الشيطان يعظ
يجد نفسه بين الرغبة في الهروب أو الصمود، لكن ليس وراء الهرب إلا السخرية والضياع، فيبدأ في تتبُّعها، وفي أحد الأفراح يغمز لها، فتبتسم، ثُم يستكمل متابعتها ويحدُث التقارب بينهما، ويتواعدان من أجل اللقاء.
وفي اللقاء الأول يقرِّران الهرب، فقد وهبته قلبها النابض، ووضعت مصيرها بين يديه، ويحسُّ أن ما يحدُث امتحان له من طرف المعلم، أمَّا هو فقد اكتشف أنه يحبُّها كما تحبُّه أكثر، ويهربان إلى مكانٍ أمين، إلى الدَّرب الأحمر، ومضيا في الطريق مصمِّمَين سعيدَين، يحدثان ويولدان من جديد.
تبدأ حياته الجديدة كنجار، غريب عن المكان والناس، وسط تحرُّش ملحوظ؛ فاللعنات تصبُّ على وداد وجمالها الذي يهدِّد الحارة والدَّرب، والأخبار تصل أن أُسرتَي العروسين قد تعرضتا لغضب الديناري، ويشعران أنهما اندفعا مع عاطفة طاغية دون تفكيرٍ في العواقب، «ما يعانيه أهلك وأهل زوجك فوق ما يحتمل البشر.»
إذَن فالثمن غالٍ، المكان الذي وفدوا إليه لا يقبلهم، والأخبار تأتي سيئةً عن الأهل، ويتنهَّد قائلًا: «الحياة لا تُطاق.» وتبدأ الاتهامات تُلقى من أحدهما على الآخر، إنه السبب «نحن نهرب من الغضب في مواجهة أنفسنا.» يرسل شطا إلى معلمه الديناري أن يسامحه، لكن المعلم يرفض، تقول: «ثمة مهمَّة عاجلة؛ وهي أن نرفع العذاب عن أهلنا، وأن نبعد عن هذا الجو المعادي لنا.» وترى أن الطلاق هو أول الحلول.
عندما يتحدث شطا إلى الشلبي برغبته في العودة، يأمره الشبلي أن يطلِّق زوجته قبل العودة؛ مما يجعله يحسُّ أنه يريدها لنفسه، وعند التنفيذ جبرًا يرفض شطا الطلاق، فيضربه رجال المعلم حتى نزف الدم من بين أسنانه وأنفه، ويتمُّ اغتصاب وداد أمام زوجها بشكل موجَز «فلترَ بعينيك عاقبة عنادك.» وهو الأمر الذي تمَّ في الفيلم بالمزيد من التفاصيل.
تكوَّمت وداد ممزَّقة الملابس، وطُرح شطا على الأرض ملوثًا بالدم، وأمام إصرار الزوج أن يقتل الشبلي يقرِّر ألا يطلِّق امرأته، ويعودان إلى الحارة القديمة فيما يشبه الزفَّة، لم يقضيا هنا سوى خمسة أيام، وعند رأس الحارة يستقبله طباع الديك: «لن يخدعني كلامك المعسول، لقد علمتني المصائب في أيام ما لم أتعلَّمه في عشرين عامًا، وهيأتني لمواجهة المصير أيًّا يكُن.»
وسط زفَّة من السخرية يدخلان إلى الديناري الذي يقول: «إني فتوَّة الحارة وحاميها، وليس من مذهبي أن آخذ البريء بالمذنب.»
وبعد اللقاء يردِّد شطا: «لم يتركني حرًّا، أمرني أن أستمر، ثبَّتني في أعمال الحيرة، لم يطردني من العصابة ولم يرجعني إليها، لم يعاقبني، ولم يعفُ عني، لم تصدُر عنه كلمة واحدة تدلُّ على الرضا ولا على الرفض.»
ويجد شطا نفسه وسط احتقار أقرانه، يضطرُّ أن يبحث عن رزقه بعيدًا عن الحارة ويعيش مع زوجته ومع أمِّه، وتنظر إليه بفتور.
وتمرُّ الأيام، وتأتي الأقاويل أن الشبلي راح يتباهى بأنه اغتصب وداد خطيبة الديناري على مرأى من شطا الحجري، رجله الثاني، وما إن وصلت الأخبار حتى تسلَّح الرجال بالنبابيت والخناجر، وشُحنت عربات بالزلط والقوارير وخردة الحديد، وانضمَّ شطا إلى الرجال دون أن يُدعى إلى ذلك، «جاء اليوم الذي أحلم به.» وكانت الواقعة؛ حيث طعن شطا الشبلي طعنةً قاتلة متلقِّيًا في الوقت ذاته عشرات الضربات القاتلة، وكان من جرَّاء ذلك أن غضب المُحافظ، فاتخذ قراره الحاسم.
يبدو الكاتب كأنه يختصر الأحداث، وفي الفصل الأخير من النصِّ الأدبيِّ يعود للتحدُّث بلسانه كراوية، فشطا قد مات، والديناري خرج من السجن، وفُرضت عليه رقابة، وقِيل إن الديناري هو الذي تكفَّل بدفن شطا، الذي اعتبر الرجل الثاني «وقد رأيت بعيني وداد، وهي امرأة تجاوزت الأربعين، وكانت تبيع الخوص والريحان في مواسم زيارة المقابر.»
«هكذا جذبني مقهى النجف قبل أن أبلغ سنَّ الشباب.»
من الواضح أن النصَّ بشكله الأدبيِّ وأسلوب الحكْي، وموضوعه يصلح أن يكون واحدًا من حكايات الحرافيش، ولعلها الحكاية الحادية عشرة والأخيرة، باعتبار أن الديناري هو آخر الفتوَّات، فقد صار مجرَّد صاحب مقهى في النصِّ وفي الحياة.
وعلى الفور تنطلق زغاريد نساء الحارة؛ فها هو الفتوَّة قد انتصر من جديد، يجلس الديناري في المقهى، وإلى جانبه طباع، الفتوة السابق الذي فقد مخالبه، فصار ظلًّا للديناري، يأتي شطا إلى طباع، يطلب من طباع أن يقرِّبه من الديناري، وهو كوَّاء يرى أن الفتوَنة هي المستقبل، ومنها يصبح المرء مميزًا.
الشبلي يقيم الفرح ويرقص أمام الموكب بخنجره، بينما في الرواية كان أكثر حرصًا وكبرياء، وتبدأ وداد في الإحساس بالأمومة في أحشائها، وحسب النصِّ الأدبيِّ، فإن الزوجين لم يقيما في حارة الشبلي سوى خمسة أيام، أمَّا الفيلم فقد أطال المدَّة إلى شهور، بالطبع من أجل أن تتعاظم شدَّة حادث الاغتصاب.
ولم يحدُث في الفيلم أن قام الديناري بتعذيب أُسرتَي الزوجين الهاربين، ولم يبدأ الصراع بين الزوجين؛ حيث رمى كلٌّ منهما باللوم على الآخر؛ فالشبلي تحلو وداد في عينيه، بعد عدَّة أشهر؛ لذا يطلب من شطا أن يطلِّقها كي يتزوجها؛ أيْ إن المنطق اختلف في مسألة الاغتصاب، فما إن يرفض شطا، حتى يأتي رجال الفتوة وينهال فريقٌ من الرجال ضربًا على الزوج، وينطلق فريق بصلب الزوجة على الفراش كي يغتصبها الشبلي أمام زوجها.
يعود الزوجان إلى ملاذهما الوحيد، حارة الديناري، تعيش وداد في بيت أبيها، وشطا يرجع إلى أمِّه، يزور الديناري شطا ويطرده من الحارة، يردِّد: «شبلي لم يغتصب وداد زوجتي، إنما هو هتك عِرض خطيبتك.»
في النصِّ لم يستقرَّ الديناري إلا بعد أن جاءته الأقاويل بأن الشبلي يفخر بذلك، أمَّا الفيلم فقد نبهت هذه العبارة الفتوة أن ينتقم، وتبدأ بعض التعقيدات في الحدوث، فطباع يدبِّر عملية خطف ثلاثة من أعوان الشبلي، وهذا يردُّ على العملية بخطف الطباع نفسه، الذي راح يسلِّطه في مهاجمة الديناري.