الكرنك
وأول ما يسترعى انتباه الراوية هو الراقصة قرنفلة، وقد صارت عجوزًا، إنها امرأة تمثِّل حلم الأربعينيَّات الورديَّ، لقد انطفأ سحر الأنوثة، وجفَّ رونق الشباب، لا تزال تتمتَّع بخفَّة الروح، أمَّا المكان فزبائنه قِلَّة، ثمَّة عناقٌ صار بين الماضي والحاضر.
وليست هناك إشارة إلى تاريخ ذلك التردُّد إلا في صفحة ٢، حيث إنه بالضبط عام ١٩٦٥م، أيْ بعد أن مرَّ على الثورة ١٣ سنة، نحن هنا أمام شخصية يصفها الراوية بدقة، كما يصف المكان الذي يجلس فيه «فليكن الكرنك مستقرِّي كلما سمح الزمان.»
يدور حوار بين صاحبة المقهى قرنفلة وبين الزبون الجديد، تمخَّضت عن صداقة جديدة، وفي لقاءٍ آخر تبدأ في الحديث عن مهنتها «كان الرقص الشرقي هزًّا للبطن والصدر والعجز، فجعلته تصويريًّا.» إذن فنحن أمام امرأة سلوكها العام هو الاحترام، ونحن نعرف عنها من خلال الحوار مع الراوية الذي لا نكاد نعرف عنه شيئًا، تروي له عن الساقي الذي كان مغرمًا بها يومًا، فسرق من أجلها.
تبدأ الأشياء في الانشراخ دون أن تعرف بالضبط ماذا دار أثناء غيابهم، إلا من خلال تغيُّر سلوكهم والإحساس بالانكسار. ثُم يأتي الاختفاء الثالث، وتبدأ أحداث ١٩٦٧م التي يراها الكاتب «كبيرة اجتاحت الوطن»، يردِّد أنه تداعت كثير من القِيَم أمام أعيننا، وتلوَّثت أيدٍ لا حصر لها، ولكننا لم نشكَّ في قوَّتنا.
عاد الغائبون عقب وقوع «الهزيمة» بأسابيع، ونعرف أنه تمَّ القبض على خالد صفوان «كثيرون انتقلوا من مقاعد الحكم إلى أعماق السجون.» وتعرف أن حلمي مات في أثناء التحقيق. أمَّا زينب وإسماعيل فقد واريا حُبَّهما القديم التراب، وإن كليهما استقلَّ بحياته وأحزانه.
وبمرور الأيام غابت الوجوه، وعلم الراوية خبايا الأحداث.
أيْ إن الفصول القادمة التي تحمل أسماء أبطال الرواية، بمثابة التفصيل بعد موجز النشرة؛ فالشخصية التالية هي إسماعيل الشيخ، صاحب البنيان القويِّ، والقسمات الكبيرة الواضحة، لا يغيِّر بدلته، ابن بيئة فقيرة، ونحن نتعرَّف عليه من خلال ما يحكيه للراوية «أمي بياعة سرِّيحة، سكننا مكون من حجرة وحيدة في فناء رَبع، وهناك مرحاض واحد في الفناء.»
وما نسمعه على لسان إسماعيل، هو إجابة لأسئلة يطرحها الراوية، فقد التحق إسماعيل بكليَّة الحقوق، وليس كليَّة الطبِّ كما في الفيلم، إسماعيل هو ابنٌ من أبناء الثورة؛ فهو مولود عام ١٩٤٩، كان انتماؤه الأول إلى الثورة، آمن بالاشتراكية المصرية، ثُم يكتشف أنه لم تكن في حياتنا اشتراكية حقيقية، كما فطن إلى ذلك حلمي الذي كان شيوعيًّا، ويتحدث إسماعيل عن زينب التي تقيم في الحيِّ نفسه وهي صبية منذ الطفولة، إلى أن التحقت بالجامعة معه، اتَّفقا على الزواج. أمَّا حلمي، فكان أبوه مدرس لغة إنجليزية، وجده كان عاملًا بالسكك الحديدية، وكانت لديه مكتبة ثرية، يعير منها لأصدقائه.
يحكي إسماعيل عن ليلة اعتقاله وسط الليل، ويساق معصوب العينين إلى ما وراء الجدران، حيث يتمُّ سبُّه وضربه، وبعد معاناة يجد نفسه أمام المسئول خالد صفوان الذي يقول: «نحن نحمي الدولة التي تحرِّركم من كافَّة أنواع العبودية.» ويقول إسماعيل أن القبض على إسماعيل كان بسبب أنه تبرَّع بقرشٍ للمسجد، وأن زينب وحلمي اعتقلا بسبب علاقتهما به.
أمَّا الاعتقال الثاني، فقد تمَّ لإسماعيل عقب زيارته لبيت صديقه الشيوعي، فيُتَّهم بأنه شيوعي، ويهدِّده صفوان باغتصاب زينب لو لم يعترف، وفي السجن يرى حلمي وقد عُلِّق من قدميه، وهو صامت ساكن، مغمًى عليه أو ميتًا «إنك شيوعي متحمِّس، أليس كذلك؟» ورغم ما يردِّده إسماعيل أنه ابن الثورة، ويعود الشاب من الاعتقال الثاني مُرشدًا للأمن، له مرتب ثابت، وضمير معذَّب، ويحدث الاتصال الجنسي مع زينب، لأول مرَّة، إنه شخص ساقط، لقد أصاب زينب كآبة عميقة، ولا أثر فيها للشعور بالنجاة.
لقد تغيَّرت، بل انقلبت، لقد هزَّتها الأحداث، لذا فإنه لا يُبلغ عن زملائه، تسألهم خاصةً حلمي، فيتمُّ الاعتقال الثالث؛ لأنه خان الأمانة، ويموت حلمي من شدة التعذيب، أمَّا زينب فقد انكسر الحبُّ بينها وبين إسماعيل «أنا مريض وأعرف أسباب مرضي، وهي مريضة أيضًا، وقد ينتعش الحبُّ يومًا.»
الفصل الثالث هو عن زينب دياب، بعينَي الراوية أيضًا، الذي رأى وجهها الخمريَّ الرائق، وقسماتها النامية في حرية وعذوبة، وجسمها القويَّ الرشيق. هي من البيئة نفسها، أبوها يبيع لحمة الرأس، وأمُّها صارت دلَّالة بعد طول كفاح، نجحت في المدرسة، تقدَّم لخِطبتها وهي تلميذة رجلٌ في الأربعين، ومتزوج، لكن الفتاة رفضت، هي تحبُّ إسماعيل.
يتكلم الراوية باعتبار أنه يعرف ما يدور من حوله، ثُم تتحدث إليه «قُبض عليَّ لصلتي المعروفة بإسماعيل، ولم تكُن توجد شبهةٌ ضدِّي، كما أقسمت لهم بأنه لم يكُن يومًا من الإخوان.» كما تمَّ اعتقال أبيها بتُهمة العربدة، تحكي عن لقائها بخالد صفوان في مكتبة، وتتكرر الزيارة، إلى أن تثبت براءتها، وتصبح مُرشدةً لرجال الأمن، وتُعرض عليها امتيازات، لكنها لا تفيدهم بشيء، فيتمُّ القبض عليها مجدَّدًا «ذهبت أنا وإسماعيل إلى بيت حلمي حمادة وجدناه ثائرًا، واعترف لنا بأنه يوزِّع منشورات سريَّة.» تعترف أنها السبب في قتل حلمي إنقاذًا لإسماعيل.
أمَّا الشخصية الرابعة والأخيرة فهي «خالد صفوان»، ومن الواضح أن الراوية لم يلتقِه أثناء مجده الوظيفي، إنما سمع عنه، فلا حديث عن سواه لروَّاد مقهى الكرنك، لقد ظهر لدى الراوية بعد الإفراج عنه، لقد سُجن ثلاث سنوات، جاء إلى المقهى بنفسه، صارت عيناه غائرتين «ها نحن نجتمع في مكان مع أسوأ الذكريات.» يردِّد قائلًا لقرنفلة: «كلنا مجرمون، كلنا ضحايا.» وهي الجملة التي ردَّدها خالد بعد القبض عليه، عندما وجد نفسه وسط مَن أمر بجلدهم وتعذيبهم، يقول: «المجرم شخص، والضحية شخص آخر.» لقد جاء بحثًا عن دواءٍ في مكانٍ قريب، ويغادر المقهى وسط ذهول الجميع، كأنه يتحدَّاهم جميعًا.
- (١)
الكفر بالاستبداد والدكتاتورية.
- (٢)
الكفر بالعنف الدموي.
- (٣)
يجب أن يطَّرد التقدُّم معتمدًا على قيَم الحرية والرأي واحترام الإنسان، وهي كفيلة بتحقيقه.
- (٤)
العِلم والنَّهج العلميُّ هو ما يجب أن نتقبَّله من الحضارة الغربية دون مناقشة، أمَّا ما عداه فلا نُسلِّم به، إلا من خلال مناقشة الواقع متحرِّرين من أيِّ قيدٍ قديمٍ أو حديث.
أيْ إن مقهى الفيلم مزدحمٌ بالرُّواد، عن العدد القليل المُشار إليه في الرواية، وقد تغيَّر اسم زينب دياب إلى زينب عواد، دون إشارة إلى سبب ذلك.
أمَّا الفيلم فقد دخل غرف التحقيقات والسجون، ورأينا كيف قام المساجين بضرب خالد صفوان عندما صار واحدًا منهم بعد حركة ١٥ مايو، كيف تمَّ استجواب إسماعيل، ثُم زينب، وكيف قُتل حلمي، وقد تغيَّرت هوية زينب وإسماعيل كطالبَين في كليَّة الحقوق، فتحوَّلا إلى طالبين في كليَّة الطب، ومن هنا جاءت حتمية أن يشاركا في حرب أكتوبر في الجبهة الداخلية.
إذَن فالفيلم قد عبر بين مرحلتين، ولا شكَّ أن الرواية المكتوبة بعد حركة ١٥ مايو، قد كُتبت بالروح نفسها التي أخذها الفيلم، فاصطبغ الفيلم بالسياسة والتاريخ معًا، وحسب الحكاية فإن مرحلة عبد الناصر، قد قتلت قصص حبٍّ مليئة بالجذور الراسخة، مثل قصة زينب وإسماعيل، الذي اكتشف أنه تمَّ اغتصابها، عندما كاد أن يمارس الجنس معها في لحظة يأس.
وقد كتب مجدي فهمي أن «الفيلم غني، وميزة كتابات نجيب محفوظ أنها مثل خطوط المهندس، نراها في البداية مجرد مسطحات محدَّدة بالحبر والمسطرة، ولكنها تتحول بعد الحفر والتعميق إلى أساسات لعماراتٍ شاهقة.»
وفي الفيلم مشاهد كثيرة، غير موجودة في الرواية، وهذه هي المسألة؛ فالفيلم أهم بكثيرٍ من النصِّ الأدبيِّ، مثلما شاهدنا في مشهد الفِراش بين إسماعيل وزينب، فقد تمَّت فوق فراشٍ متواضع، يخصُّ زميلًا آخر، فالحجرة تبدو متآكلة الجدران مليئةً بالصور والرسوم والضوء الخافت الفلاشر، يتناوب فيها الظلام والضوء، وهناك لوحة تجسِّد الرغبة، ثُم صور ضرب فيها القسوة، وتمثال ثلاثيٌّ للقرد تعبِّر عن: لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم، ويتمُّ التواصل، زينب تتحسَّس ظهر إسماعيل بحثًا عن آثار التعذيب الذي حاول به أن يفتدي شرفها، ثُم اكتشاف إسماعيل أن زينب قد تمَّ اغتصابها، وسط صعود الموسيقى، وصدمته فيما حدث لها رغم محاولاته الزَّود عن شرفهما.
ثُم يحدُث قطع، حيث يمشي الاثنان وسط المدينة، تبدو الأضواء سوداء، والسيارات تُزاحم الطريق، وجندي حراسة، ومواء قطٍّ كأنه الصراخ.
وحسب مجدي فهمي أيضًا فإن هذا فيلم جديد، جيد جدًّا فيه الفنُّ والصنعة والاجتهاد، وفيه العِظة والدرس والعبرة، وفيه يشير بأن الظلم لا يدوم وإن طال، وأن كأس الظلم دوَّار.