأ الجريدة إلا حوالي العصر، موعد استيقاظه من النوم، وهو هنا يراها
درية، وليست شلبية، هي بالطبع امرأة
أخرى، حسب تقديره، أو حسب مرورها في حياته، عرفته وهي مطلَّقة ذليلة،
وعاشت عشيقةً له، ثُم هربت منه كي تُقتل في الصحراء.
وفي حوالي التاسعة اتسعت دائرة الأشخاص الذين راح كلٌّ منهم يدلي
بمعلوماتٍ حسب تقديره، وذلك حول مائدة القمار، إنها درية بالنسبة لهم
أيضًا، يُبلغون حسونة أنه يجب أن يدلي بمعلومات إلى الشرطة، فيتمتم:
«كان ضروري تُقتل لتربك حياتي.»
القصة السادسة تدور من خلال العاهرة فتحية
السلطاني، ومعها أربعٌ من العاهرات اللاتي يُقمن معًا في
نفس الحجرة، ويتحدثن عن القتيلة، إنها أيضًا درية، حيث تسأل فتحية
النادل في حلواني كوكب الشرق عنها، يردُّ دون أن يتوقف: زمانها
جاية.
قد تكون الشخص اسمها شلبية في زمنٍ ما، ثُم صار الاسم درية في زمن
لاحق بعد أن صارت عاهرة، أمَّا وجهة النظر الأخيرة فهي عند عادل، إنه
طالب، وهو القاتل، فهو الذي مضى بها إلى منطقة الهرم، هي أيضًا درية
التي تقول له: «كم أحببتك من كل قلبي، ولكنك لا قلب لك.» وهو يقول لها
بعد ذلك: «لن تري بعد الساعة إلا الظلام.»
والكاتب يبرِّر القتل على لسان عادل، فهي لم تكن امرأةً ولا آدمية،
ولم ينبض قلبها بالحبِّ أبدًا، قوة شريرة خُلقت من الشرِّ لتمارس
الشر.
هذه هي أجواء الأقصوصة المليئة بالمعاني، وحسب الحكي فإننا هنا أمام
قتيلة حاضرة غائبة، قد تكون شلبية أو درية أو كلاهما معًا، وقد رتَّب
الكاتب هؤلاء الأشخاص الذين قرأوا الخبر حسب توقيت ساعات النهار،
ابتداءً من الصباح الباكر حتى حان الليل، ويمكن النظر إليها حسب تقدير
القارئ أو الشخصيات، وقد نظر كاتب السيناريو رأفت الميهي والمُخرج مدكور
ثابت إلى النصِّ على طريقته الخاصة، فكأنه قارئ الجريدة
الثامن، حيث تحولت الأقصوصة إلى رؤية حسب تقدير كاتب السيناريو، ثُم
تحوَّل المُخرج إلى القارئ التاسع يقدِّم رؤيته الخاصة.
من عنوان الفيلم القصير ضمن ثلاثة أفلام عُرضت تحت اسم «صور ممنوعة» كان اسم الفيلم موحيًا أنه يحمل
رؤية أصحابه السيناريست والمُخرج، وهو حكاية الأصل والصورة في إخراج
قصة نجيب محفوظ المسمَّاة «صورة»،
أيْ إننا سنرى أصلًا أدبيًّا وصورةً من هذا النصِّ كما تمَّ تأليفه
وإخراجه، بما يوحي أنه تمَّ تغيير الكثير من الوقائع التي تبدأ بامرأة
ورجل يرقصان على أنغام موسيقى هادئة، وتكشف الكاميرا عن عناق الطرفين،
ويظهر سكِّين كبير ليمزق الساتر، ثُم تنتقل الكاميرا إلى صورة امرأة
غير واضحة المعالم على الصفحة الأولى من إحدى الصُّحف تحت عنوان «مقتل
مليونيرة أجنبية في سفح الهرم.»
يقدِّم الفيلم بطلَيه غير الموجودَين في النصِّ الأدبي، كما أننا نرى
بين الحين والآخر المُخرج نفسه وهو يقوم بعملية إخراج فيلم نجيب محفوظ
اسمه «صورة»، البطلان هما صحفيَّان شابَّان، يُجريان تحقيقًا صحفيًّا
حول مقتل هذه المليونيرة التي هي في النصِّ الأدبيِّ عاهرة أو خادمة،
أو حسب تقديرك، الصحفيَّان هما ماجدة، وراشد، ويقدِّم
المُخرج طريقته الخاصة، فهذان الصحفيَّان هما صلة وصل بين المتفرِّج
والحدث، حيث إن راشد يتكلم إلى المتفرج مباشرةً، ثُم يعود إلى الحدث
على طريقة الفيلم البريطاني «ألفي»
إنتاج عام ١٩٦٦م، بطولة مايكل كين؛
مما يعني أن المتفرِّج يجب أن يتذكر أنه داخل قاعة سينما، أو مثلما كتب
أسامة القفاش في دراسة عن الفيلم
نشرتها مجلة «ألف» — العدد ١٥ عام
١٩٩٥م — أن الحدث هو مجرَّد احتمال يقع تحت قوانين الإمكانية
المجرَّدة، فهو ليس رجوعًا للماضي، ولكن طرحًا مستقبليًّا.
راشد هذا شابٌّ يحبُّ مهنة الصحافة، ولديه هموم كونية، يحبُّ زميلته
ماجدة، وهاتان الشخصيَّتان من ابتداع السيناريو؛ أيْ إننا لم ندخل بعدُ
في قصة الكاتب، سوى أن هناك امرأة قُتلت، يعطيها الفيلم سمة مليونيرة،
ثُم يظهر المُخرج ليعتذر عن ظهور راشد، وهو يتكلم عن نفسه، ثُم يبدأ
الفيلم في الدخول إلى موضوع التحقيق في مقتل المليونيرة، فهناك ضابط
شُرطة غير موجود عند نجيب محفوظ، لديه وجهة نظر، وهناك شخصان يقدِّمان
نفسيهما على أنهما قاتلان، هما يوسف
ومحيي، الأخير يعترف بذلك بحثًا عن الشُّهرة.
إذن في البداية أضاف السيناريو أربعة أشخاص غير موجودة في النصِّ
الأدبيِّ، الصحفيَّان اللذان يبحثان عن الحقيقة، وشابَّان يدَّعي كلٌّ
منهما أنه القاتل، ثُم المُخرج الذي في حالة عمل، الذي يغوص في قلب
المدينة ومعه فريق العمل بحثًا عن القاتل. وتبدأ الشخصيات ذوات العلاقة
بالقتيلة في الظهور؛ الأول رشاد
أفندي موظف الأرشيف على الدرجة الثالثة، يميل إلى سماع
أغنيات محمد عبد الوهاب، الذي يقرأ خبر مصرع المرأة، يراها على أنها
الخادمة التي عملت عنده منذ بعض الوقت غير المحدَّد.
ويقدِّم الفيلم أبطاله، مشابهين أو مخالفين، لمَن قدَّمهم النصُّ
الأدبي، فرشاد هذا هو المعادل لأنور
أحمد الذي يعمل بإدارة التفتيش، لكن النصَّ الأدبيَّ يقول
إن هناك علاقة أعمق من مجرَّد كونها خادمة، وسرعان ما ينتقل الحدث إلى
الحاج محمود، صاحب مصنع نسيج، وهو
الآخر كانت له علاقة بالمقتولة، وهو يكاد يكون النصف الثاني من شخصية
الموظف في النصِّ الأدبي، حيث إنها كانت تعمل في مصنعه، وهناك علاقة
عاطفية بينهما، اسمه الحاج محمود، وقد حملت منه، وتمَّ إجهاضها.
وفي النصِّ الأدبي، اضطرَّ أنور أحمد إلى الزواج من المرأة، ولمَّا
حملت اغتصب منها موافقة على الإجهاض، ثُم قام بتسريحها بعد فترةٍ من
الزمن.
أمَّا الرجل الثالث في الفيلم فاسمه حسونة
المغربي، إنه رجل أعمال غارق في نزواته ونزقه، ويعيش زمنًا
تمَّ فيه إلغاء البورصة، وهو شخص لاهٍ مستهتر، ينتقل من مغامرةٍ إلى
الأخرى دون مراجعة.
الشخصيَّات التي ابتدعها السيناريو غير موجودة بالمرَّة في الفيلم،
بمعنى أننا أمام رؤية مطاطيَّة، وأن هناك عشرات من «حسب تقديرك»، مثل
الرجل الرابع في الفيلم، عبد الغني
الذي يدير بيتًا للدعارة، والقتيلة كانت إحدى بنات هذا البيت، تحمل
اسمًا مختلفًا، مثلما تغيَّر اسم شلبية إلى درية.
كما أن السيناريو ابتدع قصة أخرى، هي قصة الأب والأمِّ لدى القتيلة،
ففي القرية التي نزحت منها المرأة المقتولة، يستقبل الوالدان الخبر؛
الأمُّ تبكي، والأب يقابل الأمر بالكثير من البرود، حيث اعتبر أن ابنته
قد ماتت منذ أن هربت من الدار.
قدَّم النصُّ الأدبيُّ الحلَّ بأن القاتل هو عشيق للمرأة، سحبها معه
إلى مكانٍ خلف الهرم ليلًا كي ينتقم لبرودها، فهي لم تكُن آدمية، ولم
ينبض قلبها بالحُب. امرأة شريرة خلص منها العالم.
أمَّا الفيلم فقد جسَّم مسألة «حسب تقديرك» بشكل أكثر وضوحًا، فتُرى
هل القتيلة هي العاهرة، أم الخادمة، أم الابنة، أم العاملة، أم كل
هؤلاء النساء معًا امرأة واحدة في مراحل متعددة من حياتها؟!
الفيلم اهتمَّ بإضافة حواديت ورؤى درامية إضافية، ولم يلتزم بالنصِّ
الأدبيِّ إلا في روح النَّص، وإن كان قد اهتمَّ بالأماكن، مثلما حدث في
النصِّ الأدبيِّ، حيث انتقل هذا النصُّ من بيت موظف على المعاش إلى
عمارة في شارع شبرا، ومكتب وظيفي، ثُم بيت العاهرات، ويكاد يكون اسم
حسونة المغربي هو لشخص تكرَّر وجوده بين الفيلم والنصِّ الأدبيِّ مع
اختلافٍ كبيرٍ في عمل ووظيفة كلٍّ منهما، فهو أحد عشاقها الأخيرين، وقد
هربت منه كي تُقتل في الصحراء، أمَّا حسونة المغربي في الفيلم فهو رجل
داعر، يتحسَّر على أيام البورصة، وهو واحد من أصحاب المراتب الاجتماعية
العالية.
الشخصيَّة الرابعة في الفيلم تصوِّر كيف صارت المرأة داعرة، يفترض
فيها الفيلم أن المرأة ارتبطت بعلاقة مع يوسف؛ أحد الشابَّين اللذَين
ادَّعيا أنهما القاتلان، ويقدِّمها الفيلم هنا على أساس أنها عاهرة
بالغة المهاترة، تعرف كيف «تأشط الزبون»، استطاعت أن تكوِّن ثروة من
هذه المهنة، وحسب عنوان الخبر الرئيسيِّ لمقتلها فإنها صارت مليونيرة
من بيع جسدها.
وفي الفيلم يدور حوار بين محيي وبين يوسف الذي يردِّد: «المفروض إن
أنا القاتل.»
ويقول أسامة القفاش في دراسته السابق الإشارة إليها إن دخول المُخرج
ضمن نجوم فيلمه يعمل بشكل مباشر على سدِّ حاجز الوهم بينه وبين
المتفرِّج، إنه يبدو وكأنه يخاطب الناس قائلًا: ها أنا ذا أحاول وأريد
مساعدتكم «إن الكسر هنا خطابيٌّ ومباشر؛ فهو ثمرة الحوار المستمرِّ مع
المتفرِّج».
وعلى كلٍّ فالذي يهمِّنا أن النصَّ الأدبيَّ تحوَّل إلى نصٍّ
سينمائيٍّ مختلف ومتشابه في الوقت نفسه، ويكون هذا الفيلم القصير هو
الفيلم الثاني من نوعه في أفلام الثلاث قصص، الذي يتحول من قصة قصيرة
إلى فيلم قصير (مدَّته ستُّون دقيقة) بعد فيلم «٣ قصص» والنص الأدبي «دنيا الله».