بداية ونهاية
في الرواية هناك إشارة إلى أن الأسرة تسكن شبرا، وليس هناك منطقة بعينها حسب أحداث الفيلم، وفي الفصل «٢» هناك وقائع وصول الولدين إلى البيت، وبعض مراسيم الجنازة والعزاء، وقد استمرت هذه الأجواء الكئيبة طوال الفصول الخمسة. كان — رحمه الله رحمةً واسعةً — رجلًا عظيمًا، فلا عجب أن تكون جنازته عظيمة مثله، ولقد امتلأت عطفة نصر الله بالمُشيِّعين من البيت إلى شارع شبرا.
إذَن فصفحات الرواية تصف الكثير من الأجواء الحزينة المرتبطة بموت موظَّف محترم لديه زوجة وأربعة أبناء، ومراسيم العزاء، ثُم صَرْف المعاش الصغير جدًّا، ونزول الأُسرة من حالٍ إلى آخر، ثُم عودة الولدين للمدرسة لأول مرَّة عقب رحيل الأب، إلى أن نصل إلى الفصل «١٠»، حيث سيتم نقل الإقامة إلى الدَّور التحتاني؛ شقة أرضية بمستوى الفِناء، لا شرفة لها، ونوافذها مُطلَّة على عطفة جانبية تكاد تبدو منها رءوس المارَّة، وطبعًا محرومة من الشمس والهواء.
وعقب ذلك، تبدو الرواية والفيلم كأنهما يمشيان على الخطِّ نفسه، دون تغيير ملحوظ في النَّصَّين باعتبار أن لكل واحدٍ من الأبناء قصته وحياته، فتتناثر المشاهد عبر أربع قصص، تخصُّ كلًّا من حسنين وحسن ونفيسة، ثُم حسين حسب قوة تأثير كلٍّ منهم في الحياة، وقدرته على تحريك الأحداث من حوله. تبعد عشرة فصول من الرواية، ها نحن ذا نرى حسن يخرج من البيت، وقد تأنَّق ببدلة جعلته أقرب إلى الأفندية، فجلس عند المقهى، ولعب مع شركاء الجلسة، ونعرف أن حسن كان يغنِّي مع زملائه في المحطات الإذاعية الأهلية؛ لذا غنَّى في المقهى.
الفيلم دخل مباشرةً في تفاصيل علاقة نفيسة بسلمان ابن البقَّال، والتعرُّف على حالة الغاية والوسيلة التي يمتلكها حسنين؛ فهو لا يسأل أخته كيف دبَّرت النقود التي يأخذها منها، أو التي تشتري بها بعضًا من الطعام المتميِّز.
وكما أشرنا، فإن الفصول التالية من الرواية، تتلازم مع السيناريو المأخوذ عنها، باعتبار أننا أمام أربع حالات إنسانية، لكلٍّ منهم حكاياته، وهم جميعًا يعملون لمصلحة الأُسرة، ابتداءً من حسن البلطجي، ونفيسة التي ستصير عاهرة برغبتها أو بدافع العَوَز، وحسنين الذي أراد أن يركب طبقة اجتماعية أعلى منه، فانتبذ بهيَّة التي كم لهث وراءها فوق السطوح، أو بطلبه أن يخطبها، والإهانات التي تحمَّلها من أمِّه، وسخرية إخوته منه.
في الرواية، مثلما حدث في الفيلم، كل فصل يقوم بتتبُّع واحد من الأبناء، وهناك فصول تجمع بين أفراد الأسرة؛ فالفصل «١٣» مخصَّص كله لنفيسة، ثُم جاءت الفصول التالية لتجمع بين الأخوين حسنين وحسين اللذين سيعملان بالتدريس لابن فريد أفندي، الجار الموظف، الذي يعطف على العائلة التي سوف تُصاهره مرَّتين؛ الأولى حين يتقدَّم حسنين لبهيَّة، والثانية حين سيحاول حسين إصلاح خطأ أخيه، فيتقدَّم لخِطبة بهيَّة.
ومن فصلٍ لآخر، يعود الكاتب إلى نفيسة، ليتتبع قصتها مع سلمان، الذي سوف يمنحها من البقالة مقابل القُبلات، ثُم هو الذي سوف يصاحبها برغبتها إلى شقته، كي يُفقدها عذريَّتها، تمهيدًا لها أن تصير ابنة ليل، لتكون الشخصية الروائية الأولى في الرواية، رغم أنها دائمًا في دائرة الظلام، لا تكاد تلفت أنظار أحد؛ فهي مجرَّد شيء موجود في المنزل، لم تعرف لها صديقات، وقد صُدمت في تجربتها العاطفية الوحيدة، بل إنَّها سيئة الحظ، فحين تعمل عاهرة، فإنه سرعان ما يتمُّ القبض عليها، وهي تمارس هذه المهنة بشكلٍ فرديٍّ، وليس من خلال شبكة، ويكون سوء حظِّها الجديد أن أخاها ضابط في الجيش، ويتمُّ استدعاؤه ليشاهد فضيحةَ أخته، فيدفعها إلى الانتحار، ثُم ينتحر هو مثلها.
لذا فإن كاتب السيناريو وجد في نفيسة مُبتغاه، فالتزم بمساحة وجودها التي في الرواية، ولم يغيِّر من عالمها، ولم يختصر من حكاياتها، ولم يُضف من عندياته أيَّ حكاية، وجعل مصيرها السينمائيَّ مشابهًا تمامًا لما كتبه مؤلف الرواية.
وفي الفصول العشر الثانية من الرواية، هناك ربط دائم بين الأخوين حسنين وحسين، كأنهما كائن واحد؛ فهما يدرِّسان معًا لابن فريد أفندي، ويقوم الثاني بمراقبة الأول ويراجعه في نزقه تجاه موافقة بهية، وسيظلان هكذا إلى أن ضحَّى أحدهما من أجل الآخر، فاكتفى حسين بأن يتوقف عن التعليم من أجل أن يلتحق أخوه بالكليَّة الحربية. وهنا بدأ الانفصال الجسديُّ والرُّوحيُّ قبل أن يذهب كلٌّ منهما إلى عالمه؛ حسين إلى وظيفته في طنطا وعلاقته بالأُسرة التي أرادت أن تزوِّجه من ابنتها الصغيرة وآخر مَن تبقَّى للزواج، أمَّا حسنين فقد ذهب إلى الكليَّة وارتقى اجتماعيًّا، فدفعته طموحاته أن ينفصل عن بهيَّة من أجل أن يجرؤ على ركوب طبقة اجتماعية أعلى، فيتقدم لخِطبة ابنة اللواء، وكلما ارتفع بدأت علاقته الحميمة بأخيه تنفصل بشكل ملموس.
إذَن مشاهدة الفيلم هي قراءة أمينة للغاية للرواية، مع استبعاد ما أشرنا إليه، كما أن قراءة الرواية بمثابة مشاهدة جيِّدة للفيلم، مع اختلاف إيقاع السينما، مثل المشاهد المتلاحقة التي عرفت فيها نفيسة من أخيها أن سلمان سوف يتزوج؛ فهي تستغرق قُرابة سبع دقائق حتى يبدأ الفرح، أمَّا هذه المشاهد التي تبدو سريعة الإيقاع قياسًا للرواية، فقد استغرقت قُرابة عشرين صفحة، في طبعة الرواية الصادرة عن سلسلة الكتاب الذهبيِّ لعام ١٩٥٦م؛ مما يعني أن الفيلم المُتماسك الإيقاع كان بمثابة اختصارٍ ملحوظ.
إذن فالفيلم سار مع الرواية، يتحرك مع الزمن، يكبر الأولاد، ويحصل حسين على البكالوريا، حيث يقوم بالتضحية، ويعمل موظفًا بمدرسة طنطا الثانوية، وتصير غرفة الإخوة من الآن حجرة حسنين وحده. وقد اهتمت الرواية بالحياة الجديدة لحسين في طنطا، إلا أن السيناريو اختصر الكثير من هذه الوقائع دون أيِّ إخلال بها؛ مثلًا، لقد تجاهل الفيلم زيارة الأمِّ لابنها حسين في طنطا ذات يوم خميس. ولقد صار حسين في الفصول من «٤٤» إلى «٥٦» بمثابة الشخصية المحورية في الرواية، وهي صفحات كثيرة، اختصرها السيناريو باعتبار أن الشخصيات التي زاد الاهتمام بها في الفيلم هي حسنين وحسن ونفيسة، ويعني هذا أن نفيسة، في الفيلم والرواية، كانت تمارس البغاء، وقد بدا نجيب محفوظ كأنه يهتمُّ بشخصيَّتها ومسيرتها، فيركِّز عليها، ويلقي الضوء على كل ما تفعله لمرحلة، حتى إذا حصل حسنين على البكالوريا وطمع في الالتحاق بالكلية الحربية، أولاه محفوظ عناية خاصة، فها هو في الفصل «٥٨» يذهب لمقابلة حسن ويطلب منه المال. وقد خصص الكاتب فصولًا متتابعة للتعرف على ما فعله الابن الأصغر عقب حصوله على البكالوريا، وهذه الفصول هي: ٥٧، ٥٨، ٥٩، ٦١، ٦٢، ٦٣، ٦٤، ٦٥، ٦٦، ٦٧، ٦٨، ٦٩، ٧٠، ٧١، ٧٢ حتى يجتمع الأخَوان حسين وحسنين في الفصل ٧٣، ٧٤، ٧٥، أيْ إن المؤلِّف قد أعطى اهتمامًا كبيرًا لحسنين الذي التحق بالكليَّة الحربية وتخرج بعد سنة واحدة من الالتحاق بها. وقد زار أخاه حسن في هذه الفترة مرتين؛ الأولى كي يطلب منه النقود للالتحاق بالكليَّة، والثانية كي يطلب منه الابتعاد عن سلوكه الإجرامي. وقد تعمَّد محفوظ أن يُبعد شخصياته الرئيسة الأخرى في هذه الفصول المذكورة، سواءً حسن الذي لم نعُد نعرف عنه شيئًا إلا من خلال أخبار تأتي عنه، أمَّا نفيسة فقد خصَّص لها المؤلِّف الفصل «٦٠» فقط، أمَّا الفيلم فهو بالطبع غير مُرقَّم المشاهد أو الأحداث، مثل الرواية، حتى تأتي النهاية المعروفة التي لا تتغير قيد أنمُلة بين الفيلم والرواية؛ حيث وجد كاتب السيناريو أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، فالتزم بأن يقتل الفيلم بطلَيه مثلما فعل المؤلِّف، حيث جاء على لسان المؤلف: وبلغ الوضع نفسه من الجسر فارتفق السُّور، وألقى ببصره إلى الماء تتدافع أمواجه في هياجٍ واصطخاب، وأحنى رأسه من الفكر: إذا أردت لن أصرخ، فلأكُن شجاعًا ولو مرَّةً واحدة، ليرحمنا الله.