أهل القمة
اتَّسم نجيب محفوظ بقدرته الفائقة
على رصد التغيُّرات الحادَّة التي يشهدها المجتمع، خاصةً في
السبعينيات، وبدت هذه القدرة في أوضح حالاتها في العديد من المجموعات
القصصية، ومنها «الشيطان يعظ»
و«الحبُّ فوق هضبة الهرم».
ولعلَّ الرواية القصيرة «أهل القمة» هي أفضل مثال على ذلك؛ حيث ترصد
كيف تغيَّر المجتمع من جذوره عقب الانفتاح الاقتصادي، وربما قبل ذلك،
مع فتح ما كان يسمَّى بسوق ليبيا، في أوائل السبعينيات، وطوال هذا
العقد. وهذا النصُّ الأدبيُّ يرصد التغيُّر الجماعيَّ من خلال أشخاص
بأعينهم يمثِّلون المجموع، فزعتر
النوري يمثِّل اللصوص، ومحمد
فوزي يمثِّل رجال الشُّرطة الشرفاء، وسهام تمثِّل بنات جيلها اليائسات من الفقر وعدم
الزواج.
وفي الصفحة الأولى من القصة عدَّد الكاتب أفراد أُسرة الضابط
وأعمارهم (ستَّة أشخاص بدونه) هو رجل لا يحبُّ الزحام، ويعاني منه في
شقَّته، فأخته تقيم لديه مع ابنتها سهام (١٧ سنة)، ووسط ظروف بالغة
القسوة يعيش الضابط حياةً بسيطة.
ورغم تشابه الأجواء فإن البداية في الفيلم تختلف، فسهام «سعاد حسني» أكبر سنًّا بكثير، وهي موظفة
في البريد، أمَّا في الرواية فإن طالبًا يطلب يدها، وليس موظفًا يضطرُّ
للسفر للخليج بحثًا عن رزقٍ أفضل، ويرفض الخال لأن العريس لا يملك
المال «العواطف وحدها لا تكفي».
أمَّا اللصُّ زعتر النوري فهو خارج من السجن لتوِّه، وكان الضابط
نفسه سببًا في حبسه، هو بلا مؤهِّل وبلا عمل، يتردَّد على ما يسمى
بمقهى النشَّالين، يعيش عالة على المعلم
حنش صاحب المقهى، هو رجل عظيم في الشرِّ كما يناديه الضابط
يومًا.
يلتقي الضابط بالطالب الذي تقدَّم لخطبة سهام، وبعد حوارٍ طويلٍ معه،
يقترح أن يسير كلٌّ من الشابِّ وسهام في سبيله دون التزام بعلاقةٍ ما،
فأمامهما وقت، وحذَّره من أن يلتقيا مرَّةً ثانية.
الشخصية الرئيسة في الرواية هي الضابط الذي يستقبل رجل الأعمال
زغلول، ويُبلغه بفقد حافظة نقوده،
فيأمر باستدعاء زعتر النوري، ويطلب منه البحث عن الحافظة والميدالية
المسروقتين، وتكون المفاجأة أن زعتر يطرق باب الضابط، وتفتح له سهام
الباب، ويُبلغ الضابط أنه جاء إلى البيت؛ لأنه يكره أجواء القسم، يقول
له في أثناء الحوار: «إنك تطارد اللصوص لحساب الحكومة، بينما الحكومة
أكبر لصٍّ في الدولة.»
وأمام هذا الموقف فإن زغلول يجد فرصة عمل لزعتر، وتمضي الحياة
بالضابط بهمومها الشخصية وتوفيقها العام، وتحصل سهام على الثانوية،
بينما يبدأ المقهى في التخلِّي عن رواده، ربما بسبب كفاءة
الضابط.
وكما أشرنا فإن الضابط هو الشخصية المحورية، تدور الأشياء من خلاله
كمحور رئيسيٍّ، فذات يوم يلتقي زعتر، وقد صار عاشقًا يطلع البرج مع
حبيبته، لقد تغيَّر كثيرًا، وحمل اسم محمد
زغلول، اسم الرجل الذي منحه الوظيفة، صار زعتر من رجال
الأعمال «في صفقةٍ واحدة تحوِّلك من دنيا إلى دنيا.» ففي عصر الانفتاح
صار اللصوص رجال أعمال، وفي الحوار تقول بهية صديقة زعتر للضابط:
«صديقك زغلول رأفت لصٌّ عظيم.» فيكمل
زعتر: «إنه بحكم القانون الجديد تاجر عظيم.»
يحاول الضابط تفسير ظاهرة أضواء مقهى اللصوص، فيذهب إلى هناك ويستمع
إلى كلام رجل عجوز، ثُم يذهب إلى سوق ليبيا حيث صار اللصوص تجارًا،
ويصفه الكاتب بدقة؛ زحام، وأكشاك، وبضائع جديدة من أصناف مختلفة، وهناك
يوجد كشك يملكه زعتر «تاب الله علينا، عملنا مشروع، نحن تجار.» ومشاركة
جلجلة المكان.
وهذا الحوار الطويل الذي يدور في محلِّ زعتر، وتشاركه جلجلة، يكشف مدى التحوُّل الاقتصاديِّ
والاجتماعيِّ الذي شهده الوطن «تهبط النقود بلا حساب في سوق ليبيا،
السماء تمطر هدايا، بالوقاحة تُصان الهيبة.»
ويلتقي الضابط ذات يوم بزغلول الذي يشكو من زعتر، ويتهمه أنه طماع،
ويبلغه أنه يحوم حول سهام باعتباره رجلًا شريفًا، وعندما يفاتح سهام
تردِّد الأمُّ أنه رجل غنيٌّ غرضه شريف، وفهم أن زوجته وأخته تفضِّلان
أن يتمَّ زواج سهام من زعتر، وفي مواجهة مع زعتر يردِّد: «إني رجل شريف
وغنيٌّ، ومن حقي أن أفتح بيتًا شريفًا.»
هناك شيء ما في أعماق الضابط من صعود زعتر الاجتماعي، لذا فهو يودُّ
لو تزوج زغلول من سهام، رغم أنه في الأربعين وأرمل؛ فالعريس لن يُغرم
الضابط ملِّيمًا واحدًا، لكن سهام تهرب مع زعتر، وعندما يتمُّ اللقاء
معها تردِّد لخالها وأمِّها: «بلغ مني اليأس مداه، صمَّمت على التحدِّي
والانتقام، قلت إنهم يريدون أن يزوِّجني من لصٍّ مغطًّى آخر. سأتزوَّج
من اللصِّ المكشوف، وذهبت إلى محمد زغلول، أو محمد النور».
في النصِّ الأدبيِّ فإن الزواج بين زعتر وسهام لم يتم، لقد وظَّفها
زعتر في كشك يملكه في الإسكندرية، بأجرٍ بسيط ونسبة في الأرباح، وتعرض
على أمِّها أن تلحق بها.
نهاية الرواية تحدُث في السوق حيث الضجيج، فزعتر يصرُّ أن اسمه محمد
زغلول، ويبدو أن الاثنين قد توافقا.
الفارق الملحوظ بين النصِّ الأدبيِّ والفيلم، أننا لدينا هنا ثلاث
شخصيات رئيسة، تتبَّعها الفيلم واحدًا وراء الآخر، ليكون لدينا ثلاثة
نجوم زعتر النوري «نور الشريف»، سهام
«سعاد حسني»، ثُم محمد فوزي
«عزت العلايلي».
النصُّ يبدو كله من عينَي الضابط رغم أنه ليس راوية، ومثلما قرأنا في
«الكرنك» فإن المعلومات تأتي على
ألسنة أشخاص آخرين، حتى تنجلي الأمور، فسهام هي التي تروي عن تفصيلات
لجوئها إلى زعتر النوري كي يساعدها، ثُم تتزوج منه.
يستخدم محفوظ في النصِّ الأدبيِّ ألفاظًا محدَّدة يصفُ بها أبطاله،
فزعتر لصٌّ، ثُم صار شريفًا، والضابط شريف، وفي الفيلم فإن المواقف
ستجعل الأشخاص محدَّدين في هذه الصفات، يبدأ الفيلم من الماضي. كيف
تربص الضابط باللصِّ زعتر الذي سرق حافظة نقود، ثُم انتظره في المقهى
وقبض عليه، ثُم ها هو يخرج ليعلن توبته.
إذَن جملة واحدة في الرواية، تحوَّلت إلى مشاهد كاملة؛ القبض على
زعتر بواسطة محمد. أمَّا بداية الرواية فهي مخصَّصة لوصف الحياة التي
تعيشها أُسرة الضابط، وسرعان ما يدخل الفيلم في الموضوع مباشرةً، فهناك
مُخبر سريٌّ يأتي إلى زعتر في المقهى، ويستدعيه إلى القسم، وهناك يفهم
أنه ليس مطلوبًا في جريمة، لكن مهمَّته استعادة حافظة نقود رجل
الأعمال.
زغلول يكافئ اللصَّ بمبلغ من المال، لكن زعتر يطمع فيما هو أكثر؛ أن
يحصل على وظيفة متواضعة في شركته، وأن يواصل طريق التوبة، وقد نال ما
تمنَّى، وسرعان ما يكتشف اللصُّ السابق أن زغلول هو لصٌّ حقيقي، فقد
استغل هذا الأخير الشابَّ في استرداد شيك بمبلغ كبير من عميل مُهم،
وهذا التصرُّف لم نرَه في الرواية دائمًا هو من ابتكار كاتب السيناريو
مصطفى محرم.
ويغيِّر زعتر اسمه إلى محمد زغلول.
الفلاش باك هنا وصف لنا كيف رفض الخال خِطبة سهام للطالب رفعت، فسافر
إلى الخارج للعمل، وقد صوَّر الفيلم كيف تطورت علاقة سهام بزعتر؛ فهو
الذي شاهدها في منزل الضابط، ثُم هو يراها يومًا في مكتب البريد بعد أن
صارت له سيارة وامتلك الأموال، فراح يلتفُّ حولها، حتى أركبَها سيارته
وبهرها، وتطورت علاقتها به.
الفيلم والرواية يعزفان على مسألة الصراع العلنيِّ الخفيِّ بين
الضابط واللصِّ السابق، فهذا الأخير يعمل في تهريب البضائع من بورسعيد،
ويستأجر محلًّا خاصًّا في سوق البضائع المهرَّبة، دون أن يسمِّيه، ففي
أوائل الثمانينيات كان قد تغيَّر اسم السوق، لكنه جاء كما وصفه الكاتب
في الرواية.
اهتمَّ الفيلم بعمل إضافات جديدة، من أبرزها ذلك الصراع الخفيُّ، ثُم
العلني الذي تمَّ بين زعتر النوري وبين ولي نعمته زغلول، فقد بدأت
المواجهة حين زار زغلول الضابط في مكتبه، وحدَّثه عن علاقة زعتر بابنة
الأخت سهام. وقد أدَّى هذا إلى مواجهة بين الضابط واللصِّ السابق، فكشف
زعتر له الوجه الحقيقيَّ لرجل الأعمال الذي يتظاهر بالتقوى.
ومن الإضافات أيضًا محاولة الضابط كشف حقيقة زغلول؛ فهو يكلِّف أحد
أعوانه في إدارة التهريب بمراقبة زغلول، ثُم هما يشتركان في مطاردات
سيارات تحمل زيوتًا مهرَّبة، ويتمُّ القبض على رجال زغلول الذي يتمكن
من الخروج من المأزق باستخراج إذْن استيرادٍ بتاريخٍ سابق، فيتمُّ حفظ
التحقيق، وعليه يتمُّ نقل محمد فوزي إلى أسيوط عقابًا له، وهو أمر
أيضًا لم يحدُث في الرواية.
يعني هذا أن النصَّ الأدبيَّ لا يكفي قطُّ لعمل فيلم، بتفاصيله التي
كتبها مصطفى محرم، ومنها تطوُّر
العلاقة العاطفية بين زعتر وسهام؛ فهو يزورها في مكتب البريد، ويعرض
خدماته، ويطلب من زميلتها توصيلها بالسيارة، ثُم تركب سهام، والمطاردات
في طريق بورسعيد، واستخدام براميل الزيت التي تُلقى لعرقلة عربة
الشُّرطة، ثُم استبدال الصندوق الذي يحتوي على المهرَّبات بصندوقٍ آخر،
ولعلَّ المقدِّمة التي جاءت أثناء نزول العناوين قد جاءت إضافية، وذلك
من خلال رصد الضابط لحركات زعتر، ثُم عملية النَّشل ودخول زعتر
السجن.
ورغم هذا فإننا أمام أحد النصوص الأدبية التي تعتمد على الحوار،
ويبدو من التقطيع والفصول القصيرة التركيز على شخصياتٍ بعينها، كأنما
صارت عينا نجيب محفوظ سينمائية، بشكلٍ تلقائي، أو أنه يكتب نصًّا يصلح
في الأساس أن يتحول إلى فيلم دون أن يتدخل فيه؛ فهو قد كتبه أقرب إلى
النصِّ الأدبيِّ السينمائي؛ أيْ إنه قال كلمته الروائية سينمائيًّا على
الأقل.